متعايشون مع الإيدز يكشفون حقائق اصاباتهم “الجنس، السفر، التاتو”
الإصابات المسجلة تجاوزت الـ2000 لكن الأرقام أكبر في ظل غياب الفحوصات
الإصابات المسجلة تجاوزت الـ2000 لكن الأرقام أكبر في ظل غياب الفحوصات
الصدفة وحدها قادت مخلد ابراهيم (اسم مستعار) ذو 37 عاماً لاكتشاف إصابته بمرض الإيدز الذي قلب حياته رأساً على عقب. في بادئ الأمر لم يجد مخلد غير اخفاء خبر اصابته بالمرض عن أقرب المقربين له؛ حتى لا يرتعب منه المحيطون، ويرفضه الأهل والأصدقاء، وينبذه المجتمع.
قصة اصابة الشاب الذي ينحدر من محافظة ذي قار بدأت بعدما سافر مطلع العام 2022 الى شمال إيران وهناك مارس الجنس مع احدى الفتيات من دون استخدام الواقي الذكري، ليكتشف لاحقا أن الفتاة كانت مصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة المعروف بالإيدز.
يروي الضحية تفاصيل قصة اكتشاف إصابته قائلا: “بعد عودتي الى العراق في منتصف شباط 2022 مارست حياتي بشكل طبيعي، لكن بعد اسابيع شعرت بحمى شديدة واسهال سرعان ما شفيت منه، ومضى الأمر طبيعياً، الى ان خضعت مع خطيبتي في حزيران لفحوصات مخبرية خاصة بعقد الزواج، لتبين النتائج إصابتي بالإيدز”.
بحرقة يواصل مخلد حديثه: “من هول الصدمة هربت من دون اخبار خطيبتي بما جرى معي، وأخفيت الأمر عن عائلتي وكل المحيطين بي، عشت في عزلة مجتمعية وصرت أسيرا لرعب الاصابة، واصيب جسدي بالهزال، الى أن اقنعني الأطباء بضرورة تلقي العلاج للحفاظ على عائلتي واصدقائي”.
مخلد ليس حالة نادرة، بل هناك آلاف الحالات المسجلة رسميا وغير المسجلة، التي تتعايش مع المرض، لكنها تخفي في الغالب أسرار الإصابة ومصادر الخطر وعوامل الانتشار في المحيط العائلي.
وما يزال المجتمع يتعامل مع مريض الايدز المتعايش “بكثير من الرعب” حتى مع توافر المعلومات والحقائق العلمية عن المرض، تقول اخصائية الامراض الانتقالية الدكتورة اسراء طارق. وتضيف “كسر دائرة التمييز التى تكونت حول المتعايشين يتم من خلال تعريف الناس بطبيعة وحقيقة مرض الايدز، وعبر حملات التوعية والتثقيف والندوات في المدارس والجامعات ومراكز الشباب والتجمعات”.
ومع تأكيد الدكتورة اسراء على اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع الاصابة بالفيروس ومنع انتقاله للآخرين تقول:”نعم لا وجود لعلاج ينهي الفيروس بشكل كامل، لكن يتم بنجاح تثبيط الفايروس ومنع انتشاره في جسم المصاب ليواصل حياته”.
وتضيف: “المشافي الحكومية توفر لكل مصاب كود خاص سري احتراما لخصوصيته يراجع من خلاله المؤسسات الصحية لاستلام علاجه واجراء الفحوصات المستمرة، كما توفر اطباء مختصين في كل مؤسسة صحية يشرفون على مرضى الايدز وصالات خاصة بالمرضى”.
تزايد حالات الاصابة بالايدز في السنوات الأخيرة في محافظة ذي قار، دفع الجهات المحلية لاتخاذ اجراءات، يقول عضو مجلس محافظة ذي قار الطبيب أحمد الخفاجي، انها احترازية تتضمن مراقبة العائدين من السفر والوافدين إلى المحافظةـ وتشكيل لجنة دائمة من وزارة الصحة وقسم الجريمة المنظمة في المحافظة “لتحديد بؤر الإصابة”، مبيناً ان الاصابات المسجلة مازالت “ضمن الحدود الطبيعية للمعدلات العالمية”.
لم يكن، سلام راضي، يتوقع أن نقل قنية دم الى جسد ابنته “زينب” ذات الـ 12 عاما، والمصابة باضطراب الدم الوراثي (الثلاسيميا) منذ كان عمرها 10 اشهر، سيقضي عليها بعد أن تسبب بإصابتها بفيروس نقص المناعة المكتسبة “الإيدز” ليزيد من آلامها ويسرع من انهيار أجهزة جسمها الهزيل.
