تحقيقات استقصائية: شبح داعش مازال يخيم على يثرب بصلاح الدين .. نازحون ممنوعون من العودة رغم الوعود

شبح داعش مازال يخيم على يثرب بصلاح الدين .. نازحون ممنوعون من العودة رغم الوعود

بقوة السلاح، استيلاء على بيوت ومزارع ومنع نازحين من العودة ... بساتينهم محروقة وساتر ترابي يمنع بعض العائدين من الوصول إلى منازلهم لإستعادة حياتهم المفقودة

لجين السلطاني

نحو عشر سنوات مرت، ومازال ميثم(50 سنة)الموظف الحكومي، يعيش بعيداً عن منزله بناحية يثرب في قضاء بلد(85 كلم شمال بغداد) بعد نزوحه عقب سيطرة تنظيم داعش على المنطقة في حزيران/يونيو 2014. رحل التنظيم قبل تسع سنوات، لكن الفصائل الشيعية المسلحة التي سيطرت على الأرض مازالت تمنع آلاف السكان العرب السنة من العودة واستعادة حقولهم ومنازلهم وحياتهم.

وبلد، منطقة ذات غالبية شيعية، لكنها تضم نواحي سنية، وتتبع ادارياً محافظة صلاح الدين المختلطة أثنياً والتي تضم مزارات مقدسة لدى الشيعة في مناطق تحيطها غالبية سنية، ما جعلها ساحة صراع طائفي منذ 2003، وهو ما أبقى فعلياً عشرات الآلاف من سكانها السنة نازحين منذ صيف 2014.

كان ميثم، الذي رفض كشف عنوانه الوظيفي الدقيق خوفاً من الملاحقة، يسكن في قرية الشهابي السنية في الناحية، قبل أن ينزح مع عائلته الى السليمانية باقليم كردستان ويستقر فيها هرباً من التنظيم الذي سيطر دون مقاومة وخلال أسابيع على مناطق واسعة من المحافظة.

وبسبب إلتزامه بوظيفته، عاد إلى المحافظة بعد تحريرها بالكامل أواخر سنة 2016، غير أنه فوجئ بالأوضاع غير المواتية على الأرض، إذ منعت قوات الحشد الشعبي المسيطرة على المكان، عودته وآلاف آخرين غيره إلى قراهم فاضطر للسكن مع عائلته في قضاء الدجيل التابع كذلك لمحافظة صلاح الدين.

يقول، وهو ينظر شمالا الى ما وراء الأفق الممتد أمامه: “أسكن الآن على بعد عشرة كيلومترات عن منزلي الذي لا أستطيع الوصول اليه”، يأخذ نفساً عميقا قبل أن يضيف:”نحن ندفع ثمن جرائم لم نقترفها، لسنا إرهابيين كي يعاقبوننا بهذا النحو، حتى القلة القليلة التي سُمح لها بالعودة تعيش أوضاعاً مزرية بلا ماء أو كهرباء”.

ويتابع بنبرة صوت حادة: “القناة الاروائية الوحيدة في الناحية التي كانت تسقي أراضينا تم تحريف مسارها، لتموت حقولنا، وكأنهم يريدون انتزاع كل جذورنا هناك”.

تبلغ مساحة ناحية يثرب ذات الطابع الزراعي حوالي 446كم²، وكان عدد سكانها يفوق الـ 75 ألف نسمة قبل النزوح في 2014، غالبيتهم من العرب السنة، ينتمون لعشائر العزة والعبيد والبو حشمة أحد فروع قبيلة بني تميم، وكان فيها سكان من الشيعة كذلك، ينتمون لعشيرتي البو فدعوس التميمية والبو سعود.

إثر سيطرة داعش على الناحية، نزحت آلاف الأسر نحو مناطق أخرى، كقضاء الضلوعية ومناطق مجاورة ظلت آمنة في المحافظة وخارجها بعيداً عن سيطرة التنظيم.

