سجاد حسين/ 07 نوفمبر تشرين الأول 2023:
في اليوم الذي أعلنت فيه الحكومة إكمال تدريب 180 ألف شخص مسجل في مبادرة “ريادة” واستعداداهم للتقديم والحصول على قروض لإنشاء مشاريع صغيرة، أطلقت وزارة الداخلية استمارة التعيين بصفة عقد لـ37 ألف درجة وظيفية.. خطان وعران للعمل في صورة جديدة للفقر ووزارته..
تتآصر آلاف العناصر المباشرة وغير المباشرة لتصنع من العراق حالة خاصة تستدعي التأمل والدراسة، ففي هذه البقعة الجغرافية غالباً ما تفقد تعريفات الأشياء والمفاهيم مضامينها الرئيسة، لصالح معانٍ هجينة تؤشر لهذا البلد دون سواه.
أحد أكثر الأوصاف التي يصف بها الشعب العراقي نفسه هو “الفقر”، الأمر الذي ادّعت جميع الحكومات المتعاقبة منذ 2003 مكافحته، فهل الشعب فقير بالدرجة التي يدّعيها أبناؤه وتستدعي خطابات الحكومات وتسويقها؟ وهل نجحت الحكومات بتحجيم الفقر وتجفيف منابعه كالبطالة والجهل والفساد والاتّكالية وغيرها من العوامل الفردية والجماعية؟
التحوّلات الكاسرة
بعد الحصار الذي طوّق العراق بسبب احتلاله الكويت عام 1991، عاشت أغلبية الشعب 12 سنة من الفقر والعوز اللذين امتدّا إلى أحلامهم وطموحاتهم، لتستمر الآثار، في من عاشه ومن عقبهم، حتى اليوم.
خلقت التغييرات الاجتماعية التي ولدها فقر الحصار-بالإضافة لنتائجه الكارثية المباشرة- طباعاً جديدة لدى العراقيين توارثتها الأجيال، فصار العراقي إنساناً خائفاً من الغد ويطمح لدفع أيام حياته واحداً تلو الآخر بأيّ طريقة وأقل مجهود، كما أصبح إنساناً يخاف المجازفة على المستوى الاقتصادي لتطوير الذات وتحسين الدخل فصار أقصى طموحه وظيفةً حكومية وراتباً تقاعدياً يضمن ويخفّف من مشاكل مرحلة الكهولة، وبسبب ضعف السلطات وقصور رؤيتها السياسية والاقتصادية، ترهّلت الدولة بالموظفين فخُلقت بطالة مقنّعة بأكثر من 4.5 مليون موظف، معدلُ العمل الفعلي لكل واحد منهم في اليوم الواحد، لا يتجاوز الـ17 دقيقة فقط.
بين حين وآخر تتظاهر شرائح واسعة من المجتمع وتطالب الحكومة بتوظيفها، مع خمول القطاع الخاص وقلة فرصه وانعدام أمانه، وتعمل شرائح أوسع للحصول على أيّ مكسبٍ ممكن من الدولة كالمطالبين بشمولهم برواتب الرعاية الاجتماعية، ويرجع السبب المباشر لهذه المطالبات إلى عنصرين رئيسيين: عدم قيام السلطات بأيّةِ خطوات جدية لدعم القطاع الخاص أو تقنين العمل فيه وتحسين بيئته. أما ثانيهما فيتمثل بانتشار حالة الاتّكالية (المبررة في كثير من الأحيان) بين الفئات القادرة على العمل، فأصبح حتى القادر على العمل الحُر ينتظر وظيفة من الدولة تؤمّن له طموحاته الاقتصادية المحدودة، وتبعد عنه شبح المغامرة في سوق عمل لا يسير وفق منهجيات منظمة، ما فاقم البطالة ونوّع أشكالها وضاعف سلبياتها المجتمعية.
