من دور الرعاية إلى الشارع… مصائر الأيتام في العراق عند بلوغهم سنّ الـ18
خمسة مليون يتيم في العراق مقابل 22 دار رعاية فقط... من ينقذهم في ظل غياب الدولة؟
خمسة مليون يتيم في العراق مقابل 22 دار رعاية فقط... من ينقذهم في ظل غياب الدولة؟
بنين إلياس:
يقضي علي عمر(19 سنة)ساعات النهار جائلاً بين المركبات في التقاطعات الضوئية لمنطقة المنصور في جانب الكرخ بالعاصمة بغداد، يبيعُ أقراص الأغاني المدمجة وعلب المناديل الورقية، ويفترش ليلاً رصيف جامعٍ قريب، أملاً بغدٍ أفضل يخفف عنه حياة اليُتمِ والتشرد.
يلخص سيرته الذاتية بسطر واحد “عثر عليّ شرطي وأنا في الرابعة من عمري مشرداً في سوق ببغداد وسلمني لدار الأيتام”.
يقول هذا وذراعه ممدودة كأنه يشير إلى تلك الواقعة التي مضت عليها خمسة عشرَ سنة، ويضيف بحيرة:”كان الشرطي يتردد للاطمئنان علي بين حين وآخر، ثم اختفى. لا أعرف حتى أسمه، والمشرفون في الدار كذلك لا يعرفون شيئاَ عنه”.
يعيد ذراعه، ويضع كفهُ على جبينه ويتساءل “هل كان هذا الشرطي والدي وتخلى عني بتلك الطريقة؟”، يغمض عينيه ويتابع بأسى “لم يعد ذلك مهماً بالنسبة لي، فلقد كنتُ طفلاً مشرداً عندما سلمني للدار وأنا مشردٌ الآن”.
حصل عليٌ على أسمه من دار الأيتام؛ حسبما أخبروه هناك، وبخلاف العديد من رفاقه الأيتام الآخرين الذين أكملوا دراساتهم أو عثروا على أقرباء يضمونهم أو يوفروا لهم أعمالاً، خرج هو من دار الأيتام حين بلغ الثامنة عشر كما تنص اللوائح، وكان ذلك في مطلع 2021، ولم يكن معه سوى ورقة لأثبات شخصيته، وعالماً قاسياً وغريباً بالكامل بانتظاره.
علي ليس حالة استثنائية، بل هنالك كثيرون غيرهُ انتقلوا من دور الأيتام إلى الشوارع بسبب بلوغهم السن القانونية وهي ثمانية عشر سنة، المحظوظون منهم يجدون أعمالاً ويندمجون في المجتمع وبعضهم يواصل دراسته إلى جانب عمله.
بينما هنالك من تتلقفهم عصابات منظمة تستغل ظروفهم وتستخدمهم في تجارة الجنس والتسول وحتى الإرهاب وفقاً لما ذكرهُ معاون قائد شرطة بغداد اللواء عدنان حمود سلمان.
والسبب كما يرى اللواء، هو عدم اهتمام الدولة بدور الأيتام :”لا ببناء الجديد منها، ولا بتحديث القديمة المنشأ غالبيتها في عهد النظام السابق”. ولفت إلى أن قلة أعداد الدور الموجودة قابلها عدد كبير من الأيتام بفعل “الحروب والإرهاب” نافياً أن تكون هنالك إحصائية دقيقة بشأن أعداد الأيتام.
وقال بأنه قدم مقترحات الى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لحل مشكلة الخارجين من دور الأيتام لبلوغهم سن الرشد( 18 سنة)، منها أن يتم تعيينهم حراساً لدور الأيتام ذاتها ومنح المجتهدين في الدراسة فرصة للبقاء في الدار لحين إكمال دراساتهم وتعيينهم معلمين أو موظفين في ذات الدار، أو صرف سلف خاصة بهم لفتح مشاريع تدر عليهم المال وتشكيل لجان لمتابعتهم أو إعادة فتح المصانع المغلقة وتشغيلهم فيها كأيدٍ عاملة.
وتابع يقول: “كل هذه الاقتراحات أصبحت مجرد حبر على ورق وطواها الإهمال”. ولفت إلى أن عناصر الشرطة من منتسبي دائرته يلقون القبض على متسولين تشرف عليهم عصابات منظمة توزعهم بسياراتها الخاصة وتؤمن لهم السكن، وهي التي تدربهم على الدفاع عن أنفسهم أمام القاضي المختص فيقولون بأن “تلك السيارات والمساكن مستأجرة من قبلهم، كثير من هؤلاء هم من الذين خرجوا بسبب البلوغ من دور الأيتام”.
