بينما كانت طائرات إيران المسيّرة وصواريخها تحلّق فوق أجواء العراق متجهة لإسرائيل، حطّت طائرة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والوفد المرافق له في العاصمة الأمريكية واشنطن في 14 نيسان، في ظل التهاب توترات الشرق الأوسط.
فإلى جانب التحديّات السياسية والأمنية والاقتصادية المعقدة التي يعيشها العراق، وارتباك العلاقة مع الولايات المتحدة، فرض التصعيد الإيراني الإسرائيلي، ضغوطاً أخرى على أجندة السوداني التي بحثها مع الإدارة الأمريكية.
حظي موضوع الشراكة الشاملة مع الولايات المتحدة، بأهمية كبرى، خصوصاً وإن هذه الزيارة تأتي في سياق استكمال أعمال اللجنة العسكرية العليا المعقودة بين بغداد وواشنطن، لإعادة تشكيل وضع القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي لمحاربة “داعش” في العراق، في ظل مطالبات مستمرة من قبل قوى الإطار التنسيقي الحاكم، وتحديداً الفصائل المسلحة المقربة من إيران، بإنهاء وجود هذه القوات، عبر وضع جدول زمني يحدد المدة اللازمة لانسحاب كل القوات من البلاد.
وتجنّب السوداني في هذه الزيارة الإصرار على الوصول لنهايات واضحة في هذا الملف، لترك الأبواب مفتوحة مع الإدارة الأمريكية.
الوجود العسكري الأمريكي
ربطت الولايات المتحدة، العراق، باتفاقيات أمنية وسياسية واقتصادية، الهدف الأساس منها، تأمين مصالح واشنطن السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة والعراق، والحديث هنا عن “الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق، واتفاقية الإطار الإستراتيجي لعمل القوات الأمريكية في العراق” المُبرمة بين البلدين عام 2008.
بعد انسحاب الولايات المتحدة من العراق عام 2011، نتيجة أعباء الاحتلال الإستراتيجية التي تحملتها، ظهر واقع سياسي وأمني مأزوم، أسّس لصعود تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في حزيران 2014، وسيطرته على مساحات شاسعة من العراق، ورافق ذلك صعود كبير للفصائل المسلحة الموالية لإيران، والتي ربطت فعلها العسكري والأمني بالإستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط، توازيا مع فصائل أخرى في سوريا ولبنان واليمن، وعلى هذا الأساس عادت الولايات المتحدة للعراق مرةً أخرى، ولكن هذه المرة تحت مظلة التحالف الدولي ضد “داعش” في عام 2016، وكانت المهمة الأساسية لهذا التحالف هو دحر التنظيم في العراق وسوريا.
بعد إعلان العراق هزيمة “داعش” في كانون الأول 2017، أصبح وجود القوات الأمريكية والدولية، التي جاءت تحت مظلة التحالف الدولي، موضوع نقاش حاد داخل العراق، وخصوصاً من قبل الأطراف السياسية المرتبطة بإيران، وتصاعدت الدعوات لإخراجها بعد اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، وأبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، مطلع عام 2020 لتكتب بداية فصل جديد في المواجهة السياسية – الأمنية بين إيران والولايات المتحدة في العراق.
ضغطت القوى السياسية المقربة من إيران حتى دفعت البرلمان العراقي للتصويت على قرار نيابي في كانون الثاني 2020. يُلزم الحكومة العراقية بوضع جدول زمني لمغادرة القوات الأجنبية والأمريكية العراق، تزامناً مع أزمة سياسية حادة نتيجة تصاعد التظاهرات الاحتجاجية في العراق واستقالة حكومة رئيس الوزراء حينها عادل عبد المهدي، لتدخل البلاد بعد ذلك في دوامة سياسية وأمنية، بين القوات الأمريكية والفصائل المسلحة الموالية لإيران، في ظل غياب واضح لمؤسسات الدولة العراقية.
وعلى هذا الأساس أخذت الولايات المتحدة تعيد انتشارها العسكري في العراق من جديد، ففي الوقت الذي سلّمت به بعض القواعد العسكرية للجانب العراقي، نتيجة للتفاهمات التي تم التوصل إليها مع حكومة مصطفى الكاظمي، عبر جولات الحوار الإستراتيجي، فإنها تمركزت في قواعد رئيسية أخرى، وعززتها أمنياً واستخبارياً وصاروخياً.
وعلى الجانب الآخر، أخذت الفصائل المسلحة الموالية لإيران تعدّل خارطة انتشارها العسكري، فتمركزت على أغلب خطوط الإمداد العسكري واللوجستي الأمريكي، وتحديداً في مناطق شمال وغرب العراق، بالاتجاه نحو الحدود السورية، فضلاً عن إيصال العديد من الأسلحة والمعدّات لحلفائهم في الساحة السورية ثم اللبنانية، فصار العنوان الرئيس لهذه الإستراتيجية (استنزاف القوات الأمريكية حتى الانسحاب)، بتفعيل الهجمات المسلحة على المعسكرات التي تتواجد فيها القوات الأمريكية، سواءً في العراق أو سوريا، والتعويل على ردود أفعال أمريكية تستثير السيادة العراقية، وهو ما تحقق بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة.
