إيهاب شغيدل/ مايو أيار 2023:
لم يكن صعود محمد شياع السوداني من الصف الثاني إلى رئاسة الوزراء مطرّزاً بالإسفلت فقط، فقد رُوِّج له على أنه “يعرف ما يريده الناس”.. لكن ماذا حقق من وعوده الخدمية للناس بعد مرور 7 أشهر على تشكيل حكومته؟ عن كسب رضا الناس وعن “التخدير بالإسفلت”..
ما أن رُشِّح محمد شياع السوداني لتشكيل الحكومة، حتّى أعلن عن منهاجه الوزاري الذي تضمّن جملةً من الأولويات: مكافحة الفساد الإداري والمالي، معالجة البطالة، دعم الفقراء، العمل بشكل عاجل على تحسين وتطوير الخدمات التي تمس حياة المواطنين، بالإضافة إلى بعض القوانين والملفات الأخرى. لكن بالمجمل، لم يختلف المنهاج الوزاري لمُرشّح الإطار التنسيقي عن مناهج من سبقوه.
وعود واجتماعات
إضافة إلى المنهاج المتركّز على الإعمار والشرائح الهشّة، قطع السوداني عديداً من الوعود، وعقد عدداً من الاجتماعات ووقع مذكرات تفاهم من أجل المضي قدماً في تطوير الواقع الخدمي، منها: مذكرة تفاهم بين أمانة بغداد وبلدية العاصمة الفرنسية باريس، كما ترأس اجتماعاً ضمّ مدير صندوق إعمار محافظة ذي قار وفرق متابعة المشاريع الخدمية فيها. ولأنه يصبّ تركيزه على الخدمات حسب ما يشيع، أطلق جملة من التصريحات حولها، آخرها قوله إنه للمرة الأولى تُوقع عقود صيانة في القطاع الكهربائي لخمس سنوات، وهذا خفّض الكلف بنسبة 30 بالمئة، حسب إعلانه.
من جملة المشاريع التي بدأت بها حكومة مصطفى الكاظمي وتسعى لاستكمالها حكومة السوداني هي حملة توسعة شوارع العاصمة بغداد من أجل فكّ الاختناقات المرورية فيها، والتي جاءت نتيجة للوضع المأساوي الذي تشهده شوارع بغداد التي لم تخضع للتطوير والتوسعة والتحديث بشكل فعّال منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، إذ تبلغ الطاقة الاستيعابية لطرقها العامة، حسب مديرية المرور، 400 ألف سيارة، بينما تنشط عليها، أكثر من مليوني سيارة.
في نهاية كانون الثاني 2023، أعلنت أمانة بغداد المباشرة بتنفيذ 35 مشروعاً جديداً لخدمة العاصمة تضم عدداً من الشوارع الرئيسة والتقاطعات والساحات وإنارة الجسور، وذلك، حسب قولها، امتثالاً لتوجيهات رئيس مجلس الوزراء. وفي بداية آذار، وخلال حفل إطلاق مشاريع “فك الاختناقات المرورية في بغداد”، قال السوداني إن “المشاريع التي ستطلق اليوم تحصل لأول مرة في العراق”، معلناً أن “عام 2023 هو عام إطلاق المشاريع الخدمية”، وعبّر السوداني، خلال الحفل نفسه، عن الثقة بقدرة الشركات على تنفيذها بالأوقات المحددة.
أُلحق كلّ ذلك، في نهاية نيسان، بإطلاقِ مشروعين لفك الاختناقات المرورية في العاصمة بغداد.
تجاوز عدد المشاريع، في النهاية، نحو 55 مشروعاً.
بطبيعة الحال، يمكن إخضاع المشاريع هذه لمقاسات بسيطة، تتلخص بسرعة الإنجاز، جودة العمل، فائدة وأهمية المشروع، وانعكاسه المباشر على الواقع، وكذلك جماليّته.
1 كم فحسب
شخصت وزارة الإعمار والإسكان أكثر من 60 عقدة ينبغي التعامل معها لتسببها بالاختناقات المرورية، وقُسمت عمليات التوسعة على حزمات، استهدفت الحزمة الأولى 16 عقدة حسب التسمية الرسمية، على أن تطلق حزمٌ أخرى في وقت لاحق. وشملت، هذه الأولى، مشاريع غاية في الأهمية منها إنشاء جسر البنك المركزي الجديد الذي يربط شارع زها حديد الذي يُشيّد فيه مبنى البنك المركزي الجديد في الجادرية برصافة بغداد، بمقتربات ساحة النسور في جانب الكرخ منها، وإنشاء مجسر في تقاطع المصافي وربط الجسر ذي الطابقين بالجسر المعلق وإنشاء نفق ساحة أحمد عرابي، إنشاء جسر على قناة الجيش لربط شارع الداخل الواقع في مدينة الصدر باتجاه شارع فلسطين.
