عماد حسين/ نيسان 2023:
شأنها شأن جميع مؤسسات العراق ومفاصله الرئيسية، عانت المؤسسة الأمنية المُهيكلة بأمر الحاكم العسكري للعراق بعد غزوه، بول بريمر، والمعاد تشكيلها بأمره، من التخبطات والتقلبات والتآكل في أحيان والتطور في أحيان أخرى، المؤسسة المُنهكة بحربين طاحنتين إبان حكم الرئيس الأسبق صدام حسين، والمكبلة بعد مرور 20 عاماً على زواله.
خوّل دستور النظام الجديد، رئيس الوزراء بالقيادة العامة للقوات المسلحة، وبعد العديد من التجارب وتشكيل الأجهزة والغائها، يمكن القول إن المؤسسة الأمنية العسكرية في العراق استقرت على ثلاثة أركان رئيسية هي وزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، وأجهزة أخرى ترتبط مباشرة برئاسة الوزراء.
كذلك خلال رئاسة صدام حسين، كانت قوات الأمن والعسكر تتوزع على وزارتين رئيسيتين: الدفاع والداخلية، ويضاف لهما بضعة أجهزة وتشكيلات ترتبط بالرئيس، القائد العام للقوات المسلحة، مباشرة، وبشكل عام كانت قوى الأمن العراقية تتكون من: الحرس الجمهوري والجيش النظامي، والتنظيمات الشعبية، بالإضافة إلى قوات الأمن الداخلي، وحرس الحدود، وفدائيو صدام.
نواة الغزو
بعد الغزو وقرار حاكمه بريمر بحل الجيش القائم، تأسس الجيش الجديد من خلال دمج مقاتلي الفصائل المسلحة، وبعض عناصر الأحزاب الجديدة هي الأخرى، ليكونوا نواته، واستدعي الضباط الأدنى من رتبة عقيد، لتأسيس أول فيلق وفق هيكلية طائفية وعرقية.
في ذات الوقت تم منح رتب عسكرية عالية لمقاتلي تلك الفصائل والأحزاب ومنحهم مناصب مهمة بمعية “الخدمة الجهادية” وهي إحدى أطوار “جبر الخواطر” كتعويض عن فترة معارضتهم خارج العراق واعتبارها خدمة مستمرة. الأمر الذي أوجد مصطلح “ضباط الدمج” في الأوساط الشعبية وحتى السلك العسكري الأمني، للسخرية من قتل فرصة تكوين جيش وطني عابر للطوائف والقوميات.
كما كانت شركة “فينيل” الأمنية المكلفة بتدريب مقاتلي الجيش العراقي الجديد تصنّف المجندين بناء على قوميتهم وطائفتهم خلال الحصص التدريبية ما تسبب بحوادث احتكاك طائفي أو قومي بين عناصر نواة الجيش الجديد.
درّت سيطرة الأحزاب والفصائل المتحاصصة على المؤسسة الجديدة، عليها بفائدتين: الأولى بيروقراطية فاسدة تسهّل سرقة جزء كبير من ميزانيات هذه المؤسسات، والثانية ضمان ولاء هذه المؤسسة للنظام القائم وحمايته بكل الوسائل، حتى وإن كانت مُدمِّرة.
ويمكن النظر للمشكلة التي أصابت المؤسسة الأمنية العسكرية من زوايا عدّة، إحداها عديد العناصر.
عداد الجيش العراقي قبل وبعد 2003
وصل ترتيب الجيش العراقي عام 1990 إلى المركز الخامس عالمياً كأقوى جيش نظامي، ثم شهدت سنة 2003 تراجعه إلى أدنى مستوياته قبل حلّه وإنشاء واحد جديد.
خلال الأعوام 1985-1989 وهي فترة كان العراق يخوض فيها حربا مع ايران، وصل عدد جنود الجيش إلى مليون جندي، وفي عام 1990 زاد حجم الجيش بنسبة 39% ليصبح عدد جنوده مليوناً و390 ألف جندي )أي ما يعادل 33% من إجمالي القوى العاملة العراقية في ذلك العام)، وبعد غزو الكويت، تراجعت قوته بنحو 66% ليصل العدد إلى 475 ألف جندي.