وبعد انقشاع دخان حرب تحرير ناحية يثرب من سيطرة داعش وكان ذلك في 27 كانون الأول/ديسمبر  2014، مسك عناصر الحشد الشعبي الشيعي الأرض، وكثير منهم من أبناء المنطقة، فمنعوا عودة السنة من أبناء المنطقة إليها بادئ الأمر، متهمين إياهم بالتعاون مع تنظيم داعش الذي قتل العديد من أبناء الشيعة وصادر ممتلكاتهم، وبعد مفاوضات مطولة سمحوا بعودة قسم منهم فقط.

Image 21

عودة مدفوعة الثمن!

منذ تحرير ناحية يثرب وسيطرة قوات الحشد الشعبي عليها، وأطراف سياسية تحاول ردم الهوة التي أحدثها التنظيم بين مكونات المجتمع في الناحية (السنة والشيعة) وتطالب بعودة العائلات النازحة والمهجرة غير المرتبطة بالتنظيم، بل والتي هربت منه، إلى مناطقها.

قسم من تلك المطالبات يصفها نشطاء مدنيون وأهالي الناحية بأنها لا تتضمن خطوات وتحركات عملية بل هي دعائية ترمي لتحقيق أهداف سياسية لأصحابها، تنطفئ جذوتها بإنتهاء الانتخابات المحلية أو البرلمانية، في حين أنتجت أخرى عودة ما يقرب من نصف سكان ناحية يثرب من السنة إلى مناطقهم.

وكان ذلك نتيجة لحركة دؤوبة لعشرات من المسؤولين والسياسيين العراقيين ووسطاء وممثلين أمميين وحتى قادة فصائل، قاموا بين 2015 و 2018 بزيارات مكوكية بين زعماء العشائر في الناحية محاولين التوصل إلى مصالحة شاملة وطي صفحة مرحلة داعش.

ففي عام 2015 حاول محافظ صلاح الدين الأسبق رائد الجبوري، إيجاد حل للأزمة بتخصيصه مبلغ أربعة مليار دينار عراقي (ما يعادل 3.36 مليون دولار) من ميزانية المحافظة، لضحايا من الشيعة في ناحية يثرب كتسوية وتعويض. غير أن مستحقيها استلموا جزءاً منها فقط، وبذلك لم تجد تلك الخطوة نفعاً.

وفي العاشر من أيار/مايو 2016، تم توقيع ميثاق شرف بين العشائر المختلفة برعاية ديوان محافظة صلاح الدين وإشراف ديوان الوقف السني العراقي، يسمح بعودة نازحي ناحية يثرب، مع تعهدهم بعدم إقامة أي دعاوى قضائية ضد الجيش والحشد الشعبي وأهالي المنطقة من الشيعة عن ضحاياهم وخسائرهم، لكن الأمور لم تجر كما خطط لها نتيجة عدم رضا أطراف في العشائر الشيعية التي لم تسمح للنازحين بالعودة مستعينة في ذلك بسلاح وسطوة الحشد الشعبي.

وفي أواخر عام 2017 تمت صفقة أخرى، إذ قامت عشائر سنّية بجمع مبلغ تعويضي آخر قدره 4 مليار دينار (كل عائلة سنية دفعت 500 ألف دينار- تعادل 380 دولار) لتهدئة الأوضاع، تسمى بـ(الرضوة) لقاء عودتهم الى مناطقهم.

ودفع هذه المبالغ وفقاً لمطلعين في الشأن العائري لايعني”إقرارا لمن يدفع بانه مذنب، أو أنه كان متورطاً بارتكاب جرائم بالتعاون مع داعش ضد الشيعة في المنطقة” بل هي تسوية عشائرية، اما المتورطون بالانتماء لداعش وإرتكاب جرائم فقط أقيمت بحقهم دعاوى في المحاكم أو تم اعتقالهم.

المحاولات تلك بمجملها على أية حال، أثمرت وبعد سنوات عن عودة 30 الف سنّي، ولكن الكثير من العائدين وجدوا بيوتهم مهدمة وحقولهم محروقة وعليهم أن يبدؤوا حياتهم من الصفر ودون أي مساعدات تعويضية، فيما بقي آلاف آخرون ينتظرون الموافقات الأمنية التي لم تأت الى الآن ويجب ان تسبقها تسويات جديدة.

