امجد طليع/ بغداد:
عصر يوم الخميس 8 كانون الاول ولعدة دقائق ارتفع دوي كثيف لاطلاق النار، قرب شارع الفلاح الذي يتوسط مدينة الصدر شرقي العاصمة بغداد، ومعه بدأ الأهالي يركضون للاحتماء داخل المحلات والبيوت بينما تعطل سير المركبات، ليظهر في شارعفرعي شاب وهو يهرول حاملا بندقية كلاشنكوف قبل ان يختفي سريعا.
لم تمض الا دقائق حتى بدأت قوات الجيش بالانتشار في المكان، في مؤشر على ان الحادث خطير وان الشرطة والاجهزة الامنية وحدها لن تستطيع السيطرة عليه.
“انها مجرد دگة عشائرية”. يقول الستيني ابو عبدالله وهو يدخن سيكارته امام متجر للمستلزمات الغذائية، بعد اتصال اجراه من هاتفه مع احد معارفة بدا ان بيته قريب من موقع اطلاق النار ان “شاب في العشرينات قتل بعد خلاف مع اطفال أرادوا لعب كرة القدم، وأهل الضحية جاؤوا للانتقام والرصاص الذي نسمعه كان موجها لبيت القاتل كرسالة تحذير”.
والدگة العشائرية، هي عملية تهديد يقوم بها فرد او جماعة بحق شخص او جماعة أخرى، وتتم عادة باطلاق سيل من الرصاص من سلاح ناري باتجاه منزل الفرد او الجماعة المستهدفة، بقصد توجيه رسالة بشأن قضية خلافية بين الطرفين.
وبحسب ارقام وزارة الداخلية، بلغ عدد الدكات العشائرية من العام 2020 وحتى منتصف ديسمبر كانون الأول 2022 بلغت 5992 حادثة.
وتختلف اسباب الدگة فقد تحصل نتيجة صراع على النفوذ بين عشيرتين او قضايا شرف (غسل عار) او القتل العمد او غير العمد، او سرقة أو خلاف على ديون متاخرة او حادثة سيارة أو اعتداء من قبل فرد على فرد في العشيرة الأخرى، أو نتيجة أسباب بسيطة كعراك عابر بين اطفال يتطور ويصل الى مرحلة استخدام الاسلحة النارية كما ورد في المقدمة.
في تفاصيل حادثة اطلاق النار بمدينة الصدر، ان شابا في العشرينات من عمره ينتمي الى عشيرة (ل) ويعمل على ادارة ملعب كرة قدم خماسي، رفض السماح في تلك الساعة لأطفال باللعب هناك ما دفعهم لابلاغ أهاليهم، ويبدو ان ذلك الفعل أثار غضب شاب آخر من عشيرة (ض) اعتبره اهانة واساءة لهم فحمل معه ادوات يديوية حادة وتوجه الى مواجهة صاحب الملعب ليحصل شجار ويصيبه بعدة طعنات احداها اصابته في رقبته وأدت الى مقتله.
بعد الحادثة هرب القاتل مع اسرته، تاركين بيتهم والحي السكني كله، قبل ان تصل عشيرة المقتول للثأر والذي بدأته باطلاق نار باتجاه منزل القاتل، ليستدي الامر تدخل الشرطة وقوات الجيش بعرباتهم العسكرية عند مفارق الطرق في المنطقة وتتمكن من منع حصول مواجهة بين العشيرتين. استمر انتشار الجيش أربعة ايام كانت خلالها عشيرة القاتل ترفض تسليم ابنها، وعشيرة المقتول ترفض دفن ابنها واقامة مجلس العزاء قبل أخذ ثأره، وبعد مفاوضات عشائرية جرى تسليم القاتل للقضاء ليفتح ذلك الطريق أمام بدأ وساطات جديدة لتسوية معينة تمنع حصول مواجهة بين العشيرتين.
هذه الأعراف العشائرية كانت تختفي في سنوات وتظهر في اخرى طوال العقود الماضية حسب وضع الدولة وقدرتها على ضبط الأمن، لكنها برزت في العقدين الأخيرين بوضوح مع الانفلات الأمني نتيجة العمليات العسكرية ومن ثم الارهابية التي واجهتها البلاد وضعف تطبيق القانون، وهو ما اعطى للعشائر مساحة كبيرة للتحرك وفرض قوانيها.
