فريق نينوى الاستقصائي:
تحولت شقة مراد شنكَالي (29 سنة)، بالضاحية الجنوبية لمدينة هانوفر الألمانية يوم الجمعة 16كانون الأول/ديسمبر2022 إلى مقصد للعديد من الشبان الإيزيديين للاحتفال بعيد الصوم، محاولين بذلك التخفيف عن وطأة تواجدهم بعيداً عن ذويهم.
يقول بعد أن أنهى اتصالاً عبر واتساب، ورده من والدته الموجودة في مخيم للنازحين بمدينة زاخو في أقليم كردستان: “هذه السنة الثالثة التي أحتفل بها بعيد الصوم وأهلي ليسوا معي” أشار إلى أصدقائه الذين اكتظت بهم شقته وعلت فيها ضحكاتهم: “نحاول بهذا، التمسك بطقوسنا الدينية وعاداتنا التي تميزنا عن غيرنا”.
أخذ أحدهم يعزف على آلة (البزق) ثم تبعه آخر يغني بصوت فيه بحة، شطب به الضحكات من الجو الاحتفالي، وغرقت الوجوه والمكان في حزنٍ عميق.
صفق مراد ومعه ضيوفه بحرارة لدى انتهاء الأغنية، وقال بعينين ممتلئتين بالدموع:”لا نستطيع التخلص أبداً من هول ما جرى علينا نحن معشر الإيزيديين”. أيدهُ البعض بهزات رؤوس سريعة، ثم تابع:”ليس فقط بسبب مذبحة داعش وجريمته في آب 2014، بل مع سنوات الذل في مخيمات النزوح وان تقضي عمرك بمستقبل مجهول تحت خيم تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة”.
أشار بإصبعه إلى أصدقائه واحدا واحدا، وكانوا يراقبونه لحظتها باهتمام:”كل واحد وصل إلى ألمانيا بطريقة مختلفة عن الآخر، وبعد تضحيات كبيرة، بهدف إنقاذ أنفسنا وعائلاتنا من مصير أسود”.
أيده الجميع بالتصفيق، وارتفعت أصوات الضحكات مجدداً، ومعا صوت البزق بلحن مفرح هذه المرة تجاوب معه الحضور بالرقص والهتاف.
التشبث بالمناسبات الدينية بهذا النحو، لا يقتصر على مراد وأصدقائه فحسب، بل يحرص عليها مايقربُ من 120 ألف إيزيدي هاجروا العراق من آب/أغسطس2014 إثر غزو داعش لمناطقهم في قضاء سنجار غرب الموصل وناحية بعشيقة شمالها، وقتل عناصره واختطف آلافاً من الإيزيديين، بينما اضطر الآلاف للنزوح والعيش لأكثر من ثماني سنوات في مخيمات أقيمت بهم بأقليم كردستان.
استهداف منظم
قبل سقوط النظام العراقي السابق في 2003 كان نحو 550 الف إيزيدياً يعيشون في العراق، موزعين في أقضية الشيخان ، وسنجار، وبعاج ، وفي ناحية بعشيقة بنينوى، وكذلك في اقليم كردستان.
وهم يعتنقون ديانة توحيدية خاصة بهم غير تبشيرية، ويحجون إلى مرقد الشيخ (عادي) في منطقة عين سفني 60كم شمال الموصل، تعاملت معهم الجماعات الدينية المسلحة التي نشطت في العراق بعد انهيار النظام العراقي السابق واحتلال البلاد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في 2003 على أنهم كفار، واغتالت الكثيرين منهم مما أدى إلى عزلهم في بلداتهم، فضلاً عن مدن أقليم كردستان، بعد أن تركوا أعمالهم وممتلكاتهم في باقي المدن العراقية.
الباحث المتخصص في شؤون الأقليات مناف رؤوف، يقول بأن تنظيمات القاعدة وأنصار الإسلام كانت تخطف وتقتل الإيزيديين بفتاوى دينية، ففي 14 آب أغسطس 2007 شهد مجمعا تل عزير وسيبا شيخ خدر الايزديين بسنجار انفجارات بشاحنات مفخخة أسفرت عن مقتل 796 إيزيدياً وجرح 1562 شخصاً، وقد عد أكبر هجوم دموي في العراق، وسبق ذلك في نيسان ابريل من العام ذاته، عملية قتل21 ايزيديا من عمال مصنع النسيج بالموصل، من قبل مجموعة مسلحة ارغمت العمال على الترجل من حافلات كانت تقلهم الى مناطق سكنهم في بعشيقة (20 كلم شرق الموصل) واطلقت النار عليهم، ما خلق رعبا هائلا في صفوف الايزيديين بالموصل ودفع غالبيتهم إلى ترك المدينة.
