بعد أن أجّلها لأكثر من عقد، أجرى العراق الانتخابات المحلية في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2023، في 15 محافظة، باستثناء محافظات إقليم كردستان، وحظيت باهتمام بالغ وشهدت تنافساً انتخابياً شديداً بين التحالفات السياسية، بمختلف تلوّناتها المذهبية والقومية، لما لها من تأثير كبير على مستقبل المعادلة السياسية في البلاد.
أثارت نتائج الانتخابات جملة من التساؤلات حول طبيعة تأثيرها في رسم ملامح المشهد السياسي العراقي، وتفاعلاته الداخلية والخارجية، ومواقع قواه الرئيسة، وعلاقاتها البينية وتحالفاتها الإقليمية، خصوصاً مع انخفاض نسبة مشاركة الناخبين، ونجاح القوى التقليدية في تحقيق نجاح ملحوظ، مستغلةً مقاطعة “التيار الصدري”.
قراءة في الأوزان الانتخابية للتحالفات
إن نظرة خاطفة لعدد المقاعد التي حصل عليها كلّ تحالف انتخابي في عموم البلاد، تعكس طبيعة التوازنات السياسية بعد تشكيل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وتحديداً على مستوى “ائتلاف إدارة الدولة”، الذي هندس العملية الانتخابية، بعد نجاحه في تمرير قانون الانتخابات رقم (4) لسنة 2023، والمتضمن تعديل قانون الانتخابات وإعادة العمل بنظام “سانت ليغو” للتمثيل النسبي والدائرة الواحدة على حساب قانون الانتخاب الفردي الذي وضع الصدريين بصدارة آخر السباقات الانتخابية البرلمانية قبل انسحابهم، ما فتح الطريق أمام أطراف هذا التحالف للسيطرة على المشهد السياسي في البلاد، والحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد في الانتخابات المحلية.
وفي ما يتعلق بنتائج الانتخابات، فقد حصلت القوائم “الشيعية”، والحديث هنا عن قوى “الإطار التنسيقي”، التي نافست في أغلب المحافظات العراقية، على 101 مقعد من أصل 285 مقعداً؛ ما منحها الحصة الأكبر واليد الطولى في مفاوضات تشكيل الحكومات المحلية، فشكّل الإطاريون لجاناً تفاوضية محلية مسؤولة عن تشكيل المجالس المحلية، والدخول في مفاوضات مع الكتل الفائزة بالانتخابات، لاختيار المحافظين وأعضاء مجالس المحافظات.
إذ تنافست قوى الإطار، التي تشكّل حالياً الكتلة الأكبر داخل البرلمان العراقي، ضمن 3 تحالفات رئيسة في محافظات بغداد والوسط والجنوب، أبرزها “تحالف نبني” الذي يقوده زعيم “منظمة بدر” هادي العامري، وزعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي، والذي حصل على 43 مقعداً، و”ائتلاف دولة القانون” الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، والذي حصل على 35 مقعداً، و”تحالف قوى الدولة الوطنية”، الذي يقوده كل من زعيم “تيار الحكمة” عمار الحكيم، و”تحالف النصر” الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وحصل على 23 مقعداً.
وفي هذا السياق أيضاً، نافست تحالفات انتخابية أخرى خارج مظلة “الإطار التنسيقي”، وتحديداً القوائم التابعة للحشد الشعبي في المحافظات التي تشكل فيها أقلية واضحة، وخصوصاً في محافظة نينوى، التي شهدت انخراط العديد من “الأقليات”، وخصوصاً الشبك والمسيحون والإيزيديون، وبعض العشائر العربية المرتبطة بالحشود العشائرية التابعة لـلحشد الشعبي، بتحالفات انتخابية أبرزها “تحالف العقد الوطني” الذي يتزعمه رئيس هيئة “الحشد الشعبي” فالح الفياض، وحصل على 3 مقاعد، وتحالف “الحدباء الوطني” الذي يتيع أيضاً للمالكي، وحصل على مقعدَيْن، و”تحالف الهوية الوطنية” الذي يقوده زعيم “حركة بابليون” ريان الكلداني، وحصل هو الآخر على مقعدَيْن، فضلاً عن استحواذ مرشحي الحشد الشعبي على مقاعد الكوتا، التابعة للمسيحيين والشبك والإيزيديين، ليصبح المجموع 10 مقاعد في محافظة نينوى، من أصل 29 مقعداً.
