تقارير سردیة: الصم والبكم في دائرة النسيان .. إعانات متدنية وتعليم ينتهي عند المرحلة الابتدائية

الصم والبكم في دائرة النسيان .. إعانات متدنية وتعليم ينتهي عند المرحلة الابتدائية

272 ألف أصم وأبكم في العراق بلا دعم حكومي

حنان سالم/ نيسان 2023:

تُحركُ نبأ (18 سنة) أصابع يديها بمهارة وفي عينيها بريق حماس، فيما تترجم مديرة جمعية أنوار الفلوجة(محافظة الأنبار) لرعاية الصم حركاتها بكثير من التركيز: “لدي ثلاثُ شقيقات يكبرنني ويعانين من الصمم مثلي، كنا معزولاتٍ عن المجتمع حتى بلغت عامي الرابع، حينها قابل والدي مشرفين على الجمعية وأعجب بالخدمات التي تقدمها وجعلني ألتحق بها لأندمج بالمجتمع وأتعلم كيفية التواصل مع الأخرين والتعبير عما يدور بداخلي”.

تنتظر نبأ حتى تفرغ مديرتها من إكمال الترجمة ثم تعود لتحريك يديها برشاقة مجدداً :”تعلمت القراءة والكتابة واتقنت لغة الإشارة. بلغتُ الصف الرابع الابتدائي وكنت أتشوق لإكمال تعليمي لكن دخول داعش الى الفلوجة ونزوحنا حالا دون ذلك”.

يخيمُ الحُزن على ملامِحها وهي تستذكر كيف أن وزارة التربية لم تعترف بشهادتها الابتدائية من الجمعية لكون الأخيرة غير معترف بها من قبلها، لكن هذا لم يثني عزيمتها، فقد واصلت دراستها وأكملت منهاج المرحلة المتوسطة غير آبهة بعدم اعتراف الوزارة، وتحولت لاحقاً من تلميذة في الجمعية إلى معلمة فيها.

يتردد صوت مديرة الجمعية بفخر وهي تترجم إشارات يدي نبأ: “أصريت على اثبات وجودي في المجتمع، ففقدان أحد الحواس لا يعني فقدان الحياة، أملكُ علماً يؤهلني لاجتياز المرحلة المتوسطة لكن لا أحد يعترف بعلمي بشكل رسمي. أصبحت معلمة واندمجتُ بنحو طبيعي مع المجتمع لإساهم بعدم تكرار معاناتي ومعاناة شقيقاتي مع باقي النساء”.

نبأ وهي تدرس مجموعة من الأطفال الصم

إهمال حكومي

نبأ واحدة من بين 157 ألف مصابٍ بالصمم في العراق وفقاً لإحصائيات وزارة التخطيط، فضلاً عن 115 ألف معاقٍ بالنطق والتواصل، ويشكلون سوية 16% من مجموع المعاقين في البلاد https://cosit.gov.iq/ar/2018-08-29-07-56-45

هذه الشريحة الكبيرة تقابلُ وفقاً لمصادر مطلعة تواصلنا معها بإهمال من قبل الحكومة العراقية، ولا سيما للذين تظهر لديهم الإعاقة في عمرٍ مبكرة، فلا مؤسسات تعليمية رسمية تضمهم إلا في حدود معينة، كما لا يوجد ضمانً اجتماعي يقدم لهم العون في مراحل أخرى من حياتهم.

ومن المشاكل التي تواجهها هذه الشريحة، هو عدم تمكن أفرادها من التدرج بالدراسة الابتدائية نحو المتوسطة والإعدادية، لكون المعاهد الحكومية تمنحهم شهادة التعليم الابتدائي التي لا تؤهلهم سوى لمعهد التأهيل المهني، وفقاً لما نصت عليه معاهدة رعاية المعوقين وتعليمهم في العراق.

http://wiki.dorar-aliraq.net/iraqilaws/law/14111.html#:~:text=%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%87%D8%AF%20%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%85%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%83%D9%85%20%D9%88%D8%B6%D8%B9%D8%A7%D9%81%20%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%B9%20%3A,%D8%A3%20%D9%85%D8%B9%D9%88%D9%82%D8%A7%D9%8B%20%D8%B3%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D9%8B%20.