على الرغم من أن الحزمة الأولى حسب ما معلن، محددة وواضحة، لكن العمل فيها أخذ أوقات ووتائر متفاوتة؛ فمثلاً بدأت الآليات تحفر شارع الكرادة داخل نهاية كانون الثاني، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أشهر على أعمال الحفر، إلّا أن نسبة الإنجاز محبطة قياساً بالحماس الحكومي، فقد بدأ من ساحة كهرمانة وتوقف بعد حوالي 1 كم، منذ شهر أيار الماضي.
جانب من نهاية أعمال تطوير شارع الكرادة داخل
الأمر ذاته تكرر في شارع الفلاح، في مدينة الصدر المكتظّة، وهو من أوائل الشوارع التي بدأ العمل فيها منذ حوالي كانون الثاني الماضي، وما أنجز حتى الآن يدور في فلك كيلومتر واحد أيضاً.
الحال نفسها تنطبق على شارع منطقة شاكر العاني في منطقة الحرية، -أكثر المشاريع استقطاباً لعدسات الكاميرات- على الرغم من مرور قرابة 7 أشهر على انطلاقه، لكن في 11 آذار 2023 أعلن عن افتتاحه من دون إكماله. علماً أن المشروع الذي تم بتوجيه وحرص مباشرين من السوداني، لم يكن تبليطاً فحسب بل هو تأهيل كافة الخدمات المرافقة له، لكنه بقي منقوصاً.
لم توضح الجهات المختصة أسباب توقف العمل في الكرادة، كما لم تفعل مع المشاريع الأخرى، ما وضع مؤشرات تلكؤ عليها، كما يعزو البعض ذلك إلى أن هناك شركات استحوذت على أكثر من مشروع بالتزامن، ما جعلها تنقل آلياتها وعمالها بشكل مستمر من موقع عمل إلى آخر.
بطل مشهد التطوير والتأهيل في العاصمة، هو شارع أبي نؤاس المطلّ على دجلة.
على الرغم من أنه في الدوامة ذاتها، حيث أعلن محمد الربيعي، مدير إعلام أمانة العاصمة في تصريح صحفي، أن العمل سينجز في نيسان، لكن الكورنيش لم ينجز منه حتى الآن سوى المسافة التي هي نموذج لشكل العمل للكورنيش.
بوابات العاصمة
على رأس كل هذه المشاريع، يعد المشروع الأكبر والأكثر أهمية، حسب مقاييس الترويج الحكومي، هو تطوير مداخل بغداد الخمسة.
شرعت الشركات المنفذة بالعمل في مداخل (بغداد- واسط)، (بغداد- ديالى)، (بغداد- الموصل)، (بغداد- الأنبار)، (بغداد- بابل) منذ بداية عام 2022، وجاء السوداني مسلطاً إعلامه عليها، لكن منذ بدايتها، كان يفترض للعمل فيها أن يستغرق سنتين، بيد أن التلكؤ رافقها بطبيعة الحال العراقي، فعلى الرغم من مرور عام ونصف العام على البدء بها، مازالت نسب إنجازها متدنية.
قبل مشاريع تطوير مداخل بغداد، أعلنت هيئة الاستثمار في حزيران 2021 عن البدء في تنفيذ طريق (بغداد-بسماية)، وفي نهاية كانون الأول 2022 أعلن أن نسبة الإنجاز قد وصلت إلى 47 بالمئة، وبعد عامين من العمل تقريباً، لم تنته أعمال هذا المشروع على الرغم من أن المسافة لا تتعدى 10 كم بضمنها 9 جسور ولم تعلن عن مدة تنفيذ المشروع.
ما يقف عائقاً أمام إنجاز تلك المشاريع البسيطة قياساً بحجم المشكلة التي تصيب البنية التحتية العراقية، ليس التلكؤ الإداري فحسب، إذ هناك تجاوزات متجذرة في طريق بعضها، حيث عزت وزارة التخطيط، بداية نيسان 2023، توقف مشروع تأهيل مدخل (بغداد- واسط) إلى التجاوزات الموجودة على الطريق كالسيطرات الأمنية وأنابيب الماء وأعمدة الكهرباء والكابل الضوئي، داعية الجهات المعنية إلى رفعها بغية إعادة العمل بالمشروع، وهذه الأسباب نفسها، ساقتها الحكومة نحو العمل في مدخل بغداد الشمالي، إضافة لطريق (بسماية-بغداد) حيث أشار المهندس المقيم وممثل الشركة المنفذة إلى أن أبرز المشكلات التي تواجه المشروع هي التجاوزات وشبكات الماء الممتدة ضمن نطاق العمل، لكن التجربة العراقية رسّخت أسبابا أخرى، لا يخلو مشروع في العراق منها حتى يثبت العكس، تتلخص كلها بمفردة “فساد” ولا تمنع، التجربة ذاتها، من تجيير أنصاف المشاريع سياسياً.
