تحقيقات استقصائية: 100 الف انسان في بسماية يعيشون تحت خطر انبعاثات المناطق الصناعية المهددة للبيئة والصحة

100 الف انسان في بسماية يعيشون تحت خطر انبعاثات المناطق الصناعية المهددة للبيئة والصحة

تغطي سحابات الدخان والغازات الخارجة من منشآت أبوثيلة والنهروان الصناعية سماء مدينة بسماية باستمرار خاصة في ساعات الليل، بفعل نشاط معامل الطابوق والقار والأسفلت والفلانكوت وتنقية وتدوير الزيوت والشحوم، التي تعمل العشرات منها دون ترخيص ودون التزام بالمعايير البيئية، في ظل عجز السطات عن محاسبتها واغلاقها، لتخلف اضرارا بيئية وصحية متفاقمة.

يشكو أبو محمد (45 سنة) الذي يعيش بمجمع بسماية جنوب شرقي العاصمة بغداد، من الانبعاثات الغازية التي تصدرها معامل منطقة (أبو ثيلة) المجاورة، والتي تغطي بشكل شبه مستمر سماء المجمع ومحيطه، مما يثير مخاوفه وجيرانه من آثارها البيئية والصحية على السكان واحتمال اصابتهم بأمراض خطرة.

صاحب العائلة المؤلفة من خمسة افراد، والذي يمارس أعمالاً حرة، يعاني من ضيق في التنفس بسبب تحسس في القصبات الهوائية، ويضطر كلما خرج من منزله الى وضع كمامة على وجهه خاصة في ساعات المساء، ويقول انه “يتناول بشكل دائم دواء موسعا للقصبات بسبب رائحة الكبريت وأدخنة معامل الأسفلت والزيوت القريبة من المجمع”.

ويبدي قلقه على سلامة الأطفال والأشخاص المصابين بأمراض مزمنة، داعيا الجهات الحكومية المعنية إلى التدخل لمعالجة المشكلة:”على الأقل، يطمئنوننا أن الدخان الذي يغطينا لا يحمل مواداً سامة، ولن يسبب لنا ولأبنائنا أمراضاً خطرة على المديين القصير والطويل”.

آثار الدخان والغازات التي تطرحها معامل (أبو ثيلة) التي يقول خبراء ومسؤولون انها لا تراعي المتطلبات البيئية، تُرعب أيضا (أم جود) التي يقع منزلها على مسافة قريبة من المعامل، فلديها ولد صغير يعاني من الربو، وتضطر بسبب مرضه الى وضعه في غرفة مغلقة الباب والنافذة، بينما تلف وجهه بلثام عندما تخرجه من المنزل خوفا من مضار الدخان.

وهي تنتظر كما بقية السكان، أن تستجيب الجهات الرسمية لشكاواهم المتكررة، وتجد لهم حلولاً لمشكلة تلوث هواء المجمع. تقول بامتعاض:”علينا المكوث داخل منازلنا، كأننا محتجزون، لأننا لا نستطيع تحمل الرائحة خارجها”. ثم تتساءل:”لكن كيف يمكننا منع الأطفال من الخروج؟”.

يضم مجمع بسماية ثمانية أحياء سكنية ذات بناء عمودي، يقطنها ما بين 80 إلى 100 ألف نسمة، ويعد من المشاريع السكنية الحديثة انشأت على بعد 10 كيلومترات فقط من حدود مدينة بغداد، غير أن المجمع يقع بجوار منطقة النهروان وأبو ثيلة التي تضم معامل ومنشآت صناعية صغيرة ومتوسطة.

تغطي سحابات الدخان الخارجة من تلك المعامل سماء بسماية باستمرار، بفعل نشاط معامل الطابوق والقار والأسفلت والفلانكوت وتنقية وتدوير الزيوت والشحوم وسواها، وهي في الغالب معامل تطرح كميات كبيرة من الأدخنة والمخلفات التي تحمل أضراراً بيئية كبيرة.

ويتهم مختصون في البيئة وباحثون كما سكان في المجمع، بعض المعامل بممارسة نشاطها دون موافقات أصولية، في ظل فشل الجهات الرقابية في متابعتها ومحاسبتها، ويشككون في كونها تتبع أياً من المعايير البيئية للحد من مخاطر الإنبعاثات الناجمة عن عملها.

وهذا ما يحاول هذا التحقيق الكشف عنه، مدعوماً بوثائق ونتائج قياسات أجهزة الكشف الميداني الخاصة بجودة الهواء والأجسام المصاحبة لدخان الأنشطة الصناعية القريبة من مجمع بسماية السكني.