فقد أدى الرد الأمريكي على هجوم شنته كتائب حزب الله العراقي على قاعدة أمريكية في شرق الأردن في كانون الثاني 2024، عبر استهداف بعض قيادات الحشد الشعبي داخل بغداد، إلى تصاعد الضغوط لإخراج القوات الأمريكية من العراق من جهة، وتهدئة وتيرة هجمات الفصائل من أخرى، فاندفعت حكومة السوداني لمطالبة الإدارة الأمريكية بجدولة انسحابها من العراق، عبر تشكيل لجنة عسكرية عُليا بين البلدين في 24 كانون الثاني 2024.
جاءت الدعوة -الموافقة- الأمريكية لزيارة السوداني واشنطن، لبحث مستقبل الوجود الأمريكي في العراق، كمدخل جديد للعلاقات المستقبلية التي ستربط العراق بالولايات المتحدة، في ظل إصرار سياسي – فصائلي مقرب من إيران، ومهيمن على المشهد السياسي في العراق، عبر الإطار التنسيقي، على إيقاف أيّة تعاملات سياسية وعسكرية مع الجانب الأمريكي، ليضيف علامات استفهام أخرى على التداعيات السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمكن أن يتحملها العراق جراء فشل هذه الزيارة، فالمؤكد أن الولايات المتحدة لن تبحث وجودها العسكري في العراق، بل هي لا تضع انسحابها في قائمة الخيارات، التي تتضمن ملفات سياسية واقتصادية أخرى، وهذا ما ألمح إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال لقائه السوداني، حين أشار إلى تصميم أمريكي واضح على حماية القوات الأمريكية العاملة في العراق، وهو ما يفرض بدوره المزيد من التحديات على السوداني في كيفية الموازنة بين ضغوط إيران وحاجات الولايات المتحدة، وتحديداً في المجال العسكري والأمني.
الأولويات الأمريكية في العراق
منذ الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، وطبقاً لـ”الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق، واتفاقية الإطار الإستراتيجي لعمل القوات الأمريكية في العراق” المُبرمة بين البلدين عام 2008، ركزت الإستراتيجية الأمريكية في العراق على عدة قضايا ترتبط بالأمنَيْن، العراقي والإقليمي.
أولى هذه القضايا هي مواجهة “داعش”، فعلى الرغم من إعلان هزيمة التنظيم عسكرياً بحلول كانون الأول 2017، بدعم الولايات المتحدة والتحالف الدولي، إلاّ أن الهجمات المتكررة التي يقوم بها التنظيم في الوقت الحالي، توحي بأن هناك المزيد الذي ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعله في العراق، فصار هذا الملف محور نقاش السوداني ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن.
وتتمثل القضية الثانية بدور إيران في العراق؛ فقد بات الأخير منذ عام 2003، حلبةً رئيسة للتنافس الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران، وبذلت الولايات المتحدة جهوداً كبيرة لاحتواء النفوذ الإيراني فيه، واستشعرت خطورة التوسع الإيراني في العراق متأخرةً، في مرحلة ما بعد “داعش”.
وإثر التصعيد الإيراني الأمريكي على أرض العراق منذ عام 2020، وضعت إيران إخراج القوات الأمريكية من العراق، كهدف لسياستها. وبالاعتماد على حلفائها من القوى الشيعية، السياسية والعسكرية، دفعت قوات التحالف الدولي، وضمنها القوات الأمريكية، إلى تقليص وجودها وإعادة التموضع في العراق أكثر من مرة.
وتتضح القضية الثالثة بإصلاح قطاع الأمن في العراق، إذ بذلت الولايات المتحدة أموالاً كبيرة في المنظومة الأمنية العراقية، سواءً على مستوى التدريب أو الاستشارة أو الدعم الفني واللوجستي، إذ تدرك الولايات المتحدة بأن مغادرة العراق وبالصورة التي تريدها قوى الإطار التنسيقي، وتحديداً الأجنحة المسلحة الموالية لإيران، ستنعكس سلباً على جهودها الأمنية، خصوصاً في ظل قناعة راسخة لدى دوائر صنع القرار الأمني في الولايات المتحدة، بأن حلفاء إيران سيفرضون سيطرتهم على مجمل المشهد الأمني في البلاد، وستكون التكنولوجيا العسكرية الأمريكية لدى الأجهزة الأمنية العراقية في متناول الفصائل المسلحة الموالية لإيران، فدفعت واشنطن من أجل ضمانات حقيقية من قبل حكومة السوداني بتأمين هذا الملف، قبل الحديث عن جدول زمني لانسحاب قواتها من العراق.
أما القضية الرابعة والأخيرة، فهي تتمحور حول الملفات الاقتصادية، حيث تحاول الولايات المتحدة فرض مزيد من السيطرة على حركة النقد العراقية، وسدّ ثغرات البنوك والأعمال العراقية التي يتسرّب منها الدولار لإيران ووكلائها، فضلاً عن قضية الأموال الإيرانية المجمدة في العراق، وملفات الطاقة والشركات النفطية الأمريكية العاملة في العراق.
