مروان الجبوري/ نيسان 2023:
صبيحة التاسع من نيسان عام 2003؛ أفاق العرب السنة في العراق على واقع لم يسهموا في صناعته للمرة الأولى في تاريخهم المعاصر، كان مشهد الدبابات الأميركية تختال في شوارع بغداد، إيذاناً بطيّ صفحة تاريخ عريضة حكمتها هذه المجموعة البشرية في العراق.
لم يتقبل عموم السنة هذه الرسالة بسلاسة وبدا الموضوع عند البعض “حماية لأمن إسرائيل” و”الحصول على النفط” وهي إن كانت أسبابا ذات وجاهة يمكن اعتبارها محركات لعملية الغزو، إلا أن العزلة التي عاشها العراقيون خلال حكم نظام صدام حسين، خاصة في فترة الحصار، جعلتهم أقل استيعابا لطبيعة التغيير الذي جرى بسقوطه.
ربما كان تصريح عبد العزيز الحكيم هو الأكثر صراحة ووضوحا في التعبير عن هوية النظام السياسي الجديد حين علق على شنق صدام حسين فجر عيد الأضحى عام 2006 بالقول إن إعدامه “إعدام للمعادلة الظالمة التي حكمت البلاد طيلة الفترة السابقة”.
هذه الهوية التي دق الكثيرون على وترها خلال عقود من معارضة حكم الدولة العراقية، لم تكن ثقافة متاحة يمكن التعرف إلى حمولاتها خارج أدبيات المعارضة العراقية، وهو أمر كان يمكن أن يكلف الإنسان حياته زمن النظام السابق.
لكن الفكرة الرئيسة التي جرى تصنيعها ونفخ الروح فيها هي أن فئة من الناس تمثل “أقلية عددية” مفترضة، هي التي احتكرت الحكم والسلطة في العراق “البريطاني” منذ تأسيسه على يد “المس بيل” بالتعاون مع نقيب أشراف بغداد عبد الرحمن الكيلاني، الذي يُصور في تلك الأدبيات كـ”طائفي مسن” أراد الحفاظ على مصالح قومه، وضمان استمرار سيطرتهم على سدة السلطة.
تيه وغياب بوصلة
عندما تهاوى تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، وجد السنة العرب أنفسهم تائهين دون منظومات سياسية أو دينية أو اجتماعية يتجمعون تحت لافتاتها أو تضبط مسيرتهم نحو المستقبل، فقد أدى الحضور الطاغي لشخصية رئيس النظام السابق ونفوذه المطلق، إلى تفتيت العديد من “المظلات” التي كان يمكن لها أن تلعب أدوارا مهمة تلك الفترة.
ولم يكن ثمة وجود لمؤسسة دينية سنية باستثناء “الإفتاء” التي كانت تخضع للدولة بشكل مباشر دون حضور فعال في الشارع، على العكس من المؤسسة الدينية الشيعية “الحوزة” التي احتفظت باستقلالها المالي والإداري عن الدولة، ومارست نشاطها بهدوء متجنبة الاصطدام بالنظام القائم، رغم بعض الضربات التي كانت تتلقاها بين الحين والآخر.
أما الأحزاب والجماعات السياسية الناشطة في الوسط السني فقد تآكل حضورها ودورها في الشارع، بسبب حملات الاعتقال المستمرة والإعدامات التي طالت بعض رموزها في العقود الأربعة الأخيرة.
كما أن نفوذ قادة الجيش قد تقلص كذلك، بسبب بعض المحاولات الانقلابية التي قادها ضباط سنة في الثمانينات والتسعينات ضد نظام الحكم، في محافظتي صلاح الدين والأنبار، وانحصرت معظم الصلاحيات الأمنية والعسكرية في دائرة صغيرة تمثل عائلة الرئيس الراحل صدام حسين وبعض المقربين منه.
وبقيت المؤسسة العشائرية تمارس أدواراً اجتماعية محدودة ضمن مناطقها، فلم تبرز شخصية “شيخ عموم” لإحدى القبائل أو العشائر السنية ذات تأثير واضح على مستوى البلاد بشكل عام.
عملية سياسية “عرجاء”
ومع نشأة النظام الجديد، كان الجو السائد داخل المجتمع السني يميل إلى مقاطعة العملية السياسية وتخوين المشاركين فيها، لأن القصة بدت وكأنها انتصار لأطراف معينة على حساب أخرى.
