مشاريع بعناوين استثمارية تستنزف المياه والثروات الطبيعية جنوبي العراق
صُنف العراق ضمن العديد من التقارير الدوليّة، بأنه خامس الدول الأكثر تضرراً من التدهور المناخي، ناهيك بالجفاف الذي تعيشه البلاد، ما يعني أن مهمة الدولة تتجاوز تأمين المرشات الضرورية لاستدامة العمل الزراعي، نحو توفير الوقود للمضخات التي يمتلكها المزارعون، خصوصاً أن بادية محافظة المثنى تفتقد لشبكة الكهرباء.
يملك المزارع أبو غانم ( 57 سنة ) ألف دونم من الأراضي الصالحة للزراعة في بادية السماوة جنوب غربي العراق، رغم ذلك هو يعجز عن الاستثمار فيها بسبب غياب دعم الدولة سواء بتوفير البذور والأسمدة والوقود او المكائن وآليات الري. لكن مزارعين وشركات استثمارية “مرتبطة بجهات متنفذة” يتلقون الدعم، بحسب قوله.
يؤكد المزارع الجنوبي الذي لا يجيد مهنة أخرى، ان الحكومة اشترطت على المزارعين أمثاله، استخدام المرشات المحورية مقابل دعمهم بالبذور والأسمدة، وهذا أمر يصعب تحقيقه اذ يبلغ سعر المرشة الواحدة أكثر من 50 ألف دولار أمريكي. يقول وهو يضرب كفيه ببعضهما “منذ عشر سنوات نقدم الطلبات للحصول عليها لكن الحكومة تتجاهلها”.
يضيف أبو غانم، وهو يجر نفساً عميقاً: “نشعر أن الحكومة تحارب الزراعة في المثنى، وأن موارد الدولة تذهب الى مستثمرين وهميين أحياناً على حسابنا نحن المزارعين الحقيقيين، فمن لديه واسطة يحصل على ما يريد”.
يصمت للحظات قبل أن يتابع “المرشات توزع عبر الوساطات، وليس عبر القرعة كما يدعون.. ليس لدينا لا المال ولا المعارف، فكيف يمكن ادامة عملنا؟”.
الى جانب تأمين المرشات الضرورية لادامة عملهم الزراعي في بيئة تعاني من الجفاف ببلد، تصنفه تقارير دولية بأنه خامس الدول الأكثر تضررا بالتدهور المناخي، يمثل توفير الوقود للمضخات مشكلة اخرى أمام المزارعين، بخاصة ان بادية محافظة المثنى تفتقد لشبكة الكهرباء.
رغم تلك المشاكل التي تضطر مئات المزارعين للتخلي عن مهنتهم ومهنة أجدادهم وهجرة أراضيهم، تحمّل دائرة المياه الجوفية بمحافظة المثنى، المزارعين كما مستثمرين صناعيين مسؤولية استنزاف المياه الجوفية بل وتجفيف بحيرة ساوة التي اختفت في العام 2022، نتيجة قيامهم بحفر “آلاف الآبار غير القانونية”.
الزراعة في ظل الجفاف
المزارعون المحليون ينفون تلك التهمة، ويبدون التزامهم بالمعايير المعتمدة في حفر الآبار وسقي مزارعهم. يقول أبو غانم “نحن نحفر الآبار وفقاً لتعليمات وإجراءات روتينية معقدة، وبعد مراجعات دورية متكررة من قبل الجهات الرسمية لمزارعنا، بينما هناك من يحفرون الآبار دون رقابة وبشكل جائر، وتساعدهم في ذلك علاقاتهم بمسؤولين رفيعين أو من خلال دفع الرشاوى”.
تشكل الصحراء 90٪ من محافظة المثنى، مركزها السماوة، وفيها العديد من الثروات المعدنية فضلا عن المراعي الطبيعية الواسعة التي عززت ثروتها الحيوانية، قبل أن تظهر مشكلة الجفاف في السنوات الخمس الأخيرة، بحسب باحثين محليين وأرقام رسمية، لكنها في ذات الوقت تحتل الصدارة في نسبة الفقر التي وصلت إلى 52% سنة 2023 وفقا للمتحدث الرسمي باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي.
وهي ثاني أكبر محافظة عراقية من حيث المساحة (51000 كم2) فيما لا يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة، وتحاذي كل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت من الجنوب، ما يجعلها مؤهلة لافتتاح معابر حدودية تنشط فيها التجارة.
