ليث العبيدي/ 26 تشرين الثاني نوفمبر 2023:
تشجّع مزارعو قرية آل خشم في أطراف قضاء عفك على حذو طريق أم أنور، وبدأ بعض المزارعين يحققون إنتاجاً أفضل، ويوفرون أموالاً على أنفسهم.. كيف حقّقت امرأة خطوات زراعية كبيرة، وما هي التحدّيات التي تواجهها؟ ذلك ما تكشفه جولة في مزرعة أم أنور!
غيّرت مخلفات الماشية والدواجن حياة أم أنور بعد أن استخدمتها على أرضها في قضاء عفك (25 كم شمال شرق مركز مدينة الديوانية)؛ إذ صارت الأرض المُحاطة بالعطش وتعاني مشكلات في التربة، أكثر إنتاجاً وأقلّ تضرّراً مقارنة باستخدام الأسمدة الصناعية، كما قلّت الكلفة المادية للإنتاج الزراعي والحيواني.
لكنها رغم ذلك، تعاني من تحديّات عديدة تفرضها التغيّرات البيئية.
العيش من الزراعة
تعيش نضال نبوش خزعل في قرية آل خشم في أطراف قضاء عفك، وتتكون أسرتها من أربع أبناء وزوج، وتعتبر الزراعة المصدر الرئيس لكسب رزق العائلة.
تقوم أم أنور بحرث الأرض بنفسها وهي تقود الماكنة الزراعية (التركتر)، وتعتني بالماشية والدواجن وتستخرج منها المنتجات الحيوانية، وتنسّق بيع ما تنتجه أرضها.
“كما أقوم بقطع نبات الجت والبرسيم بشكل يومي وتقديمه للأبقار والأغنام.. وأربي ما يقارب 60 طيرا داجنا (دجاج وبط)”، تقول خزعل.
قبل نحو 10 أعوام، أخذت أم أنور تستبدل السماد الكيميائي بالسماد الحيواني، وهو من بقايا ماشيتها وماشية أقاربها، وتستخدم أيضاً سماد الدواجن، الذي تعد تكلفته أقل.
حقق السماد الحيواني توفيرا ماليا مقارنة بشراء السماد الكيميائي المصنع والذي وصل سعر الطن الواحد منه إلى 130 ألف دينار، كما حققت أم أنور إنتاجية عالية باستخدامها السماد العضوي الحيواني المعمول بطريقة التخمير في محاصيل الخضراوات مثل الطماطم والخيار والباذنجان واللوبيا والباميا والخس والبطيخ.
أما الرقي، فقد كان التجربة الفارقة لها؛ فهي، بحسب ما تروي، كانت قبل عشرة أعوام من المزارعين الأوائل الذين زرعوا الرقي في قضاء عفك، واستطاعت توسيع الزراعة باستخدام الأسمدة العضوية والحيوانية، “توسعت مساحة الأرض المستخدمة إلى أكثر من 10 دوانم لزراعة الرقي في بعض المواسم، وتجاوز الإنتاج 15 طناً من الرقي يومياً”.
نقلت أم أنور تجربة زراعة الرقي إلى أكثر من 10 مزارعين، ونتيجة لتحسن حالتها المادية، تبرعت بفتح بيتها كمدرسة لمحو الأمية للكبار.
الحلول وسط بيئة منهارة
كان غلاء أسعار السماد أوّل ما دفع أم أنور إلى البحث عن حلول بديلة، فاستخدمت السماد الحيواني من مخلفات الماشية والدواجن، لكنها وجدت طريقة أخرى في استعماله غير تلك السائدة.
“عاملت السماد العضوي بطريقة بسيطة داخل الحقل، قبل أن يتم استخدامه في تسميد النباتات، وهو ما أعطى نتائج جيدة وملحوظة خلال موسم الزراعة”.
بعد التجربة الأولى، وجدت خزعل ارتفاعاً في إنتاجها، وباتت التربة أكثر مقاومة حتى بعد انتهاء موسم الزراعة، “هذا ما شجعني على الاعتماد على هذا السماد في المواسم اللاحقة وقمت بزيادة الكميات لتغطية أكبر مساحة للزراعة”.
يحذو بعض المزارعين حذو أم أنور، لكن مزارعين آخرين يضطرون إلى هجرة أرضهم.
وفق مكتب مفوضية حقوق الإنسان في الديوانية، فإن التدهور البيئي الناتج من شح المياه وعدم استدامة الأراضي الزراعية تسبب بخسارة مساحات كبيرة منها وخروجها عن الزراعة، “ما ادى إلى هجرة آلاف المزارعين وهجر مناطق سكناهم خصوصاً في قرى قضاء عفك وآل بدير”.
وتشكّل الأراضي العراقية الصالحة للزراعة نحو 17 بالمئة من مساحة العراق، وهي نسبة جيدة مقارنة بكثير من دول في المنطقة، بحسب مركز البيان للدراسات والتخطيط.