البطالة.. الصورة الأولى للفقر
بسبب البطالة، تتراجع القدرة الشرائية فيقل الطلب، ما يدفع المنتجين لتقليص حجم الإنتاج، فيصبح الاستغناء عن عدد من العمال وسيلة حفاظ على الربح المتوفر أو تقليل خسائر، حينها تنمو البطالة أكثر، وهكذا… وتؤدي هذه الحلقة لهبوط الدخل القومي والانكماش الاقتصادي، وانتشار الفقر الحقيقي أو الشعوري لدى المواطنين. فضلا عن إن البطالة تعتبر من الآفات الاجتماعية الخطيرة التي قد تؤدي لنتائج أخرى كمنع الأطفال من الالتحاق بالمدارس وتشغيلهم سعياً وراء الأجر، أو الانخراط في أعمال جرمية.
بلغت نسبة البطالة في العراق عام 2022 نحو 15.55 بالمئة من إجمالي عدد السكان، بحسب إحصائية للبنك الدولي، فيما بلغت ذروتها خلال العقد الأخير عام 2020 تزامناً مع جائحة كورونا وصولاً لنحو 16.23 بالمئة. وبالعودة لتاريخها في العراق، وبحسب الإحصائيات الرسمية، فقد بلغت النسبة في عام 1977 نحو 3.2 بالمئة فقط، فيما ارتفعت إلى 4.5 بالمئة في عام 1987، وفي عام 1997 وبعد مرور أكثر من 5 سنوات على الحصار المدقع بلغت نسبة البطالة أكثر من 17 بالمئة وهي ثاني أعلى نسبة يصل إليها العراق في تاريخه، حيث يتصدر عام 2003 القائمة بنسبة بطالة بلغت أكثر من 30 بالمئة.
يتفق المجتمع والحكومات المتعاقبة على أن البطالة آفة وسبب مباشر لاتساع رقعة الفقر، لكن المجتمع يلقي بكلّ اللوم على الحكومات، والتي تحاول واحدة تلو الأخرى، تبرئة نفسها ملقيةً باللوم على عوامل عالمية أو خارجة عن إرادتها.
تناقضات تكررت فأصبحت بديهية
في العراق، من الطبيعي أن تصادف شخصاً يعيش في بيت “تجاوز”-عشوائيات- شيّده بأرخص موادّ البناء وأكثرها خطورة، بانتظار قرار حكومي يملّكه الأرض التي استولى وبنى عليها، بينما يركن سيارته الـ”تاهو”-شوفرليه رباعية الدفع- التي يزيد سعرها على 60 ألف دولار، أمام المنزل.
ومن الطبيعي أيضاً أن امرأة، تمتلك عائلتُها تجارةً ضخمة تدر عشرات الملايين، بينما هي مسجلة في شبكة الحماية الاجتماعية وتتلقّى راتباً شهرياً من الدولة فقط لأنها مطلقة قبل 30 عاماً. أو أخرى متزوجة زواجاً ثانياً بعقدٍ شرعي فقط-عقد شيخ- دون تصديقه في المحكمة كي لا تخسر راتب الرعاية الممنوح لها كمطلقة من زوجها الأول، أو الراتب التقاعدي الموروث عن والدها المتوفى. ولن يكون غريباً، أن تمرّ بشاب في كامل قواه الجسدية وامرأة حسنة المظهر، وآخرين، يمكنهم جميعاً العمل في مختلف المجالات، لكنّهم قرّروا (أو اضطروا) للتسوّل في تقاطعات المدن.
هذه الأمثلة وغيرها لأشخاص يدّعون الفقر أو مصنفون رسمياً تحت خطّه، تسبّب ارتباكاً إحصائياً يصعّب عملية حصر تلك الفئات ودراستها ومعرفة حقيقة ما عليه المجتمع في بلد، آخرُ تعدادٍ رسمي لسكانه كان عام 1987، ولا تمتلك مؤسسات الدولة فيه معايير واضحة أو منطقية لتصنيف الفقراء، فمثلاً عامل الخدمة الموظف الذي يتقاضى نحو 300 ألف دينار شهرياً-حوالي 200 دولار- لا تعتبره الدولة فقيراً، فيما تمنح هذا التصنيف لعامل في الأسواق المحلية يتقاضى ضعفين وأكثر.