ويؤكد اللواء بأن من بينهم من يمتلكون طاقات ومواهب يصفها بـ”كنز للدولة فيما لو تم استثمارها بالنحو الصحيح” وأن مساعدات دولية قدمت خلال السنوات المنقضية في هذا الاتجاه لكنها” تبخرت” حسب تعبيره دون مزيد من التفاصيل.
وعلى الرغم من وجود 345 منظمة تعنى باليتيم في العراق حسب قائد شرطة إلا أنه يشير إلى أن أغلبها “تستغل الأيتام لجمع المال لمصالح شخصية، فضلاً عن برلمانيين يتاجرون باسم اليتيم وهمهم الوحيد هو جمع الأصوات الانتخابية والحكومة لا تملك رؤية عن كيفية معالجة المشكلة الاجتماعية الأولى في البلاد، وأعني بها الأيتام”.
ويستدرك” على الرغم من ذلك، هنالك منظمات كانت تجاربها نافعة، وينبغي على الحكومة تعميمها على جميع محافظات البلاد”.
إهمال الدول للأيتام
على الرغم من إعلان كانت مفوضية حقوق الإنسان في العراق قد أصدرته يوم السبت 11كانون الثاني/يناير2021 أكدت فيه وجود خمسة ملايين يتيم في البلاد وأن 45 ألفاً منهم بلا أوراق ثبوتية، إلا أننا لا نجد سوى 22 دار إيواءٍ خاصاً بهم، وهذا ما يشكل وفقاً للعميد غالب العطية مدير الشرطة المجتمعية مشكلة مزدوجة، فمن جهة لا تتسع دور الأيتام هذه للأطفال اليتامى المشردين في الشوارع، ومن جهة أخرى يتم تسريح اليتيم بعد عمر 18.
وقال بأن عناصر الشرطة المجتمعية ترصد يومياً مئات الأيتام المشردين في شوارع بغداد، يعملون في”التسول ومهن مشبوهة” دون أن يفصح عن ماهية تلك المهن.
ويضيف: “أكبر مشكلة تواجهنا هي عدم امتلاك اليتيم المشرد لمستمسكات ثبوتية، وقد رصدنا الكثير من تلك الحالات التي سببها الزواج خارج المحكمة، أي عقد يبرمه رجل الدين، خصوصا في المناطق الريفية، فتكون النتيجة ولادات غير موثقة رسمياً، ويحدث أن يتوفى الوالدان أو أحدهما أو يتم التخلي عن الطفل، ليصبح يتيماً وبلا أي مستمسك يدل عليه أو على عائلته”.
ولإيجاد حل لذلك، قال بأنه قدم طلباً لوزارة الداخلية من أجل تشكيل لجان مهمتها مسح المناطق الريفية للخروج بإحصائية ومعرفة أعداد الأطفال غير المسجلين، ومعالجة المشكلة من جذرها:”لأنهم سيكبرون بدون تعليم وبدون أن يكون لديهم مستقبل، ويكونون بمثابة قنابل موقوتة تهدد أمن البلد وسيادته”.
ومثل قائد شرطة بغداد، ناشد العميد غالب العطية، الحكومة العراقية لتنفيذ برامج لرعاية الأيتام في العراق، و”منح المستفيدين في دور الخاصة بهم ذكوراً وإناث البالغين ثمانية عشر سنة درجاتٍ وظيفية خاصة لإكمال حياتهم بنحو طبيعي بدلاً من أن يتركوا لمصير مجهول في الشوارع”.
بشرى، شابة في عقدها الثالث، قابلناها في زقاق بمنطقة الكاظمية في بغداد، تبدو مضطربة نفسية ولا تعرف شيئاً عن حياتها سوى أنها كانت في دار أيتام والآن تعيش على الأرصفة.
تتلعثمُ في الكلام، وتتلفت كأنها تتوقع هجوماً مباغتا، قالت بأن أهلها تركوها وهي في القماط لتتولى دار الأيتام تربيتها وخرجت منه بعد أن بلغت ثمانية عشر سنة، ليصبح الشارع بيتها الجديد.