أما القوائم “السنية”، فقد تصدر “تحالف تقدم” الذي يقوده رئيس البرلمان المَنهيَّة ولايته محمد الحلبوسي في العديد من المحافظات، وأبرزها الأنبار وبغداد، وحصل على 28 مقعداً، أما “تحالف السيادة” الذي يقوده خميس الخنجر، فقد حصل على 14 مقعداً، في حين حصل “تحالف عزم” الذي يقوده مثنى السامرائي على 10 مقاعد.
أما القوائم الكردية، فقد كانت المقاعد التي حصلت عليها محدودة في ثلاث محافظات، هي نينوى وكركوك وديالى، إذ حصل “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الذي يتزعمه مسعود بارزاني على 6 مقاعد، فيما حصل “حزب الاتحاد الوطني الكردستاني” الذي يتزعمه بافل طالباني على 8 مقاعد، فيما لم تحصل أحزاب كردية أخرى على أيّ مقاعد انتخابية على الرغم من مشاركتها، وأبرزها “حركة الجيل الجديد”.
وبعيداً عن التقسيمات المذهبية والقومية التي تصنّف التحالفات التقليدية الثلاثة في البلاد، أظهرت الانتخابات صعوداً كبيراً للقوائم المحلية، وتحديداً في محافظات نينوى والبصرة وكربلاء وواسط، إذ تصدرت هذه القوائم المشهد الانتخابي على حساب التحالفات التقليدية، مع ضرورة الأخذ بالاعتبار أن لها ارتباطات لا يمكن تجاهلها بتلك التقليدية، ففي نينوى حصل حزب “نينوى لأهلها” الذي يقوده محافظة نينوى السابق نجم الجبوري على 5 مقاعد، فيما حصل حزب “تصميم” الذي يقوده محافظ البصرة أسعد العيداني على 12 مقعداً، أما في كربلاء فقد حصلت قائمة “إبداع كربلاء” التي يقودها محافظ كربلاء نصيف الخطابي على 7 مقاعد، وعلى 7 مقاعد أيضاً، حصل تحالف “واسط أجمل” الذي يقوده محمد المياحي في محافظة واسط.
أما على مستوى التحالفات المدنية، فقد انقسمت القوى المدنية التي شاركت بالانتخابات إلى 3 أقسام، مَثَّلَ القسمُ الأولُ قوى مرتبطة بالحراك الاحتجاجي، والثاني جماعات مرتبطة بقوى السلطة، لكنها تعتقد أن الوجه المدني أقرب إلى المزاج الشعبي، وثمة فئة ثالثة مثلتها اتجاهات عشائرية لا تؤمن أيضاً بجدوى الأحزاب الطائفية والدينية. وبافتراض أن “تحالف قيم” يمثل الفئة الأولى من التيارات المدنية، فإنه لم يحصل سوى على 6 مقاعد في 15 محافظة، وهي نتيجة لم تسمح له بالتأثير في موازين قوى تشكيل مجالس المحافظات، فيما فضّل “تحالف الأساس” الذي يتزعمه النائب الأول لرئيس مجلس النواب محسن المندلاوي، أن يختار لائتلافه طابعاً مدنياً، مع إنه شديد الصلة بقوى “الإطار التنسيقي” وفصائل تابعة للحشد الشعبي، ورغم إنه ضخّ حملة دعائية كبيرة، فإنه لم يحصل سوى على مقعدَيْن في بغداد، ومثلهما في البصرة، أما “تحالف القوى المدنية” الذي يقوده الزعيم القبلي فواز الجربا، فقد مُنيَ بخسارة كبيرة، إذا لم يفز بأي مقعد على مستوى المجالس المحلية.
المشهد السياسي وتفاعلاته الداخلية
يُنظر لنتائج الانتخابات المحلية على أنها مؤشر لتوازن سياسي جديد في البلاد، خصوصاً وأنها تأتي في ظرف سياسي معقد يعيشه العراق، في ظل مقاطعة زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر والخلاف المحتدم بين الفصائل المسلحة الموالية لإيران، والأهم أنها تأتي قبل الانتخابات البرلمانية المتوقع إجراؤها في تشرين الأول 2025، إذ عكست هذه النتائج طموحات القوى التقليدية في السيطرة على المشهد السياسي العراقي، من خلال السيطرة على المجالس المحلية.
