لماذا تهرب الشركات من العراق؟.. عن وحل البيئة الاستثمارية
لا تلتفت الشركات العالمية لجهود الفريق الإعلامي الحكومي والبرامج التلفزيونيّة وصفحات مواقع التواصل التي تُمجّد بالحالة العراقية وتفَوّق الحكومة.. فهناك وحلٌ تهرب الشركات من السقوط فيه.
لا تلتفت الشركات العالمية لجهود الفريق الإعلامي الحكومي والبرامج التلفزيونيّة وصفحات مواقع التواصل التي تُمجّد بالحالة العراقية وتفَوّق الحكومة.. فهناك وحلٌ تهرب الشركات من السقوط فيه.
منتصف شباط العام الجاري، أعلنت وزارة الصناعة والمعادن العراقية انسحاب شركة “شل” متعدّدة الجنسيات من مشروع “النبراس للبتروكيماويات” في محافظة البصرة جنوبي البلاد، و”النبراس” هذا، مشروعٌ خُطِّط له أن يكون أكبر مصنع بتروكيمياويات في الشرق الأوسط. أعاد انسحاب “شل” الأسئلة عن مناخ الاستثمار في العراق، إذ لم تستطع الحكومة العراقية التوسّع في الاستثمارات الصناعية، بشقَّيها التحويلية أو الاستخراجية.
يعزى انسحاب الشركة لسببين: اقتصادي ومالي، يتعلق بالشركة وعدم تفهم الأوضاع الاقتصادية والسياسية، حتى بعد مضيّ واحد وعشرين عاماً على التغيير السياسي في البلاد، والثاني مخاطر الاستثمار في البيئة العراقية ومنها الفصائل المسلحة والعشائر، بالإضافة لتقييد أكثر من 26 مصرفاً عراقياً بعقوبات من قبل الفيدرالي الأمريكي، ما يعكس صورة سيئة عن المناخ الاستثماري في البلاد، ولا تخفى أيضاً هشاشة العملية السياسية المنغلقة على نفسها، والتي تصرّ دائماً على التفكير بعقلية اشتراكية ريعية محاصصاتية هجينة، جميع هذه العوامل تجعل من البيئة الاستثمارية في العراق طاردة ولا تغري المستثمر الأجنبي.
من العراق، ليست “شل” أول من ينسحب، إذ سبق ذلك انسحاب شركات أجنبية عاملة بمجالات مختلفة، ويدفع هذه الشركات دفعاً، استمرارُ الاضطرابات الاجتماعية وعدم إحراز أي تقدم إصلاحي ملموس، لاسيما في ملف مكافحة الفساد والانفلات الأمني، ويتحمل المسؤولية الكاملة عن ذلك، النظام السياسي المعقد والمجزّأ والمبنيّ على طائفية وعرقية فاقمت من الانقسامات السياسية القائمة وأعاقت صنع سياسات مناسبة، لاسيما تلك المرتبطة في بيئة الأعمال والجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي تشكّل بدورها إحدى أهم قنوات نقل التكنولوجيا وكسب المهارات والخبرات التي يحتاجها العراق اليوم للخروج من دائرة الاقتصاد الريعي المأزوم.
في حزيران من عام 2015 وقّعت شركة “شل” متعددة الجنسيات مع الحكومة العراقية عقداً بقيمة 11 مليار دولار لبناء مجمع بتروكيماويات، على أن يبدأ تشغيله بعد 6 سنوات من توقيع العقد، وكانت الحكومة تطمح، من خلال هذا العقد، لجعل العراق من أكبر منتجي البتروكيمياويات في الشرق الأوسط بطاقة تبلغ 1.8 مليون طن متري سنوياً على الأقل، من مختلف المنتجات البتروكيمياوية، وبشكل مفاجئ أعلنت وزارة الصناعة والمعادن في شباط اعتذار شركة “شل” عن الاستمرار، فيما قالت الشركة في بيان إن القرار الذي اتّخذته “بعد تقييم معمق لمشروع مجمع النبراس” يتماشى مع تركيز “شل” على الأداء والانضباط والتبسيط، وللتغيير الحاصل في استراتيجية الشركة في ما يخص مشاريع البتروكيمياويات.