وتتضارب الأرقام بشأن النازحين المتبقين، ويقدر نشطاء وحقوقيون مطلعون على شؤون المنطقة، أعدادهم بـ 15 ألفاً الى 30 ألف، معظمهم يسكنون في اقليم كردستان حالياً.

بعضهم كانوا في مخيمات النزوح التي قررت وزارة الهجرة والمهجرين اغلاقها كليا في نهاية شهر تموز/ يوليو 2024، كمخيم “آشتي” في السليمانية الذي ودع في الأسبوع الثالث من أيار/مايو 2024 ما مجموعه 935 نازحاً بعضهم من ناحية يثرب، والآخرون من قضائي بلد وسنجار، بعد تسليم كل عائلة عائدة مبلغ 4 مليون دينار(أكثر من 3000 دولار) وفقاً لإيفان فائق جبرو وزيرة الهجرة والمهجرين.

معدة التحقيق، وجهت أسئلة بشأن مصير النازحين من ناحية يثرب غير القادرين على العودة بسبب عدم تسوية ملفاتهم، إلى مسؤولين محليين وأعضاء بمجلس النواب العراقي ممثلين عن محافظة صلاح الدين، إلا أن غالبيتهم فضل عدم الإجابة في الوقت الحالي “نظراً لحساسية الأمر” على حد تعبير البعض منهم، ورغبتهم في أن يقوم سكان المنطقة بأنفسهم بتسوية الأمر فيما بينهم.

Image 23
Image 22

مناطق محرمة وبساتين محترقة

يسيطر اللواء 41 من الحشد الشعبي التابع لعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، على الملف الأمني في ناحية يثرب، وتمنع نقاط التفتيش التابعة له، عودة أي من السكان النازحين من مناطق عدة، بينها التي تعرف بـ(أحباب تل الذهب).

وكذلك المنطقة التي تشكل  مقاطعة تعرف بأسم (11 كشكرية) وتقع بين بلد والدجيل، فضلاً عن مناطق (قناة 34) وأغلبها بساتين تعرضت للحرق وبيوت أصحابها للهدم.

صالح حسن (59 سنة) يقع منزله الريفي في قرية البو بهلول، الواقعة ضمن المنطقة المحرمة بين مناطق انتشار السنة والشيعة في ناحية يثرب، يقول: “حين دخل داعش، كان أهل قريتنا من أوائل من نزحوا، لم يبق أحد في القرية حينها، وبعد التحرير حاولنا الرجوع الى بيوتنا وأراضينا لكننا مُنعنا وتفاجأنا بأن بساتيننا محروقة”.

ويقدر بعض من أهالي يثرب المنطقة المحرمة التي تمنع العصائب دخول السنة إليها بـ8 آلاف دونم، وتضم مقاطعتي (11 كشكرية والمدورة) ومساحتهما تقارب ال8 الاف دونم.

يمتلك صالح 125 دونماً من الأراضي الزراعية، تقع على حدود قناة 34 الاروائية في الناحية، بضمنها 24 دونماً مزروعة بالحمضيات، وكانت أرضه تدر عليه ما يقرب من 50 ألف دولار سنوياً، يجنيها عن بيعه لمحاصيل الحمضيات والحنطة والخضروات الورقية.

يقول مغالباً دموعه:”لكنني أعمل الآن في البناء وولدي عامل نظافة!”. ثم يضيف بحسرة:”العشائر الشيعية حرفت مسار القناة الاروائية نحو أراضيها ومنعت المياه عن أراضينا، اشجارنا ماتت وأحرقت وأراضينا أصبحت جرداء، باستثناء تلك التي وضعوا أيديهم عليها”.

استولت تلك العشائر حسب رواية صالح على 17 دونماً من أرضه وباتت تزرعها وتبيع ما تُنتجه: “محاولاتي العديدة للوصول الى أرضي باءت بالفشل ولم أستطع الحصول حتى على صورة لمنزلي المهدم، على الرغم من تمكني من رؤيته من بعيد عند آخر نقطة تفتيش يمكنني بلوغها”.

يضيف بعد لحظات من الصمت:”بتنا نخشى من السؤال عنها، خوفا من اتهامنا بالعمل مع داعش وملاحقتنا”.