أم أنور على “التريكتر” في قريتها.. تصوير الكاتب
رغم ذلك، فإن مساهمة قطاع الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز في أفضل حالاته أكثر من 5 بالمئة، وفق أرقام الجهاز المركزي للإحصاء.
وفي ظل الاعتماد شبه الكلي على النفط، والذي يسبّب آثاراً بيئية عميقة على البيئة، لا تضع الحكومات المتعاقبة التطوير الزراعي على رأس أولوياتها، كما يشيع الفساد في المؤسسات المسؤولة عن الزراعة، ما يجعل الأزمات تتفاقم.
انتشار الفكرة بين مزارعي القرية
لكن نضال نبوش خزعل ما تزال تعمل في بيئة تواجه تهديدات وجودية، أهمها شحّ المياه، لكنها كانت إحدى الفلاحات الماهرات بمواجهة تحدّيات تغيّر المناخ.
وعلى الرغم من قرب أرضها من قناة مياه “مشروع الثريمة”، إلا أن أم أنور لا تستخدمها في السقي -إلا ما ندر وحسب الوفرة المائية-، إذ يمنع استخدام القناة في السقي بسبب النقص الحاد في كميات مياهها، فضلاً عن تخصيصها للاستخدام المنزلي بعد مرور الماء بمحطات الإسالة.
اعتمدت أم أنور، بدلاً من ذلك، على مياه الآبار في عملية السقي.
بالإضافة إلى ذلك، شقّت حفرة كبيرة إلى جانب أرضها الزراعية بطول 10 أمتار وعرض 6 وبعمق 7 أمتار تقريباً.
داخل الحفرة، تلقي خزعل السماد الحيواني من مخلفات الأغنام والماعز، ثم تملأها بالمياه حتى تُغمَر بشكلٍ كاملٍ، وتقوم يومياً بإزالة الطبقة السطحية بما يطفو من بذور وفتات النباتات غير المهضومة والمخلفات الأخرى، حتى لا تنبت مرة أخرى بعد تسميد النباتات.
“الأرض التي أقوم بتسميدها باستخدام السماد الحيواني تحافظ على السماد في الأرض للموسم القادم، حيث لا تستهلك سوى سمادا قليلا مرة أخرى، وتبقى الأرض هشة وجيدة للإنبات، وتجد الجذور تربة مناسبة للاختراق، كما يساعد في تهوية التربة”.
بعد غمر المخلفات العضوية بالمياه (التخمر) وجفاف الحفرة بعد مرور 7- 8 أيام، تعمل أم أنور على نقلها ونشرها خارج الحفرة لتجف تحت أشعة الشمس، وبهذا تكون المخلفات قد جهزت للتسميد.
ولتسميد النباتات، تضع السماد في السواقي قبل الري بالمياه أو تنشره على التربة مباشرة لتغطي جميع المساحة، وكل عملية تسميد تغطي مساحة 7 دوانم في حال كانت النباتات كالخيار والباذنجان والطماطم واللوبيا والباميا والبطيخ والرقي.
أما في الجت والبرسيم، فتغطي كمية السماد المحضّرة في الحفرة مساحة 4 دوانم.
تقوم أم أنور بتسميد الأرض مرة قبل عملية الإنبات، ومرة ثانية بعد أن يصل طول النبات 7 سم تقريباً، وفي هذه العملية، تستخدم مخلفات الدواجن أحياناً، حيث تتم معاملتها، هي الأخرى، قبل استخدامها.
تقوم أم أنور بوضع مخلفات الدواجن في أكياس الطحين الفارغة أو أكياس من القماش، وتُحكِم إغلاقها ثم تنقعها بشكل يومي ولمدة لا تزيد على أربعة أيام، وذلك للتخلص من “اليوريا” خوفاً من تأثيرها على النباتات، كما تساهم هذه العملية بإطلاق البكتيريا اللاهوائية.
وفق صفاء محمد علي، مدير زراعة الديوانية، فإن السماد الحيواني المجهز يتميز بكونه ذات عناصر قابلة للامتصاص وبكفاءة عالية، تتجاوز الأسمدة الكيماوية، كما تسهم في زيادة هشاشة التربة وزيادة الاستفادة منها بالإضافة إلى سهولة إنتاجها.
“الثمار الناتجة من التربة المسمدة بالسماد الحيواني تعتبر آمنة ولا تسبب أي أمراض”.
تجربة أم أنور.. تتسع
تشجع مزارعو قرية آل خشم في أطراف قضاء عفك على حذو طريق أم أنور، وامتد استخدام السماد الحيواني إلى القرى المجاورة، وبدأ بعض المزارعين يحققون إنتاجاً أفضل، ويوفرون أموالاً على أنفسهم.
كان أبو سجاد، وهو أحد مزارعي القرية، واحداً من هؤلاء، إذ لاحظ زيادة إنبات المحاصيل وزيادة الإنتاج لدى أم أنور. “قمت بتطبيق الفكرة نفسها بعد مساعدة أم أنور في عملية تحضير السماد العضوي قبل استخدامه”.