وكانت رسائل “كسر العين” -كما فهمها البعض- واستدعاء التاريخ وسردياته المذهبية، بمثابة انتقالة في الوعي الجمعي للعراقيين عموما والعرب السنة بشكل خاص، ممن لم يعتادوا لغة التقسيم المذهبي، وتربوا تحت مظلة نظام شمولي كان يزايد على الأنظمة الأخرى في توجهها القومي العروبي.
وفي 12 تموز من عام 2003، وحين أعلن عن “مجلس الحكم العراقي” ظهرت معالم النظام السياسي الجديد، الذي سيقدر له أن يقود العراق حتى إشعار آخر.
تضمنت تشكيلة المجلس 25 عضوا، كان من بينهم 5 فقط من العرب السنة، وهو ما اعتبره البعض “شروط المنتصر” التي أملاها تهاوي سلطة البعث، ذات الرأس السني، فيما كان واضحا أن الإدارة الأمريكية مصرة فعلا على تخصيص 20% من السلطة كحصة للعرب السنة، وفقا للأرقام التي تبنتها كنسب للمكونات الديموغرافية للشعب العراقي.
كان الاعتراض السني واضحا من البداية، خصوصا وأن المحاصصة الطائفية لم تبن على إحصاءات سكانية رسمية دقيقة، وإنما استنادا إلى دراسات كتبتها شخصيات أكاديمية أو سياسية معارضة، يحمل كثير منها خصومة “مذهبية” للدولة العراقية، وشعورا بالمرارة تجاه تركيبة الحكم السابق، منذ نشأة المملكة العراقية.
لكن الأمر مضى ثم أصبح في وقت لاحق يشبه العرف السياسي، على الطريقة اللبنانية في توزيع مناصب السلطة ومغانمها.
الاعتراض السني الذي كان كبيرا على طبيعة المجلس ثم على تركيبته، ولّد حالة من الغضب والرفض الكامل للعملية السياسية منذ انطلاقتها، ترجمه البعض على الأرض في شكل حالات عنفية مختلفة، استهدف بعضها القوات الأمريكية، فيما وجه الآخر سلاحه نحو القوات الأمنية الجديدة، التي تشكلت بإشراف الولايات المتحدة وادارة البيت الأبيض في عهد الجمهوريين.
وكان في مقدمة القوى الرافضة للمشاركة السياسية (هيئة علماء المسلمين)، التي تشكلت عام 2003، وقوى بعثية وإسلامية متفرقة، إلا أن التيار الجارف كان أقوى من الجميع.
“الزعماء” الجدد
ومع تغير معادلة السلطة وسقوط هيكلها القديم، ظهرت قوى بدأت تتصدر المشهد السياسي والاجتماعي السني الجديد.
تمثلت هذه القوى في الحزب الإسلامي بالدرجة الأولى، الذي أنشأ (جبهة التوافق)، وضمت في صفوفها ثلاث مجموعات مختلفة التوجهات، لكن الحزب الإسلامي أحكم قبضته عليها بحكم قاعدته الجماهيرية الأكبر، وخبرته المتقدمة في العمل التنظيمي، قياسا إلى الآخرين.
بالإضافة إلى التوافق، برزت للواجهة مجموعات متفرقة من البعثيين، كون بعضهم (جبهة الحوار الوطني)، فيما فضّل البعض الآخر العمل مع (حركة الوفاق) التي يرأسها أياد علاوي، لكن هذه الجماعات كانت شبه “مجرّمة” سياسيًا، بسبب قانون “اجتثاث البعث” الذي لاحق المنتمين للحزب، وعمل على اقصائهم من العملية السياسية الجديدة.
ومن الشخصيات العامة التي تصدت لقيادة الشارع السني وتمثيله أمام وسائل الإعلام برزت أسماء طارق الهاشمي، وعدنان الدليمي، ورافع العيساوي، وصالح المطلك، ومحمود المشهداني، وأحمد عبد الغفور السامرائي، وأسامة النجيفي وغيرهم.
ويمكن تسمية هذه المجموعة بـ”صقور السنة” في العملية السياسية الجديدة، أو الجيل الأكثر “مبدئية” و”تصلبا”؛ قياسًا بمن جاء بعدهم.
وتمتع بعضهم بقواعد جماهيرية كبيرة ظهرت بشكل واضح في انتخابات 2010؛ عندما حصل طارق الهاشمي على أكثر من 270 ألف صوت من محافظة بغداد، وهو رقم كبير منحه هامشا كبيرا من المشروعية، ليكون واجهة للعرب السنة أمام المجتمعين المحلي والدولي.