وشهد العراق في العام 2021 ثاني أكثر مواسمه جفافاً منذ 40 عاماً بسبب الانخفاض القياسي في هطول الأمطار ومع ارتفاع درجات الحرارة وتوالي العواصف الغبارية في وقت تراجعت تدفقات المياه من نهري دجلة والفرات الى اقل من نصف معدلاتها السابقة.
بموجب احصائيات هيئة الاستثمار في المثنى لسنة 2023 فأن المشاريع التي أحيلت كفرص استثمارية في بادية المثنى الجنوبية بلغ عددها (96) مشروعاً في القطاعين الزراعي والصناعي.
لكن أبو غانم، ومزارعين آخرين يرون ان بعض تلك المشاريع فعليا تستنزف كميات كبيرة من المياه، في حين أن عددا كبيرا منها مجرد حبر على ورق وهي تمثل بابا من أبواب الفساد، وهو ما تؤكده مصادر برلمانية.
يقول أحد المزراعين، دون الافصاح عن اسمه: “بعض المستثمرين يحصلون على الأراضي ويكتفون بوضع مشيدات لا تكلف سوى مبالغ قليلة، بينما يستلمون من المصرف الزراعي مبالغ كبيرة كقروض استثمارية، وحين يتأكد فشل المشروع او عدم تنفيذه تبدأ الجهات الحكومية بتحريك دعاوى على المستثمرين، فيما تبقى الأراضي متروكة دون أي فائدة”.
استنزاف المياه
توجه الى المزارعين في بادية السماوة وبشكل مستمر، اتهامات باستنزاف المياه بشكل جائر من خلال اعتمادهم على وسائل ري قديمة تهدر المياه، لذلك فرضت الجهات الحكومية عليهم استخدام مرشات محورية لتقنين استخدام المياه، وقد تكفي الواحدة منها لتغطية مساحة تصل إلى 120 دونماً.
وبحسب مدير دائرة المياه الجوفية السابق في المحافظة د. أحمد سرداح الزبيدي، أن البادية تتعرض للاستنزاف جراء الآبار التي تحفر دون موافقات رسمية. وهناك نوعان من الهجرة من والى البادية بحسب المعلومات المتوفرة لديه: تتمثل الأولى بهجرة رؤوس الأموال باتجاه البادية، أما الثانية ففي هجرة الفلاحيين والرحل الى المدينة نتيجة انخفاض مناسيب المياه أو جفاف الآبار.
ويرى ان المياه الجوفية وخلافاً لما يشاع محدودة وتتقلص باستمرار جراء تراجع الأمطار وزيادة الاستخدام. ويضرب مثالا هو الأوضح كما يقول “جفاف بحيرة ساوة”، مشيرا الى التراجع الحاد في المياه الجوفية بجنوب وغرب المحافظة وتحديدا بناحية السلمان.
ويرجع الزبيدي أسباب تراجع المياه وتردي نوعيتها، الى النشاط الصناعي المتمثل بمعامل الاسمنت والحفر المفرط للآبار، فضلاً عن العمليات التي تستنزف طبقات الصخور الجيرية لأغراض صناعية والتي تترك آثارا سلبية على البيئة المحيطة بما فيه النباتات الطبيعية في المنطقة.
ويؤكد الموظف السابق على أن طبيعة الخزان الجوفي وخصائصه تحدد أعداد الآبار العاملة بمنطقة البادية الجنوبية التي ينبغي أن تحفر بعدد معين وبساعات انتاج محددة، وتعتمد سياقات علمية لتشغيل الآبار “8 ساعات في اليوم الواحد وبإنتاجية لا تزيد عن 5 لتر بالثانية”.
لكن الفلاحين وأصحاب المشاريع كما يقول “يشغلون البئر 24 ساعة باليوم وبإنتاجية تصل الى 20 لتر بالثانية، وهكذا يقل عمر البئر وينخفض الخزين الجوفي”.
ويضرب مثالا على ذلك، بانخفاض منسوب المياه الجوفية في منطقة الرحاب “كان يبلغ 20 متراً وعمق الآبار من 50 – الى 80 متراً، بينما وصل عمق البئر الآن الى 150 مترا ومنسوب المياه الى 50 متراً”.