وانضوت معاهد الصم والبكم ادارياً تحت إدارة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لكنها تحولت الى صلاحيات المحافظات حسب قانون نقل الصلاحيات رقم 21 لسنة 2008 وفقاً للمتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نجم العقابي.

وقد بلغت أعداد المستفيدين من معاھد الصم والبكم(رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية) لسنة 2015، 4801 مستفيداً وتناقصت حتى وصلت الى 1383 لسنة 2018 بحسب احصائيات وزارة التخطيط العراقية

https://www.cosit.gov.iq/ar/2015-11-23-07-58-32

يشير المتحدث باسم وزارة التربية كريم السيد الى وجود نقص في كوادر التربية الخاصة بنحو عام ويؤكد بأن دور وزارة التربية هو الدعم الفني لمعاهد الصم والبكم “وهذا فقط ما تستطيع الوزارة تقديمه بسبب عدم صلاحياتها في تقديم المزيد” حسب قوله.

وكمبادرات خاصة بها، استحدثت بعض المحافظات الدراسة المتوسطة لفئة الصم والبكم ومنها محافظة بابل باستحداثها الصفين الأول والثاني المتوسط في العامين 2021 و2022 تباعاً، اما محافظة الأنبار فقد افتتحت فقط الصف الأول متوسط.

وتعترف وزارة التربية بالشهادة التي تمنحها معاهد الصم والبكم وهي في الغالب الابتدائية، غير  أن ذلك غير مؤكد بالنسبة للمتوسطة مع أن مصادر في الوزارة ذكر أن هنالك خطط لاستحداث صفوف خاصة بالدراسة المتوسطة في شهر أيلول/سبتمبر المقبل.

ويؤكد سامر العاني(مترجم لغة الإشارة في جمعية انوار الفلوجة لرعاية الصم) بأن أغلب الكوادر التدريسية في المؤسسات التعليمية الحكومية الخاصة بالصم والبكم لا تجيد لغة الإشارة بصورة جيدة ويضيف “اضطررنا الى إقامة دورات تقوية للمناهج الدراسية لنضمن استيعاب الطلبة لما يدرسونه في المدارس الحكومية”.

يشاطره الرأي علي الشمري، مدير معهد الأمل(حكومي)الخاص بتعليم الصم والبكم في محافظة بابل (100 كم جنوب بغداد) ويعزو ضعف الكوادر التدريسية في لغة الإشارة الى انعدام الدورات التطويرية من قبل الجهات المختصة في وزارتي التربية العمل والشؤون الاجتماعية.

ويضيف “يكتسب المدرس خبرة في لغة الإشارة عن طريق الممارسة، والمدرسون الجدد لا يمتلكون الخبرة الكافية ولا يُزودون بسوى الدليل الارشادي” ويصف وضع طلاب معهد الأمل قائلاً “في كل عام يتبرع لهم المدرسون بوسائل تعليمية على حسابهم الخاص فالصم خصوصاً يكون تعليمهم مرئياً أما بالنسبة لبناية المعهد فهي متهالكة ويرثى لحالها، ووصل الحال بنا الى تحويل غرفة راحة المدرسين الى صف تدريسي لأن البناية لا تتسع لأعداد الطلبة الموجودين”. يقع معهد الامل وسط مدينة الحلة(مركز محافظة بابل)، وهو المعهد الحكومي الوحيد المختص بتعليم الصم والبكم في المحافظة، ويضم نحو 55 طالباً وطالبةً يمتلك اغلبهم مواهب عدة كالرسم والتمثيل الصامت والرياضة لكن “الدعم الحكومي لا يشملهم” وفقاً للشمري.