Image 17

مخالفات بيئية بالجملة

خلال السنتين الأخيرتين، تقدم العديد من أهالي بسماية بشكاوى لوزارة البيئة، بشأن انبعاثات المعامل ومعاناتهم من روائحها التي يصفونها بالكريهة. قامت الوزارة وفقاً لمصادر فيها، وحسب ما تظهره وثائق حصل عليها معد التحقيق، بإجراء مسوحات ميدانية أظهرت وجود “تلوثٍ بيئي” في المجمع ومناطق أخرى مجاورة لها.

وربطت تحقيقات برنامج الرقابة على الأنشطة المؤثرة على البيئة في الوزارة، ارتفاع نسب التلوث بـ”وجود معامل الأسفلت في منطقة أبو ثيلة، التي تعمل ليلاً اي خارج أوقات الدوام الرسمي للدوائر الحكومية، مما يتسبب بتصاعد الانبعاثات الغازية مع انتشار روائح الكبريت، الأمر الذي يشكل خطراً على صحة الناس في المكان”، وفقاً للمصادر.

الوثائق التي حصل عليها معد التحقيق، وهي مخاطبات رسمية صادرة من دائرة حماية وتحسين البيئة في منطقة الوسط، موجهة إلى مكتب وزير البيئة في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تضمنت إجراءات الدائرة فيما يتعلق بالشكاوى الواصلة إليها من ساكني بسماية.

وتظهر تلك المخاطبات، قيام فرق فنية بمهام المسح الميداني للوقوف على أسباب التلوث الحاصل في المنطقة، وتوصلت إلى أدلة دامغة بوجود التلوث، وقدمت توصيات بفرض عقوبات على المعامل المخالفة للشروط والقوانين البيئية.

ففي 12 تشرين الأول اكتوبر 2023 اجرى فريق “بيئة بغداد” برفقة الشرطة البيئية والأمن الوطني والشرطة الاتحادية والقوة الماسكة للأرض في منطقة بسماية، زيارة ميدانية للكشف عن المخالفات البيئية للانشطة الصناعية.

ووجه الفريق خلال زيارته انذاراً لمعمل (لؤلؤة بغداد) لتنقية الزيوت، ومعمل (البحار) لتصفية وتنقية الزيوت المستهلكة، ومعمل (الرواسي) لإنتاج الاسفلت المؤكسد، بسبب مخالفات تلك المعامل المتضمنة “عدم الالتزام بالمتطلبات البيئية من خلال استخدام المخلفات النفطية في العملية الانتاجية وكذلك ارتفاع قراءات تراكيز المركبات العضوية المتطايرة (VOC) عن المحدد الوطني”.

وأظهرت الوثائق أيضا مخالفات محطة (الجسر التحويلية) واعتبارها محطة غير نظامية لعدم حصولها على الموافقة البيئية وعدم توفر الشروط البيئية الواجب توافرها في المحطات التحويلية.

ووثق فريق التحقيق، قيام بعض معامل الأسفلت في منطقة أبو ثيلة، بالعمل في أوقات الليل فقط وهو السبب الرئيسي لانتشار الادخنة وروائح الكبريت، الأمر الذي دعا وزارة البيئة في 26 تشرين الأول أكتوبر 2023 الى مفاتحة وزارة الداخلية والأمن الوطني والطلب منهما بإيقاف نشاط المعامل غير الحاصلة على الموافقات البيئية “لما تسببه من تلوث بيئي يضر الساكنين والكائنات الحية الأخرى”.

وتؤكد الوثائق تزويد الجهات الأمنية بأسماء ومواقع المعامل المخالفة للشروط البيئية.

كما أظهرت وثائق أخرى مفاتحة وزارة البيئة لنظيرتها الداخلية ومطالبتها لها بإغلاق معامل مخالفة كانت قد أنذرتها سابقاً، بسبب “استمرار مخالفاتها دون معالجة وعدم التزامها بالمتطلبات البيئية الواجب توافرها في معامل الاسفلت ما تسبب بتلوث عالٍ نتيجة تولد أدخنة وروائح تحتوي على مركبات عضوية وكيميائية ضارة أثناء عمليات انتاج وتصنيع الاسفلت”.

وفي 12 كانون الأول/ديسمبر 2023، أجرى فريق من مديرية بيئة بغداد والشرطة البيئية والأمن الوطني/ مكتب بسماية الى جانب قوة من الشرطة الاتحادية، كشفاً موقعياً ثانياً على مواقع معامل الأسفلت في منطقة أبو ثيلة التي تبعد 4 كم عن مجمع بسماية السكني.

واجرى الفريق خلال زيارته لمعمل (الرواسي) لانتاج الأسفلت المؤكسد، فحصاً على تراكيز المواد العضوية غير المتطايرة (VOC) على مرحلتين الأولى، داخل المعمل خلال فترة الانتاج، وكانت ضمن المحدد الوطني.