ورغم أن منصب الهاشمي كنائب لرئيس الجمهورية كان بلا صلاحيات حقيقية، لكنه كان حاضرا بقوة في جميع مفاصل العملية السياسية، واعتبره البعض ندا حقيقيا لرئيس الوزراء نوري المالكي، خاصة بعد تصاعد وتيرة الأحداث في سوريا، وما تبع ذلك من تشنجات طائفية ظهرت آثارها في الشارع بسرعة.
تطورت العلاقة بين الهاشمي والمالكي من وضع يشبه التحالف نسبيا إلى مناكفة وعداء تجلى في تصريحات الطرفين ومهاجمتهما لبعضهما عبر وسائل الإعلام، وهو ما سرّع توجيه ضربات قاصمة للهاشمي وحلفائه عبر بوابة القضاء، واعتقال العشرات ممن يعملون معهم، تزامنا مع توسّع تظاهرات احتجاجية واسعة في مناطق مختلفة من بغداد والمحافظات السنية، وصولا إلى اجتياحها من قبل تنظيم “داعش” الإرهابي.
شرارة من الفلوجة
وخلافا للحظات التهاوي والسقوط السريع للمدن العراقية أمام الزحف الأميركي، والتي أظهرت انهيارا كاملا للجيش العراقي ومؤيدي حزب البعث، وأوحت بوجود رضا ضمني عن وجود “اليانكي” في شوارع مدن وقرى البلاد، ظهرت بشكل مفاجئ مقاومة مسلحة ضد القوات الأميركية.
كانت الفلوجة هي نقطة الانطلاق الأولى، ثم سرعان ما تزايدت عمليات استهداف القوات الأميركية على يد فصائل سنية مختلفة على امتداد الخارطة السنية في العراق، من نينوى شمالا حتى بابل باتجاه الجنوب.
تنوعت عناوين ورايات المجموعات المسلحة الجديدة، إلا أنها أخذت منحيين فكريين: الأول بعثي، مكون من بقايا الجيش العراقي وفدائيي صدام، والثاني كان من الطيف الإسلامي الواسع، من يمينه حتى يساره.
ومما غذى انتشار هذه النزعة، عمليات اغتيال وملاحقة المئات من ضباط وطياري الجيش السابق على يد مسلحين تابعين لجهات مدعومة إيرانيا، كما استهدفت عمليات القتل بعض معتنقي التسنن من شباب الشيعة؛ بتهمة “الوهابية”، وخاصة في البصرة ومناطق شرق القناة ببغداد.
تزايدت انشطارات المجموعات المسلحة بشكل سريع لاحقا، وبدا أن بعضها أكثر جنوحا نحو العنف والاستهداف العشوائي لخصومها، حتى ظهر تنظيم القاعدة بشكل علني وصريح، وأعلن حربه على الجميع: الأميركيين والجيش والشرطة، ثم اتسعت الدائرة لتشمل جميع الشيعة، ومناصري العملية السياسية من السنة.
كانت يوميات العنف المتبادل والجثث مجهولة الهوية وعمليات الخطف الثأرية والقتل الجماعي، محفزات لانتشار خطاب جماعات العنف المسلح، ووقودا لحرب لا تبقي ولا تذر، خاصة بعد عمليات القتل العشوائي في الشوارع وتهديم المساجد وحرقها على يد مسلحين من الطرف الآخر، عقب تفجير قبة سامراء.
انتهت المرحلة الأولى من هذا الصراع بظهور الصحوات التي لاحقت فلول القاعدة وألجأتها إلى الصحراء، قبل اغتيال زعيمها الشيخ ستار أبو ريشة على يد “مجهولين”، ثم ضمان المالكي ولاية ثانية برئاسة الوزراء، جاءت بشق الأنفس بعد فوز القائمة العراقية، ذات اللون السني الغالب، في انتخابات 2010.
مرجعيات وعمائم
حاول البعض استنساخ فكرة “المرجعية الدينية” بشكلها الموجود لدى الشيعة، وصناعة أخرى شبيهة بها في المجتمع السني، متجاهلا السياقات التاريخية التي نشأت على أساسها المؤسسة الدينية الشيعية، ثم التطورات اللاحقة التي طرأت عليها مع غزو البريطانيين للعراق، والظروف التي شابت علاقتها بالدولة العراقية عبر عقود.
توجت هذه المحاولات بتأسيس (المجمع الفقهي العراقي) في جامع الإمام أبي حنيفة النعمان عام 2012 برئاسة الشيخ أحمد حسن الطه، على قاعدة تشكيل سابق عرف بـ(مجلس علماء العراق)، وبدأ المجمع ممارسة دور دعوي إرشادي في المجتمع السني تدريجيا، مع احتكاكات متفرقة بالوضع السياسي، عن طريق خطب الجمعة، التي تحمل الكثير من النقد المباشر للحكومة والعملية السياسية.