يقول والد زينب” في شهر آيار من العام 2022 تعرضت ابنتي لعارض صحي، استدعى نقلها الى مستشفى الزهراء في النجف، وهناك قرر الكادر الطبي اعطائها قنينة دم، لكن حالتها الصحية ساءت بعدها بشكل كبير وغريب.
قرر الطبيب اجراء بعض التحاليل المخبرية، لتشخيص حالتها، ليفاجؤوا بإصابتها بالإيدز، ولتدخل العائلة كلها في وضع عصيب مع رعب احتمال حمل الفيروس، بما حمله من شكوك، وهم يتساءلون عن الاحتمالات والأسباب.
يتابع الأب المكلوم: “للتأكد من سلامة العائلة خضعنا جميعا فحوصات مخبرية وتبين أن زينب فقط هي المصابة، وعلى أثرها جرى تحقيق إداري في القضية لنكتشف أخيرا ووفق ما اخبرتنا به دائرة صحة النجف، عن تسجيل 85 اصابة نتيجة نقل الدم من عائدين من السفر ووافدين الى المحافظة”.
لم تستمر معاناة زينب مع الاصابة الجديدة التي تعرضت لها، طويلا فلفظت أنفاسها الأخيرة، ليغلق بعدها التحقيق، حسبما يقول راضي.
فحص مخبري آخر، أجراه حسين طالب (25 عاماً) في شباط 2018 قبيل اجراء عملية جراحية لرفع المرارة في مدينة الطب وسط العاصمة بغداد، ظهرت نتيجته “إيجابية”.
يقول حسين الذي يتابع دراسته الجامعية “لحظة معرفتي بالنتيجة أصابني دوار شديد ثم أغمي عليّ من شدة الصدمة، وبقيت لأشهر أعاني من الاغماء المتكرر كلما دخلت المستشفى لتلقي العلاج، حتى تعودت على الأمر”.
يضيف، والدموع تنهمر من عينيه: ” لم اسافر طيلة حياتي، ولا اتردد على بيوت الدعارة، وليست لي علاقات مع اشخاص مصابين، لكني كنت قد راجعت عيادة متخصصة بالوشوم في منطقة الكرادة، كان ذلك في تشرين الثاني 2017 ويبدو اني أصبت على أثرها”.
وتظهر “وثائق سرية” لوزارة الصحة العراقية، ارتفاع اعداد المصابين بمرض نقص المناعة بين المترددين على مراكز “التاتو” و”المساج” المخالفة للشروط الصحية. يؤكد العضو السابق في مفوضية حقوق الانسان علي البياتي ان “تزايد مراكز المساج والتاتو المخالفة للشروط الصحية، أسهم في ازدياد عدد الاصابات بالايدز”.
ويرجع البياتي، تزايد أعداد الاصابات أيضا إلى انفتاح العراقيين على العالم الخارجي وزيارة دول العالم او عن طريق الوافدين للعراق بقصد العمل، داعيا إلى اتخاذ جملة من “الاجراءات الوقائية مع المسافرين الى الدول التي تسجل فيها حالات اصابة مرتفعة بالإيدز”.
“نحن هنا نعاني من قلة الوعي الصحي لمجابهة هذا المرض وما يحيط به من موانع اجتماعية، في ظل ضعف جهد المؤسسات المعنية بالدولة”، يقول البياتي.
في ثمانينيات القرن الماضي تعاقدت وزارة الصحة العراقية مع شركة “ماريو” الفرنسية لتوريد امصال “فاكتر 8” و”فاكتر 9″، اللذان يعملان على تخثر الدم لمرضى الهيموفيليا (عاملان أساسيان لمكافحة هيموفيليا الدم)، لكن الدواء بعد استخدامه في مستشفيات بغداد أصاب 286 عراقيا بمرض نقص المناعة المكتسب، وعلى اثر ذلك تم حجز المصابين والتعتيم على مرضهم.
اتضح سريعا لدى الجهات العراقية أن الشحنة التي أرسلتها الشركة الفرنسية المنتجة لتلك الأمصال كانت ملوثة بفيروس الإيدز، وبذلك سجل العراق أول إصابات هذا المرض، في وقت لم يكن يمتلك حينها أي برنامج خاص بالعلاج.
وكان نقل منتج من بلازما الدم إلى مريض الهيموفيليا محفوفا بالمخاطر حيث يؤدي أحيانا إلى انتقال أمراض أخرى مثل التهاب الكبد الفيروسي وفيروس نقص المناعة الى المريض، قبل ان تتطور تقنيات النقل.
يقول صالح الحسناوي وزير الصحة العراقي الأسبق، في تصريحات صحفية، ان الأمصال التي صدرتها هذه الشركة أصابت 286 شخصا بالإيدز، لكن الحكومة العراقية التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع فرنسا، قامت بالتعتيم على القضية، وحجزت المصابين بمستشفى التويثة جنوب شرقي بغداد.