أما خلال سنوات الحصار 1992-2002 تراوح تعداده بين 407 و479 ألف جندي (7-9% من إجمالي القوى العاملة)، وفي عام السقوط 2003 كان عدد جنود الجيش العراقي 432 ألف جندي.
ألغت السلطة الجديدة بعد 2003 التجنيد الإلزامي وفتحت باب التطوع، فوصل عدد جنود الجيش العراقي الى 179 ألف جندي في عام 2004، و227 ألفاً في 2005، و495 ألفاً في 2006، ووصل ذروته في عام 2012 حيث بلغ عدد الجنود 802 ألف.
شهد العام اللاحق لعام الذروة انخفاضاً كبيراً بعدد المنتسبين، حيث ترك الخدمة نحو 625 ألف جندي، وصار عدد جنود الجيش نحو 177 ألفاً بحلول عام 2013.
يؤشر هذا الانخفاض الكبير، عدم وجود عقيدة عسكرية رصينة، حيث دفع توتر الأوضاع الأمنية في سوريا آنذاك وانعكاسها على العراق، الى جانب بروز وتمدد الفصائل الارهابية، 78% من أفراد الجيش إلى ترك الخدمة، وبقي 22% فقط لمواجهة القوى الإرهابية القادمة لإقامة دولتها.
كما أثار انهيار طبقات القوى الأمنية، ملف (الفضائيين) -وهو تعبير شعبي يطلقه العراقيون على أسماء وهمية مسجلة كجنود في الجيش العراقي، ليس لها وجود على أرض الواقع، والغرض من وجودها هو استلام رواتبها لصالح الجهة السياسية المسؤولة عن تسجيلهم- واشتركت أغلب القوى بمختلف خلفياتها بفساد هذا الملف، كما كشف رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بعد توليه السلطة خلفاً لنوري المالكي في عام 2014 عن وجود أكثر من 50 ألف جندي فضائي تذهب رواتبهم إلى الضباط الكبار و”ضباط الدمج”.
خلال فترة الحرب مع داعش 2014-2017 وصل عدد الجنود إلى 209 آلاف، فيما أزداد ليصل إلى 341 ألفاً عام 2019. ومع حلول العام 2023، أصبح الجيش العراقي يحتل المرتبة رقم 45 عالمياً متراجعا 11 مرتبة عن العام السابق حيث كان يحتل المرتبة 34، ويضم نحو 200 ألف جندي بالإضافة إلى 130 ألف فرد يمثلون قوات شبه عسكرية، بينما لا يمتلك قوات احتياطية.
ولوزارة الدفاع السلطة على جميع فروع القوات المسلحة وهي كل من: القوة البرية، والقوة الجوية، والقوة البحرية، وطيران الجيش، والدفاع الجوي، إضافة إلى أفرع أخرى، وتعد القوة البرية أكبر القوات عدداً، فيما تعد القوة الجوية أكثر الفروع إثارة للجدل وخضوعاً للتقاسمات السياسية.
تمتلك القوة الجوية العراقية اسطولاً مكوناً من 290 طائرة، جزء كبير منها لأغراض التدريب والاستطلاع، وتعد طائرة F-16 أبرز وأحدث طائرة في الاسطول الجوي العراقي، ومنذ 2003 تخضع تلك القوة للسيطرة الكردية، حيث تعاقب على قيادتها 3 شخصيات فقط، وهم: كمال البزرنجي، أنور حمه أمين وشهاب جاهد حمة خان زنكنة، وهي منذ ذلك الحين في محل صراع سياسي حول المناصب وهوية الطيارين.
الداخلية على ميزان التعداد
وفيما يخص وزارة الداخلية، فقد تضاعفت أعداد منتسبيها نحو 13 ضعفاً، حيث يبلغ عددهم بعد 20 سنة على الاحتلال 650 ألف منتسب، فيما كان يبلغ نحو 40 ألفاً قبل عام 2003، تناوب على قيادتها 12 وزيراً، ومنذ عام 2006 أصبحت من حصة الشيعة وفق التقسيم السياسي للوزارات، وبالمقابل مُنحت وزارة الدفاع للسنة.
