ينزحون عن موطنهم بحثا عن المياه .. سكان الأهوار في بلاد ما بين النهرين يواجهون خطراً وجودياً
نزوح مستمر لسكان أهوار ذي قار شمالا وجنوبا بحثاً عن المياه
نزوح مستمر لسكان أهوار ذي قار شمالا وجنوبا بحثاً عن المياه
مرتضى الحدود/ ذي قار:
بعد أن قضى الجفاف على ثمانية من جواميسه، أضطر حيدر الموسوي (28 سنة) مطلع آب/أغسطس 2023، إلى الرحيل مع زوجته وطفليهما عن منطقة سكناهم الأصلية في “ايشان أبو نسلة” وهي عبارة عن جزر صغيرة داخل اهوار الجبايش شرق الناصرية مركز محافظة ذي قار، إلى منطقة العدل القريبة من مدينة العمارة، ذات البيئة المختلفة.
يقول بأن منطقته الجديدة التي تتغذى من نهر العز، متأثرة أيضا بنحو عام بالجفاف الذي يضرب الأهوار الجنوبية في العراق والذي دفع الكثير من سكانها للهجرة إلى أماكن في اعالي الأنهار بالمناطق المحادة لمدينتي الكوت والعمارة، في محاولة لإدامة بعض أسلوب حياتهم الممتد لآلاف السنين في بلاد الرافدين او التوجه نحو المدن والانخراط في حياة جديدة.
يأمل الموسوي الاستقرار في موطنه الجديد “لم يتبق لدينا سوى ستة جواميس، هي مصدر معيشتنا الوحيد، فنحن نعتمد علي بيع حليبها، ربما يكون هنا الحال أفضل”، لكنه لا يستبعد أن يقوم ببيع عدد جواميسه لضمان معيشة عائلته إذا استمرت موجة الجفاف “قد ابيع واحدة أو اثنتين، وأبدل الأخرى بأصغر منها لأستفيد من فرق السعر، لأن ذلك أفضل من نفوقها” يقول بامتعاض.
ابن عمه حمزه (30 سنة) حدث له ذات الشيء، إذ فقد سبعاً من جواميسه، ولم يبق لديه سوى خمس فقط، وهو يفتش الآن مع أفراد عائلته عن مكان تتوافر فيه المياه ليستطيعوا المكوث فيه أطول فترة ممكنة بما يؤمن الطعام والبيئة المناسبة لجواميسه، مصدر رزقه الوحيد.
حيدر وحمزة، من بين آلاف الأشخاص الذين سجل ديوان محافظة ذي قار تغييرهم لأماكن سكناهم بسبب نقص المياه، مقدرا في إحصائيات خاصة به، أعداد العائلات المرتحلة للسنوات 2021 و 2022 و 2023 بأكثر من 1400 عائلة، بمعدل يتراوح بين عائلة إلى اثنتين يومياً، تغادر الأهوار بحثا عن مكان يناسبها ويلائم معيشتها.
وهو ما ينعكس سلبا وبنحو مدمر، وفق مسؤولين محليين على الواقع الديموغرافي للأهوار، وبالتالي على الوضع الاقتصادي في المحافظة ولاسيما المتعلق منها بالثروة الحيوانية والفرص السياحية.
والاهوار هي عبارة عن مسطحات مائية موغلة في القدم، تضم العديد من أقدم المواقع الاثارية العالمية، لذلك فهي منطقة جذب للسياح. يعيش فيها وفقاً للمتخصص في علم الجغرافيا حسين الزيادي 340 ألف نسمة، يعتمدون في معيشتهم على تربية الجاموس بالدرجة الاولى كمورد اقتصادي بالاستفادة من حليبها، فضلاً عن صيد الطيور والاسماك، ويعتمدون كذلك على القصب والبردي اللذين يكثر نموهما هناك، إذ يدخلان في صناعة الحصيرة القصبية والبيوت المسماة (المضيف).
وتتجاوز مساحة اهوار ذي قار الـ 5000 كيلو متر، وهي متصلة بأهوار البصرة وميسان وتبلغ المساحة الصالحة للزراعة في المناطق الاهوارية بنحو عام 640 الف دونم.