هو لا يستطيع الوصول الى منطقته الا بتصريح دخول يتم إصداره مقابل 500 ألف دينار من مراكز الشرطة ونقاط التفتيش “أنا لا أمتلك هذا المبلغ، وتأكدتُ عن طريق أصدقائي الذين عادوا الى بيوتهم أن العشائر الشيعية استولت على جزء من الأراضي التي مازال الماء يصل اليها وبضمنها قسم من أرضي” يقول متحسراً.

وفقاً لشعبة زراعة يثرب، فإن 43183 دونماً في الناحية كانت مغروسة وتعرضت للحرق والتجريف من أصل 63589 دونماً صالحة للزراعة، بضمنها أراض ضمن المناطق المحرمة التي لا يمكن لأحد دخولها، وهي مقاطعة 11 كشكرية التي أحرقت جميع أراضيها الزراعية وتبلغ مساحتها 4611 دونماً، ومقاطعة 7 المدورة التي حرم  الدخول إليها واحرق منها 1105 دونماً من أصل 2838 دونم.

جميع تلك الأراضي المحروقة تعود ملكيتها للعرب السنة، وكانت تحوي على ما يقرب خمسة ملايين ونصف المليون شجرة، وتُنتج سنوياً ما يقارب من 270 ألف طن من مختلف الثمار.

ويتهم صالح حسن، أفراد في العشائر الشيعية في المنطقة بتجريف بستانه، ويقول “بعضهم في يثرب انتموا الى الحشد الشعبي وسيطروا على المنطقة لذا فهم يفعلون ما يشاؤون لتحقيق مصالح شخصية، ولا أحد يحاسبهم”.

Image 24
Image 25

دعاوى كيدية تمنع العودة

محمد علي (31 سنة) ينتمي الى عشيرة البو حشمة السنية، كان يسكن في قرية الفدعوس، ذات الغالبية الشيعية بناحية يثرب، نزح مع عائلته الى كركوك أواخر 2014 بعد دخول الحشد الشعبي الى الناحية وطرد تنظيم داعش منها، وكان وقتها طالباً بجامعة سامراء.

وبعد استعادة الجيش والحشد الشعبي المنطقة وسيطرة الأخير عليها “بدأت عمليات التصفية ضد كل من لم يخرج من القرية مع دخول داعش اليها في حزيران 2014 الى جانب حرق البساتين والأراضي التابعة للسنة، ولو أني لم أكن قد تركت منزلي في ذلك الحين لكنتُ في عداد الموتى الآن” يقول محمد.

استقر الشاب مع عائلته في كركوك لنحو عامين على أمل العودة الى قريته في أقرب فرصة متاحة، لكن شكوى تقدمت بها امرأة شيعية تنتمي الى ذات القرية في 2017، إضافة الى شكوى أخرى تقدم بها ابن عمها، تضمنت اتهامات بتنفيذه عمل إرهابي في القرية، حالت دون اكمال دراسته كما كان يأمل في جامعة كركوك التي انتقل اليها، هذا فضلاً عن استبعاد عودته الى منطقته.

يقول بحرقة: “تلك السيدة كانت جارة لأسرتي لأكثر من 50 عاماً أي حتى قبل أن أولد لكن افراداً ينتمون الى داعش قتلوا ابنها، فباتت ترى كل السنة من الدواعش وتقدمت بشكوى ضد 15 من أقاربي بضمنهم أبي وجدي، ودفع كل منا 5 الاف دولار لها، لكن المشكلة لم تحل”.

بعد علمه بالشكاوى المقدمة ضده، توجه محمد مع عائلته الى السليمانية، وفي سنة 2021 أخذ يرسل من هناك وسطاء إلى السيدة المشتكية لإنهاء الملف، وتم التوصل وفقاً لما يقول الى دفع مبلغ مقداره 15 ألف دولار لتتنازل عن شكواها ضد والده وجده إضافة إليه.