فيما لاحظ الفريق خلال مرحلة الكشف الثانية خارج المعمل بالقرب من خزان الزفت، انبعاث روائح وأبخرة من الخزان خلال فترة تبريد المنتج وكانت القراءة (0.9-1.2-1.4-0.7 PPM)  وهي أعلى من المحدد الوطني.

وكشف الفريق أيضا استخدام معملي (البحار، ولؤلؤة ) لتصفية وتنقية الزيوت المستهلكة، مادة الدهن (المخلفات النفطية) في عملية تسخين الابراج مما يسبب انبعاثات خلال التشغيل، كما أن قياسات تراكيز المواد العضوية غير المتطايرة (VOC) هي (0.2-0.4-0.3-0.4) وهي أعلى من المحدد الوطني، كما وثق فريق الكشف الموقعي بحسب الوثائق وجود حفرة ترسيب داخل المعملين بعرض 2م وطول 1م.

وتظهر الوثائق وجود 20 معملا لإنتاج الاسفلت في منطقة أبو ثيلة التابع لقضاء المدائن، منها 16 معملا يعمل خلال فترة الليل وحتى ساعات الصباح الأولى. وهي جميعا مخالفة للشروط البيئية وتساهم في ارتفاع نسب تلوث الهواء في مدينة بسماية والمناطق المجاورة لها.

ولم تستطع دائرة حماية وتحسين البيئة في منطقة الوسط، ومديرية بيئة بغداد –(لأسباب لم تعلنها)- إيقاف أي من تلك المعامل، رغم إصدارها انذارات وإشعارات بإغلاق عدد منها.

وزارة البيئة: نسبة تلوث الهواء في العراق تتجاوز المعدل المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية بـستة أضعاف ما يؤثر على صحة الإنسان

تلوث خطير في الهواء

يؤكد مدير قسم مراقبة الكيمياويات وتقييم التلوث في وزارة البيئة، لؤي صادق المختار، أن “نسبة تلوث الهواء في العراق تجاوزت المعدل المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية بـستة أضعاف”، مبيناً “البلاد تجاوزت الـــ 70 جزء من المليون في نسبة الملوثات حسب محطات القياس الموجودة في بغداد، في حين أن محدد الصحة العالمية هو 10 جزء من المليون”.

ويقول ان “نوعية الهواء تتراوح بين اللون الأصفر المؤثر على صحة الإنسان وخصوصاً الذين يعانون من مشاكل تنفسية، واللون البرتقالي غير الصحي، الذي ان وصل مؤشر نوعية الهواء اليه، فعلى الناس ذوي المشاكل الصحية الجلوس في منازلهم وإغلاق النوافذ.”

وتعليقا على مؤشرات التلوث في مجمع بسماية، يقول المختار ان المشكلة تكمن بتسرب غازات الكبريت التي يمكن أن “تحمل نوعاً من المواد الحلقية كالبنزينات والفينولات، وتلك المواد تترك آثاراً صحية خطيرة وتعطل عمل بعض أعضاء جسم الانسان، وتسبب السرطان نتيجة التعرض المتواصل والطويل لها”.

من جانبه، يشير علي جابر، مدير قسم مراقبة الهواء والتلوث في مديرية البيئة الحضرية بوزارة البيئة، إلى مخاطر أخرى تؤثر على نوعية الهواء تتمثل في:”الحرق المفتوح للنفايات، إذ لا يوجد في العراق نظام متكامل لإدارة النفايات يتكفل بتجميعها وتدويرها وتحويلها إلى طاقة كهربائية صديقة للبيئة”.

ويقول ان ذلك يحدث كذلك بالقرب من مجمع بسماية حيث توجد منطقة الطمر الصحي في النهروان القريبة، فضلاً عن وجود معامل الاسفلت التي “تعمل في ساعات متأخرة من الليل حتى وقت الفجر، وهي محاولة للعمل بعيداً عن الرقابة لأن نشطاها يكون في العادة خارج أوقات الدوام الرسمي” وفقاً لجابر.

وشخصت القياسات التي أجرتها وزارة البيئة مؤخراً “وجود تلوث بالدقائق العالقة وتجاوزها المحددات الوطنية وكذلك تلوث بالهيدروكاربونات التي تعد مسرطنة وتأثيرها تراكمي، كما تم رصد وجود تلوث باكاسيد النيتروجين واكاسيد الكبريت في بعض المناطق خاصة المتأثرة بالأنشطة الصناعية”.

ويقدم المسؤول الحكومي جملة من الحلول للحد من تلوث الهواء في بسماية والمناطق الأخرى من العاصمة، منها “نصب وسائل سيطرة مناسبة على الإنبعاثات، وترحيل الانشطة الملوثة بعيداً عن المناطق السكنية“.