وبحسب الإحصائيات الرسمية هناك أكثر من 4000 بئراً في البادية، ويتوقع الزبيدي أن يكون العدد ضعف ذلك، وذلك بسبب عدم تطيبق القوانين في ظل “المحسوبيات والتأثيرات السياسية والإقتصادية”.
ويكشف عن تعرض الكثير من موظفي هيئة المياه الجوفية لاعتداءات وتهديدات وابتزاز، نتيجة حديثهم عن الحفر الجائر للآبار، وقد تعرض شخصياً للتشهير على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل إحدى الجهات الحزبية.
الاستثمار الوهمي
السياسي المستقل نبيل الحسّاني، يقول بأن إحدى الجهات الحزبية (لم يسمها) تستحوذ على آلاف الدونمات من الأراض في بادية المثنى بحجة الاستثمار الزراعي، ولا أحد يتمكن من الوصول إلى تلك المناطق لكي يتأكد من حقيقة الاستثمار والمنتوج. “وضعت تلك الجهة نقاط تفتيش تمنع الناس من الدخول إلى المنطقة، حتى رعاة الأغنام تم منعهم من الرعي فيها”.
ويتساءل الحسّاني”لو كانت هنالك فعلا استثمارات حقيقية، فأين هي المحاصيل التي تنتجها؟”، وضرب مثالاً على ذلك بالقول “في السنة الماضية وتحديداً في وقت الحصاد، كانت مواقع التواصل الاجتماعي تعج بالدعايات لزراعة -ركي أو بطيخ السلمان- لكن لم تشهد الأسواق أي أثر حقيقي لذلك، لم يكن هنالك بطيخ السلمان في الأسواق!”.
ويرى بأن منح تلك الشركات فرصاً استثمارية غير حقيقية فوت على المثنى والعراق، فرص استثمار فعلية كانت دول مجاورة قد قدمتها، فتم رفضها بدوافع سياسية. دون ان يذكر أسم الدول التي أتت منها عروض الاستثمار.
ويوضح طبيعة تلك الفرص:”كان من المفترض زراعة مساحات واسعة مع انشاء معامل الاعلاف للحيوانات وإنشاء طرق حيوية، وهذا لم يحصل وكان بديله استثمار بدائي بسبب مماحكات سياسية من قبل بعض الأحزاب التي حركت تابعين لها في المدينة لرفض الاستثمار من الخارج”.
وكانت مصادر اعلامية خليجية وعراقية اشارت في العام 2020 الى رفض فرص استثمارية خليجية في محافظتي المثنى والأنبار. وبررت وزارة الموارد المائية العراقية أسباب رفض تلك الفرص الى قلة مخزون المياه الجوفية المستدام “هو لا يتيح التوسع الهائل للاستثمار الزراعي في العراق”.
ويلفت الحساني الى أن بعض المنتمين للقوات الأمنية وبمسميات معينة يعملون في الأراضي التي يفترض انها للإستثمار الزراعية “ولا نعرف هل هي أرض زراعية أم ثكنات عسكرية؟!”.
وينفي ما يتم تداوله في بعض وسائل الإعلام عن أن محافظة المثنى تأتي بالمرتبة الأولى على مستوى العراق في نطاق الاستثمار، ويستدرك، “هذا حبر على ورق”. ويضيف ساخراً:”المفارقة، أن نفس وسائل الإعلام تتحدث عن معدلات فقر في المحافظة تبلغ 52%، فلو كان الاستثمار حقيقيا كان في الأقل قد انخفضت نسبة الفقر”.
وينبه بعض سكان المثنى، الى جانب آخر يدفعهم للاعتراض على مشاريع الاستثمار بنحو عام.
فعبد الله الجشعمي (36 عاما) المهتم بادامة طبيعة البادية، والذي يعيش وسط جيران يمتهن غالبيتهم مهنة الرعي، يرى أن تلك المشاريع تهدد بتغيير طبيعة المنطقة التي تتميز بمراعيها الواسعة التي تجوب فيها الأغنام والإبل.
وهو مثل كثيرين غيره، يشكو من أن الاستثمار في البادية لم يوفر فرص عمل للسكان، بل “زاد من نسبة الفقر لأن أهل البادية يعملون بمهنة الرعي بنحو أساسي، ووضع الأسوار حول الأراضي، وتحويل استخدامها، والتضييق على الرعاة وحصرهم بمساحات قليلة، يعني تهديد مهنتهم”.