تغير مناخي حاد
يؤكد د. محسن عزيزي، مدير بيئة ذي قار على أن نزوح السكان المحليين له تأثير مباشر على طبيعة المنطقة من الناحية الاجتماعية والبيئية، “هم سكان المنطقة الأصليون ووجودهم في المكان يمنحه ميزته وهي العيش بذات الاسلوب القديم كما ويفعل الحركة السياحية، وغيابهم يعني افتقاد الأهوار لركن أساسي من أركانها التي عرف بها على مدى عشرات الأجيال”.
ويستبعد عزيز، أن يتسبب الجفاف بخروج الأهوار من لائحة التراث العالمي، ويوضح: “هنالك قوة قاهرة لا دخل مباشر للإنسان فيها، وهي التغير المناخي”. وذكر بأن الحكومة العراقية تبحث باستمرار مع كل من تركيا وإيران، الأولى منبع نهري دجلة والفرات، والثانية تنبع منها العديد من الأنهر والجداول الفرعية التي تصب في الأهوار “للحصول على حصص مائية كافية لعموم البلاد وحصة مقررة خاصة بالأهوار”.
أما عدنان الموسوي، مدير مركز انعاش الاهوار التابع لوزارة الموارد المائية، فأكد بأن نقص المياه في الاهوار، فضلاً عن ترك آثار كبيرة على السكان، يؤثر بنحو واضح على التنوع الاحيائي الفريد الذي تمتاز به المنطقة وستخسر غطائها النباتي الذي عرفت به.
ولفت إلى أن وزارة الموارد المائية، تقوم بإجراءات عملية للحفاظ على الأهوار، من خلال كري الأنهار التي تغذيها بنحو مستمر للسماح بوصول المياه اليها “اذ يتغذى هور الحويزة الواقع بين محافظتي ميسان والبصرة على سبيل المثال، من القنوات المائية المنحدرة من دجلة عبر مدينة العمارة، أما الاهوار الوسطى فتتغذى من نهر الفرات، وكذلك من قنوات مائية من نهر دجلة أيضا، اما هور ابو زرك، الواقع شرقي الناصرية، فيتغذى من قناة نهر شط ابو لحية الذي يحصل على مياهه من نهر الغراف المتفرع من دجلة” يقول الموسوي موضحاً.
الخبير المائي في منظمة طبيعة العراق جاسم الأسدي، يُذكِر بأن الأهوار في محافظة ذي قار، تعرضت لمواسم جفاف حادة بعد عام 2003 بفعل آثار التغير المناخي وكانت أوجها بين عامي 2015 و 2018 وما تلى 2020 ولغاية الآن.
ويقول بأن المساحة التي كان مقرراً اغمارُها ما بعد 2003 بلغت 5560 كيلو متراً مربعاً، لكن ذلك لم يحدث بسبب النقص الحاد في المياه، باستثناء عام 2019، إذ تم إغمار 80% من تلك المساحة، نتيجة الموسم المطري الغزير في تلك السنة. ويستدرك:”لكن لم يتبق من هذه المساحة المغمورة الآن سوى نسبة قليلة لا تتجاوز الـ 10%”.
انخفاض في منسوب الأنهر
وكانت محافظة ذي قار، قد سجلت في عامي 2020 -2021 معدلات مطرية منخفضة جداً بحسب مدير الانواء الجوية في الناصرية علي طارق، اذ بلغ اجمالي الكميات في هذين العامين 31 ملم، وهي كمية قليلة جدا لم تسجلها المحافظة منذ خمسين عاما، حسبما ذكر.
ويقول بأن المعدلات المطرية تغيرت في عامي 2022 – 2023، فقد ارتفعت سبعة أضعاف ما كانت عليه قبل ذلك. ويتابع :”لكنها لا تكفي لتعويض الجفاف الذي حصل في الارض على مدى السنوات الماضية”.
الناشط البيئي أياد الأسدي، قال بأنه يتابع باستمرار نسب انخفاض وارتفاع مياه نهر الفرات وما يدخل منها لأهوار الجبايش، ويؤكد بأن هذا المسطح المائي الطبيعي، فقد 25 سنتمتراً خلال حزيران/يونيو2023، إذ بلغ منسوبه 63 سم، بعد أن كان يبلغ 88 سم، ويضيف:”هذا الانخفاض استمر بشكل يومي في شهري تموز وآب مما تسبب بارتفاع نسب الملوحة والتراكيز الأخرى في المياه”.