تنازلت السيدة بالفعل مع ابن عمها عن شكواهما،  لكن ذلك لم يغير شيئاً، إذ اكتشف محمد أن هنالك دعوى أخرى مقامة ضد عائلته من قبل شخص آخر ينتمي الى ذات عشيرة البو فدعوس، يتهمهم فيها بالانضمام الى صفوف تنظيم داعش.

محمد، يعمل الآن عامل بناء “دون مستقبل واضح الملامح” حسب تعبيره، ومازال يسدد ما بذمته من ديون تسببت بها الدعاوى التي يصفها بالكيدية. يقول :”المال الذي دفعناه كرضوة اقترضناه، وأنا اسدده لغاية الآن دون نتيجة، فأنا ووالدي مازلنا مطلوبين للتحقيق ونخشى المثول أمام المحكمة فيتم تغييبنا دون عودة، أما جدي فقد مات قبل أشهر دون أن نستطيع دفنه في مقبرة العائلة بصلاح الدين بسبب الدعاوى الكيدية”.

Image 26

محامٍ في محكمة استئناف صلاح الدين، فضل عدم الإشارة إلى أسمه، ذكر بأن هنالك ما يقربُ من 700 دعوى مرفوعة من قبل مشتكين بحق افراد من عوائل سنية، وينتظر البت فيها من قبل المحكمة، وهي تشمل تهماً بالإنتماء الى داعش أو تنفيذ عمليات إرهابية.

ويقول:”لوائح بعضها فيها تهم مشابهة ضد 500 شخص دفعة واحدة”. ثم يضيف “استخدمت الفصائل التي سيطرت على استخبارات جنوب صلاح الدين بعد خروج داعش، تهمة الإرهاب لما يمكن وصفه بتطهير مناطق محددة للسنة من كامل ساكنيها، وكثيرون لايجرؤون على الامتثال أمام مكاتب التحقيق خشية التعذيب أو التغييب أو الصاق التهمة بهم”.

تشير مصادر غير رسمية، إلى أن هنالك ما يربو عن 2800 شخصاً من أهالي صلاح الدين، مغيبون بنحو قسري منذ تحرير مناطقها من قبضة تنظيم داعش، قسمٌ منهم من ناحية يثرب، وأن الكثير منهم تم اعتقالهم من قبل قوات الحشد الشعبي ولم يعد ذووهم يعلمون شيئاً عن مصائرهم.

حدث الأمر ذاته في ناحية “جرف الصخر” (70 كلم جنوب بغداد) التي تتبع محافظة بابل، وتقع شمال مدينة كربلاء المقدسة لدى الشيعة، والتي يَعِدُ القادة السنة منذ سنوات سكانها الأصليين بالعودة اليها دون أن يتحقق ذلك، بعد أن تحولت الى قاعدة للجماعات المسلحة الشيعية التي اتهمت سكانها من السنة بارتكاب أعمال قتل بحق الشيعة ودعم المجموعات الارهابية والتغطية على تحركاتها طوال سنوات الحرب الطائفية.

وكانت عودة سكان تلك المناطق، وإقرار قانون للعفو العام، أحد بنود الاتفاق السياسي الذي شكلت بموجبة حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في تشرين الاول نوفمبر 2022، لكنها لم تنفذ الى الآن.

Image 27

محاولات لتشييع الناحية

ومثلما توجه اتهامات للفصائل المسلحة في “جرف الصخر” بمنع السكان من العودة اليها تنفيذاً “لعملية تغيير ديمغرافي” تتمثل في إبعاد العرب السنة عن محيط محافظتي كربلاء والنجف، يحصل الأمر في بعض مناطق محافظة صلاح الدين.

ويقول المحامي في محكمة استئناف صلاح الدين(طلب عدم ذكر أسمه لأسباب أمنية) أن محاولات تجري لتشييع عدة مناطق في صلاح الدين من أجل بسط النفوذ: “القوى السياسية الشيعية تسيطر على عدة مناطق مثل سامراء ويثرب والدجيل وقد جندت فصائل مسلحة ودفعت بعض العشائر الشيعية في يثرب على سبيل المثال لرفع دعاوى كيدية ضد أبناء سنة المنطقة بغية منعهم من العودة، بما يضمن تشييع يثرب مستقبلا وإبقاء سيطرتهم عليها”.

