تحليل: “الجدال بالحرب”.. المعركة المؤجلة بين الصدر وخصومه 

“الجدال بالحرب”.. المعركة المؤجلة بين الصدر وخصومه 

علي خنجر/ أغسطس 2023:

يتفق الإطاريون على أن في عزل مقتدى الصدر ونزع مخالبه، مصلحةً لمشاريعهم ومن ثم مشروع طهران؛ لكنّ اختلاف إيقاع ولغة النقد للصدر عند جماعة إطارية، عن جماعة أخرى، يشي باختلافهم حول كيفيات وحدود هذا العزل.. لكن كيف يتعامل الصدر مع مشاريع العزل؟ وأي حرب يخوضها الطرفان؟ عن المعركة المؤجلة بين الصدر وخصومه.

مساء ١٥ تموز، هاجم “صدريّون” نحو 20 مقراً لحزب الدعوة الإسلامية وحلفائه في 10 محافظات عراقية. أَحرقوا صور نوري المالكي، الأمين العام للحزب ورئيس الوزراء الأسبق، وأغلقوا بعضها، وأطلقوا رصاص أسلحة متوسطة وحتى صواريخ RPG المضادة للدروع على بعض آخر.

كان وقودَ ذلك كلّه، منشورٌ في تطبيق تيلغرام لحسن العذاري، القيادي في التيار الصدري والمقرب من زعيمه، هاجم فيه منتقدي المرجع الشيعي الراحل محمد صادق الصدر، والد مقتدى، متهماً حزب الدعوة “وجهات معارضة كانت في المنفى” بالترويج لعلاقة تربط الصدر الأب بحزب البعث قبل الاحتلال الأمريكي عام 2003. وطالب العذاري بسن قانون “يجرم اتهام السيد الصدر، والإساءة إليه بالشتم والسب والتعدي”.

على وقع الاقتحامات والرصاص والنار، نفى حزب الدعوة، في بيان، الإساءة للصدر، وطالب بـ”دليل” و”معرفة من الذي يسب ويشتم”، واصفاً الاعتداء على مقراته بأنه “غير مبرر قانونياً وشرعياً وسياسياً”. وأشار إلى قدرته على حماية مكاتبه والدفاع عن النفس.

كما دعا حزب الدعوة، البرلمان، إلى تشريع قانون “يرفض المساس بمراجع الدين العظام الشهداء منهم والأحياء انسجاماً مع الدستور”، حسب تعبير البيان.

ألحق المالكي بيان حزبه بآخر شخصي، نشره مكتبه، حذر فيه من “مخططات الأعداء ومحاولات خلط الأوراق”.

ظهر في صبيحة اليوم التالي، مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، برفقة مقرّبيه ومن بينهم العذاري، أمام أحد المقرّات التي طالها رصاص أنصاره في محافظة النجف، مقر لفصيل “أنصار الله الأوفياء” وهو أحد فصائل الحشد الشعبي، مطمئنّاً على سلامة من فيه، ونشر بعدها تغريدة على حسابه في تويتر، مستنكراً “الفتنة الشيعية-الشيعية” ومرحباً بدعوات سن قانون يجرم سب المراجع “بغض النظر عما يبتغونه من ذلك” وفق تعبيره.

قبل ذلك، كان حساب “صالح محمد العراقي”، المقرّب الآخر من الصدر، ردّ على بيان حزب الدعوة وشكر أعضاءه، مستثنياً زعيمه المالكي، كما اعتبر ما حصل “ثورة عاطفية”.

حصل هدوء في بعض المحافظات، لكن البصرة بقيت تترقّب صداماً، وأمنها توزّع على مقارّ الأحزاب ليلة 23 تموز لحمايتها من هجمات محتملة. وتكرّر الأمر مرّات عدّة، بعد تلك الليلة.

إساءات ليست جديدة

ليست الإساءة للصدرَين، مقتدى وأبيه، جديدة، ولا التشكيك بالمرجع المقتول في شباط 1999 بطارئ، لكنها لم تكن، خلال سنة من سنوات العراق الثلاثين الماضية، كما كانت خلال الأخيرة؛ دفعت لذلك حزمةُ متغيّرات: امتناع الصدر عن التوافق مع القوى السياسية القريبة من إيران “الإطار التنسيقي”، استقالات نوابه الـ73 من البرلمان، تسريبات المالكي الصوتية، اشتباكات المنطقة الخضراء، تنحي كاظم الحائري، مرجع الصدريين وتوجيهه مقلّديه بالتحوّل لتقليد علي خامنئي، المرشد الإيراني، وذلك ما نزع “الشرعية” من مقتدى الصدر.

ثم اعتزال الصدر المدوّي.