سببان دفعا الشركة العملاقة نحو الانسحاب، الأول لوجستي يتثمل في انسحاب الشركة نفسها من أعمالها من حقلي مجنون وغرب القرنة 1 النفطيين، والسبب الآخر يتعلق بمدى إمكانية تطبيق نسبة العمولة في العقود النفطية العراقية، إذ أن الكلفة المحدّدة في العقد هي 11 ملياراً، غير أن مقدار العمولة الإضافية وفقاً لحسابات شل هي ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار أخرى، بالإضافة إلى الوضع الأمني المضطرب. فيما وجّه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، وزارتي الصناعة والنفط بدراسة خيارات أخرى لتكون بديلاً، و”إعادة دراسة حجم المشروع وطاقته التصميمية والتفاصيل الفنية الأخرى”، حسب بيان حكومي.
لا تلتفت الشركات العالمية لجهود الفريق الإعلامي الحكومي والبرامج التلفزيونية وصفحات مواقع التواصل، التي تمجّد بالحالة العراقية وتفَوّق الحكومة ورئيسها وأحزابها ورعاتها، فبالإضافة لتقييماتها وتقييمات دولها، هناك المؤشرات الدولية التي تصدر عن المنظمات والهيئات العالمية المعنية بمختلف القضايا الاقتصادية والسياسية والمؤسسية، وتقيس مدى سلامة وجاذبية مناخ الاستثمار، ولا يمكن إغفال العلاقة بين ترتيب دولة في هذه المؤشرات وحجم ما تستقطب من استثمارات أجنبية، مباشرة وغير مباشرة.
على المؤشر المركب للمخاطر القُطرية حلّ تصنيف العراق بالمرتبة (167) من أصل (201) دولة حول العالم في عام 2022، ويتنبّأ هذا المؤشر بالتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تحدث في مستقبل دولة ما، وتؤثر في بيئة الاستثمار والأعمال فيها. ويرجع التصنيف المتأخر الذي حصل عليه العراق إلى حالة عدم الاستقرار السياسي، بالإضافة إلى غياب الاستقرار الاقتصادي والمالي نتيجة تبني سياسات خاطئة، ويعكس هذا التصنيف، إلى حدّ كبير، حقيقة المناخ الاستثماري العراقي الطارد، وضعف بنية الاقتصاد العراقي في مواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية، وبلغ تصنيف العراق في مؤشر مخاطر العنف السياسي (208) من أصل (240) دولة في المؤشر.
وفي مؤشر جاهزية الحكومة الإلكترونية، تراجع تصنيف العراق من المرتبة (136) عالمياً عام 2010 إلى المرتبة (146) عام 2022 من بين (193) دولة شملها التقرير، ويصدر هذا التقرير من قبل الأمم المتحدة ويركّز على تنمية وتطوير الحكومة الإلكترونية في الدول الـــ(193) الأعضاء، ويعدّ مرجعاً عالمياً في مجال الحكومة الإلكترونية، فهو مؤشر مركّب، يقوم على المتوسط الحسابي لثلاثة مؤشرات فرعية وهي (مؤشر الخدمة عبر الأنترنت، مؤشر رأس المال البشري، ومؤشر البنية التحتية للاتصالات).
وعلى مؤشر سهولة أداء الأعمال الذي يصدر عن البنك الدولي، انخفض ترتيب العراق من المركز (141) عالمياً عام 2008 من بين (178) دولة إلى المركز (172) عام 2020 من بين (190)، ويُعتبر مؤشر سهولة أداء الأعمال أداة إرشادية في تقييم مدى تأثير القوانين والإجراءات المرتبطة بأداء الأعمال، على التنمية الاقتصادية في دول العالم، ويتكون من عشرة مؤشرات فرعية وهي (مؤشر تأسيس المشروع، مؤشر تسجيل الممتلكات، مؤشر حماية المستثمر، مؤشر التجارة عبر الحدود، مؤشر إغلاق المشروع، مؤشر استخراج التراخيص، مؤشر الحصول على الائتمان، مؤشر دفع الضرائب، مؤشر إنفاذ العقود، مؤشر الحصول على الكهرباء).