في المقابل، كانت مجموعة تحيط بأحد علماء الدين السنة المعروفين، وهو الشيخ عبد الملك السعدي، تصدّر نفسها كممثل ديني للسنة في العراق، وكانت خطاباتها تجاه السلطة أشد حدة وأكثر صرامة، إلا أنها ظلت معزولة عن الفضاء العام للشارع السني، حتى أعادتها تظاهرات المحافظات السنية إلى الواجهة مجددا.
وعلاوة على هاتين الجهتين، كانت أطراف أخرى تدندن حول فكرة “المرجعية السنية” وتطرح نفسها كجهة شرعية تمتلك حق الإفتاء وقيادة المجتمع في تلك الظروف المعقدة، ومن بينها (هيئة علماء المسلمين) ومجموعة الشيخ رافع الرفاعي، وجماعات سلفية وصوفية متفرقة.
وخلال عقدين من الزمن لم تفلح الجهات آنفة الذكر في مشروعها لبناء مرجعية حقيقة؛ ذات تماس بالشارع أو تأثير حقيقي عليه، باستثناء أدوار مارسها المجمع الفقهي، الذي بات يمتلك علاقات اعتبارية بالوسط السياسي والحكومة، توجت بمنحه حقا قانونيا باختيار رئيس ديوان الوقف السني، وهو “حق” بقي مجرد حبر على ورق، ولم يمارس حتى اليوم.
“4 سُنة”
كان استمرار المالكي في السلطة عام 2010 عنوانا لمرحلة جديدة، شعر فيها الفرد السني بأنه “متهم” رسميا من الدولة، وصارت وصمة الإرهاب تلاحقه في الشوارع والمحاكم ودوائر الدولة، حتى تحولت مادة “4 إرهاب” إلى “4 سنة”؛ لدى الأوساط الشعبية السنية.
وبناء على تقارير “المخبر السري” اعتقل عشرات آلاف الشباب من مختلف مناطق بغداد وديالى والموصل وشمال بابل والبصرة وواسط، وعجت السجون بأصحاب التهم التي توصف بـ”الملفقة”، وكثيرا ما لجأت أسرهم لبيع منازلها وممتلكاتها، لدفع أموال للمحامين وبعض رجال الأمن، من أجل تسهيل خروج أبنائهم من المعتقلات، أو تقديمهم إلى المحاكمة على الأقل.
ومرة أخرى عادت الفلوجة إلى الواجهة، مع اعتقال حمايات وزير المالية وقتها رافع العيساوي، حيث قام أبناء عشائر المدينة بقطع الطريق الدولي الذي يمر بها، وأقاموا سرادق للاعتصام، سرعان ما انتشرت ولاقت أصداء واسعة من الموصل حتى بغداد، ووجد فيها الكثيرون طريقة لتنفيس غضب متراكم ومحتقن على سياسات اضطهاد مورست بحقهم على يد سلطة المالكي.
استمر الاعتصام قرابة العام، إلا أنه خفت في شهوره الأخيرة، وانسحب الكثيرون من ساحاته، ليظهر فجأة في إحدى تجمعاته إرهابيون فروا من سجن أبي غريب بطريقة لا يعلمها أحد، ويهتفوا باسم تنظيم القاعدة، الذي كان قد أفل نجمه، وورثه تنظيم آخر أشد خطورة وبطشا منه، عرف باسم “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” أو “داعش”.
وبطريقة ما زاد الاحتقان أكثر وتوجه الجميع نحو النزال المسلح، لتسقط الفلوجة بيد المسلحين، ثم بعدها بشهور الموصل وتكريت ومدن أخرى، في أول ظهور رسمي وعلني لإرهابيي داعش.
وبدأت حقبة سوداء أخرى في حياة العرب السنة كما يقولون، بين ملاحقة عناصر داعش لهم واستهداف المليشيات لأماكن تواجدهم، خصوصا عندما فروا من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم؛ لتستقبلهم سيطرات المليشيات، ويختفي أكثر من 20 ألفا منهم إلى الأبد دون أن يعرف أحد عن مصيرهم شيئا حتى اليوم.
“إلا كفيل”
ومع سيطرة “داعش” على نحو ثلث مساحة العراق؛ بدأت أكبر عملية نزوح في تاريخه المعاصر، حيث يمم الملايين وجوههم نحو بغداد وإقليم كردستان ومحافظات أخرى؛ هربا من استهداف التنظيم ونيران الحرب.