عزاء حسيني في ناحية يثرب 

يوافقه في ذلك السياسي السني عبد العزيز المعماري، الذي يرى بأن “سيطرة فصيل شيعي مسلح على منطقة سنية، لها أبعاد طائفية وطموح بتمدد الحاكمية الشيعية الى مناطق السنة، وهذا نهج معلن لدى الأحزاب الشيعية التي تمتلك جناح مسلح” على حد تعبيره.

ويضيف: “الفصائل المسلحة فقدت قاعدتها الشعبية في مكان نشأتها جنوب البلاد في السنوات الأخيرة، ويستحيل ان تتشكل قاعدة شعبية في أي مكان في العالم لفصيل مسلح يسيطر بالقوة على منطقة وينتهج نهج طائفي فيها ويستند على الترهيب وقوة السلاح لفرض نفسه، وهذا ما رأيناه قبيل كل انتخابات في المناطق السنية التي فيها تواجد لفصائل مسلحة”.

ويرى المعماري بأن الاتفاقات والمساومات السياسية من قبل “أطراف سنية خاضعة” قفزت على الاستحقاقات، ومستعدة “لإضعاف التمثيل السني مقابل منافع شخصية وحزبية”، غيرت خارطة التشكيلات السياسية والمجتمعية في المحافظة.

العودة الى مصير مجهول

حددت حكومة محمد شياع السوداني 30 تموز/يوليو 2024 موعداً لإغلاق كل مخيمات النازحين أينما وجدت في البلاد، وأطلقت على المشروع أسم “العودة الطوعية”، غير أن “أحمد.ع” (29 سنة) والذي يسكن مخيم آشتي بالسليمانية مع أسرته يرى بأنها “عودة قسرية”.

يقول:”كردستان أوقفت منحنا موافقات السكن خارج المخيمات بعد قرار اغلاق المخيمات، ما سيجبرنا على العودة الى مناطقنا التي لا نستطيع الوصول اليها بالأساس”.

أحمد، كان يسكن في قرية تطل على قناة 34 الاروائية وهي من بين القرى المحرمة، وبالرغم من أن والده يمتلك بستاناً فيها بمساحة 20 دونماً كانت مزروعة بالعنب، الا أنه لا يستطيع الوصول اليها.

يقول بحيرة “اين سنذهب الآن، انها عملية تشريد لا إعادة طوعية، لمجرد اعلان تحقيق نجاحات وهمية.. فليعيدوا لنا أراضينا لنعود اليها. بهذا القرار ليس أمامنا سوى العودة الى صلاح الدين خارج يثرب لنظل مشردين في مكان ما هناك ومواجهة مصيرنا المجهول”.

الشاب أحمد، الذي كانت أسرته تعتمد على المساعدات في كردستان، يتساءل:”ماذا سأعمل في صلاح الدين، وكيف سأدفع إيجار المنزل، وأؤمن مصاريف العائلة؟”.

ما يجده أحمد آخر الحلول، قام حمزة عادل (45 سنة) بتجربته دون نتيجة مرضية، اذ ترك مخيم “عربت” في السليمانية، وتوجه للسكن في بيت يعود لأهل زوجته في منطقة الدجيل شمال بغداد في العام 2020، منهياً بذلك ست سنوات من النزوح، تاركاً خلفه بيته الواقع في المناطق المحرمة بناحية يثرب.

لكنه وجد صعوبة في العيش تحت سلطة الحشد الشعبي: “يتعاملون معنا كإرهابيين، من المتوقع أن يداهموا منزلك في أي لحظة للتفتيش، كما أن فرص العمل شحيحة ومن ينوي أن يفتتح مشروعاً عليه أن يتقاسم أرباحه ان حقق شيئاً مع الحشد الشعبي”.

بسبب ذلك عاد مجددا إلى السليمانية، نهاية العام 2021، واستأجر بيتاً فيها لأن إدارة المخيم الذي كان فيه من قبل رفضت استقباله مع عائلته الكبيرة العدد كونها اعتبرته عائدا وشطبته من سجلاتها: “أعمل بناءً، علي تدبر تكاليف المعيشة مع الايجار، وأن ننتظر معجزة تعيدنا الى يثرب”.