وجاءت نسبة المشاركة ضعيفة في الانتخابات، ليس بسبب مقاطعة “التيار الصدري” فقط، بل بسبب عزوف الناخبين عن تحديث سجلاتهم الانتخابية أو حتى استلام البطاقات البايومترية، إذ سجلت الانتخابات الأخيرة إحدى أدنى نسبة مشاركة على مستوى مجمل العمليات الانتخابية التي شهدتها البلاد منذ عام 2005، إذ بلغت نسبة الناخبين إلى إجمالي عدد الذين يحق لهم التصويت 26.7 بالمئة فقط، أما النسبة التي أعلنتها مفوضية الانتخابات وهي 41 بالمئة، فلم تكن سوى نسبة الناخبين إلى إجمالي عدد الذين تسلّموا بطاقات انتخابية.
أتاحت هذه المقاطعة لقوى “الإطار التنسيقي” الحصول على عدد أكبر من المقاعد، في أغلب محافظات الوسط والجنوب، إذ احتكرت هذه القوى السيطرةَ على المجالس المحلية في 7 محافظات، أما المحافظات التي لم تتمكن فيها من تصدر المشهد الانتخابي، فإنها عملت على تشكيل لجان تفاوضية فيها، وتحديداً في البصرة وواسط وكربلاء، رغم إنها فشلت بالنهاية بعد تمكن القوائم المحلية الفائزة في هذه المحافظات الثلاث من الانفراد في عملية تشكيل المجالس، عبر التجديد للمحافظين الثلاثة، بعيداً عن تأثير قوى الإطار..
وأظهرت نتائج الانتخابات تفاوتاً واضحاً في التوازنات السياسية على مستوى قوى الإطار، فعلى الرغم من حصولها مجتمعةً على 101 مقعد، إلاّ أنه كان هناك صعود وهبوط في ميزان القوى للتحالفات المنضوية فيه، ففي الوقت الذي حافظ “ائتلاف دولة القانون” على حضوره السياسي في العملية الانتخابية، فإن الانتخابات أظهرت أيضاً صعوداً ملحوظاً لـ”تحالف قوى الدولة الوطنية” مقارنة بعدد المقاعد التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية المبكرة في تشرين الأول 2021، إلى جانب تراجع ملحوظ في الوزن الانتخابي لمختلف فصائل الحشد الشعبي المنضوية ضمن “تحالف نبني”.
لم تكن التغيّرات التي طرأت على المشهد السياسي “الشيعي” بعيدة عن تلك التي طرأت على “السني”، إذ أظهرت نتائج الانتخابات نجاح تحالفي الحلبوسي والخنجر بالسيطرة على المشهد السياسي “السني”، وتحديداً في محافظات الأنبار وبغداد، إلى جانب حضور جيد في ديالى وصلاح الدين ونينوى، وقطعا الطريق مرة أخرى على القيادات “السنية” التقليدية من العودة للمشهد السياسي عبر الانتخابات المحلية، كـ”تحالف الأنبار هويتنا”.
وفي كركوك، مثّلت الانتخابات التحوّل الأبرز بالمشهد الانتخابي العراقي، خصوصاً وأنها الانتخابات المحلية الأولى التي تشهدها المحافظة منذ عام 2005، إذ أظهرت نتائجها تنافساً حاداً بين القوائم العربية والكردية والتركمانية، خصوصاً في ظل الصراع الحاد بين العرب والكرد للاستحواذ على منصب المحافظ، إذ تحاول القوى الكردية، والحديث هنا عن “الحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني”، الحصول على المنصب من جديد بعد سيطرة الحكومة الإتحادية على كركوك عقب استفتاء استقلال إقليم كردستان في 25 أيلول 2017، وتنصيب محافظ عربي، إذ حصلت القوائم الكردية على 7 مقاعد، مقابل 6 مقاعد للقوائم العربية، ومقعدين للجبهة التركمانية، ومع حصول العرب على مقعد الكوتا، فإن المقعدين التركمانيين سيكونان مهمين جداً لكل من الكرد والعرب لضمان الحصول على منصب المحافظ، الذي له بعد رمزي في سياق الصراع السياسي/ القومي في كركوك، يذكر بأن مجلس محافظة كركوك أعلن عن تأجيل الجلسة الخاصة باختيار المحافظة بسبب عدم تحقق النصاب القانوني للجلسة نظراً للصراع المحتدم بين العرب والكرد على المنصب.