أما على مستوى مؤشر السلام العالمي والذي يصدر عن معهد الاقتصاد والسلام، ويقيس حجم الصراعات المحلية والدولية، احتلّ العراق المركز (161) عالمياً عام 2020 من بين (163) دولة، وهذا بدوره يعكس تدني الأوضاع الأمنية في العراق والتي تشكل عاملاً ضاغطاً على أيّ دولة أو شركة تستهدف القيام بأنشطة استثمارية في العراق، وحتى الشركات النفطية العاملة في الحقول العراقية تعتمد بصورة أساسية في أمنها على شركات الحماية الخاصة، ما يرفع التكلفة.
وليس حال العراق على مؤشر مدركات الفساد أفضل مما سبق، إذ انتقل من المرتبة (137) عالمياً وبرصيد (22) نقطة عام 2005 إلى المرتبة (154) وبرصيد (23) نقطة من أصل (180) دولة عام 2023، ومدركات الفساد، الذي لم يحقق عليه العراق أيّ تقدّم، هو مؤشر يصدر عن المنظمة العالمية للشفافية ومحاربة الفساد في العالم، ويتم بموجبه تصنيف دول العالم بدرجات تتراوح بين (صفر – 100)، إذ يُشير حصول دولة ما على (100) درجة إلى سلامة البلد وخلوّه من الفساد، بينما يُشير الحصول على درجة منخفضة إلى تفشي الفساد والمحسوبية بشكل كبير في البلد، ويعكس هذا التدهور الملفت في ترتيب العراق في مؤشر مدركات الفساد ضعف الجهود المبذولة من قبل الجهات المعنية لمحاربة الفساد والحدّ منه، بالإضافة إلى غياب الشفافية في جميع مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة، وشيوع وتغلغل ثقافة الفساد في جميع مفاصل الدولة العراقية، وهو ما يترك أثره على البيئة الاستثمارية التي تعطي هذه المؤشرات صورة واضحة عنها.
ولا يمكن، عند الحديث عن البيئة الاستثمارية، إغفال ملف الفساد في دوائر الضريبة وانعكاساته السلبية على مناخ الاستثمار، إذ حسب تقرير صدر في تشرين الأول 2023 عن هيئة النزاهة، فإن قسم الشركات وكبار المكلفين في مقر الهيئة العامة للضرائب هو الأكثر تلقياً للرشوة، وهذا القسم هو المسؤول عن التحاسب الضريبي مع الشركات الأجنبية العاملة في البلاد.
“رأس المال جبان” يافطة قديمة معلّقة على أدبيات الاقتصادية، ولأنه كذلك، يتصاعد انسحاب الشركات الأجنبية من العراق كلّما اشتدت الأحداث، مثل سيطرة تنظيم داعش على مساحات شاسعة من البلاد عام 2014، وتلقيها تهديدات من قبل الفصائل المسلحة كما حدث مع 6 شركات تركية كانت تعمل في بناء المجمعات السكنية في العاصمة بغداد، بحسب تأكيد رئيس مجلس المحافظة السابق رياض العضاض. وفي عام 2015 اختطفت مجموعة مسلحين 18 موظفاً وعاملاً في شركة (نورول التركية) العاملة في مشروع بناء ملعب المدينة الدولي، الذي يقع في مدينة الحبيبية شرقي العاصمة، ووصف، حينها، رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي من قام بهذه العملية بأنهم “الفاسدون وأصحاب الجريمة المنظمة” واعتبرهم إرهابيين.