وحاولت الحكومات العراقية بعد العام 2003 ولعدة مرات اعادة فتح الملف للحصول على تعويضات، لكن غياب الأدلة وتأخر فتح القضية منع من تحقيق اي تقدم، وهو ما دفع الحكومة في العام 2023 ومن خلال البرلمان الى العمل على سن قانون لتعويض الضحايا او عوائلهم بمبلغ 100 مليون دينار وقطعة أرض سكنية مع راتب شهري، بحسب رئيس لجنة الصحة في مجلس النواب الدكتور ماجد شنكالي.
وفقاً لما يقوله اخصائي الأمراض الوبائية الدكتور حيدر حنتوش، فان اعداد المصابين المسجلين بمرض نقص المناعة في إيران بلغت 65 الف اصابة، ووفق المنطق فان الاصابات الفعلية هي اضعاف الأرقام المعلنة، وهي تبقى ارقام أعلى بكثير من أعداد المصابين المسجلة في اذربيجان.
من هنا يرى حنتوش ان السفر إلى إيران والعودة دون إجراء الفحوصات الطبية خصوصا لفئة الشباب “تمثل خطرا على المجتمع” ويجب معالجة الأمر.
وما يثير القلق أيضا هو “توقف اجراء الفحوصات الطبية للسائحين العراقيين العائدين الى البلاد داخل المطارات والمنافذ، ولا نعلم الجهة التي أوقفت تلك الفحوصات الاحترازية المهمة” يقول حنتوش.
ويضيف: “ينبغي اجبار الوافدين من البلدات عالية الخطورة ممن مضى على سفره اكثر من اسبوعين خارج العراق، اجراء الفحوصات الخاصة بالفيروسات ومنها الايدز، وفرض غرامات مالية على المخالفين وتشديد الرقابة عليهم”.
ويشير إلى أن الدوائر المعنية “شخصت ظاهرة تهرب المصابين بمرض نقص المناعة وتغير عناوين سكنهم خوفا من التمييز والوصمة المجتمعية” وهي مسألة تواجه المصابين في العراق على نحو كبير حيث ينظر الى المصابين بالكثير من الريبة والخوف.
وشهد العراق في السنوات الاخيرة ارتفاعا حاداً في اعداد الاصابات خصوصا في محافظة ذي قار التي سجلت خلال العام 2023، أكثر من 150 حالة إصابة بالإيدز، وفقاً لما يؤكده حنتوش الذي يقول إن “غالبية الاصابات اكتشفت بالصدفة بعد وصول المرضى الى المشافي للتبرع بالدم أو اجراء فحوصات الزواج أو اجراء تداخل جراحي، وبالتالي نتوقع وجود ضعف العدد المسجل لدينا أو أكثر”.
مشكلة تفشي الفيروس في صفوف المسافرين العراقيين والوافدين إلى البلاد، يشخصها أيضا رئيس لجنة الصحة في مجلس النواب ماجد شنكالي، الذي يقول إنه مع توسع فرص السفر الى خارج البلاد من خلال رحلات المجاميع السياحية فان “الكثير من العراقيين المسافرين ممن لا يتبعون التعليمات الصحية يعودون إلى البلاد وهم يحملون الفيروس”.
ويتلقى مرضى الايدز في العراق، بعد تشخيص اصابتهم، المثبطات والعلاجات الخاصة، فضلا عن النصائح الضرورية للتكيف مع حياتهم الجديدة والتعايش مع المرض، ويتم متابعتهم عبر التواصل معهم بين فترة واخرى، واجراء الفحوصات الضرورية وتقديم العلاجات.
يبدد عضو الفريق الإعلامي الساند لوزارة الصحة، علي أبو الطحين، المخاوف من احتمال حصول زيادات كبيرة في عدد المصابين بالإيدز، بل ينفي أن يكون العراق قد سجل ارتفاعا في أعداد المصابين، مشيرا إلى أن “الاصابات في العراق ما تزال تحت السيطرة، وهي ليست كما تحصل في افريقيا وامريكا الوسطى والجنوبية وفي جنوب شرق اسيا”.
ويضيف “للأسف الشديد المطارات والمنافذ الحكومية لا تعتمد الفحص الدوري، لذا يجب رفع وعي المواطنين بالابتعاد عن العلاقات الجنسية غير المحمية ومراكز التاتو والمساج غير المجازة، وحتى مراكز التجميل وزراعة الشعر في العراق أو خارجه، كما موضوع المخدرات نتيجة استخدام الابر من شخص الى آخر”.