حقق المزارع إنتاجاً جيداً في زراعة الجت والبرسيم، كما وفر مبالغ شراء الأسمدة الكيماوية الصناعية، إضافة إلى أن السماد العضوي دام للموسم التالي، وجعل التربة أقوى، وفق أبي سجاد.
فائدة الأسمدة العضوية
تحملُ الأسمدة الحاوية بصورةٍ كليةٍ أو جزئية مواد عضوية مغذية للتربةِ، وتعدّ المكوّن الرئيس الواجب توفره في التربة لضمان ديمومة عطائها للنبات في جميع مراحل نموه، وفي الوقت نفسه، لا تشكل هذه الأسمدة خطورة على البيئة مستقبلاً مقارنة بالأسمدة الكيميائية.
وتوفّر عملية تخمر الأسمدة العضوية (الحيوانية) النيتروجين والعناصر الضرورية للنبات، كما توفر الأسمدة العضوية العديد من العناصر المغذية الضرورية للنبات والفسفور والبوتاسيوم والكالسيوم وعناصر أخرى.
ويزيد السماد العضوي من تهوية التربة، ويعمل على تدفئتها خلال فصل الشتاء وتزداد الارتباطات المعدنية ويتكون الدبال خلال عملية تحلل الأسمدة العضوية في التربة، وهذه الزيادة من شأنها تحسين الخصائص الفيزيائية والكيمائية لطبقة التربة المحروثة أو المحضرة.
نتيجة لهذه الفوائد، تقول مديرية زراعة الديوانية إنها تشجع المزارعين، وخاصة أصحاب الحيازة الصغيرة من الأراضي، بالاعتماد على استخدام السماد الحيواني.
جانب من مزرعة أم أنور.. تصوير الكاتب
ماذا جنت أم أنور؟
إنتاج أم أنور المتصاعد، دفعها إلى استخدام الأرباح في تطوير المكننة الزراعية، واستخدام البيوت البلاستيكية للموسم القادم، التي حصلت على اثنين منها بطول 50 مترا، من مديرية زراعة الديوانية.
كما أدى تحسن الحالة المادية لخزعل إلى التبرع بفتح بيتها كمدرسة لمحو الامية لـ”تعليم الكبار”، وذلك بالتنسيق مع قسم الإرشاد الزراعي ومديرية التربية في الديوانية – قسم محو الأمية.
وفي صفوف المدرسة، تدرس 75 طالبة، كما أسست ورشة خياطة للنساء المتعلمات طوال فترة الدراسة.
“أم أنور قدمت ما لم يقم به أي شخص أو حتى جهة حكومية من قبل”، قالت أم محمد، إحدى النساء المستفيدات من برنامج تعليم الكبار (محو الأمية).
الأضرار الجانبية
على الرغم من فوائد استخدام السماد الحيواني، إلا أن ثمة مشاكل ظهرت خلال العمل. فالحبوب داخل الفضلات يمكن أن تنمو خلال عملية التسميد، إذا لم تفصل بصورة صحيحة أثناء عملية التخمير، كما يسبب السماد الحيواني من مخلفات الدواجن الموت للمزروعات إذا لم يُغسل بصورة جيدة، وتزال منه اليوريا وغيرها من المواد المضرة.
حسب كريمة الطائي، رئيس منظمة الواحة الخضراء، فإن هذا النوع من التسميد يحتاج إلى جهد من الفلاح في عملية التحضير وفي عملية التسميد، لكونه يعامل باليد دون استخدام المكائن، كما أنه يتلاءم فقط مع زراعة المساحات الصغيرة، وخاصة الرقي والبطيخ.
لكن ليست عمليّة التسميد الشاقة وحدها هي التحدّي أمام أم أنور، فالتحديات المناخية تؤثر على كمية ونوعية الخضراوات مثل الباذنجان والباميا واللوبيا.
فهناك سلسلة من المشاكل تقلل من زيادة الإنتاج، وعلى رأسها ارتفاع درجات الحرارة وشح المياه العذبة وملوحة مياه الآبار، فضلاً عن الفطريات والأمراض التي تصيب النباتات.
رغم ذلك، تطمح أم أنور لاستخدام الآليات الحديثة في المجال الزراعي لمواجهة الظروف البيئية القاسية، إذ تود أن تحقق وفرة مالية توسع من خلالها الأراضي الزراعية، وتزيد أعداد المواشي والدواجن، كما تعتزم استخدام أنواع جديدة من النباتات المنتجة التي يمكن أن تنجح في زراعتها.
وفي الموسم الزراعي القادم، ستتحقّق بعض من طموحات أم أنور بإدخال البيوت البلاستكية والمكننة الحديثة في الزراعة.
* تم إنتاج هذا التقرير ضمن إطار مشروع أصواتنا المنفذ من قبل منظمة انترنيوز، وينشر بالشراكة مع “نيريج“
المزيد عن تقارير سردیة
تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":21257}" data-page="1" data-max-pages="1">