الشقيقتان رقية(13 سنوات) وهاجر (8 سنوات) مصابتان بفقدان السمع والنطق، تتواجدان في معهد الأمل، رقية موهوبة في الرسم، بينما تجيد هاجر الخياطة وتجتهد للتميز بها عن قريناتها لكن وضع عائلتها الاقتصادي الضعيف يقف عائقاً أمام تطوير مواهبهما.

يقول والدهما “لدي سبعة أبناء وأعمل في البناء لذا فمن الصعب توفير مستلزمات الرسم والخياطة باستمرار، الأمر الذي يحد من تقدمهما، وعلى الرغم من تفوق بنتيّ الاثنتين في الدراسة الا أن مستقبلهما مجهول ولا أعلم ما سيؤول عليه حالهما اذا لم تُستحدث مراحل دراسية أعلى من الثاني المتوسط”. ويضيف بشيء من الحزن:”أسعى الى تعليمهما وضمان حصولهما على شهادة أكاديمية تسندهما بعد وفاتي، أمنيتي الوحيدة هي أن أراهما تحققان رغبتيهما، رقية تحلم بأن تصبح ممرضة وهاجر كثيراً ما تتحدث لي عن تصميم الأزياء”.

يحصل الوالد على راتب من دائرة الرعاية الاجتماعية لا يتجاوز ال 100 دولار لكل منهما وهذا المبلغ لا يكفي لسداد تكاليف نقلهما الى المدرسة وشراء المستلزمات الدراسية حسب قوله.

تختلف قيمة ما يتقاضاه ذوو الإعاقة، فوزارة العمل والشؤون الاجتماعية تتعامل مع أسر ذوي الإعاقة وليس معهم كأفراد أو حسب درجة إعاقة كل واحد. فتتفاوت مرتباتهم بحسب عدد الافراد الذين يملكون إعاقة في الاسرة الواحدة.

يوضح الجدول التالي الية توزيع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية رواتب أسر المستفيدين من شبكة الحماية الاجتماعية عموماً التي يبلغ عددها مليون و800 الف أسرة حسب ما أفاد المتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نجم العقابي.

https://www.cosit.gov.iq/documents/welfare/metadata/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B5%D9%81%D9%8A%D8%A9-%20%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B9%D8%A7%D9%8A%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9.docx

مواهب بحاجة إلى دعم

يلجأ مهند ميثم (27 سنة) من كربلاء الى فرشاته والوانه ليرسم العالم كما يراه. لم يعقه فقدانه لحاستي السمع والنطق عن شق طريقه الخاص في عالم الرسم والعمل بصفة معلم رسم للأطفال في دار إيواء المشردين بمحافظته، يتواصل معهم عن طريق الكتابة على سبورة صغيرة يحملها معه. كتب لنا على سبورته: “استعضت بالرسم عن الكلام فأصبحت لغتي هي ما أرسمه”.

يشطب بإسفنجة ما كتبه بحماس، ثم يعود ليكتب:” في الرابعة من عمري اكتشف والداي عدم قدرتي على السمع فبدأتُ رحلتي مع الرسم الذي ورثته عن جدي. أدخلوني مدرسة حكومية خاصة بالصم والبكم، اكملتُ الخامس الابتدائي عام 2010 ولم أستطع المضي قدماً في دراستي لأن الخامس الابتدائي كان آخر صف يمكن تجاوزه هناك، وأنا لم أقصر تعليمي على الشأن الأكاديمي”.

لم تكن وزارة التربية في ذلك الوقت تعترف بالشهادات التي تمنحها معاهد الصم والبكم التي كانت تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية حينها، فاستمر مهند بتطوير موهبته في الرسم حتى أصبح محترفاً وبدأ بالرسم على الجدران وواجهات المباني واستطاع الحصول على وظيفة تناسب مهاراته.