وعندما اعترض الرعاة على التضييق الحاصل عليهم وفقاً لعبد الله، تم الاعتداء عليهم بالضرب، وحدثت مشاكل عشائرية عديدة جراء ذلك، متسائلاً “أين ترعى ماشية البدو إذن وبعضهم يملك آلاف الرؤوس من الغنم والابل؟”.
ويناشد عبد الله الحكومة العراقية، بايقاف أي مشروع استثماري “جائر”، وفق وصفه، لما يحمله من ضرر على بيئة المنطقة والمياه الجوفية فيها، أو يحد من مساحة المراعي بما يخلفه ذلك من اضرار بالثروة الحيوانية. ويقول “أنا من سكان البادية أبا عن جد، لم أر أبداً أهلنا يعملون في هكذا مشاريع، هذا مخالف لطبيعتنا”.
يوافقه أبو غانم “نحن الفلاحون والمزارعون العاديون، نستطيع بإمكانياتنا أن نستثمر بشكل جيد تلك الأراضي التي منحت للشركات الاستثمارية، لكننا نحتاج الى بعض الدعم”.
اعلانات استثمارية
في 20 شباط فبراير 2024 أعلنت هيئة استثمار المثنى عن المباشرة بإنشاء معمل سمنت (سما ساوة) في محور المملحة الصناعي، وبطاقة انتاجية تبلغ مليوني طن سنويا، وبتنفيذ من قبل شركة سينوما الصينية وبإشراف شركة (PEG) السويسرية.
المعمل الذي سينتج الإسمنت العادي والمقاوم والمستخدم في آبار النفط، من المخطط اكماله خلال (20) شهرا، ويأتي بالتزامن مع تنفيذ أربعة معامل أخرى في المثنى بالإضافة إلى ثلاثة معامل استثمارية منجزة لتغطية الطلب المتزايد على مادة السمنت في العراق.
وفي منتصف الشهر ذاته أعلنت الهيئة عن مباشرة شركة (خيرات الأرض الطيبة) بزراعة 1500 دونم من القمح ضمن مشروع يتضمن زراعة 5 آلاف دونم في بادية المثنى، اعتمادا على طرق الري الحديث والمرشات الثابتة و”بذور ذات إنتاجية عالية ومقاومة للجفاف والأوبئة”. الى جانب تربية الف رأس من الأغنام جيدة الصنف “للاسهام بتحقيق الإكتفاء الذاتي”.
كما أعلنت هيئة استثمار المثنى عن قيام شركة (رافدي العراق) بزراعة 25 ألف دونم من القمح، و10 آلاف دونم من النخيل النسيجي في البادية باستخدام “أحدث تقانات الري بالرش المحوري ذاتي الإدارة وتغذيتها بالطاقة الشمسية واعتماد البذور الهجينة المقاومة”.
وفي مطلع شباط، اعلنت الهيئة عن زراعة مليون شجرة (جوجوبا) من قبل شركتي الصلصال والفردوس. وذكر رئيس الهيئة عادل الياسري ان المشروع يكافح التصحر، كونه تلك الاشجار تساهم في تثبيت التربة ومنع تعريتها، وهي وتتحمل درجات حرارة عالية وتستهلك كميات قليلة من المياه، وتعيش لـ 200 عام، وهي تدخل في انتاج الزيوت المستخدمة في العديد من مستحضرات التجميل وسوائل الغسول.
وفي كانون الثاني يناير 2024 اعلنت استثمار المثنى عن وصول 650 الف فسيلة نسيجية، ضمن مشروع لزراعة النخيل في بادية السماوة يستهدف زراعة مليون نخلة صعوداً الى ثلاثة ملايين نخلة وعلى مساحة اربعة الاف دونم.
تلك المشاريع المعلنة خلال اقل من شهرين، يقول مختصون انه يجري الموافقة عليها دون دراسات علمية دقيقة تبحث في مدى ملاءمتها لطبيعة المنطقة وتاثيرها على بيئة البادية والمياه المتوفرة فيها، وينبهون الى انها قد تمثل تهديدا لمصادر رزق المزارعين التقليديين كما الرعاة.
رخص استثمارية .. فأين الناتج؟
يقسم سكان بادية المثنى أراضيهم إلى قسمين، يعرف الأول بـ(الحجرة) وهي المساحات ذات التربة الطينة المزيجية، ويتم الزراعة فيها بالري السيحي، وهذه حجزت لصالح مستثمري الأراضي الزراعية.