وبخصوص نسب تلوث الهواء في بسماية، يقر الجابر بعدم امتلاك وزارته أجهزة لقياس نسب تلوث الهواء في منطقة بسماية، لكنه تحدث عن وجود تنسيق “لنصب محطة لمراقبة نوعية الهواء في المجمع وسيتم الانجاز عند استكمال المتطلبات الفنية والمالية وغيرها” دون أن يحدد موعداً لإتمام ذلك.

ويعود للتأكيد:”بشكل عام فان اجواء مدينة بغداد تعاني من تلوث الهواء بنسب تتجاوز المحدد الوطني، ويتفاقم تاثيرها خلال اشهر الصيف مع زيادة الانبعاثات من الأنشطة الصناعية وتشغيل المولدات، والمتمثلة بالدقائق العالقة والمركبات العضوية المتطايرة واكاسيد النيتروجين والكبريت”.

مخالفات قانونية صريحة

وفقا للخبير القانوني فالح خضر غازي، فإن قانون حماية وتحسين البيئة العراقي رقم 27 لسنة 2009، اشترط معايير فنية خاصة لممارسة النشاطات الصناعية، منها إلزام صاحب المشروع قبل تنفيذه بتقديم تقرير يتضمن تقدير التأثيرات الإيجابية والسبلية للمشروع على البيئة، وتقدير كلفة التلوث نسبة إلى الإنتاج.

وكذلك إلزام أصحاب المشاريع بمنع انبعاث الأدخنة أو الغازات أو الأبخرة أو الدقائق الناجمة عن عمليات إنتاجية أو حرق وقود في الهواء، وإجراء المعالجات اللازمة بما يتضمن مطابقتها للتشريعات البيئية، كما منح القانون الوزير أو من يخوله صلاحية “إنذار أية منشأة أو معمل أو أية جهة أو مصدر ملوث للبيئة لإزالة العامل المؤثر خلال 10 أيام من تاريخ التبليغ بالإنذار”.

وفي حال عدم الإلتزام فان القانون منح “صلاحية إيقاف العمل أو الغلق المؤقت مدة لا تزيد عن 30 يوماً قابلة للتمديد حتى إزالة المخالفة، وفرض غرامة مالية لا تقل عن مليون دينار ولا تزيد عن 10 مليون دينار تكرر شهرياً حتى إزالة المخالفة”.

ومن خلال متابعته، يرى غازي، أن وزارة البيئة تكتفي فقط بالغرامات، معربا عن قناعته بضرورة اللجوء إلى غلق المعامل المخالفة وتشديد العقوبات عليها مع تكرار المخالفات وإحالتها إلى المحاكم المختصة.

بل ويشير إلى امكانية حبس المخالفين، وفق المادة 34/اولاً من قانون حماية وتحسين البيئة، فمع عدم امتثال المخالف لإزالة الضرر البيئي “يعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وتتضاعف العقوبة في كل مرة يتكرر فيها ارتكاب المخالفة”.

ويعرج الخبير القانوني على تعليمات محددات الانبعاثات الوطنية للانشطة والأعمال رقم (3) لسنة 2012 الخاصة بتنفيذ وتطبيق قانون حماية وتحسين البيئة، إذ يقول بأنها اشترطت على “جميع الانشطة الصناعية ومنها معامل الاسفلت وكور الصهر والطابوق والزيوت، عدم تجاوز الحدود القصوى المسموح بها للانبعاثات وتسربها إلى الهواء المحيط”.

ويتوقف عند المادة 3 من التعليمات التي تنص على خضوع “جميع مصادر الانبعاثات بنوعيها الثابت والمتحرك لأعمال المراقبة والقياس من السلطات المختصة بالتنسيق مع وزارة البيئة”.

ويخلص الى القول أن ما يحدث فعليا هو عدم التزام العشرات من المعامل المخالفة للشروط البيئية بالتعليمات، ومنها معامل الاسفلت والزيوت والطابوق المحيطة بمدينة بسماية، في حين ان الجهات المعنية لا تطبق العقوبات أو تفرضها في حدها الأدنى.

مدينة جديدة وسط الملوثات

يقر ممثل مجمع مصانع النهروان لإنتاج الطابوق طالب السعيدي، بوجود انبعاثات ناتجة عن “عملية حرق كور الطابوق”، مبيناً أن معالجة الانبعاثات تتطلب دعما حكومياً.

وفي ظل ذلك الواقع يبدي استغرابه من منح الموافقات البيئية من قبل الجهات الحكومية لبناء مدينة (علي الوردي) التي لا تبعد عن مجمع النهروان للطابوق سوى 7 كم فقط!.