العديد من العائلات التي غادرت مخيم أشتي في السليمانية، والتي تركته مكرهةً، عادت الى ناحية يثرب، لكن لم يسمح لها بالعودة إلى قراها السابقة في المنطقة التي تعرف بالمحرمة، فاضطروا إلى نصب خيامهم خلف ساتر يفصلهم عنها. يقول أحد شاغلي تلك الخيام لمعدة التحقيق: “جلبنا معنا خيمنا من السليمانية فنحن متأكدون من عدم سماح الحشد الشعبي لنا بدخول مناطقنا، نحن هنا نقارب الـ50 عائلة يستطيع بعضنا رؤية منزله لكن من يتجرأ على عبور الساتر الفاصل بين المخيم الجديد والمناطق المحرمة، سيكون عرضة لبنادقهم”.

Image 28

لا تلتفت الجهات الحكومية الى معوقات العودة، وشكاوى ومناشدات المحتجين، سواء النازحين العرب من مناطق بمحافظات صلاح الدين ونينوى وديالى، او النازحين الايزيديين والكرد من سنجار وسهل نينوى.

بل تشير البيانات والتصريحات الحكومية، الى استمرار عمليات “العودة الطوعية” بوتيرة متصاعدة. وأعلنت لجنة إعادة النازحين في 23 نيسان/أبريل 2024 عودة 350 عائلة إلى ناحية يثرب جنوبي صلاح الدين.

بينما حدد عضو مجلس النواب عن المحافظة محمد البلداوي، مجموع العائدين إلى ناحية يثرب وأطراف الدجيل بنحو 2500 شخصاً، وأشار الى ما أسماه الركائز التي سهلت عودة الأسر “تعاون أبناء العشائر لحل النزاعات فيما بينها، وإصرار المواطنين على العودة”.

زيارة النائب ناسك مهدي الزنكي لعائلة من يثرب في مخيم

لكن واقع الحال يشير إلى ان آلافاً من أبناء ناحية يثرب من السنة لايستطيعون العودة إليها، في ظل سيطرة فصيل شيعي مسلح على منطقة غالبيتها من العرب السنة ومنعه أهاليها من العودة، ما يثير التساؤل عن السبب والهدف، وهو ما يجيب عنه الباحث المتخصص في الشؤون الإستراتيجية والأمنية فراس الياس، بفصل المناطق وعزلها، محددا “أهداف قصيرة الأمد وأخرى طويلة الأمد”.

يقول:”ما تفعله عصائب أهل الحق، في ناحية يثرب هو جزء من استراتيجية تمارسها الفصائل المسلحة في أغلب المناطق التي تم تحريرها من سيطرة داعش وتتمثل بإعادة تشكيل تلك المناطق على أساس طائفي أو اقتصادي او سياسي”.

ويوضح: “الهدف مما يحدث في صلاح الدين، هو خلق مناطق فراغ تفصل شمال المحافظة عن جنوبها كون الجنوب يمثل تكتلاً شيعياً وسط محيط سني وهذا هو الهدف قصير المدى، أما ما يتم التخطيط له للمستقبل فهو اعلان محافظة شيعية تعزل بغداد عن صلاح الدين ومركزها سامراء”.

وينبه الياس، الى أن تعامل الأحزاب الحاكمة في صلاح الدين مع الفصائل المسلحة، هو القبول بالأمر الواقع:”يتجنبون استفزازها لئلا تفرض سيطرتها على مناطق أخرى كون الواقع الذي تفرضه الفصائل أكبر من أن تجابهه القوى السنية الضعيفة في صلاح الدين بالرفض”.

صورة يثرب

بارقة أمل

يعتقد  نشطاء مدنيون وسياسيون، أن فض النزاعات التي تسبب بها تنظيم داعش، وعودة النازحين إلى مناطقهم بما فيها ناحية يثرب، يعتمد بالدرجة الأساس على تفاهمات عشائر المنطقة، وهذا تحديداً ما تقوم به بعضها هناك، إذ عقد في الناحية يوم 17 أيار/مايو 2024، مؤتمر حمل شعار “التعايش السلمي سبيلنا لبناء الوطن بتكاتف شيوخنا ومثقفينا نحافظ على وحدة العراق”.