وفي محافظة البصرة جنوبي البلاد، أقدم مسلحون في شهر أيلول من عام 2014 على اغتيال رجل الأعمال (صادق جمعة)، وفي الشهر ذاته تم اختطاف سيدة الأعمال الكردية (سارة حميد ميران) والمدير المفوض لشركة الصقر الجارح من قبل جماعة مسلحة، أثناء خروجهما من مديرية بلدية البصرة، وأرجع محافظ البصرة السابق ماجد النصراوي، التابع لتيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، الحادث لأسباب سياسية، وجدير بالذكر أن النصراوي ترك المحافظة هارباً باتجاه استراليا بسبب ملفات فساد كثيرة متورط بها، واستخدم منصبه لابتزاز الشركات الأجنبية العاملة في البصرة بهدف الحصول على الأموال منها.
وفي النجف، أقدمت مجموعة مسلحين على مهاجمة مقر شركة استثمار لبنانية، تعمل ضمن مشروع بناء مجمع سكني متوسط الكلفة، أطلقته الحكومة العراقية بالمحافظة تحت مسمى مشروع “باب علي”، ووفقا لمصادر الأمن العراقية، أدى الهجوم إلى حرق موقع الشركة وغرف المهندسين والعمال وإلحاق إضرار بآليات العمل دون خسائر بشرية.
وفي محافظة بابل، أصدرت هيئة النزاهة الاتحادية في شهر تشرين الأول عام 2021 حكماً حضورياً بحق مدير عام مديرية التعاقدات في ديوان محافظة بابل على خلفية مساومة وكيل إحدى الشركات الأجنبية وابتزازه وطلب مبالغ مالية مقابل عدم اتخاذ الإجراءات القانونية بحق الشركة المنفذة لمشروع تجهيز ونصب “رنين ومفراس حلزوني” في أحد مستشفيات المحافظة.
وفي تشرين الأول من العام نفسه 2021، أصدرت “جماعة الكهف” -وهي مجموعة فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران- بياناً دعت فيه جميع العراقيين إلى الإبلاغ عن أي معلومات بشأن وجود مستثمرين من دول تعتبر منافسة لإيران مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والسعودية والإمارات، مقابل مبالغ تتراوح بين 20 و50 ألف دولار. وعادةً ما تبتز هذه الفصائل، الشركات الأجنبية لهدفين، الأول يتمثل في الحصول على “الإتاوات”، والثاني يتمثل في إزاحة هذه الشركات وفسح المجال لسيطرة الشركات المدعومة من قبلها أو تعمل لمصلحتها وإيران، على الفرص الاستثمارية.
وتحدث رئيس الوزراء في حينها مصطفى الكاظمي خلال لقائه مع مجموعة من رجال الأعمال، عن إجراءات رادعة لمعاقبة وملاحقة الأطراف التي تقف خلف تلك الابتزازات، ولكن، لم تختلف حكومة الكاظمي عن سابقاتها في عدم قدرتها ورغبتها على تحقيق هذا الهدف وتوفير بيئة استثمارية مشجعة ومناسبة، وبعد سيطرة الفصائل المسلحة على الحكومة انتهى الحال بالكاظمي أن يكون، ليس خارج العمل السياسي فقط، بل خارج حدود البلاد كلها.
ولا يمكن إغفال دور العشائر، التي تبتز الشركات الأجنبية أيضاً، وتلعب دوراً حاسماً في المجتمع العراقي، منحته لها السياسات الحكومية بعد عام 2003 وقوّت سلطتها في المجتمع بدلاً من الحد منها. وفي دولة لا تحتكر القوة، صارت العشائر مصدراً آخر للعنف مع امتلاكها السلاح وتداخلها مع أجهزة الدولة والميليشيات.
وفي هذا السياق، تحدث النائب السابق عن محافظة البصرة وائل عبد اللطيف في مقابلة متلفزة عام 2019، عن رغبة العشائر بأن يكون لها دور سلطوي في البصرة، وعن تهديد الزعامات العشائرية للقضاء، أضاف عبد اللطيف حينها، أن العشائر تأخذ أموالاً من الشركات الأجنبية العاملة في الحقول النفطية، مؤكدا أن “الإتاوات” العشائرية تصل إلى 200 ألف دولار يومياً.