مذّاك، تحوّلت لغة أنصار “الإطار التنسيقي” واشتدّت، حتى صار لا يغيب التشكيك بمقتدى الصدر وتياره عن أيّ حديث للبعض المؤثّر منهم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

يتّضح، من السنة العجفاء، نهج ثلاثيّ هدفه الإجهاز على مقتدى الصدر معنوياً، وتياره -إن كان ممكناً- وقتل فرص عودته للتأثير في الحياة السياسية، وفي سياق مواز، يعمل أطراف الإطار التنسيقي على تضخيم مواطن قوتهم وترسيخ تمسكّهم بالسلطة ومفاصلها مستغلّين تحكمهم بمواردها وقرارها.

ينقسم الجهد الإطاري إلى إعلامي، وسياسي/ عسكري، وديني/ فقهي/ شرعي.

يتولّى الأوّلَ مجموعة مدونين وكُتّاب ومنصّات على مواقع التواصل الاجتماعي، مستعينين بجيش وهمي من الأنصار، وآخر من المتحمسين أو المنتفعين، لنشر رؤاهم وأفكارهم أو تغريداتهم.

ينشطر الخطاب، في صناعة الرأيّ العام العازل لمقتدى الصدر، إلى مستويات، أبسطها ذلك الذي يربط الفساد والفشل السياسي والخدماتي بحكومة مصطفى الكاظمي فقط، ويلحقها برعاية الصدر لها وسيطرته عليها. وأشرسُها الذي يدعو لاعتقال مقتدى الصدر ومحاكمته على حزمة من الاتهامات ويشكك بأهليته وشرعيته ووالده محمد صادق الصدر. وبين هذا وذاك، يتأرجح ثالث بين النقد السياسي والتشكيك الشرعيّ.

الإطاريون ومخالب الصدر

يتفق الإطاريون على أن في عزل مقتدى الصدر ونزع مخالبه، مصلحةً لمشاريعهم ومن ثم مشروع طهران؛ لكنّ اختلاف إيقاع ولغة النقد للصدر عند جماعة إطارية، عن جماعة أخرى، يشي باختلافهم حول كيفيات وحدود هذا العزل، فيتّخذ خطاب منصات بعض الفصائل شديدة الولاء والقرب من إيران وحرسها الثوري مثل “كتائب حزب الله” شكلاً أخفّ من أخرى، كفصيل “عصائب أهل الحق” الأكثر إيغالاً -مع حزب الدعوة/المالكي- بالنقد والتنكيل، ويمكن استقاء ذلك بمتابعة الفرق بين خطاب قناة “صابرين نيوز” -كتائب- على تطبيق تيلغرام، وقناة “الوحدة 505” -عصائب- على التطبيق ذاته، على الرغم من أن الكتلة البشرية للعصائب وحتى زعامته، من مقلّدي وأتباع الصدر الأب محمد محمد صادق.

سياسياً/ عسكرياً، ليس الأمر بيسير، وليس صعباً أيضاً العمل على تحييد الصدر، ففي سنة من سيطرة الإطار على السلطة، ازداد عدد منتسبي هيئة الحشد الشعبي، في أولى سنوات الموازنة المالية الثلاثية (2023-2024-2025) بنحو 95 بالمئة،  ليصبح 238 ألف منتسب، بعد أن كان 122 ألفاً، وهذا، مع التخصيصات، استثمار ضخم في البنية العسكرية لقوى الإطار، يقابله خمول صدري يجعل فصيل التيار المسلّح “سرايا السلام” متخلفاً بالمقارنة مع الآخرين.

وحملات الاستبدال في المناصب الإدارية التي هيمن عليها الصدر وتياره لعقود، دلالة واضحة على محاولة إبعاده عن دائرة السلطة.

أُبعد الصدريون عن مناصب كثيرة، وبعض منها حساس مثل المخابرات والأمن والداخلية، كما أبعد أحمد أبو رغيف، الجنرال الذي أبدى ولاء مطلقاً للصدريين، عن منصبه بفضيحة.

أدّت التغييرات التي أجرها السوداني في جهاز الأمن الوطني إلى خسارة الصدريين لنفوذهم في المؤسسة الأمنية المؤثرة.

وبحسب مصادر، فإن التيار الصدري يخوض حرب تمويل، إذ تشنّ حملة على منافذ التمويل المتاحة له في الوزارات والمؤسسات الحكومية، خاصة بعد أن خسر نفوذه في البنك المركزي بإقالة مصطفى مخيف من إدارته، وجلب علي العلاق بدلاً عنه.

وتلقى الصدر ضربة قانونية بإقالة أمير الكناني، الذي عمل مستشاراً قانونياً في رئاسة الجمهورية، والذي كان يُمرر القوانين كتابة وتشريعاً في توقيع الرئاسة عليه.

“ما نسجه الصدر في حكومة مصطفى الكاظمي، خسر 80 بالمئة منه في عهد السوداني”، قال مصدر مقرب من الإطار التنسيقي.