أكثر من مجرد أرقام
منتصف عام 2022 أعلنت الحكومة العراقية أن أكثر من 9 ملايين عراقي (نحو 25 بالمئة من عدد السكان) يقبعون تحت خط الفقر، وكشفت أن ثلثهم يستفيدون من المعونات التي تقدمها الدولة على شكل رواتب رعاية اجتماعية.
وبعد تولي أحمد الأسدي وزارة العمل في حكومة محمد شياع السوداني، فتحت الوزارة باب التقديم على رواتبها، وأعلنت في نيسان الماضي، أن عدد المُعينين المتفرغين لذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة بلغ نحو 225 ألف مستفيد، وأن أعداد المستفيدين من هيئة الحماية الاجتماعية تصل لأكثر من خمسة ملايين و200 ألف شخص، أي نحو مليون و400 ألف أسرة.
مع كل ذلك قالت الوزارة إن موازنة 2023 ستضيف لهيئة ذوي الإعاقة 150 ألف معين متفرغ جديد والتي ستؤدي إلى حصول قفزة عددية بتاريخ هيئة ذوي الإعاقة، وأن أعداد المستفيدين بهيئة الحماية ستضاف إليهم نحو 600 ألف أسرة.
وبالنظر لتصريحات الوزارة ووزيرها ومسؤوليها فإن العدد الكلي للمستفيدين سيصل بحلول نهاية عام 2023 إلى نحو 7.5 ملايين مستفيد، وبالعودة لموازنة الحكومة الثلاثية فإن تخصيصات الرعاية الاجتماعية في عام 2021 بلغت 19.6 ترليون دينار، فيما ارتفعت إلى 28 ترليون دينار في العام الحالي، بمقدار زيادة بلغ 8.4 ترليون دينار.
وتشمل الرعاية الاجتماعية 3 جهات وهي: وزارة التجارة (من 0.8 إلى 4.7 ترليون دينار)، وزارة المالية “النشاط العام للدولة” (من 13.5 إلى 16.2 ترليون دينار)، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية (من 4 إلى 5.5 ترليون دينار).
تجدر الإشارة إلى أن وزارة العمل وبالتزامن مع استقبالها أعداداً جديدة من المستحقين لرواتب الرعاية الاجتماعية، بدأت حملات مراجعة وتدقيق وتقاطع بيانات كشفت خلالها عشرات الآلاف من المتجاوزين على الشبكة من قبل غير المستحقين، منهم موظفو دولة. ومن أجل جردٍ شامل لغير المستحقين، تحتاج الوزارة وأجهزة الدولة لجاناً وعملاً وآليات أكثر فاعلية على هذا الملف، مع ضرورة توفر الحماية من الفساد وحيتانه.
محاولات خجولة لوزارة العمل
بسبب كثرة تداول تصريحات وأخبار رواتب الرعاية الاجتماعية، أصبحت الصورة الذهنية لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية في عقول المواطنين بأنها تلك الوزارة التي تمنح الرواتب بدون مقابل، وفي الحقيقة لم تَسْعَ الوزارة بشكل جاد لمحو هذا التصور وتذكير الناس بدورها الفعلي ومهامها الطبيعية، بل استثمر الوزراء المتعاقبون في هذه الصورة، في وقت تعمل فروع أخرى من الوزارة على دعم المواطنين وخصوصاً شريحة الشباب بعدة طرق غير الرواتب، فمثلا توفر وزارة العمل مجموعة متنوعة من الأدوات التدريبية لمساعدة الباحثين عن عمل على تطوير مهاراتهم وقدراتهم وزيادة فرصهم في الحصول على عمل.