ولا يقلّ المشهد السياسي في بغداد تأثيراً عن كركوك، إذ تمكن “تحالف تقدم” الذي يتزعمه الحلبوسي من الحصول على منصب رئيس مجلس المحافظة، فتم انتخاب عمار القيسي، واحتدم الخلاف بين قوى الإطار حول منصب المحافظ، وباستثناء عضو “التيار الصدري” علي التميمي الذي عيّن محافظاً لبغداد عام 2013، وأُقيل بعد ذلك بنحو 3 سنوات، فإن “ائتلاف دولة القانون” الذي يتزعمه المالكي، أكثر من هيمن على المنصب خلال العقدين الماضيين، وقد تسّلم المنصب من جديد، بتنصيب عبد المطلب العلوي محافظاً، وجاء ذلك نتيجة التفاهمات بينه وبين “تحالف نبني” التحالف الإطاري الآخر.
أجبرت طبيعة التوازنات السياسية التي أفرزتها الانتخابات، العديد من التحالفات السياسية على الاحتكام لقاعدة التوافق السياسي، ليس فقط على صعيد عملية تشكيل المجالس المحلية، وإنما في آلية عملها أيضاً، وهو ما بدا واضحاً في عملية اختيار رؤساء مجالس المحافظات والمحافظين، وهو واقع سيفرض نفسه أيضاً في آلية توزيع الدوائر الخدمية على الكتل الفائزة، الأمر الذي قد يجعل مجالس المحافظات ضعيفة وهشة، وقد تزعزع الاستقرار السياسيَّ في البلاد، خصوصاً وإن عمل هذه المجالس سيكون خاضعاً لتأثير العلاقات التي تربط بين التحالفات التقليدية والكتل الفائزة، إلى جانب اعتراض طيفٍ من مقاطعي الانتخابات على وجود هذه المجالس من حيث المبدأ، بدعوى أنها حلقة زائدة لهدر المال العام.
مواقع القوى الرئيسة وعلاقاتها البينية
منحَ القانون الانتخابي الذي أُجريَت بموجبه الانتخابات المحليّة، والحديث هنا عن نظام “سانت ليغو”، القوى التقليديةَ فرصةً كبيرةً للفوز بالانتخابات، وقطع الطريق أمام إمكانية أن يحقق أيُ تحالف انتخابي أغلبية واضحة فيها، كما إنه أوقف الصعود السياسي للقوى المدنية بعد انتخابات 2021، فرغم الصراع السياسي بين هذه القوى، إلاّ أن جميعها أدركت أهمية الحفاظ على قواعد اللعبة السياسية في البلاد، دون تغييرات كبيرة، وبالشكل الذي قد ينعكس سلباً على مستقبل حكومة السوداني، التي هي بالأساس نتاج عملي لتوافق هذه القوى ضمن “ائتلاف إدارة الدولة”.
عززت نتائج الانتخابات موقع قوى “الإطار التنسيقي” في السياسة العراقية، فبعد نجاحها في امتلاك أغلبية برلمانية وتشكيل حكومة السوداني، نجحت بتعزيز سيطرتها وتأثيرها على عملية تشكيل أغلب المجالس المحلية على مستوى المحافظات، وبالشكل الذي سيجعلها تمتلك وحدة قرارية وتنفيذية على مستوى الحكومة الإتحادية والحكومات المحلية، إذ أن تمتع قوى الإطار بموقع مهم في الدولة العراقية، سيجعلها قادرة على توظيف هذا الموقع في المحافظات التي تطمح إلى بناء نفوذ سياسي فيها، لموازنة قوى سياسية أخرى.
ففي محافظة نينوى على سبيل المثال، ورغم نجاح “حزب نينوى لأهلها” الذي يتزعمه نجم الجبوري بالحصول على المرتبة الأولى في الانتخابات، بواقع 5 مقاعد، إلاّ أن هذا الرقم لم يمكنه من تشكيل أغلبية في مجلس المحافظة، ونتيجة لذلك أعلن هذا الحزب عن تشكيل “كتلة نينوى الموحدة” عبر التفاهم مع كتل أخرى هي؛ تقدم وعزم والسيادة وتجديد وحسم، ليصل عدد المقاعد إلى 13 مقعداً من أصل 29 مقعد، في مقابل ذلك برز تحالف مضاد متمثل بقوى “الإطار التنسيقي” والذي بلغ عدد مقاعده 10 مقاعد، وحزب “اتحاد أهل نينوى” ممثل حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني”، والذي حصل على مقعدَيْن في المحافظة، إلى جانب “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الذي حصل على 4 مقاعد.