يضيف الباحث مناف، ان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الذي تم الإعلان عنه في 2006، قبل أن يتحول إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام في 2009 ويعرف لاحقا بـ(داعش)، انتهج السياسة ذاتها، وهاجم مناطق الايزيديين في آب/أغسطس 2014 وارتكب مذابح بحقهم.
ويتابع: “كانت الجماعات التكفيرية صاحبة السطوة الكبرى، تتحرك بحرية وتختار ضحاياها وتنفذ احكامها بهم في وسط المدن. بعض الجثث كانت تبقى لأيام على الأرصفة، لأن عناصر القاعدة وبعدها الدولة الإسلامية كانوا يضعون عبوات ناسفة تحت تلك الجثث ويفجرونها بمجرد وصول قوات الأمن العراقية أو الأمريكية أو سيارات الإسعاف”.
في 3آب/أغسطس2014، هاجم عدد كبير من مسلحي تنظيم داعش انطلاقاً من قضاء تلعفر مدينة سنجار ومجمعات الايزيدية في خانه صور بعد هجوم تمشيطي أولي استخدمت فيه قنابر الهاون بكثافة، وكما حدث لدى سيطرة التنظيم على الموصل بعد انسحاب القوات العراقية وتسليمها المناطق التي كانت تسيطر عليها دون قتال، انسحبت قوات البيشمركة التي كانت تسيطر على قضاء سنجار بوصفها مناطق متنازع عليها ولم يجد عناصر التنظيم أمامهم سوى المدنيين الايزيديين.
لجأ القادرون على الفرار إلى جبل سنجار، ووفقاً للمعلومات التي حصلنا عليها فأن 4000 إيزيدي مكثوا في مخيم أسمه(سه ر دشتي) بالجبل، و6000 آلاف آخرين توزعوا في قرى هناك مثل ( كيرسي و سكيني و كابارا) فضلاً عن سفح الجبل من الجهة الأخرى.
ولجأ ألف إيزيدي لمخيم نوروز في منطقة ديريك السورية، و 8710 في مخيمات بتركيا وهي(نصيبين وديار بكر وشرنخ وسيرتي). في حين توزع 139.719 ألفاً في مخيمات بأقليم كردستان بالنحو التالي:
مخيم(باجد كندالا) في قرية ديربون ومخيم جم مشكو في قضاء زاخو التابع لمحافظة دهوك( 18564)نازح. مخيمان في ناحية دركار التابعة لقضاء زاخو هما: بيرسفي 1، ( 8893 )شخص. وبرسفي 2 (10178). مخيم قاديا في دهوك(15113)شخص. مخيم خانكي في مجمع خانكي التابعة لقضاء سيميل(17227). مخيمان قرب مركز محافظة دهوك هما: كبرتو1 ( 14090 )شخص. وكبرتو 2 (14245 ). مخيم شاريا في قرية شاريا الايزيدية التابعة لمحافظة دهوك( 15575 )شخص. مخيم الداودية قرب قضاء العمادية التابعة لمحافظة دهوك(4153)شخص. مخيمان في قضاء الشيخان جنوب دهوك وهما ايسيان (15154) ومخيم شيخان (5785)شخص. مخيم مامليان في قضاء عقرة(7682). مخيم عربد في السليمانية(5497)شخص.
وهؤلاء هم من أصل ما يقرب من 350 ألف إيزيدي نزحوا من قضائي سنجار وبعاج وبعشيقة وبحزاني، وهنالك مئتا ألف آخرين، نصفهم من المتمكنين اشتروا أو استأجروا مساكن في محافظات أقليم كردستان، وغير المقتدرين مادياً سكنوا عند أقارب لهم أو في عقارات غير مكتملة البناء. في حين هاجر النصف الثاني إلى خارج البلاد وتركز معظمهم في ألمانيا حيث تتواجد أكبر جالية إيزيدية هناك.
وتشير إحصائيات مكتب إنقاذ المختطفين الايزيديين المؤيدة من قبل الأمم المتحدة إلى أن (1293) إيزيديا قتلوا لدى الاجتياح الداعشي لسنجار. وبلغت أعداد المختطفين (6417)، غالبيتهم من الإناث، تم تحرير 3530 منهم لغاية 2022، وبقي مصير 2887 مجهولاً. وبلغت أعداد الأيتام (2745) طفلاً.
ودمر تنظيم داعش 73 مزارا ايزيديا، وترك خلفه 85 مقبرة جماعية سيتطلب فتحها وتحديد هوية ضحاياها سنوات من العمل، بحسب الناشط الايزيدي والصحفي ميسر أداني. كما ترك جرحا لا يندمل هو جرح المختطفات والمختطفين الذين تواصل عوائلهم البحث عنهم في كل مكان.