ويعزو السعيدي، أسباب استمرار انبعاثات معامل صناعة الطابوق الى “عدم قدرة أصحابها ماليا على استبدال أفران حرق الطابوق”، مطالبا بدعم حكومي “للحد من عمليات الحرق وتلوث الهواء، بتحويل المعامل من بدائية إلى صناعية”.

وينبه الى ان وزارة البيئة تفرض غرامات مالية دورية على أصحاب معامل الطابوق، لكنها “تغض البصر عن محاسبة الأفران المتجاوزة التي أنشأت خارج المنطقة الصناعية والتي تسهم بتلوث الهواء بما نسبته 40%”.

ومع تأكيد ممثل مصانع النهروان على تحديث المكائن المستخدمة في صناعة الطابوق وجعلها صديقة للبيئة، لكن تبقى الانبعاثات الملوثة مرتفعة بسبب استخدام النفط الأسود في عملية الحرق” وفقا لما يقول.

وكان وزير الصناعة خالد البتال قد زار في أيلول/سبتمبر 2023 المنطقة الصناعية في النهروان ووعد بغلق المعامل المتجاوزة التي تبلغ 90 فرناً، لكن لم يحصل شيء على الأرض، في مؤشر على وجود جهات تقف وراء تعطيل قرارات الغلق.

ويوجد في النهران 270 معملاً مجازاً لإنتاج الطابوق منها 70 معملاً أنشيء في العام 2015، و90 فرناً افتتحت من دون موافقات اصولية .

وكانت وزارة البيئة وبالتعاون مع الشرطة البيئية، قد وجهت أوامر بغلق 19 معمل اسفلت في بسماية مع توجيه إنذارات لعدد آخر لمخالفتها الضوابط. وقال مدير عام دائرة حماية وتحسين البيئة في منطقة الوسط رغد أسد العبيدي ان “عدداً من هذه المعامل تتجاوز أوامر الغلق وتمارس نشاطها في أوقات الليل بطرق ملتوية مما اضطر الوزارة الى اللجوء للقوات الأمنية للحد من هذه التجاوزات التي تتسبب في تصاعد الأدخنة وإنبعاث روائح الكبريت بما لها من تأثير على صحة المواطنين”.

وضمت قائمة المعامل التي أصدرت بحقها أوامر غلق: معمل أسفلت عبد وأخوانه، لؤلؤة بغداد لإنتاج الأسفلت، معمل اسفلت جرف النداف. معمل أسفلت علاء خليفة علي. عبق الرياحين. معمل أسفلت محمد سامان وحسن رشيد. جرف النداف/صلال حسين عبد الله. عطاء الأرض . تاج المروة. الياقوت، معمل اسفلت علاء، معمل أسفلت أبو احمد، معمل اسفلت فارس، معمل اسفلت علاء عدنان، معمل اسفلت عصام، معمل اسفلت جميل ثويني، معمل اسفلت عطاء الأرض 2. معمل اسفلت أياد. معمل اسفلت رمال الشاطئ. معمل اسفلت علي.

تواصل معد التحقيق، مع إدارات المعامل التي صدرت ضدها عقوبات، لكنه لم يتلق منها إجابات، وفضل أصحابها عدم التعليق، وذات الأمر حدث مع أصحاب وإدارات العديد من معامل الأسفلت في أبو ثيلة.

موظفون وعاملون في بعض تلك المنشآت، ردوا على أسئلة معد التحقيق، بشكل شخصي، وفيها حملوا مسؤولية معاناة سكان بسماية الى “الجهة التي منحت رخصة الاستثمار السكني في المنطقة المعروفة بأنها صناعية”.

يقول احد العاملين الشباب، مشددا على عدم ذكر اسمه، ان الأمر برمته متعلق بسوء الادارة، موضحاً ان المعامل انشأت وتعمل بموجب موافقات من جهات رسمية، وهي بالأصل تقع خارج بغداد وضمن المسافة المحددة بيئياً، لكن ما حصل لاحقاً هو منح أراض لمجمعات سكنية في مناطق مجاورة.

ويقول عامل آخر في معمل للأسفلت: “منذ أكثر من عشر سنوات أعمل هنا، قبل أن تبنى بسماية، لذا على السكان أن يشتكوا من الجهة التي وافقت على بناء شققهم بالقرب من معامل معروفة بانبعاثاتها. معملنا ومعامل أخرى للقار والزيوت وصهر الحديد والطابوق كلها تصدر دخاناً ملوثا والبيئة تعرف هذا جيداً”.

موت بطيء

يصف مصدر طبي من مستشفى منطقة النهروان القريب من مجمع بسماية، العيش بالقرب من المعامل النشطة في المنطقة بـ “التعرض للـموت البطيء”. يقول:”حالات الاصابة بالسرطان التي تسجل سنويا هنا تبلغ 80-100 إصابة، ونلاحظ تصاعد نسب الإصابات في صفوف الأطفال إضافة الى تسجيل العديد من الإصابات بالنوبات الدماغية”.