شكل جسر “بزيبز” نقطة تحول مفصلية في الوعي الجمعي للعرب السنة و”ثقبًا أسودا” ابتلع تصوراتهم عن العراق القديم، وكان ذلك مصاحبا لحفلات شتم جماعية طائفية قادتها مجموعات متنفذة في السلطة.
وظهر ذلك بشكل واضح في وسم “إلا كفيل” الذي تصدر محركات البحث على مواقع التواصل وقتها، وحرم السنة الفارون من “داعش” دخول عاصمة بلادهم إلا بكفيل من أهلها، وهي معاناة مركّبة واجهها مئات آلاف النازحين الذين استقبلتهم العاصمة في سنوات ما بعد الحرب على الإرهاب، وتعرضوا خلالها للكثير من الابتزاز وعمليات الخطف والتغييب، دون تدخل حكومي يذكر.
ويمكن اعتبار تلك الأحداث مجتمعة، لحظة ميلاد نزعة “براغماتية” واضحة لدى الساسة الجدد الذين ظهروا إلى الواجهة، بعد عقود من هيمنة الآيدلوجيا، منذ سقوط الحكم الملكي.
ولم تفلح تشرين –التي جاءت لاحقا 2019- رغم ما بذله بعض شبابها الأوائل من جهود ودماء، في رأب التصدعات النفسية والاجتماعية التي أصابت العرب السنة.
وظهر ذلك بشكل واضح لاحقا في ردود الفعل الشعبية المتشنجة تجاه دعوات بعض الناشطين للتظاهر في الأنبار، واتهامها بـ”الاستغلال السياسي”، بحسب الكثيرين.
كل ذلك كان مقدمة لإعادة فرز الصفوف السياسية، وانهيار قوى وصعود أخرى، بدأت في فرض نفسها على الساحة، ومن بينها حزب تقدم الذي يتزعمه محمد الحلبوسي، النائب في برلمان 2014، ومحافظ الأنبار بعدها، ثم رئيس السلطة التشريعية لدروتين متتاليتين.
حمائم وصقور
كانت التداعيات السريعة التي عاشتها المناطق السنية عقب عام 2014 قد أسهمت في ظهور ساسة يمكن تسميتهم بـ”الحمائم” وسط “غابة” من القوى الراديكالية، وتصدّرت هذه المجموعة أسماء سليم الجبوري، وعبد اللطيف الهميم، ومحمد الكربولي، بالإضافة إلى شخصيات أخرى، حاولوا جميعا استرضاء الطرف المنتصر، والوصول إلى تسويات سريعة معه، تسهل بقاءهم في مناصبهم، أو تضمن امتيازاتهم، كما كان يتهمهم خصومهم.
شهدت تلك الفترة أيضا عمليات تغيير ديموغرافي واسعة، وإفراغ مناطق كاملة من سكانها بتهمة “الدعشنة” مثل جرف الصخر ويثرب وسليمان بيك والعوجة ونواحي وقرى كاملة في ديالى ونينوى وجنوب صلاح الدين وحزام بغداد.
ثم جاءت انتخابات 2018 لتحمل للسلطة وجوها جديدة؛ تصدرها محمد الحلبوسي؛ الذي بدأ في عقد تحالفات واسعة من القوى الشيعية، وتصفير الخلافات مع الأطراف الإقليمية والدولية كافة، ثم الانتشار في المحافظات السنية، تحت مظلة الدولة، كطرف لا أعداء له خارج ساحته.
لكن الجدل ما يزال محتدا سنيا، حول طبيعة مشروعه، ومصادر قوته وسطوته في مركز السلطة، وتغلغله حتى في الوسط الشيعي عن طريق علاقات وثيقة بنواب وأحزاب وحركات سياسية، لعب المال فيها دورا رئيسيا، ولن ينتهي هذا الجدل قريبا على ما يبدو.
التماثل في التاريخ العراقي مدهش أحيانا، والتاريخ يعيد نفسه بشكل يمزج بين التراجيديا والكوميديا في كثير من الأحيان، فالسنة الذين بنوا الدولة العراقية الحديثة واجهوا معارضة المرجعيات الشيعية والاتهام بالارتهان والتبعية لبريطانيا، ثم تبدلت مواقع اللاعبين بعد نحو قرن، فقاطع السنة العملية السياسية الجديدة متهمين شيعة السلطة بالعمالة للأميركيين، ولن تنتهي هذه الملهاة أو المأساة قريبا، كما يلوح في الأفق.. إلا أن السؤال الأهم يبقى هو: هل غادر السنة لحظة 2003 بالفعل؟.