خاني، سيدة في عقدها الخامس، تقيم في مخيم جم مشكو في زاخو شمال محافظة دهوك، تحرص كل يوم على إيصال أحفادها الثلاثة بنفسها إلى المدرسة القريبة من المخيم وتنتظرهم لتصحبهم مجدداً إلى خيمتهم، التي أصبحت بديلاً عن منزلها الذي فقدته في 2014 مع كل ما امتلكته عائلتها.
تلف وجهها بطرف غطاء رأسها الأبيض، وتقول بينما عيناها تراقبان الخارجين من المدرسة:”المال يأتي ويذهب، لكن زوجي وشقيقان لي وأقرباء آخرون قتلوا بأيدي الدواعش، لايمكن تعويضهم”.
تلوح لطفل بالعاشرة خرج للتو من المدرسة ومشى ناحيتها بتثاقل:”والدهم هاجر إلى ألمانيا قبل سنتين، وعلي الاهتمام بهم، حتى يستطيع أن ينقلهم إليه مع أمهم”، تمسك بيد الطفل وتراقب بتمعن ظهور شقيقه، وتواصل بشيء من الإحراج:”أما أنا فيمكنني البقاء هنا، فأنا أتحمل ورأيت بعيني الكثير من المصائب، لكن هؤلاء أبرياء ويستحقون حياة جديدة أفضل من حياة المخيم”.
صراعات سنجار وتغيير ديموغرافي في الشيخان
في العام 2022 أغلقت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، غالبية مخيمات النازحين في عموم مناطق العراق لكنها أبقت على مخيمات الايزيديين في أقليم كردستان بسبب عدم تمكنهم من تركها والعودة إلى مناطقهم في سنجار على الرغم من مرور أكثر من سبع سنوات على تحريرها. ويؤكد مسؤولون ايزيديون ان ثلثي نازحي سنجار لم يعودوا، فيما تقول منظمة الهجرة الدولية أن أكثر من 193 ألف من سكان المنطقة عموما مازالوا نازحين.
يعدد الباحث عادل كمال أسباباً عدة لامتناع الغالبية العظمى من النازحين الإيزيديين من العودة إلى مناطقهم “عدم التزام الحكومة المركزية في بغداد بإعمار مناطقهم المدمرة، ووجود صراع بين ميليشيات وقوات مسلحة متعددة الولاءات تنتشر في سنجار، غياب الخدمات وعدم توفر فرص اقتصادية لتأمين معيشتهم، وهي بمجملها دفعت الكثير من الايزيديين للهجرة”.
الإيزيديون المهاجرون، أصبحوا محط آمال أقربائهم من النازحين في اللحاق بهم عن طريق لم الشمل أو بطرق الهجرة غير شرعية.
لكن الباحث الإيزيدي حسو هورمي، يقدم أسباباً أخرى لعدم عودة الايزيديين الى مناطقهم التاريخية، بقوله: “الابادة بحق الإيزيديين مستمرة لحد الان، إذ أن هناك أكثر من 2800 مختطفا مجهول المصير، كما أن مناطق الايزيديين لا تدار من قبلهم وهم يطالبون بإدارة ذاتية لها، الى جانب غياب دور المرجعية الايزيدية في تشجيع الناس على العودة، والمشاكل السياسية بين الايزيديين أنفسهم، وافتقار مناطقهم في سنجار إلى المستشفيات والمدارس والمعاهد والكليات كما فرص العمل، وهي متوفرة في اقليم كردستان مقارنة بمناطقهم، لذا فخيارهم هو البقاء في المخيمات”.
ويقول بأن :”85% من الإيزيديين يعيشون في مخيمات يحيط بها فقدان الثقة بالآخر وضياع الانتماء، ولسان حالهم -الإيزيديون مشروع قتل طالما بقوا في العراق- لذا فتفكيرهم منصب دائما نحو الهجرة”.
مخيم للنازحين الإيزيديين
ويشترط هورمي، الذي يرأس المؤسسة الايزيدية لمناهضة الإبادة الجماعية، لتغيير ذلك التوجه للفرد الايزيدي “بتعاون الدول الصديقة الإقليمية والعربية وإقناع الأمم المتحدة بإعادة تأهيل المنطقة بطريقة منظمة، ابتداءً من الإنسان وصولا إلى البنية التحية”.
ويعتقد بأن وقوع الإيزيدي تحت كل تلك الضغوط والمشاكل تسبب بالكثير من العلل الاجتماعية مثل “تكرر حالات الانتحار وبروز ظاهرة الزواج المبكر، وتزويج القاصرات”.