لا طمأنينة للإطار

لكن كل ذلك لا يُدخلُ الطمأنينة لقلب الإطار، الذي يدرك زعماؤه أن رصيد الصّدر الشعبي قد يعيده في أية لحظة لمكانة سياسية فاعلة، خاصة إذا عاد غطاؤه الشرعي لتزعم عمل سياسي.

في سياقات الأحداث وجذورها، والمرجعيات الشيعية ومحدداتها، يمكن اعتبار رسالة اعتزال المرجع الشيعي كاظم الحائري اغتيالاً سياسياً/ شرعياً لمقتدى الصدر، وإضعافاً لجسد التيار الصدري، لم يسبقه مثيل، صار بعده الصدر عارياً من مباركة مرجعه، ومن مرجعه حتى.

حام الصدر في تيه شرعي.

من ضمن ما فتحه الحائري، حين أغلق بابه أمام الصدر، كان باب التشكيك بشرعية الصدر وأهليته للزعامة، فخرجت لغة أشدّ، وحملات تبدو أنها فردية، تنكّل بقائد التيار، وبالتيار، وتلصق به كلّ ما يمكن أن يضعفه ويشوّه صورته -كحركة القربان وحركات مهدوية تعتقد أن الصدر هو المهدي-، وبوتيرة أخف قليلاً تستهدف والده وتشكّك بمرجعيته، فتتهمه بأنه “عميل بعثي”.

حرب مؤجلة

الحال هذه، لا يمكن إلّا التسليم بنبوءة أن الخلاف الشيعي-الشيعي في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي 2003، سينمو أكثر حتى يصبح حرباً، لكنّ المصير الحتميّ هذا لا يمكن التنبؤ بشكله، إذ مرّت الأطراف على مدى العقدين الأخيرين، بكل ما يمكن أن يفجّر خلافاتهم وصواريخهم. وبالفعل، تفلّتت الأصابع على الزنادات وانطلق الرصاص عدّة مرات: في  2007 حصلت مواجهات التيار الصدري -جيش المهدي حينها- مع فيلق بدر والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، في 2008 أطلقت “صولة الفرسان” التي شنّها نوري المالكي رئيس الوزراء حينها لملاحقة “جيش المهدي” في بغداد والبصرة خصوصاً، واشتباكات الخضراء 2022 الأخيرة، لكن هذه المرّات، وأخرى أقلّ حدّة، كلّها سُيطِرَ عليها وأُخمِدت؛ إما باتفاقات، أو بتدخّل طرف ثالث كمرجعية النجف المتمثلة بمنظومة آية الله علي السيستاني.

النفط محور العلاقة

يؤطر الأطراف المتعددة، وشديدة الاختلاف، في العراق، النظام السياسي المستحدث بعد عام 2003، ويهدّئ روعهم المال؛ فطالما يؤمن تدفقه احتمالات أكثر للهدوء، وطاولات أكثر للنقاش. لكن ريعية النظام المعتمدة على النفط ولا شريك للنفط، مصيرها محتوم بالتقلّب والعناء.

في الحالة الصدرية-الإطارية، لن تكون مردودات النفط كافية لبقاء العلاقات على حالها، فلن يقبل الصدر، ذو الأغلبية في آخر تجربة انتخابية، بالبقاء خارج المعادلة السياسية، لكن طريق عودته ستكون مجهولة حتى يقطعها، ولن يقطعها مجرّداً من غطاء شرعي.

وفي الواقع، يبحث الصدر عن ضالته من خلال شنّه حرباً على المثليين، وارتعاده لحوادث حرق القرآن في السويد، وهكذا أخذ يصدّر نفسه كحامي الإسلام، والذائد عن حياضه، كما اتخذ خطوات عاجلة باتجاه تحرّكات حرق القرآن وتداعيتها، وبذلك سبق الحكومة وأحزاب الإطار التنسيقي، وأجبر كل القوى الإسلامية على اللحاق به، فظهر قويّاً.

جدال الحرب

على كل حال، فإن الجدال بين الصدر وقوى مُحددة من الإطار التنسيقي مثل دولة القانون والعصائب، سيكون حرباً، قد يبدأها الصدر بانتخابات مجالس المحافظات المحلية نهاية العام الجاري. وسيكون التخاطب خشناً، بالصواريخ أو حرق المقرات والقصور، دفاعاً عن الصدر أو القرآن أو نصرة للمراجع، سيبقى خشناً، لأن الأطراف الشيعية متّشحة القداسة وحاملة السلاح عوّدتنا ذلك، وأدخلت فينا اليقين أن لا مفرّ من الحرب كحلٍّ حتمي، ولا مفرّ من خرابها كنتيجة اعتادها العراقيون.

 

* انجزت المادة بدعم من الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ونشرت على موقع جمار.

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":20912}" data-page="1" data-max-pages="1">