المصدر، الذي طلب عدم الإشارة إلى اسمه لدواع وظيفية، يؤكد استحالة الاثبات علميا ان ملوثات المعامل هي السبب. لكنه يستدرك: “كما لا يمكن أن نستبعد أن تكون الإنبعاثات الصادرة من المعامل سبباً مباشراً”.

ويكشف المصدر عن استقبال مستشفى النهروان: “لما بين 10-15 حالة اختناق يومياً وقد يصل العدد إلى 70 حالة اختناق في اليوم الواحد، إذا عملت جميع المعامل القريبة في نفس الوقت وهذا يحدث أحياناً، وترتفع هذه الأرقام خلال فصل الصيف بشكل كبير جدا”.

حالات الاختناق تلك تحصل جرّاء انتشار غاز ثاني أوكسيد الكبريت، الذي يتسبب بأمراض تنفسية مثل الربو والتهابات الجهاز التنفسي وسرطانات الرئة وأيضا أمراض الكلى، يقول المصدر، موضحا أن الجلطات الدماغية نسبتها تصل الى 10% مقارنة مع أمراض الجهاز التنفسي.

تلك المؤشرات، لا تنكرها الجهات البيئية، فمدير قسم مراقبة الهواء والتلوث بمديرية البيئة الحضرية علي جابر، بدوره يؤكد أن استنشاق الهواء الملوث يهدد صحة الإنسان على المدى القصير والمتوسط والبعيد.

ويقول:”نلاحظ أن تزايد الأمراض السرطانية والأمراض المرتبطة بالجهاز التنفسي ناتج او مرتبط بمختلف أنواع التلوث”. رغم ذلك يرى أن السيطرة على الملوثات وإزالتها موضوع معقد وصعب ويحتاج إلى دراسات وإمكانات كبيرة.

مرصد بيئي يحذر

مع استمرار المشكلة وفشل جهود الحكومة للحد من الملوثات، رغم الشكاوى المتكررة للسكان، حذر “مرصد العراق الأخضر” وهي منظمة مجتمع مدني، من بقاء التلوث دون معالجة ما يؤدي الى تلوث هواء العاصمة نفسها.

وذكر المرصد في كانون الأول 2023: “تلقينا شكاوى عديدة من أهالي مجمع بسماية عن وجود تلوث بيئي في مناطقهم بسبب معامل الطابوق والإسفلت. راصدونا سجلوا هذا التلوث النتاج عن دخان المعامل الواقعة في قرية 10 وفي جرف النداف ضمن قضاء المدائن (جنوب شرقي بغداد)”.

وكشف المرصد ان أبرز المواد الملوثة هي “ثاني أوكسيد الكبريت (so2) وأكاسيد النيتروجين”، مبينا أن “تلك المواد زادت من تلوث هواء بغداد حسب مؤشر الجودة العالمي، مما جعلها تحتل مرتبة 124 بين دول العالم”.

ويعتمد مؤشر جودة الهواء على قياس الجسيمات الدقيقة الصلبة أو السائلة المجهرية العالقة في الهواء، ويمكن أن تكون مصادر الجسيمات طبيعية أو بشرية المنشأ نتيجة الأنشطة اليومية، وكذلك حساب وجود المكونات الأخرى بالهواء مثل، الأوزون (O3)، ثاني أوكسيد النيتروجين (NO2)، وثاني أوكسيد الكبريت (SO2، وأول أوكسيد الكربون  (CO).

ويعد غاز ثاني أكسيد الكبريت، الناتج عن الكبريت المحترق، من الغازات شديدة السمية، فعند استنشاقه بتركيزات منخفضة، يسبب تهيجا شديدا في الأنف والحنجرة، ويضر بالشعب الهوائية. أما في حالة التركيزات العالية، فيصير مهددا للحياة بسبب التراكم الهائل للسوائل في الرئتين(الوذمة الرئوية).

والى جانب معامل النهروان وأبو ثيلة، تزيد انبعاثات محطات الكهرباء ومصفى الدورة في بغداد وغيرها من المنشآت الصناعية التي أصبحت بعد التوسع السكاني داخل التصميم الأساسي للعاصمة، من المخاطر على الصحة العامة، كونها أصبحت على مقربة من مساكنهم ومواقع عملهم وتسوقهم وحياتهم اليومية.

جولات ميدانية

خبير الهندسة البيئية من جامعة بغداد الدكتور حسين جبار، رافق معد التحقيق في جولة ميدانية لمعرفة نسب التلوث في منطقة النهروان القريبة من مجمع بسماية، والتي تضم 370 معملًا للطابوق.