ويزيد أبو الطحين: “الفحص المبكر مهم، فالعلاج سريعا يمكن أن يسهم بتراجع انتشاره أو العدوى به بين الآخرين، لذا على المسافرين الذين يغادرون البلاد لفترات تمتد أكثر من 3 اسابيع ثم يعودون اجراء الفحص في المراكز المتخصصة”، معربا عن قلقه “من اصابة فئات عالية الخطورة وهم المرضى الذين يعانون من مشاكل في الدم ويحتاجون لنقل الدم بين فترة واخرى”.
ويدعو ابو الطحين العائدين الى البلاد الذين يشعرون بالأعراض والعلامات المتمثلة بالحمى لمدة شهر دون سبب معروف أو اسهال يستمر لأسابيع ونقص في الوزن أكثر من 10% من الوزن الطبيعي، الى مراجعة المشافي الحكومية للفحص المخبري”.
تلك الأعراض تظهر في مراحل مبكرة من الفيروس، لذا ينصح المسافرون ممن يعانون من تلك الأعراض مراجعة مراكز الفحص للتحقق وبدأ العلاج مبكرا قبل ظهور علامات المرض المتقدمة.
ويكشف مصدر مسسؤول في وزارة الصحة عن وجود عشرات المخاطات والكتب الرسمية الموجهة إلى الوزارات والجهات الأمنية المشرفة على المطارات والمنافذ الحدودية في البلاد بـ”ضرورة الزام المسافرين العراقيين الوافدين من الدول عالية الخطورة باصابات الايدز باجراء الفحوصات حال دخولهم العراق، وعدم ختم جواز المسافر الا بعد اجراء الفحص اللازم خصوصا إذا كان مسافرا لدول ذات مستوى اصابة عالي بالفيروس او متوسط”.
وتلزم وزارة الصحة، المستشفيات كافة بضرورة اجراء الفحص المختبري الدقيق لأي مريض قبل دخول صالة العمليات للتأكد من عدم اصابته بالفيروسات الانتقالية ومنها الايدز، في اطار متطلبات الحد من انتشار تلك الفيروسات.
رغم التأكيدات الحكومية بمحدودية حالات الاصابة المسجلة في البلاد، تشير إحصائيات وزارة الصحة في العام 2021 إلى تسجيل 392 حالة إصابة و21 حالة وفاة، فيما سجل في العام 2022 رقم أعلى بإصابة 446 في عموم البلاد باسثناء إقليم كردستان مع تسجيل 33 حالة وفاة بينهم 9 اناث.
ووفقا لإحصائيات رئيس لجنة الصحة النيابية ماجد شنكالي، فان أعداد المسجلين المصابين في قوائم وزارة الصحة بلغت 2040 مصابا، لكن تقديراته تشير إلى وجود ضعف هذا العدد. نتيجة امتناع الكثيرين من اجراء الفحوص المخبرية ومع عدم تسجيل بعض الاصابات حتى بعد التشخيص.
ارتفاع أعداد الإصابات في الناصرية وغيرها من المحافظات، يثير تساؤلات عن الطريقة التي تتعامل بها وزارة الصحة لمواجهة “الإيدز” في ظل سياسة التعتيم وعدم الشفافية التي تحيط بهذا الملف ومع توقف الفحوصات الضرورية في المطارات.
فعدم اجراء الفحوصات للوافدين، وضعف الرقابة على مراكز التاتو والمساج، تعني امكانية تعريض عشرات الاشخاص إلى ما تعرض له نبراس عزيز (اسم مستعار) 41 عاما وعائلته.
ففي شهر كانون الأول 2016 سافر الشاب البغدادي المتزوج والأب لطفلين، إلى لبنان لغرض السياحة، وبعد يومين من وصوله إلى بيروت مارس الجنس مع ثلاث فتيات من الجنسية اللبنانية يعملن في مجال الجنس غير الآمن، دون استخدام الواقي الذكري.
تلك الممارسة أدخلته في قوائم المصابين بالإيدز المسجلين لدى وزارة الصحة، بعدما تأكدت اصابته بالفيروس بعد شهرين من عودته من بيروت، وقبيل إجراء عملية التهاب الاذن الوسطى المزمن بمستشفى اليرموك التعليمي في العاصمة بغداد في آذار 2016.
يقول عزيز، المتعايش مع مرضه “بعد تشخيص الاصابة طلب مني التأكد من سلامة عائلتي، وجاءت النتائج بكشف الكارثة التي حملتها لعائلتي بإصابة زوجتي وأبني وابنتي، ليتم احالتنا جميعا الى المركز العلاجي والارشادي لمرضى العوز المناعي في مستشفى الكرامة التعليمي”.
يصمت للحظات ثم يتابع “لو كانت هناك فحوصات مبكرة، ربما لما انتقلت العدوى لعائلتي .. أعيش مع ألم كبير، والقلق يلاحقنا بشكل دائم”.