تضم وزارة الداخلية العديد من الوكالات الأمنية والأجهزة الشرطية، ومن أبرزها قوات الشرطة المحلية التي تتبع كل محافظة وتتكون من أبناء تلك المحافظة، إضافة إلى قوات الشرطة الاتحادية وإدارة قوات الحدود وشرطة حماية المنشآت ومغاوير الشرطة الخاصة وشرطة حماية الآثار والتراث ومديرية مكافحة الإرهاب والشرطة المجتمعية وأخرى تعني بمكافحة المخدرات والنجدة والرد السريع والدفاع المدني.
كما تضم كل من هذه الوكالات والأجهزة الشرطية وحدات تعنى بالاستخبارات وتضم أفواج طوارئ وقوات خاصة داخل هذه الوكالات، فضلًا عن الأدلة الجنائية المرتبطة بشرطة المحافظات، وتشرف عليها المديرية العامة للأدلة الجنائية في الوزارة.
وتشابه الشرطة الاتحادية في تشكيلها وتدريبها الجيش العراقي.
ويعد ملف تدريب القوات العسكرية، أحد أبرز الملفات التي انقلبت رأساً على عقب خلال حقبتي الحكم الفائتة والحالية، فقد امتلك سابقاً من الرصانة ما أهّله لخلق قوات تنافس في هذا المضمار قوى إقليمية وعالمية، فيما أصبح اليوم ملفاً غارقاً بالتخبط والفساد والمحسوبية والضبابية.
تتسم عقيدة التدريب في وزارتي الدفاع والداخلية، في أغلب مراحلها، بالسطحية وتعتمد على الاجتهادات الشخصية للقيادات من جهة، وعلى حجم “معارف وواسطات” الأفراد من جهة أخرى، فضلاً عن اختلاف جهات التدريب الدولية من جهة ثالثة، ما أنتج سيلا بشريا عسكريا لا يعرف حدوده وواجباته وحقوقه، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات عن جدوى المبالغ الهائلة المصرفة في كل عام على تلك القوات.
الإنفاق الأمني وتسليح القوات
بدأ العراق الجديد مسيرته المالية بموازنة بلغت 13 مليار دولار في عام 2003 أنفق 1% منها فقط على القطاع الأمني، ووصل ذروة الإنفاق في عام 2015 حيث كلّف القطاع الأمني ما نسبته 12.5% من إجمالي الموازنة العامة والتي بلغت نحو 105 مليار دولار، وهو أمر منطقي حيث شهد ذلك العام أكبر وأبرز معارك تحرير المناطق المحتلة بيد تنظيم داعش.
نمو هذه المؤسسة وزيادة تخصيصاتها في الميزانية العامة حوَّلها إلى قطاع تتصارع عليه المليشيات والأحزاب التي تتقاسم السلطة والنفوذ، الأمر الذي كشفه نوري المالكي، أمين عام حزب الدعوة ورئيس الوزراء الأسبق، في تسجيل مسرَّب، حول استحواذ هادي العامري زعيم “منظمة بدر” على 40 ألف راتب، ومقتدى الصدر على 12 ألف راتب مخصصة لـ”سرايا السلام” في المؤسسة العسكرية، فضلاً عن جهات سياسية تمتلك حصصاً ثابتة في المؤسسات الأمنية.
إن عمل المنظومة الأمنية خلال العقدين الأخيرين لم يفلح في توفير الأمن ولا في مواجهة الإرهاب من دون تدخلات دولية كبيرة ودعم مالي واستراتيجي وعسكري، ومن بين أسباب فشل المنظومة الأمنية، تقاطع مصالح ومكاسب الأحزاب والكتل السياسية التي يندرج أغلب عناصرها ضمن المنظومة الأمنية نفسها، فضلاً عن ضعف التدريب والتسليح والكثير من الثغرات في الخدمات اللوجستية العسكرية، كما أن المنظومة الأمنية في العراق بحاجة إلى فلترة للتخلص من الذين لهم علاقة بعصابات مسلحة، فضلاً عن حاجتها إلى التدريب والتسليح بأحدث الأجهزة والمعدات.