يؤكد الخبير أن نتائج قياس جودة الهواء، سجلت ارتفاعا في عدد الأجسام العالقة في الهواء، بما يتجاوز المحددات البيئية، إذ بلغت المواد العضوية المتطايرة في مركز معامل الطابوق بحدود 1100 مايكروغرام لكل متر مكعب.

ويكشف عن أن بسماية والمناطق المحيطة بها تشهد ارتفاعاً “لنسب اكاسيد الكبريت واكاسيد النيتروجين تفوق المحددات الطبيعية بعشرات المرات”، ويشير إلى أن تلك الملوثات التي هي بالأساس مواد هيدروكربونية، تحمل تأثيرات سلبية على حياة الانسان في المدى القصير، ويتحول الى سرطانات مميتة على المدى الطويل .

ويضيف الدكتور حسين: “نحن في جامعة بغداد وسعيا للتحقق مما جاء من شهادات وشكاوى، حددنا لمعامل طابوق النهروان نقاطاً متعددة للقياس على الخرائط بصورة علمية، لمعرفة ساعات العمل والحرق، واستخدمنا أجهزة حديثة لقياس جودة الهواء”.

ويوضح أن “نتائج قياسات أجهزة الكشف الميداني الخاصة بقياس جودة الهواء والأجسام المصاحبة للدخان، أظهرت نسب أرقام صادمةً قياساً إلى النسب المحددة محلياً وعالمياً، ومقارنةً مع المناطق التي تبعد عن شُعلات معامل طابوق النهروان، الأمر الذي يثبت صحة فرضيتها والمعلومات التي حصلنا عليها مسبقاً”.

تلك الاختبارات أثبتت وبشكل مؤكد أن انتشار التلوث الناجم عن دخان تلك المعامل لا يقتصر على المنطقة المحيطة بتلك المعامل “بل يمتد ليشكل كتلةً ملوثةً تحيط بمنطقة النهروان السكنية بأكملها، مما يجعل جميع السكان عرضةً لاستنشاق السموم والدخان المصاحب لاحتراق الوقود التقليدي ومخلّفاته”، بحسب خبير الهندسة البيئية.

تهرب من المسؤولية

وفقا لقانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009  يجب أن يحاط كل معمل بحزام أخضر من أشجار دائمة الخضرة واستنادا الى توفر هذا الحزام يتم منحه الموافقة البيئية، حسبما تقول مديرة عام دائرة حماية وتحسين البيئة في منطقة الوسط، رغد أسد العبيدي.

وزارة البيئة هي الجهة المعنية برصد المخالفات البيئة للمنشآت الصناعية، بما فيه وجود حزام أخضر، وتفرض “عقوبة الغلق على كل معمل لا يحصل على موافقة بيئية”، تقول العبيدي.

وتؤكد بدورها أن معامل الأسفلت وكور الصهر هي منشآت ملوثة ولم تحقق المتطلب البيئي بالسيطرة على الانبعاثات والغازات الملوثة للهواء. كما تعود للتنبيه الى ذات مشكلة التمدد السكاني “المعامل يجب أن تكون خارج حدود البلدية، لكن زحف سكاني حصل على التصاميم الاساسية للمدن وقرب المساكن مع المناطق الصناعية، فتسبب بالكثير من المشاكل البيئية والصحية”.

وتكشف العبيدي عن استخدام الوقود الأسود في نحو 370 معملاً بالنهروان، وهو ما ادى الى ارتفاع نسب التلوث فيها “فحال احتراق هذه المادة تنبعث غازات كاربون وغازات اكاسيد كبريت ليتلوث هواء النهروان ومدينة بسماية”.

ولمعالجة المشكلة، ترى ان مديرية التنمية الصناعية بوزارة الصناعة والمعادن، باعتبارها الجهة المسؤولة عن معامل الطابوق والاسفلت، عليها أن تزود أصحاب المعامل بمنظومات الحرق الآلية لمنع الانبعاثات الملوثة للهواء.

وتنبه الى ان المنظومات المستخدمة حاليا في تلك المعامل “ليست منظومات حرق آلية بل هي بوجرات نارية ليس فيها فلاتر للتنقية وحجز الغازات والدقائق من الانبعاث للهواء”.

من جانبها تنفي وزارة الصناعة منحها إجازات لمشاريع “خارج الموافقات البيئية”، وتقول المتحدثة باسم وزارة الصناعة ضحى الجبوري، أن “الخطوة الأولى تتضمن منح المشروع إجازة تحت التأسيس، وبعد اكمال المشروع لا يتم منحه اجازة كاملة التأسيس الا بعد جلب كافة الموافقات اللازمة سواء من وزارتي البيئة والنفط وباقي الجهات المعنية”.