قد يكون زعيم التيار الصدري أكثر ارتياحاً للنتائج الحالية، نظراً لفشل المالكي في تصدر المشهد الانتخابي في العديد من المحافظات، وأبرزها البصرة وكربلاء وواسط، رغم نجاحه في تحقيق عدد جيد من المقاعد، وفي الوقت الذي عززت فيه نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات، رؤية الصدر بعدم وجود جدواها في ظل البيئة السياسية الحالية، فإن هذه الانتخابات قد كرّست فشل الصدر في استخدام سلاح المقاطعة لتعطيل ماكنة “الإطار التنسيقي” الذي سبق له أن انتزع منه امتياز تشكيل الحكومة العراقية، رغم فوزه بـ٧٣ مقعداً برلمانياً في الانتخابات الماضية.
حرمت المقاطعةُ “التيارَ الصدري” من الإدارة المحلية للمحافظات، بما لها من أهمية قصوى، سياسية ومادية، وتحديداً في بغداد والبصرة، التي مثلت مورداً مهماً لاقتصاديات التيار في مرحلة ماضية، بمقابل إفساح المجال أمام قوى “لإطار التنسيقي” للانقضاض على الفراغ الصدري بالشكل الذي قد يقطع الطريق أمامَ أيّةِ عودة سهلة لـ”التيار” خلال المرحلة المقبلة، رغم أن هذه الاحتمالية ستبقى قائمة، بالنظر لطبيعة ومصادر القوة التي يمتلكها التيار وزعيمه.
وعلى الصعيد السُني، فإن الحلبوسي حقق تقدماً جديداً على منافسيه ومعظمهم من السياسيين والوزراء المخضرمين مثل رافع العيساوي وخالد العبيدي وجمال الكربولي وآخرين، ما أبرز استمرارية صعود جيل جديد من البدلاء.
وعلى مستوى المعادلة الكردية، فقد حصلت الأحزاب الكردية على عدد أقل من المقاعد في ديالى وصلاح الدين، وهو ما جعلها طرفاً شريكاً في تشكيل هذه المجالس، مع بروز تأثيرها في تشكيل مجالس أخرى، وتحديداً كركوك ونينوى، فرغم نجاح القوى المرتبطة بـالحشد الشعبي في تحجيم سيطرة القوى الكردية عليها، وهو ما أكدته نتائج الانتخابات، إلاّ أنها ما زالت تمتلك فرصة للعودة إلى صدارة المشهد السياسي فيها، بالنظر للتأثير الاجتماعي الذي تمتلكه في هذه المحافظات.
البعد الإقليمي والدولي لنتائج الانتخابات
أحد أبرز التحديات التي يواجهها المشهد السياسي العراقي بعد الانتخابات، يتمثل في كيفية التعاطي الإقليمي والدولي معها، خصوصاً في المحافظات التي تشهد تنافساً إقليمياً واضحاً بين تركيا وإيران، إذ تخشى على مستقبل حلفائها، في محافظات نينوى وكركوك، فينعكس تعثر كل من تحالفات “تقدم” بزعامة الحلبوسي و”السيادة” بزعامة الخنجر، في تحقيق نتائج كبيرة في نينوى، سلباً على نفوذها، مع صعود ملحوظ لقوائم الحشد الشعبي، وهو ما يمنح أفضلية لإيران في محافظة تعتبر جزءاً مهماً من حلقات النفوذ التركي في العراق.
الحال نفسه في كركوك، إذ لم تتمكن “الجبهة التركمانية العراقية” المدعومة من تركيا، من الحصول على أكثر من مقعدَيْن، إلى جانب “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الذي لديه علاقات جيدة مع تركيا، الذي حصل هو الآخر على مقعدَيْن أيضاً، في مقابل صعود للقوائم العربية “السنية” التي حصلت على 7 مقاعد، والتي تحظى بدعم “تحالف نبني” المقرب من إيران، وحصول “الإتحاد الوطني الكردستاني” الذي لديه علاقات متوترة مع تركيا، على 5 مقاعد، وهو ما يُعقّد موقف تركيا في مستقبل المشهد السياسي في كركوك.