وفي شباط من العام الحالي 2024 انسحبت الشركة التركية المنفذة لمشروع الملعب الأولمبي في محافظة ذي قار بسبب التهديدات التي تعرضت لها من مجموعة من العشائر لغرض العمل في المشروع، إذ ترغب العشائر المحيطة في الملعب، بتوفير فرص عمل لأبنائها داخل المشروع وهو ما دفعهم إلى ابتزاز المستثمر، فترك العمل في المشروع.
بعد الانتصار على تنظيم داعش الإرهابي 2017 نَمَت رغبة كبيرة عند الدول الخليجية للاستثمار في العراق، مع رغبة حكومية مقابلة بالانفتاح على دول المنطقة، وكانت في مقدمة تلك الدول السعودية، التي كانت سَعَت بشكل جدّي للاستثمار في بادية السماوة، بهدف تحويل الأراضي الصحراوية إلى حقول ومزارع لتربية الأبقار والماشية والدواجن، على غرار تجربة شركة المراعي السعودية، مشروع يأتي بدعم ورعاية مباشرة من المجلس التنسيقي المشترك بين العراق والسعودية، بهدف تأهيل وتطوير الثروات الطبيعية في القطاع الزراعي في تلك المناطق. وفي تشرين الثاني من عام 2020 وجه الأمين العام لمجلس الوزراء حميد الغزي بحسم ملف 150 ألف دونم في محافظة المثنى مع الجهات القطاعية المختلفة، لعرضها على الجانب السعودي بالإضافة إلى تقديم دراسة جدوى خاصة بالمشاريع والمباشرة بتنفيذها. ولكنّ حملات إعلامية كبيرة، تقودها الفصائل المسلحة وأطراف سياسية، جابهت المشروع، إذ وصف ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي المشروع بأن “له أهدافاً استعمارية، وأنه يفتح الباب أمام استعمار جديد تحت مسمى الاستثمار”، فيما وجّه زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي اتهامات للسعودية بهدف التخطيط من أجل الاستيلاء على أراضٍ عراقية. وفي هذا السياق اعتمدت الفصائل المسلحة وأحزابها السياسية على سرديّة “المياه الجوفية” فتحدثت عن إمكانية أن تستنزف، الاستثمارات السعودية، المياهَ الجوفيةَ للبلاد، وعلى ضوء ذلك أصدرت وزارة الموارد المائية بياناً في 8 من تشرين الثاني 2020، تعبّر فيه عن رفضها لاستثمار المياه الجوفية في المنطقة من قبل مستثمرين إقليميين، والجدير بالذكر وحسب نظام المحاصصة القائم في البلاد فإن وزارة الموارد المائية حينها، إبان حكومة مصطفى الكاظمي، كانت من حصة تحالف الفتح المنبثق من الفصائل المسلحة والموالي لإيران.
في ما بعد، اتّضح أن هدف هذه الحملة هو إبعاد المستثمر الأجنبي، وسيطرة اقتصاديات الأحزاب على الفرص الاستثمارية المتاحة في البلاد، إذ أعلنت هيئة الحشد الشعبي في آذار من عام 2023 إطلاقها مشروع زراعة مليون نخلة في بادية السماوة على الحدود مع السعودية، وتمت إحالة تنفيذ المشروع إلى شركة تابعة إلى هيئة الحشد الشعبي تمت تسميتها “شركة المهندس”.
وفي الجانب الآخر، سعت الحكومات العراقية السابقة لإنجاز مشروع مدينة صناعية في محافظة الأنبار غرب العراق في المنطقة الواقعة بين الحدود العراقية الأردنية، وجاءت فكرة هذه المدن من أجل توطين الصناعة وتحقيق التنمية المستدامة والتنويع في مصادر الدخل، لكن في ظل البيئة الاستثمارية المعقدة وغير الجاذبة يصبح من الصعب المضي في إتمام هذه المشروع خاصة في ظل تنامي الفساد، مع معارضة شديدة لمجموعة الأحزاب السياسية الفصائل المسلحة ذاتها، بحجة أثر تلك المشاريع على الأمن القومي العراقي.