وتتحدث الجبوري عن وجود “تعاون بين وزارتي الصناعة والبيئة من خلال المراقبة الميدانية، وإذا شخصت البيئة وجود مخالفة تتعلق بعدم نصب فلاتر تصفية الملوثات يتم اتخاذ كافة الإجراءات القانونية بحق المشروع المخالف”.

لكن هذا على الورق فقط والواقع مختلف، فالمعامل القريبة من مجمع بسماية مستمرة بمخالفتها لتلك التعليمات فضلاً عن مخالفتها لقانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009، على الرغم من فرض الغرامات المالية عليها، كما يؤكد مدير شرطة البيئة في بغداد المقدم مصطفى عبد الحسن.

ويشدد:”كل مصدر ملوث للبيئة سواء معامل الاسفلت القريبة من بسماية أو غيرها يفترض أن تكون تحت طائلة القانون”، متهما جهات حزبية وسياسية لم يسمها “بممارسة ضغوطات تحول دون تطبيق القانون بحق جميع المخالفين من أصحاب المعامل”.على حد تعبيره.

مدير بيئة بغداد صادق الموسوي، مثل غيره من المسؤولين يؤكد إن “نتائج الفحوصات المخبرية التي أجروها تظهر ارتفاع تراكيز ملوثات الهواء( VOC )  من المركبات العضوية المتطايرة عن المحدد الوطني في مجمع بسماية”.

واصدرت بيئة العاصمة وفقا للموسوي، أوامر اغلاق لبعض الانشطة الملوثة للهواء كعدد من معامل الاسفلت القريبة من بسماية، والتي قدر عددها بـ22 معملا “وكور صهر، والمحطات التحويلية غير النظامية”، وفرضت غرامات مالية بحق عدد من “معامل الطابوق، ومحطات الكهرباء التحويلية النظامية”  لعدم التزامها بالمتطلبات البيئية.

ويقول بأن العام 2023 شهد اغلاق 256 معملا مخالفا لشروط السلامة البيئية في بغداد “لكننا نواجه مشكلة تتمثل في عمل بعض تلك المعامل خارج أوقات الدوام الرسمي ما يصعب علينا متابعتها”.

عضو المجلس البلدي السابق في ناحية الجسر عبدالرزاق حسون جياد الشمري، الذي يسكن في مجمع بسماية، يتهم بعض أصحاب المعامل ببناء علاقات بجهات متنفذ بالدولة والبعض الآخر بدفع رشاوى، ما يعرقل محاسبتها.

ويضيف :”لا أحد يستطيع رفع هذا التجاوز على الرغم من مناشداتنا، والقوة الماسكة للمنطقة لايمكنها تنفيذ قرارات الغلق بسبب نفوذ هؤلاء. سنترك مناطقنا ونتجه الى مناطق ذات بيئة خالية من هذه الكوارث ان لم يستجب رئيس الوزراء لأصواتنا”.

وإزاء يأس الكثيرين من سكان بسماية من قيام الجهات المعنية بإجراءات لانقاذهم من مصادر التلوث المهددة للصحة، رحل البعض منهم الى مناطق أخرى، ويفكر آخرون بالقيام بذات الخطوة.

أحمد ماجد(65 سنة) صاحب متجر مواد غذائية في بغداد، واحد من هؤلاء، إذ باع قبل أشهر شقته، وانتقل إلى شمالي العاصمة بغداد، يقول “فعلت هذا من أجل سلامة عائلتي، كان خطر الملوثات يهددنا جميعا، الآن نستطيع التواجد خارج المنزل دون الخوف من الدخان”.

هو يعتقد بأن المشكلة بالأساس تتعلق بفساد الجهة التي”منحت حق انشاء مجمعات سكنية بالقرب من منطقتي النهروان التي فيها طمر صحي ومعامل، وأبو ثيلة حيث معامل الاسفلت والزيوت وما شابه”.

ويوضح وجهة نظره التي تطابق وجهة نظر بعض من أصحاب المعامل:” كل الجهات الرسمية كانت تعرف بأن المعامل تصدر انبعاثات وتلوث البيئة، فلماذا منحتها رخصات استثمارية لبناء مجمعات سكنية، ولماذا لاتستطيع الآن حماية الناس من دخان المعامل؟”.

يصمت قليلاً ثم يجيب بنفسه وهو يبتسم:”إنه الفساد، سبب معظم مشاكلنا التي لا حلول لها مطلقاً”.

  • انجز التحقيق تحت اشراف شبكة “نيريج” ضمن مشروع الصحافة البيئية الذي تديره منظمة “أنترنيوز”.

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":25442}" data-page="1" data-max-pages="1">