وتحظى نينوى وكركوك بمركزية مهمة في النظرة التركية للشمال العراقي، الذي يمثل الحزام الجنوبي الأهم في إستراتيجية الأمن القومي التركي، وتؤثر التفاعلات فيه بشكل مباشر على الداخل التركي، فتنتشر عسكرياً في الإقليم وخواصره القريبة، لذا ستحاول أنقرة احتواء تداعيات نتائج الانتخابات المحلية على مستقبل حلفائها، وتوفير بيئة ملائمة لإنجاح “مشروع طريق التنمية” مع العراق.
أما إيران، فيمكن اعتبارها الرابح الإقليمي الأكبر من نتائج الانتخابات، بعد صعود قوائم “الإطار التنسيقي” والحشد الشعبي في العديد من المحافظات العراقية، وهو ما قد يجعلها في وضع سياسي مريح خلال المرحلة المقبلة، إذ أن استحواذ قوى الإطار على موقع مهم في الحكومة الإتحادية والحكومات المحلية، سيعطي طهران مساحة لزيادة فرص الاستثمار والتجارة، وتوسيع هامش المنافسة الاقتصادية على حساب قوى إقليمية أخرى، بالإضافة لنفوذ القرار والسلاح.
أما على مستوى القوى الإقليمية العربية، فيمكن القول إن الدول العربية تدرك أهمية الحفاظ على الاستقرار السياسي في العراق، فتبنت مسارات واضحة لدعم حكومة السوداني على المستويَين الداخلي والخارجي، وهذا ما بدا واضحاً في سياسة الانفتاح الخليجي والعربي على العراق. ورغم ارتباط العديد من القوى العربية والخليجية بعلاقات جيدة مع قوى سياسية عراقية، ومنها القوى “السنية”، إلاّ أنه ليس من المتوقع أن يحدث تغيير كبير بمواقف هذه القوى، نظراً لنتائج حلفائها في هذه الانتخابات، وقابلية الاستجابة التي طورتها الدول العربية في التعامل مع متغيرات السياسة العراقية.
أما دولياً، أظهرت الأدوار واللقاءات المستمرة التي عقدتها السفيرة الأمريكية في بغداد إلينا رومانوسكي، مع السوداني ومسؤولين آخرين، قبيل الانتخابات، اهتماماً أمريكياً واضحاً بإنجاح العملية الانتخابية، مع رغبة الولايات المتحدة بالحفاظ على الاستقرار السياسي الهش في البلاد، في ظل اهتمامها الحالي بالحرب على غزة وعدم رغبتها بتوسّعها إلى العراق، وهي خطوات أكدتها أيضاً تحركات ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جنين هينيس بلاسخارت، عبر دعمها إجراء الانتخابات المحلية في البلاد.
ماذا بعد؟
مثلت الانتخابات المحلية الحدث السياسي الأبرز في العراق خلال الفترة الماضية، وذلك نظراً لطبيعة المتغيرات والتحديات التي أحاطت بها، والتداعيات التي يمكن أن تترتب عليها، وعدد الأطراف الإقليمية والدولية المتأثرة بها، ومهما كانت طبيعة النقاشات المثارة حول مخرجاتها، سواء على مستوى نسب المشاركة/ المقاطعة أو النتائج، إلاّ أنها ستنتج تحولاً سياسياً مهماً سيشهده العراق في المرحلة المقبلة، وهو تحوّل سيساهم في رسم ملامح مستقبل العملية السياسية في البلاد.
لقد أظهرت نتائج الانتخابات أنها انعكاس للواقع السياسي الجديد في البلاد، وتحديداً بعد نجاح قوى الإطار بتشكيل حكومة السوداني، إذ تفوقت فيها القوى التي تمتلك أدوات العنف-السلاح- وشبكة واسعة من العلاقات الزبائنية، سواء الاقتصادية أو العشائرية أو المناطقية، وصعود الخيارات المحلية على حساب الخيارات العابرة لحدود المحافظات، إلى جانب انخفاض فرص المنافسة السياسية أمام الحركات المدنية، بسبب المقاطعة وفقدانها الثقة بالعملية الانتخابية، وهو ما يطرح بدوره تساؤلاً مهماً عن المستقبل السياسي الذي ينتظر العراق في مرحلة ما بعد الانتخابات، والذي غالباً ما سيكون محفوفاً بالمخاطر.