هي لا تتذكر كم مضى عليها مشردة، لكنها تتهم باعة جوالين ومستطرقين مجهولين بضربها دائما، والاعتداء عليها. ترفع يدها بارتباك فاردةً ثلاثة أصابع وتقول:”حبلت وولدت ثلاث مرات، اثنان سلمتهما لدار الأيتام لأنني لا أستطيع أن أربيهما وأنا في الشارع، وواحد…..”.
تفكر قليلاً وعيناها تدوران يميناً ويساراً ثم تقول:”سرقته مني تلك الحقيرة” تشير بسبابتها نحو جهات مختلفة وتعود للقول:”اشتغلت وأنا حامل به في بيت امرأة معاقة مقابل الأكل والسكن، وبعد ولادتي لم أر الطفل أبدا، قالت بأنها باعته، أعطتني بعض النقود وطردتني من بيتها”.
وعندما سألناها إن كانت هنالك أية جهة رسمية قد تواصلت معها، قالت بأن الشرطة أمنوا لها مكانا لستة أشهر مع السجينات، لكنها خرجت مرة أخرى للشارع، وأن أشخاصاً عرضوا عليها السكن مع عائلاتهم لكنها رفضت ذلك.
قصة نجاح نادرة
ولتجنيب الأطفال الأيتام مصيراٍ مشابها للذي تواجهه بشرى، أسس الناشط والباحث النفسي العراقي، هشام الذهبي في 2004 منظمة البيت العراقي للإبداع، تهتم بإيواء والأطفال المشردين واحتضانهم. قام أولاً برعاية أربعة أطفال في منزله الخاص، وبعد ذلك جمع 47 طفلاً، آواهم وتكفل بمعيشتهم.
وبمرور الأيام ازدادت أعداد الأيتام، وحرص على تدريبهم وتهيئتهم للحياة العملية في مجال الخياطة والحلاقة والعمل على الحاسوب إلى جانب مساعدتهم على ممارسة هوايات كالموسيقى والرياضة وحتى الصحافة والإعلام وأسس إذاعة داخلية يبدأ بثها صباحاً تنبه الأطفال ساكني الدار التي أنشأها لوقت الاستيقاظ من النوم وتعريف كل واحدٍ منهم بواجباته لذلك اليوم.
تخرج من البيت العراقي للإبداع سنة 2017 مئة وخمسون يتيماً: “دخلوا أطفالاً وخرجوا شباناً ليواصلوا حياتهم العملية ونجح البعض منهم في إيجاد زوجات” حسب الذهبي الذي حرص على قصر حضانته للذكور دون الإناث، خشية اتهامه باستغلالهن، ويقول بأسف: “تترك الفتاة في الشارع ولا نعرف إلى ماذا تتعرض من ضغوطات أو تحرش، ولا يتقبل المجتمع إيواءها في بيت يؤهلها لعيش حياة طبيعية !”.
نشاط الذهبي ونجاح مشروعه الخيري وصلت أصداؤه إلى الإمارات العربية المتحدة التي منحته جائزة صناع الأمل سنة 2017، وفي منتصف 2022 أعلن إكمال دار جديدة للأطفال الأيتام باسم (دار الابداع العراقي).
يقول عن ذلك: “على الرغم من صغر حجم الدار، إلا أنها تضم قاعات لتدريس الأطفال وأخرى لاجتماعاتهم، بالإضافة إلى قاعات لتعليمهم على أجهزة الحاسوب والخياطة والرسم والعزف على بعض الآلات الموسيقية وغيرها، الأمر الذي يساعدهم على اكتشاف مواهبهم، فضلاً عن تركيزنا على ما سيدرسه الطفل في المستقبل”.
ويتابع “عقب ذلك، يتوجه الطفل إلى دار البالغين التابعة للمؤسسة، حيثُ يستقر فيها ويكمل دراسته ويمارس أعماله. كما يتولى مسنون الرعاية في الدار ضمن مبادرة أطلق عليها، جدّو بخدمتك”.
ويؤكد الذهبي بأن داره لا تتخلى عن أي فرد دخلها إلا بعد أن يتم الاطمئنان على مستقبله، وقد شمل ذلك 480 يتيماً تم احتضانهم على مدى أحد عشر عاماً، وهذا ما لا يحدث في دور الأيتام العائدة للدولة، إذ يجد الأيتام البالغون أنفسهم وحيدين دون دعم او مساندة.