والقسم الثاني يعرف بـ(السهل) وتكون تربتها رملية، فتعتمد الزراعة فيها على الري بالمرشات.
يقول بعض أبناء المنطقة، ان تلك المساحات كانت آخر متنفس لرعي الماشية، قبل ان يستولي عليها متنفذون “عبر عقود استثمارية منحت بنحو عشوائي”، على حد قولهم.
(علي . م) وهو شاب من أبناء البادية أكمل تعليمه الثانوي، ونزح الى السماوة قبل عامين بحثاً عن عمل، يدعو الحكومة المحلية الى التركيز على توسيع وتطوير الزراعة في الأرياف المعروفة بطبيعتها الزراعية وليس في البادية التي لا يسكنها سوى البدو، منبها ان ما يحدث يمثل نوعاً من التغيير الديموغرافي ليس لتطوير اقتصاد المنطقة بل لمصالح أطراف وأشخاص.
الكثير من أبناء المثنى وباديتها، يشككون بحقيقة المشاريع الاستثمارية التي يتم الاعلان عنها، ويتساءلون: أين فرص العمل التي توفرها؟ وأين انتاجها من السوق؟
لكن الصوت الأعلى للمشككين يتمثل في عضو مجلس النواب عن المحافظة “باسم خشان” الذي يصف الكثير من الاستثمارات الحاصلة في البادية بالوهمية:”جزء كبير منها أحيلت إلى مستثمرين يسعون للحصول على قروض دون أن يقوموا فعلياً بتنفيذها”.
ويوجه خشان، اتهامات لشركات استثمارية، أحداها تدعى (خيرات العراق) حصلت على أربع اجازات استثمارية في البادية، قائلا بأنها مدينة لمقاولين ثانويين، قاموا بتنفيذ أعمال لصالحها مثل بناء مشيدات أو انشاء أحواض أسماك، لكنها لم تسدد لهم الأموال (أكثر من 450 ألف دولار) المتفق عليها.
ويشير خشان الى ان هذه الشركة تجاوزت المدة المحددة لإنجاز عملها، لكن لم تفرض عليها أية عقوبات!
ويتهم شركة (خيرات العراق) بعدم الايفاء بالتزاماتها رغم حصولها على قروض مالية وعلى الاعفاء الجمركي والضريبي، ومنحها مساحات شاسعة من الأراضي في البادية تقدر بخمسين ألف دونم، على حد قوله.
ويقدر النائب الخشان، حجم ما يسميه بالاستثمار الوهمي، بنسبة 90% من الاستثمار الزراعي في البادية باب من أبواب سرقة أموال الدولة والإثراء على حساب المال العام، ليس في البادية فقط بل حتى في المشاريع الاستثمارية الأخرى في المحافظة”.
ويقول عضو مجلس النواب، ان موظفين ومسؤولين وحتى قضاة حصلوا على أراض زراعية لإستثمارها، لكنهم لم يستغلوها كما هو مطلوب في عقود الاستثمار، مع أنهم حصلوا على قروض كبيرة من أجل ذلك “كشفنا قضايا فساد وقدمناها للقضاء.. رئيس مجلس الوزراء لا يريد أن يتخذ اجراءً، فنحن نحاول ان نصلح الوضع لكن لا رغبة حقيقية للإصلاح”.
ويرى خشان أن مديرية الزراعة ملزمة بمتابعة المشاريع المتلكئة، وأن على الجهات المعنية إقالة مدير هيئة الاستثمار في المحافظة واستبدال مجلس الهيئة، المتورط بمنح إجازات خلافاً للضوابط مع عدم قيامه بدوره فيما يتعلق بفرض الغرامات والإجراءات الأخرى بحق المخالفين لقوانين الاستثمار.
مسؤولون: زيادة في الإنتاج
لا تجد الاتهامات التي تطال بعض المشاريع الاستثمارية، صدى في أروقة الدوائر المعنية بالمثنى، بل الحديث هناك يتركز على مواصلة الاستثمار بعد تحقيق زيادات في الانتاج الزراعي.
يقول مدير زراعة المثنى واثق منصور ان المساحات المزروعة في البادية والتي تستخدم فيها تقنيات الري الحديثة قفزت إلى (250) ألف دونم، وهناك زيادة واضحة في الانتاج الزراعي.