الاستثمار الأمثل للترقيع
ارتكزت عملية الترويج لشخص السوداني، منذ لحظة ترشّحه، على دعائم أساسية عدّة، ولم يكن صعوده من الصف الثاني إلى رئاسة الوزراء مطرّزاً بالإسفلت فقط، فالسوداني، حسب الصورة الذهنية التي روجتها ماكنته الإعلامية، “أول رئيس وزراء بعد 2003 من الداخل” لذا هو بالضرورة يعرف ما يريده الناس على حد قول الدعاية، مع ذلك لا يبدو أسلوب نشر “التبليط ” على الشوارع الطينية جديداً، فعند كل انتخابات يقدم المرشحون أوراق اعتمادهم للناخبين بصيغ وأشكال مختلفة، أبرزها الإسفلت، خصوصاً في تلك المناطق النائية والتي غالباً ما تقترن بتجمعات قبلية.
بهذه الطرائق، تمتاز آليات تفكير أحزاب العراق الجديد، وبها أيضاً يعبّد السوداني وحزبه وائتلافه المحسوب على إيران، الطريق للانتخابات القادمة، وهو على العكس مثلاً من العبادي والكاظمي اللذين لم تُتح لهما فرصة الإسفلت: ذهب العبادي لما بات يعرف بالتقشف الطارد للناخبين، بينما ركز الكاظمي على السياسة الخارجية التي لا يلتمس المواطن المطحون بالحياة العراقية أهمية لها.
يذكرنا السوداني بشيء من منهجية نوري المالكي، زعيمه الحزبي ورئيس الوزراء الأسبق، الذي فتح بها أبواب الرواتب لفئات عدّة كالسجناء السياسيين وشيوخ العشائر وغيرهم، وحتى الآن، تعيد هذه الفئات انتخابه رداً لجميله الريعي.
تحاول الجهات السياسية المشكلة للحكومة والداعمة لها، توزيع بعض الموارد على الجمهور بشكل مباشر، ويساعد انعدام الخدمات والبنية الاقتصادية الريعية بتحويل الاسفلت إنجازاً سياسياً يحسب للسوداني الذي انتفع من بعض المشاريع التي شرعت بها حكومة الكاظمي وافتتحت على يد السوداني مثل الطريق الدولي الجديد.
ولأن تعبيد الشوارع، أو حتى كيلومتر واحد منها، يمكن ملاحظته والتقاطه بالعدسات، اختارت حكومة السوداني التركيز عليه دون غيره.
على الرغم من الحاجة الفعلية لهذه الخدمات، إلا أن الاقتراب من المواطنين وكسب أصواتهم من أولويات السوداني وهذا يظهر في إقدامه على إقالة عدد كبير من المديرين العامين، وكما هو متوقع أن مثل تلك الإجراءات، تلاقي أصداء إيجابية في الشارع، فيافطتها هي مكافحة الفساد، وليس ثمة أكثر من المديرين الضامنين لمصالح الأحزاب للتضحية ببعضهم.
تعمل الماكينات الإعلامية التي تحيط السوداني على الرافعات الأكثر فاعلية، لتصوره حاملاً عصا سحرية ستطرد الفقر وتقدم الخدمات، على الرغم من إمكانية تضارب الملفات التي تخص الخدمات.
حين رفع السوداني الشعار الأبرز خلال أشهره الأولى “هذه الحكومة هي حكومة خدمات” أكد أيضاً أن العراق مقبل على ثورة إعمار ومشاريع، لكن الأشهر السبعة الأولى من حكومته لم يظهر خلالها سوى إكمال بعض المشاريع التي كانت قائمة -بغض النظر عن اعتبارات أخرى كالجودة والتكلفة- وعلى رغم ذلك، يبقى الباب مفتوحاً أمام سؤالين آخرين مطروحين في ملف الخدمات: هل سيقترب السوداني من المشاريع المتلكئة بسبب ارتباطها بشخصيات سياسية نافذة والتي تشوبها شبهات فساد؟ خصوصاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن وزارة التخطيط أكدت في وقت سابق أن عدد المشاريع المتلكئة 1171؟
وهل ستبدأ حكومته إصلاحاً حقيقياً ومشاريع مجدية؟ تكفّ الحاجة للترقيع بالإسفلت وتُنير الوعي المجتمعي إلى أنه ليس أكثر من ترقيع؟
- إيهاب شغيدل: كاتب وصحافي عراقي، يكتب في النقد والشؤون الثقافية والسياسية، وصدر له في الشعر ديوان “144 م²” عن دار الرافدين في بيروت.
* انجزت المادة من قبل شبكة “نيريج” ونشرت على موقع “جمار”
المزيد عن تحليل
تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":20709}" data-page="1" data-max-pages="1">