استحقاقات استراتيجية متبادلة
أظهرت الحرب على غزة، حقيقة التعقيد الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط، كما أظهرت ضعف قدرة حكومة السوداني على ضبط تصرفات الفصائل المسلحة الموالية لإيران، والتي انخرطت ضمن المجهود الحربي الإيراني، فشكّل بعضها هيكلاً عسكرياً جديداً تحت عنوان “المقاومة الإسلامية في العراق”، وشنت هجمات على مواقع أمريكية، ما دفع إدارة بايدن للردّ والضغط على حكومة السوداني مرة أخرى، حتى أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بليكن، أثارها مجدداً، خلال لقائه مع السوداني أثناء افتتاح جلسات أعمال اللجنة العسكرية العليا بين بغداد وواشنطن.
على الأرض، والورق، لن تستطيع القوات الأمنية والعسكرية العراقية فرض سطوتها وحصر النار والقرار بيد الدولة، ببساطة، لأنها، بمختلف تشكيلاتها، ضعيفة ومتأخرة ومسيطر عليها من قبل الفصائل والأحزاب ذات السلاح أو صديقته، لكن يمكن للعراق استثمار الحالة والزيارة لاستدراج دعم أمريكي يساعد بإعادة تطوير القطاعين الأمني والعسكري.
مثلاً، لا تزال القوات الجوية العراقية صغيرة ومحدودة جداً، وعلى الرغم من أنها تضم بعض الطائرات الأمريكية من طراز F-16، إلا أنها بدأت للتوّ في تطوير قدرات قتالية جوية حديثة، وما كان للعراق أن يهزم “داعش” دون دعم من الطائرات التابعة لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق، وبالإضافة إلى ذلك، لا يمتلك العراق أسلحة دفاع جوي أو منظومات صواريخ متطورة، أو نظام إنذار ومراقبة جوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية، إذ أدى افتقار العراق للقدرات العسكرية والجوية إلى استغلال إيران للأجواء العراقية وإرسال عشرات الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية عبرها، كما أن إسرائيل هي الأخرى استخدمت الأجواء العراقية في هجومها الأخير على قاعدة عسكرية في أصفهان وسط إيران.
من أجل ذلك وأكثر، حاول السوداني الدفع باتجاه سدّ الفجوات العسكرية الواسعة، من خلال تفاهمات مع وزارة الدفاع الأمريكية، فأعلن البنتاغون، خلال الزيارة، موافقة وزارة الخارجية الأمريكية على بيع ما قيمته 140 مليون دولار، من المستلزمات العسكرية للدعم اللوجستي ومعدات التدريب لمتعاقدي الطائرات الأمريكية والمعدات ذات الصلة بالعراق، وأضاف أن التدريب والدعم ينطبقان على أسطول الطائرات العراقية من طراز سي 172 وايه سي ار سي 208، وتابع البيان أن المتعاقد الرئيسي سيكون شركة نورثروب غرومان.
ولأن الصفقة الصغيرة هذه بعيدة جداً عن مستوى سد الحاجة ومعالجة الخلل، حاول السوداني مع عدة شركات عسكرية أمريكية، باحثاً عن مزيد من التعاون مع العراق، ومنها شركة (لوكهيد مارتن) المسؤولة عن تصنيع طائرات F16.
ثمن الالتزام
تُدرك الولايات المتحدة أهمية الحصول على التزامات من حكومة السوداني، خصوصاً تلك المتعلقة بسلامة قواتها العسكرية الموجودة في العراق، وتأمين المصالح الأمريكية من أي تهديدات مستقبلية قد تصدر عن إيران وحلفائها في العراق. وهو ما أكد عليه بايدن في كلمته أثناء استقبال السوداني في المكتب البيضاوي. وتُدرك الولايات المتحدة أهميةَ إيجاد بديل لموارد الطاقة التي تأتي من إيران، إذ حجّم الاعتماد العراقي على طاقة طهران كثيراً، فاعلية سياسة العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
بينما تنشغل الإدارة الأمريكية بإسرائيل وإيران والتوتر غير المسبوق في المنطقة، أطلقت واشنطن تحذيرات من ظروف مُهيأة لعودة تهديدات “داعش” مجدداً؛ فالوضع السياسي والاقتصادي المعقد الذي يعيشه العراق، وانخراط العديد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران في معادلة الشرق الأوسط الملتهبة، جعلت البيئة العراقية الراهنة هشة أمنياً.
وبموازاة احتمال تنامي التعاون الأمريكي مع الحكومة العراقية، فإن على بغداد أن تدرك بأن الالتزامات التي تقدمها إدارة بايدن ستكون محدودة بحدود المصلحة الأمريكية، خصوصاً وإن هناك التزامات أكثر أهمية على أجندة الإدارة الأمريكية، إن كان في العالم أو على مستوى المنطقة.