حسين عبد، الذي كان يسكن ايشان الكبة، بدء قبل أيام رحلة النزوح مع أفراد عائلته مصطحبين معهم جواميسهم الخمسة عشر. يقول بأنهم سيتوجهون نحو قضاء الحسينية في مدينة الكوت: “يوجد هناك مسطح مائي، لجواميسي، سيساعدنا ذلك على البقاء والاستقرار لحين عودة الأهوار إلى عهدها السابق وفيرة المياه كما عرفناها وعرفها أجدادنا”.
حلول مؤجلة
الحكومة المحلية في ذي قار، تعرف جيداً بأن بقاء معظم سكان الأهوار مرهون بما يمتلكونه من جواميس، فإذا فقدوها بسبب قلة المياه أو كانوا مهددين بذلك، سيتخذون طريق النزوح بحثاً عن المياه في أماكن أخرى، وذلك لأنهم لايجيدون عملاً آخر غير تربية الجواميس.
لذلك، يكشف معاون المحافظ فيصل الشريفي، عن حلول قال بأنها يمكن أن تسهم في استقرار العائلات المتبقية وثنيها عن قرار النزوح، ويوضح:”نعمل مع البنك الدولي على مبادرة ستنطلق قريباً، لتدريب اكثر من 2000 رب أسرة من الرجال والنساء، لتعلم مهن مختلفة تكون ملائمة لأجواء الأهوار، كصيانة الزوارق والمحركات وغيرها، ويمنح كل شخص بعد إتمام الدورة، قرضا ماليا للبدء بمشروعه الخاص”، ويرى بأن من شأن ذلك التخفيف كثيراً عن كواهلهم، ويدفعهم للصمود لفترة أطول قبل اتخاذ قرار النزوح كلياً.
البعض من سكان الأهوار لا يجد في المبادرة حلاً لمشكلتهم، لأن الأمر كله متعلق بالمياه، ونقصها يؤثر على مجمل فعالياتهم الحياتية بما فيه عمل صانعي الزوارق، لذلك فلن تكون هنالك قيمة لصيانة الزوارق ومحركاتها مادامت ستركن دون استخدام لعدم وجود المياه، وفقاً لما يقولون.
فصانعو الزوارق أنفسهم هناك يفكرون بالبحث عن مهن أخرى، تنجيهم من شبح الفقر المدقع. سلام حسين كَنطار البالغ من العمر 36 سنة وهو صانع زوارق في هور الجبايش، واحد من هؤلاء الذين يبحثون عن عمل. هو تعلم مهنة صناعتها من والده الذي كان قد ورثها بدوره عن جده.
يقول بحزن بالغ:”الجفاف سيضطرني إلى ترك مهنة اجدادي، فأنا كنت قبل سنوات انتج العديد من الزوارق بالطرق التقليدية، وأبيعها في الأهوار، أما اليوم لم أعد انتج سوى القليل فقط، وأكثرها يشتريها زبائن من خارج الأهوار!”.
لكن رمضان حمزة، خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية ومدير معهد استراتيجيات المياه والطاقة في إقليم كردستان العراق، يرى ان الحل النهائي يكمن في “الاستغلال الأمثل” لكل قطرة مياه تسقط او تصل البلاد من تركيا وإيران التي تتحكم بالمياه وفق مصالحها ولا يمكن توقع حسم خلافات الحصص المائية معهم خاصة مع التوقعات باستمرار مواسم الجفاف نتيجة التغيرات المناخية.
ويشدد حمزة على ضرورة تأهيل منخفض الثرثار الذي يستوعب خزين استراتيجي يصل الى نحو 80 مليار متر مكعب من المياه الصالحة للزراعة، وذلك من خلال عزل الطبقات الجبسية التي تتسبب في ملوحة المياه، واعتماد سياسة حصاد وتجميع مياه الأمطار والسيول وتصريف متقن للمياه باستخدام التقنيات الحديثة في الري بالشكل الذي يساهم في استدامة الزراعة على طول حوضي دجلة والفرات، فضلا عن وصول الكميات الكافية من المياه الى الأهوار في جنوب البلاد لضمان ادامة حياة السكان في جزء منها على الأقل، وبالتالي حفظ ذلك التراث الانساني المهدد بالفناء.
* انجز التحقيق ضمن مشروع “الصحافة البيئية” بدعم من منظمة “انترنيوز” وتحت اشراف شبكة “نيريج”