وتتضمن هذه الأدوات التدريبية دورات التدريب المهني وتتمثل بمجموعة متنوعة من الدورات في مجالات مختلفة، مثل تكنولوجيا المعلومات والهندسة والصحة والبناء والخياطة والطاقة والإدارة، وتتراوح مدة هذه الدورات من بضعة أسابيع إلى عدة أشهر.
كما وفرت في فترات متقطعة قروضاً تتراوح بين 5 و 8 ملايين دينار للمسجلين في قواعد بيانها ليتمكنوا من إنشاء مشاريع صغيرة تساعدهم بالاعتماد على أنفسهم وعدم انتظار رواتب الرعاية.
أما خلال الفترة الحالية فقد أطلقت وزارة العمل منصة “مهن” المعنية بتشغيل الشباب والتي تقول الوزارة إنها التجربة الأولى في العراق لربط أصحاب العمل بالباحثين عنه، كما أطلقت قروضاً جديدة بمبالغ 20 و30 و50 مليوناً للراغبين بإنشاء مشاريع شريطة أن يتم تشغيل الباحثين عن العمل المسجلين في كل مشروع حسب المبالغ المقدمة.
الفاعلية الصفرية
تفتقر الجهود المبذولة من قبل الوزارة للفاعلية والتنظيم، فمثلا يصعب على المواطنين الحصول على القروض بسبب شرط الكفيل الذي أصبح أكثر تعقيداً من ذي قبل، وكذلك لا تواكبُ الكثيرُ من دورات الوزارة الأساليبَ والأدواتِ الحديثة فيتخرج المتدرب منها، في أغلب الأحيان، كما دخلها. وبالتوازي، يستشري الفساد في دوائرها ويتشعب ويمتلك سماسرته أذرعاً وجذوراً قوية وممتدة، تحول دون أيّةِ محاولة للإصلاح أو التطوير أو تطبيق معايير العدالة الاجتماعية.
ومن أوجه الفساد أن كشفت الوزارة، ضمن ما تستطيع كشفه عن وجود أكثر من 175 ألف موظف حكومي متجاوز على رواتب شبكة الحماية الاجتماعية، بما في ذلك موظفون في الوزارة نفسها، فاستُبعِدَ بعضهم، ولكنّ البعض الآخر ما زال يتلقى رواتب حتى الآن. فضلا عن تزوير وثائق للحصول على رواتب شبكة الحماية الاجتماعية، حيث تم الكشف عن العديد من الحالات التي زوّر فيها أفراد وثائق للحصول على رواتب شبكة الحماية الاجتماعية كشهادات وفاة، وشهادات إعاقة، ووثائق الزواج، بالإضافة إلى اختلاس أموال الشبكة من قبل مسؤولين في الوزارة وقد تم إحالة العديد من هؤلاء المسؤولين إلى القضاء.
وفي مفارقة ملفتة حدثت بشكل متزامن خلال شهر أيار الماضي، ففي اليوم الذي أعلنت الحكومة العراقية إكمال تدريب 180 ألف شخص مسجل في مبادرة “ريادة” واستعداداهم للتقديم والحصول على قروض لإنشاء مشاريع صغيرة، أطلقت وزارة الداخلية استمارة التعيين بصفة عقد لـ37 ألف درجة وظيفية، وخلال 48 ساعة فقط من إطلاق الاستمارة زار موقع التقديم نحو 15 مليون، اغلبهم للتقديم والحصول على التعيين.
يتضح من خلال هذه المفارقة التوجه العراقي العام، حيث زار موقع وزارة الداخلية أكثر من 35 بالمئة من المجتمع العراقي، فيما تدرب نحو 0.5 بالمئة منهم فقط ليتمكنوا من الحصول على قروض حكومية وإنشاء مشاريع خاصة.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”
المزيد عن تقارير سردیة
تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":21236}" data-page="1" data-max-pages="1">