المتحدث الرسمي باسم قيادة العمليات المشتركة، العميد يحيى رسول كشف أن أجهزة المنظومة الأمنية لم تلعب دوراً كافياً لحماية العراق، مشيراً إلى أن بناء الجيش وأجهزة المنظومة الامنية في العام 2003 تمّ على عجل. وبعد ذلك انهمك الجيش في عمليات تأمين حماية مدينة بغداد من خلال السيطرات والدوريات إثر اندلاع دوامة العنف والطائفية، لافتاً إلى أن القيادة العسكرية العراقية وعلى أعلى المستويات، انتبهت لهذه الاخفاقات والسلبيات، خاصّةً بعد أحداث الموصل وصلاح الدين والرمادي.
تلك الإخفاقات التي أشار لها رسول تطرح العديد من التساؤلات بشأن سبب غياب او ضعف دور جميع المؤسسات الأمنية دفعة واحدة على الرغم من كثرتها وتشعبها وتنوع مرجعياتها الفعلية، فضلا عن الرسمية.
أجهزة رئاسة الوزراء
بالإضافة للدفاع والداخلية، هنالك أربعة أجهزة أمنية تتبع بشكل مباشر مكتب رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة وهي كل من: جهاز المخابرات (المؤسس عام 2004)، جهاز الأمن الوطني (2004)، جهاز مكافحة الإرهاب (2007) وهيئة الحشد الشعبي (2014).
نظرياً، يعد جهاز المخابرات العراقي وجهاز الأمن الوطني من أهم الأجهزة الأمنية في البلاد، إذ توكل للأول مهام الحفاظ على الأمن القومي العراقي من خلال العمل في جميع أنحاء العالم وفق مبدأ الاستخبارات الخارجية والداخلية في آن معاً.
الجهاز يعرِّف مهامه بأنه يتولى مسؤولية جمع المعلومات وتقييم التهديدات الموجهة للأمن الوطني العراقي، ويقدم على أساس ذلك المشورة للحكومة العراقية والدعم الاستخباري للقوات المسلحة بمختلف صنوفها.
ويشاع عن جهاز المخابرات قربه من الولايات المتحدة الامريكية ما جعله جهازاً مكروهاً من قبل الفصائل المسلحة حتى وصل الأمر إلى اتهامه بتقديم معلومات استخبارية للحكومة الأمريكية ساعدتها بتنفيذ عملية استهداف قائد فيلق القدس قاسم سليماني ومرافقيه قرب مطار بغداد مطلع عام 2020.
كما حقق، على جانب آخر، بعض النجاحات، حيث ساهم بتقديم معلومات أسهمت بمقتل زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، ومعلومات أخرى أسهمت بالقبض على معاونه سامي جاسم الجبوري، فضلا عن العديد من المهام الناجحة على المستوى الداخلي والإقليمي.
وخلال عقدين، شغل منصب مدير جهاز المخابرات خمس شخصيات منذ إعادة تأسيسه وهم: محمد عبد الله الشهواني بين عامي 2004 و2009، وزهير الغرباوي بين عامي 2009 إلى 2016، ثم خلفه في المنصب مصطفى الكاظمي الذي بدأ عمله في المنصب منذ عام 2016 وحتى عام 2020، عندما تولى منصب رئيس مجلس الوزراء، وبات يدير الجهاز وكالة، والذي عمد في أواخر أيام وجوده بالسلطة لتعيين القاضي رائد جوحي (الشهير بمذكرة القبض التي أصدرها بحق مقتدى الصدر عام 2004) لإدارة الجهاز والذي أقيل من منصبه فور تولي محمد شياع السوداني زمام السلطة وقرر رئيس الوزراء الجديد الإشراف على الجهاز بشكل شخصي.