رعت هذا المؤتمر عشيرة ألبو سلطان، بمشاركة شيوخ عشائر من السنة والشيعة وقادة أمنيين، ونوقشت فيه ثلاث محاور رئيسية هي:”دعم وإسناد البرناج الحكومي للمصالحة، وبسط الأمن ونبذ الإرهاب وإعادة الإعمار، والتعاون المشترك لنبذ الخلافات”.

ذكر النائب الفني لمحافظ صلاح الدين مفيد البلداوي، بأن الحكومة المحلية ستوفر لناحية يثرب “كل الخدمات الأمنية واللوجستية والصحية والتربوية” من أجل اعادة الاستقرار، وأن هنالك العديد من ورش العمل والمؤتمرات المشابهة التي ستعقد خلال الفترة المقبلة لتعزيز التعايش السلمي والمصالحة في الناحية.

حضر المؤتمر أيضاً أمر الفوج الثالث في اللواء 41 للحشد الشعبي الذي يمسك الأرض في ناحية يثرب، وقد أشار بنحو ضمني، إلى عدم السماح بعود غير المرغوبين بهم إلى الناحية من خلال قوله”مازال هنالك لواء 41 مع الأخوة في القوات الأمنية ماسكين لهذه الأرض فسوف نفوت الفرصة كل من تسول نفسه هذا الأمان الذي تحقق بفضل دماء الشهداء التي روت هذه الأرض ….”.

هنالك من يشكك بجدوى مؤتمر التعايش السلمي هذا، ويستدلون في ذلك على إرسال محافظ صلاح الدين لمعاونه الفني لينوب عنه، وكذلك قاعئد اللواء 41 للحشد الذي أرسل أمر فوج ممثلاً عنه ، فضلاً عن غياب وجوه عشائرية بارزة

أمجد( 33 سنة)خريج جامعي، عاد إلى ناحية يثرب قبل سبعة أشهر بعد أكثر من ثمان سنوات من النزوح قضى معظمها في محافظة السليمانية، يرى بدوره أن مؤتمرات المصالحة العشائرية غير مجدية “اذا تقاطعت مع مصالح القوى النافذة”، مبيناً أن السنة الذين كانوا يشكلون الأغلبية في  الناحية أصبحوا اليوم أقلية، ويعيشون قلقاً دائما من احتمالات الاتهام والملاحقة مع تنامي النفوذ الشيعي سواءً للعشائر او الحشد الشعبي الذي يمسك الأرض.

يقول بأسف :”أي خلاف عادي يمكن أن يقع بيني وبين أي شخص آخر في المنطقة له ارتباطات بالحشد، يعني بأن تلصق بي تهمة الانتماء لداعش وقد افقد حياتي بسبب ذلك، لذا نقدم التنازلات باستمرار، على الرغم من أننا من أكثر المتضررين من داعش الذي قتل العديد من أقاربي وسلب ممتلكاتنا”.

يفكر قليلاً ثم يتساءل:”من كان منتمياً لداعش أو مواليا له معروفون، ونحن قبل الآخرين ندعو لمحاسبتهم قضائيا بدل استغلال الملف سياسياً لأهداف طائفية واقتصادياً لمصالح خاصة، والمساس بالأبرياء أمثالنا”.

ويستدرك:”الحكومة والمؤسسات ضعيفة والحاكمون هنا هم فصائل، لذلك سندفع نحن وأبناؤنا وحتى احفادنا ضريبة موالاة البعض من ناحية يثرب قبل عشر سنوات لداعش. أما مؤتمرات التعايش هي للإعلام فقط، والإيهام أن هنالك تسامح وتآلف، لا وجود لهما على الأرض”.

  • تم استبدال أسماء كل من أدلى بشهادة من أبناء ناحية يثرب حفاظا على سلامتهم.
  • انجز التحقيق تحت اشراف شبكة “نيريج” ضمن مشروع “قريب” المدعوم من  CFI

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":25518}" data-page="1" data-max-pages="1">