فيصل حميد يعقوب(24سنة)واحدٌ من هؤلاء، إذ تولت جدته تربيته بعد وفاة والديه، وبعد وفاتها نقله عمه إلى دار الأيتام ولم يكن حينها يتجاوز السادسة من عمره وفقاً لما يذكر.
“عندما وصلت الى 18 سنة أخرجوني من الدار رغم أنني توسلت بهم أن أبقى لأنني كنت أحب معلمتي وأصدقائي هناك، فقالوا لي بأن عمري لا يسمح لي بالبقاء أكثر من ذلك”.
مضت ست سنوات على وجوده في الشارع، باع المناديل الورقية والماء البارد في الصيف وحمل البضائع لمحلات في سوق الشورجة وسط العاصمة بغداد:”جربت كل شيء لكي أحصل على رزقي بعرق جبيني، ورفضت العمل في التسول، البعض طلب مني أن أعمل معهم في التسول مقابل 30 ألف دينار في اليوم وسكن، قالوا بأنهم سيأخذونني الى النجف، لكنني لم أقبل”.
يفكر قليلاً ثم يقول:”أعرف أشخاصاً قاموا بذلك وهم يعملون متسولين، هنالك من يرتب لهم العمل مقابل نسبة”.
الباحث الاجتماعي وعد كريم هاشم، انتقد الطبقة السياسية في العراق لكونها تفكر بفرض التجنيد الإلزامي وتسعى لإقرار قانونه، بينما تتجاهل قانون حماية الطفل الذي من شانه إنقاذ الطفل العراقي عموماً من العنف وعشرات الآلاف من الأيتام من التشرد على حد تعبيره.
وذكر بأن ” حرب 2003، والأعمال الإرهابية للجماعات المسلحة، والحرب على داعش، خلف عدداً كبيراً جدا من الأيتام، وعجزت الدولة عن توفير الرعاية اللازمة للكثير منهم ليصبحوا فريسة سهلة للعصابات الإجرامية”.
وقال بان المجتمع يتعامل كذلك مع اليتيم بنحو غير صحيح، ويبين: “المبادرات الشعبية في تقديم المساعدات للأيتام، وكفالتهم، من الأمور الجيدة، لكنها وقتية وتقتصر على الثياب والطعام، لكن يظل مستقبلهم مجهولاً”.
وتابع باستغراب: “ذات المجتمع الذي يعطف على اليتيم ويقدم له المساعدة بدافع ديني، يمتنع عن احتضانه حين يبلغ 18 سنة، فنرى كثير من أرباب الأعمال يتوجسون منهم ويرفضون منحهم فرص عمل يستحقونها في واقع الحال أكثر من غيرهم”.
والنتيجة وفقاً للباحث وعد، شبانُ في مقتل العمر “يقعون ضحايا في شبكات الإتجار بالبشر والمخدرات والجرائم الأخرى المنظمة، والفتيات في ايدي تجار الجنس بالمراقص الليلة وبيوت الدعارة”.
وهذا ما أكده موظف في دار للأيتام في بغداد طلب عدم الإشارة إلى أسمه، ولفت إن البعض ممن وصفهم بتجار الجنس، يفتشون دائما عن فتيات وحتى فتيان مشردين، والأيتام الخارجون من الدور بسبب البلوغ “فرائس مثالية بالنسبة إليهم”. وفقا لنص تعبيره.
ونفى المصدر ان تكون دور الأيتام مهملة في أداء واجباتها تجاه الأيتام، وذكر بأنها تعاني من قلة الكوادر في حين أن أعداد الأيتام كبير، ولا تملك إمكانية متابعة الأيتام بعد خروجهم من الدار، على الرغم من بعض المبادرات في دعمهم لأكال الدراسة في الجامعة أو إيجاد أعمال، حتى وإن كان ذلك في حدود ضيقة.
ودعا الحكومة العراقية إلى توفير فرص عمل للأيتام البالغين، في المصانع العامة ومنشآت النفط والمزارع الحكومية ويستدرك: “نسمع عن مئات الآلاف من العمال الأجانب يدخلون ويعملون في عموم مناطق العراق، فلماذا لا تعد الحكومة الأيتام العراقيين أجانب وتمنحهم فرص عمل؟ !”.
*أنجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية ونشر على موقع رصيف 22.