أما جهاز الأمن الوطني فبحسب تعريفه لنفسه، يعمل على حفظ الأمن داخل البلاد من خلال تفعيل وحدات الاستخبارات الداخلية حيث يتجلى عمله داخل حدود البلاد، وهو، على الورق، أشبه بمديرية الأمن العامة التي كان معمولًا بها في العراق قبل الغزو عام 2003.
وبخصوص جهاز مكافحة الإرهاب فقد تشكّل عام 2007 بعد فك ارتباط القوات الخاصة العراقية مع وزارة الدفاع، مع تغيير اسم قيادة العمليات الخاصة إلى قيادة العمليات الخاصة الأولى. وبعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام، تشكّلت قيادة العمليات الخاصة الثانية مع ازدياد أعداد منتسبي هذا الجهاز وزيادة تمويله والمهام المكلَّف بها، على نحو جعله أفضل قوة مختصة بمكافحة الإرهاب في البلاد على صُعُد التدريب والتسليح والمهارة.
الحشد الثوري
بعد احتلال تنظيم داعش مدينة الموصل مركز محافظة نينوى، وإصدار المرجع الشيعي الأعلى في العراق، السيد علي السيستاني، فتواه المشهورة -الجهاد الكفائي- وخروج عشرات آلاف من المتطوعين الذين لم تتمكن وزارة الدفاع من استيعابهم لأسباب تنظيمية وسياسية، تأسس الحشد الشعبي بظروف متوترة ووضع قانوني مشوّه، فتشكلت نواته الأساسية بواسطة فصائل مسلحة مرتبطة او قريبة من إيران وناشطة في سوريا دفاعا عن نظام بشار الأسد منذ العام 2011، بدعم لامحدود من قبل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي المعروف بقربه من إيران، كما ضمت آلاف المتطوعين الملبّين للفتوى بدافع عقائدي.
العديد من قيادات الفصائل صرّحت في بداية تأسيسه بأنه مشروع عقائدي مذهبي يسعى ليكون النسخة العراقية عن الحرس الثوري الإيراني، وأن ولاءه مطلق للمرشد الإيراني علي خامنئي، الأمر الذي بات أكثر وضوحاً بعد انتشار عشرات المقاطع المصورة لتدريب عناصر ذلك التشكيل الوليد حديثاً واحتوائها على الجملة الشهيرة: “هل من ناصر فدائي؟ لبيك خامنائي”. مقابل ذلك كانت هناك قوى تعمل على الابتعاد عن التأثير الايراني وتشدد على وطنية توجهات الحشد واستقلالية قراره عن اي طرف خارجي.
التداخل بين السلطات العسكرية والدينية، والتوجهات الوطنية والتبعية، وعقائد القيادات والأفراد والخصوم، والغطاءات الشرعية والتشريعية، جميعها تحديات وإشكالات رافقت تأسيس هذه الهيئة المثيرة للجدل حتى اليوم.
طريق خلق “حرس ثوري عراقي” لم تكن خالية من الشوك، حيث أصدر رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي في عام 2016 أمراً ديوانياً يصنّف فيه الحشد الشعبي كقوة رسمية تتبع رئاسة الوزراء، الأمر الذي فسّره مريدو دولة المؤسسات بانه اختراق للدولة والمؤسسة الأمنية، فيما رأته جهات مقربة من الحشد بأنه خطوة إلى الوراء، وبين أولئك وهؤلاء استمر الحشد الشعبي على وضعه القانوني الرسمي لغاية الآن، مع بعض الأحداث التي تبرز بين الحين والآخر وتكشف مدى هشاشة صفقة الانضمام تلك، كقيام عناصر مسلحة تابعة لفصائل في الحشد الشعبي بقصف منزل رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي بطائرات مسيّرة.
تلا الاعتراف بالهيئة من قبل رئاسة الوزراء، تشريع مجلس النواب للقانون رقم (40)، وهو القانون الذي عَدّ الحشد الشعبي تشكيلا يتمتع بالشخصية المعنوية ويعد جزءاً من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة، كما أمر القانون بفك ارتباط منتسبي الهيئة الذين ينضمون الى هذا التشكيل عن كافة الاطر السياسية والحزبية والاجتماعية ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه، الأمر الذي لم يتعدَ كونه حبراً على ورقات القانون.