ويؤكد منصور ان الاجازات الاستثمارية تمنح وفق القانون، ويشرح آلية تأجير ومنح الأراضي:”هنالك خطان متوازيان أولهما تأجير الأراضي للمواطنين من خلال تقديمهم طلبات مباشرة ونمنحهم الموافقات وفقاً للقانون (35) لسنة 1983، الى جانب العقود الاستثمارية الزراعية وهي من صلاحيات هيئة الاستثمار”.
مع فتح باب الاستثمار منحت أربع شركات عقودا زراعية للاستثمار في البادية، من بينها شركة (الصلصال)، التي زرعت نحو 20 ألف دونم، وشركة (الفردوس) التي زرعت 12 ألف دونم.
ونفى منصور، علمه بمستوى انتاج الشركات الاستثمارية، مبرراً ذلك بتولي منصبه في شهر أيار من العام 2023، لكنه قال أنه يتوجب عليها الإلتزام بتطبيق بنود الاستثمار وفق القانون وتحديدا الفقرة (10) التي تنص على ان يعطى للمستثمر مدة محددة لتنفيذ المشروع “في حال إخلاله ببنود العقد نلجأ لفسخه لإعطاء فرصة لمستثمر آخر”. دون ان يوضح فيما اذا كانت دائرته بدأت خطوات لفسخ عقود شركات متلكئة، مع تزايد الشكوك بشأن عملها.
وتشير مديرية زراعة المثنى الى ان المنتج الزراعي من الحبوب بالمحافظة في زيادة، مبينة انها سوقت 150 ألف طن من الحنطة خلال سنة 2023، و2000 طناً من الذرة، وذات الكمية من محصول الشعير. لكنها لا تملك إحصائيات بشأن انتاج الخضراوات، وأكتفت بالاشارة الى ان الكميات المنتجة دعمت السوق المحلي “بنحو كافٍ”.
ويقول مدير سايلو المثنى فليح شيال، ان المستلم من محصول الحنطة من مزارعي المثنى لسنة 2022 كان قد بلغ 70 ألف طن، وارتفع في سنة 2023 ليبلغ 130 ألف طن، نحو 90% منها انتج في منطقة البادية.
ويؤكد أن الزيادة هذه جاءت بسبب تطور الزراعة، وتحديد أسعار مجزية من قبل الحكومة لمسوقي الحنطة من المزارعين والتي وصلت الى 850 ألف دينار للطن الواحد (647دولار).
رغم ذلك، لا ينفي شيال، وجود مستثمرين حصلوا على رخص لإستثمار أراضٍ في البادية، لكن لم تستغل لغاية الآن، أو أن ما أنتج فيها لايتناسب مع حجم مساحة الأرض الممنوحة لهم.
لكن هذه الزيادة المعلنة من الحكومة في انتاج الحبوب، يرجعها متابعون للواقع الزراعي الى تحسن معدلات الأمطار الهاطلة مقارنة بالعام الذي سبقه، وليس الى استثمار اراضي البادية، الى جانب اعتماد بعض المزارعين على المرشات الحديثة وعدم الركون الى السقي التقليدي.
خيبة أمل
يرى الناشط البيئي أحمد حمدان، أن المشاريع الإستثمارية الزراعية والصناعية مفيدة لمنطقة البادية “لو نفذت بشكل حقيقي، ولم تكن مجرد حجز لآلاف الدونمات واستخدامها لأغراض غير اقتصادية”.
ويضيف ان الاستثمارات تشغل الأيدي العاملة لكن هذا ما لم نلمسه، وواقع الحال يظهر تنفيذ جزء قليل منها “ربما بنسبة لا تتعدى الـ25%، لذا يشعر سكان البادية بخيبة أمل نتيجة رفض عروض قدمتها شركات كبيرة رغبت بالاستثمار في البادية، وكان يمكن أن تسهم بتشغيل آلاف الأيدي العاملة وتقليص البطالة والفقر ، لكن جهات تدخلت لأهداف شخصية أو سياسية وأفشلت تلك العروض”.
وينبه حمدان، الى ان الخسارة كانت مزدوجة، فلم تنفذ المشاريع وفق ما هو معلن، بينما تأثرت حرفة الرعي في البادية التي هي أرض رعوية “بعد استغلال معظم المساحات لأغراض زراعية أو صناعية، تغيرت طبيعة أكثر من ثلثي الأراضي”.