“لم يُعقني عدم حصولي على شهادة اكاديمية عن النجاح، فأنا موهوب، وموهبتي ساعدتني في صنع كياني، أما بخصوص بقية أقراني، فينبغي تخصيص مقاعد دراسية لهم حتى في الجامعات لكي يحصلوا على عمل يناسب مهاراتهم ومؤهلاتهم العلمية”.

الناشط في مجال التعليم علي حاكم يشير الى أهمية التوعية بلغة الإشارة للمجتمع المحيط بالمصابين بفقدان النطق والسمع مما يسهم في توفير البيئة الآمنة لتعلمهم. ويضيف “تراعي أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالتعليم حقوق الانسان، ولذوي الاحتياجات الخاصة بنحو خاص من خلال توفير متطلبات تعليمهم ومحاولة دمجهم بالمجتمع، إلا أن ذلك لا يتحقق في العراق بسبب عدم توفير المراكز الخاصة بهم واقتصارها على عدد محدد في عموم العراق فضلاً عن عدم تلبيتها متطلبات اكمال التعليم وتنوعه”.

ويستدرك قائلاً “من الملفت قدرة فئة الصم البكم على التعلم والنجاح في مجالات عدة وسيشكلون ثروة وطنية إذا ما تم استثمار قدراتهم بصورة صحيحة، أعرف أحدهم رساما محترفاً وآخر لاعب كرة قدم وأحدهم يدير عملاً خاصاً به، فمن المهم العمل على مناصرتهم من قبل الناشطين والمنظمات من أجل العمل على منحهم حق اكمال التعليم وتنوعه أسوة بالآخرين عبر برامج الاعداد ومن ثم الادماج”.

في أقليم كوردستان يختلف الوضع قليلاً فالمعاهد الحكومية لرعاية الصم والبكم تمنح شهادة أكاديمية تعادل شهادة الثالث متوسط ويؤكد مدير دائرة الرعاية الاجتماعية نهرو عبد الله أن معهد الكومبيوتر في السليمانية التابع لوزارة التربية يمنح شهادة الدبلوم والتي تؤهل ذوي الإعاقة عموماً لدخول الجامعات الأهلية في الإقليم.

كما أن المدارس الإعدادية التابعة لوزارة التربية في الإقليم تستقبل الصم والبكم شريطة توفير مترجم على حساب الطالب. ويذكر أن اثنان فقط من الصم في السليمانية اجتازوا معهد الكومبيوتر بحسب دائرة الرعاية الاجتماعية.

زينب (اسم مستعار 14 سنة) تدرس في معهد مخصص لرعاية الصم والبكم في السليمانية واجتازت المرحلة الابتدائية بتفوق، وفي العام الدراسي المقبل2023-2024 ستكون في الصف الثالث المتوسط، يروي والدها معاناتها: “ولدت ابنتي ضمن توأم ثلاثي لكننا اكتشفنا أنها تعاني من فقدان السمع والنطق معاً، فكرتُ بإدخالها الى مدارس الصم والبكم في بغداد لكن مصيرها سيؤول الى المعهد الفني فأدخلتها مدرسة الصم والبكم في السليمانية والتي تنتهي بمعهد الكومبيوتر”.

غير أن مشكلة أخرى تواجه زينب، إذ أنها تكتبت وتقرأ باللغة الكردية، ووالدها لا يعلم إن كانت هنالك جامعة ما ستستقبلها إن هي أرادت الحصول على شهادة أعلى، يقول بحيرة:” أخبروني في بغداد أن بوسعها الحصول على شهادة الإعدادية عن طريق الامتحانات الخارجية لكن الامتحانات هناك باللغة العربية وهذا ما لا تستطيع ابنتي اجتيازه، لأنها لا تتقن سوى الكردية”.

  • أنجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":20668}" data-page="1" data-max-pages="1">