بمرور الوقت ظهرت جدلية الفصل بين الحشد والفصائل، حيث كانت الهوية المزدوجة ظاهرة بأبهى صورها، فاللواء الفلاني، لواء تابع للقائد العام للقوات المسلحة ويأتمر بأمره بشكل رسمي، ولكن في الواقع لديه مرجعيات أخرى داخلية وخارجية ينفذ أوامرها وأجنداتها، فأصبح المقاتل الواحد في مكانين متناقضين، فهو عنصر رسمي تابع للقوات المسلحة العراقية، وفي الوقت ذاته عنصر تابع لفصيل مسلح خارج إطار الدولة.
رافقت سيرة الحشد الشعبي، الذي يقترب من الـ8 سنوات وفصائله المسلحة التي يزيد عمر بعضها عن العقدين، العديد من الانتهاكات والمثبتة، حيث وصل الأمر إلى وجود شخصيات بارزة في صفوفه على لائحة عقوبات وزارات الخارجية والخزانة الأميركيتين، كرئيس الهيئة فالح الفياض ورئيس الاركان عبد العزيز المحمداوي “أبو فدك”، وزعيم فصيل عصائب أهل الحق قيس الخزعلي وشقيقه ليث، فضلاً عن فصائل مسلحة ككتائب حزب الله والنجباء وغيرها.
كما تشعّبت تلك الفصائل وانتجت فصائل جديدة أصغر حجماً وأقل عدداً لتنفيذ اجندات ثانوية دون الظهور بالصورة، كعمليات استهداف ارتال الدعم اللوجستي التي تنفذها فصائل كـ”أصحاب الكهف”، وتنفيذ اجندات سياسية كالهجوم على مقرات إعلامية وتفجير مخازن بيع المشروبات الكحولية كـ”ربع الله”.
بالإضافة إلى ما تقدم، فالحشد الشعبي وفصائله متهمون مباشرةً بجرائم اختطاف وقتل جماعي والسيطرة على أراضي في المحافظات المحررة ورفض ارجاعها لأصحابها وذلك خلال معارك تحرير تلك المحافظات وما بعدها أشهرها منطقة جرف الصخر في بابل والعديد من مناطق ديالى والموصل وصلاح الدين والأنبار، وعلى صعيد آخر، فهنالك اتهامات بضلوع هذه الفصائل بعمليات قمع الاحتجاجات الشعبية -كتظاهرات تشرين 2019- والسياسية -كتظاهرات اقتحام جمهور التيار الصدري للمنطقة الخضراء 2022-.
وتعد “حادثة السنك” خلال احتجاجات تشرين، والتي راح ضحيتها نحو 23 قتيلا و120 جريحا وفق أقل التقديرات، من أبرز أدلة ضلوع فصائل الحشد الشعبي بعمليات قمع المحتجين، حيث نُشر يومها بيانان متناقضان، الأول لنائب رئيس هيئة الحشد الشعبي آنذاك أبو مهدي المهندس، والذي اعترف ضمناً بمسؤولية عناصر تابعة للحشد عن الحادثة متهماً سرايا السلام بافتعال الأزمة، والثاني لرئيس الهيئة فالح الفياض يحاول تبرأة الحشد وفصائله من المجزرة الشهيرة.
في دولة تتشظّى مؤسساتها الأمنية والعسكرية إلى كلّ هذه الجهات والتسميات والانتماءات، وتخلو من جدران تصدّ اختراقات الخارج أو الداخل، وتعجز عن بناء قوة واحدة معزولة عن الفساد ونفوذ قادته وشيوخه، لن يرتفع وصف مؤسساته الأمنية والعسكرية عن تصنيف “هشّة” بأحسن تقدير، ولن تتشكل مؤسسة عسكرية أمنية وطنية، إلّا بتصحيح الأخطاء، من جذورها التي يتجاوز عمرها 20 سنة، وهذا ما لن يكون مفيداً لقادة المحاصصة الجديدة.
المزيد عن تحليل
تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":20594}" data-page="1" data-max-pages="1">