كل أسباب عدم العودة تلك تتركز في سنجار(غربي نينوى) ومجمعاتها التي كانت تحتضن أكثر من 200 الف ايزيدي، لكن ثمة أسباب أخرى لعدم العودة الى ناحية بعشيقة وبحزاني شمال شرقي نينوى، على رأسها مخاوف التغيير الديموغرافي الحاصل هناك، كما يشير الكاتب الايزيدي خدر خلات بقوله: “المناصب الرسمية في اغلب الدوائر الحكومية باتت بأيدي غير السكان الاصلاء، والتغلغل الخطير في شراء الاراضي الزراعية والسكنية في المحيط القريب من بعشيقة وبحزاني، من قبل مكونات أخرى، يرسم معالم التغيير الديموغرافي القادم.”
ويلفت إلى أن “المخاوف تدفع العديد من السكان الإيزيديين الى بيع او تأجير منازلهم التي تقع في أطراف المدينتين كي يشتروا او يستأجروا منازل في عمق البلدة، وهي عملية هروب وتحصن بالمجتمع الأصلي، لكن آخرين يفضلون الهجرة بعيدا”.
وتسيطر قوات اللواء 30 الشبكية الشيعية التابعة للحشد الشعبي على سهل نينوى، وهي متهمة بإحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة بمنع أصحاب العقارات من غير الشبك أو سكان السهل من استغلالها أو التصرف بها، وهو ما ينفيه قياديو اللواء، ويقولون بأنه متوافق مع القانون العراقي، وتم اتخاذه لمنع التغيير الديموغرافي في المنطقة التي تسكنها أغلبية شبكية.
معالم التغيير الديمغرافي في المناطق التاريخية لانتشار الايزيديين واضحة، كما يقول (د. م) وهو صحفي من أبناء المنطقة، فحتى في قضاء الشيخان (60 كلم شمال الموصل) والتي تعد تاريخيا مركز الامارة الايزيدية، والذي كان قبل عقود منطقة ذات غالبية ايزيدية فضلا عن وجود مسيحي حيث تنتشر أبرز المزارات الايزيدية (شيخ شمس، شيخ حنتوش، وشيخ عدي) فضلا عن عدة كنائس تاريخية، أصبح اليوم ذو غالبية مسلمة مع تزايد عدد الكرد. وباتت المنطقة في السنوات الأخيرة تشهد اقبالا من قبل الشبك الذي يشترون أراض فيها بحكم قوتهم الاقتصادية. ذلك الواقع هو ما دفع الأربعيني خيري، الى التخطيط مع أحد اقاربه للهجرة التي كان طوال عقدين من الزمن رافضا لها. خط هجرته غير الشرعية ستمتد من تركيا باتجاه بلغاريا وعبر غابات خطرة وفي أجواء قاسية تتدنى الحرارة الى ما دون الصفر شتاء، ومن ثم الى احدى دول الاتحاد الأوربي.
يقول: “استسلمت أخيرا بعد ان فقدت الأمل بحصول استقرار. سأهاجر بحثا عن مستقبل أفضل لأسرتي. سيكون الأمر بالنسبة لي كمن ينجو من طوفان لكنه سيظل اسيرا لما فقده من أحبة وأرض، أما اطفالي فستكون ولادة جديدة لهم”.
ليس هو وحده، فعشرات آلاف الايزيديين يخططون او يفكرون في الهجرة اذا ما وجدوا لها سبيلا. (س.خ) (43سنة) من مخيم شاريا، باع سيارة قديمة كان يملكها ليؤمن تكاليف هجرته غير الشرعية بعد وصوله إلى اتفاق مع مهرب قال بأنه تكفل بنجاح في إيصال عدد من معارفه إلى أوربا، هو يعرف بأنها مجازفة كبرى أن يتخلى عن مصدر دخل عائلته الوحيد:” ماذا أفعل؟” يقول بإحباط، ثم يؤكد بأن ثمانية سنوات مرت وهو ينتظر أن يتحقق الأمن في مدينته سنجار لكي يعود إليها مع عائلته.
ويتساءل:”إلى متى ننتظر؟ في الأقل سأحاول تغيير حياتنا إلى الأفضل، ثم نحن هنا نازحون، وهناك مهاجرون وفي كلا الحالتين لم يعد لدينا وطن”.
*أنجز التقرير، باشراف شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية، وبدعم “صندوق دعم التحقيقات في شمال إفريقيا وغرب آسيا”
المزيد عن تقارير سردیة
تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":20118}" data-page="1" data-max-pages="1">