ويقول بأن العقود الاسثمارية أثرت حتى على السياحة المرتبطة بالصيد في البادية “في السنوات الماضية كان يسمح للسياح ومعظمهم من الخليج، بالدخول إلى البادية مقابل مبالغ تصل الى 20 الف دولار، لكن كثرة الاستثمارات حدت من دخول السياح مع تحول أغلب المناطق الى محميات شخصية لمتنفذين”.
مشاريع مخالفة القانون
رئيسة مركز أبحاث البادية بجامعة المثنى، الأكاديمية د. صوفيا جابر تقول بإن الاستثمار في البادية ذو وجهين، فقد يحمل نتائج سلبية، كما يمكن ان يكون إيجابيا اذا إخضع للقوانين التي تحافظ على الثروات الطبيعية كتقنين استهلاك المياه باستخدام طرق الري الحديثة.
ووفقاً لدراسة أجراها المركز، فان المشاريع الصناعية في البادية تتعامل مع الموارد بنحو عشوائي، إذ قام أصحابها باستخدام مناطق كمقالع للحجر في حين كان من المفترض أن تكون محميات طبيعية.
وأثبتت الدراسة أن معظم المشاريع غير ملتزمة بالقوانين والمعايير البيئية، بدليل جفاف بحيرة ساوة بسبب “الاستثمار في المملحة” ، كما تقول د صوفيا: “كنا نراقب مناسيب المياه في البحيرة ونلحظ انخفاضها من شهر تشرين الأول اكتوبر ولغاية شهر نيسان ابريل، وهي فترة عملية ملئ الأحواض الخاصة باستخراج الملح، واطلعنا على الصور الجوية من خلال الأقمار الاصطناعية وتم قياس مسافة الاحواض فوجدناها مساوية لبحيرة ساوة”.
وذكرت بأن لجنة مشتركة تشكلت من مركزها الأكاديمي ورئاسة الوزراء لتحويل بحيرة ساوة الى محمية طبيعية “لكن معامل الملح والإسمنت تعمدت التأثير على البحيرة وتجفيفها”.
وتنتقد د.صوفيا، عدم ايراد المشاريع الاستثمارية بيانات حقيقية “لا نعرف كم عدد الآبار التي تحفرها، وكميات المياه التي تسحبها، لأنها لا تضع عدادات للمياه، وذلك لغرض منع السيطرة والمراقبة الدورية”.
وتورد ذات الملاحظة التي أكدها متابعون آخرون، وهي انها لم تجد، خلال زياراتها للبادية، إنتاجاً زراعياً يوازي حجم الفرص الاستثمارية الممنوحة هناك “ما نشاهده عبارة عن نباتات متقزمة، فالسنبلة قصيرة وانتاجها متواضع من الحبوب”.
كما أشرت تركيز المستثمر على زراعة الحبوب “نسبة 95 % من المزروع هو الحنطة، ولم تكن هنالك سوى مزرعة واحدة للبصل والخيار في منطقة الرحاب”.
وتدعو د. صوفيا الى تشكيل لجان تشرف عليها مديرية الزراعة، لدراسة التربة وتحديد ملاءمتها للاستثمار وطريقة الري المناسبة “هم يقيسون فقط نسبة الملوحة وهذا غير كاف”.
كما تشدد على اعداد دراسة بحثية للمتغيرات البيئية، وأهمية تعاون الدوائر المعنية فيما بينها، لمنع فقدان موارد المياه “هنالك عيون ماء جفت تماماً، ونسبة الامطار لا تعوض ما يتم استنزافه، ولا توجد مشاريع تديرها الحكومة لتخزين المياه”.
أبو صلاح (64 سنة) يملك 700 دونما من الأراضي في بادية المثنى، تعود على زراعتها بالقمح. فوجئ مثل غيره، بحصر الحكومة دعمها لمالكي المرشات المحورية فقط، ومعظمهم مستثمرون حاصلون على قروض مالية، على حد تعبيره.
لذلك يرى أن منح فرص تحت اسم الاستثمار الزراعي في البادية، قد أضر بالمزارعين الحقيقيين هناك “العديد من شركات الاستثمار الزراعي والحيواني وهمية، هي تملك عقوداً موقعة منذ 5 أو 10 سنوات لكن دون انتاج. وشركات أخرى تستهلك المياه بنحو جائر.. هذا هو الواقع، والنتيجة نحن نتضرر كما بيئة المنطقة”.