عند الحديث عن البيئة الاستثمارية في العراق، لابُدّ من الإشارة إلى ملف مشروع مدينة بسماية السكني المستثمر من قبل شركة هانوا الكورية، إذ أعلنت الشركة الكورية انسحابها من المشروع في أيلول من عام 2020 نتيجة عدم دفع مستحقاتها المالية، كانت الشركة، قبل انسحابها من المشروع، أنجزت 20 ألف وحدة سكنية من أصل 100 ألف وحدة سكنية مخطط إنجازها، إذ أبلغت حكومة مصطفى الكاظمي الشركة الكورية بأنها غير قادرة على تسديد مستحقاتها نتيجة الظروف التي تمر بها البلاد بسبب انخفاض أسعار النفط في الأسواق الدولية وتفشي فايروس كورونا، ما اضطر الشركة إلى تسريح آلاف العمال والفنيين والمهندسين العراقيين والأجانب.
حينها، أصدرت هيئة الاستثمار الوطنية بياناً عبّرت فيه عن استغرابها من انسحاب الشركة الكورية، وقالت الهيئة “إن مشروع بسماية تم تمويله بالكامل من قبل الحكومة العراقية ولا توجد أموال أنفقت من قبل الشركة الكورية، وأن العقد المبرم بين الحكومة وشركة هانوا الكورية ينص على أن تتحمل الحكومة العراقية تمويل ما نسبته 25 بالمئة من تكلفة المشروع، بينما تقوم شركة هانوا بتمويل النسبة المتبقية من المشروع والبالغة 75 بالمئة”، وهذا البيان يؤكد غياب الشفافية في عرض العقود التي يتم إبرامها من قبل الحكومة العراقية مع الشركات الأجنبية.
بعد ذلك وفي كانون الثاني من عام 2023 أعلنت هيئة الاستثمار الوطنية توقيع اتفاق مع الشركة الكورية يضمن عودتها إلى العمل في المشروع وتم الاتفاق على إبرام ملحق عقد جديد يتم توقيعه بعد ستة أشهر من عودة الشركة الكورية إلى العمل بهدف تسوية الأمور المالية بين الطرفين.
بالطبع، يمكن للعراق تحسين بيئته الاستثمارية وتطويرها، لكن يتطلب ذلك خطوات جادة ومنهجية تبدأ بالتشريعات والقوانين، وهي المهمة التي تقع على عاتق البرلمان العراقي، إذ من الممكن العمل على توحيد قوانين الاستثمار كافة بقانون واحد تحت مسمى “قانون الاستثمار الموحد”، إذ تم تشريع قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006، والمعدل بقانون رقم 2 لسنة 2010، والذي تم تعديله أيضا بالقانون رقم 50 لسنة 2015، ووضعت هذه القوانين إجراءات صعبة ومعقدة أمام المستثمر الأجنبي لاستحصال الموافقات واستحصال الإجازة، ومع الفساد المالي والإداري المستشري في الدوائر والمؤسسات المعنية، تتجاوز مدة الحصول على الإجازة الاستثمارية 90 يوماً، وهو ما يتطلب العمل على تقديم التسهيلات أمام دخول المستثمرين إلى البلاد واعتماد الحكومة في الإجراءات والقضاء على الابتزاز الذي يتعرض له المستمر الأجنبي.
بالإضافة للتشريعات، سيكون من الضروري تمكين وتقوية المؤسسات ذات الصلة بالجوانب التنفيذية، وتلك التي تسهل العمل، والأخرى التي تؤمن البيئة، كما أن ذلك كله من دون رقابة صارمة وشفافية لن يكون مجدياً بالضرورة.
ولأن أصحاب السلاح، فصائل وعشائر، أنفسهم، يسيطرون على مجلس النواب والجهات التنفيذية وأجهزة الأمن، ولأن قادتهم، المقدّسين وغير المقدّسين، لا يرغبون بتغيير الوضع الراهن والتضحية بسلاحهم ومكاسبهم، لن تكون عملية تنقية البيئة الاستثمارية في العراق قريبة، ولن يبتعد عن مناطق التصنيف الأسوأ على المؤشرات العالمية الرصينة.