يقول علي جواد، وهو شاب جامعي في الثلاثينات من عمره من مدينة الصدر، شرقي بغداد، التي غالبية سكانها منحدرون من أسر نزحت من محافظات جنوبي العراق ذات الطبيعة العشائرية، ان “اصوات الرصاص باتت جزءاً من سهرات أهالي المدينة”.
يبتسم للحظات وهو يشيح بوجهه بعيدا، ثم يضيف:“هي حفلات رصاص يمكن ان تقع في أي زقاق واي وقت، بداية الليل او في منتصفه او عند ساعات الفجر، وقد تكون بضع اطلاقات من مسدس، او اطلاق نار كثيف وبأسلحة متنوعة”.
يتابع جواد:”هو احيانا يتعلق بخلاف خطير، واحيانا يعود لسبب تافه، لكن في كلا الحالتين منفذو هذه الدگات يحبون الاستعراض ويطلقون رصاصهم بمزاج عالي لعلمهم بعدم وجود من يحاسبهم قانونا او اخلاقا”.
زميله علي، وهو مدرس ثانوي، يوافقه الرأي، قائلا “مدينة الصدر ينتشر فيها هذا النوع من التصرفات، كونها تمثل اجتماعيا انعكاسا قبليا للمحافظات الجنوبية التي تسود فيها مثل هذه العادات وحل النزاعات عبر العشائر”، مشيرا الى ان هذه الظاهر تنتشر بكثافة في مناطق عموم شمال بغداد من جانب الرصافة.
جهات مسلحة تدعم الدگات
يشير ناشطون مدنيون الى سبب آخر في استمرار الدگات العشائرية بل وتزايدها في السنوات الأخيرة رغم الاستقرار الأمني وخروج البلاد من دوامة الانفجارات والحرب مع التنظيمات الارهابية، يتعلق بارتباطات من يقومون بالدگات او يقفون خلفها، فالعديد منهم أفراد في جماعات مسلحة.
يقول (حيدركاظم) الذي ذهب عمه ضحية دگة عشائرية حصلت نتيجة تطور عراك بين الاطفال الى نزاع بين عشيرتي (ز) و(ع)، ان “الضحية لم يكن جزءا من النزاع، وانه كان يقف في باحته منزله حين اتته رصاصة قاتلة في الرأس، بعد استهداف منزل محاذي لمنزله بوابل من النيران”.
يؤكد حيدر كاظم ان عائلتهم لم تتجه الى خيار الرد بالمثل عبر الثأر ومطاردة الجاني او التهديد بالدگة لأخذ حق عمه الذي ترك عائلة من أم وستة أطفال بلا معيل، وانتظروا ان تقوم الاجهزة الامنية والقانون بدورهما، لكن ذلك لم يحصل وبقي الجاني طليقا.
يضيف:”اتضح لنا انهم مرتبطون باحدى الجهات المسلحة،وبوجود تلك الجهة الداعمة لم يكن من الوارد تمكن الاجهزة الأمنية من القبض عليه، وفي ظل رفض عشيرته تسليمه للقضاء، قام اولاد عمي وبعض اقاربنا بحرق منزله ونظموا دوريات للبحث عنه والثأر منه”.
انتهت الأزمة التي ظل السلاح مشرعا فيها بين العشيرتين، حين نجحت وساطات من عشائر اخرى في تسوية أنهت الأمر بالدية العشائرية وكانت مبلغا من المال. يقول حيدر ان “العشائر هي من قررت ولم يكن للقضاء وجود. اعتقدنا انه حتى لو سلم نفسه للقضاء فسيخرج بالبراءة بوجود جهة تدعمه، لذلك ذهبنا الى خيار الدية مقابل روح أزهقت وأطفال تيتموا”.
خريطة الدگات العشائرية جغرافيا
تنتشر الدگات العشائرية في مناطق جنوب ووسط العراق وفي عدد من محافظات الفرات الاوسط لكن محافظات البصرة وميسان وذي قار ومدينة الصدر في بغداد تتقدم بقية المناطق في انتشار ظاهرة الدگات العشائرية حتى انها اصبحت من اساسيات السلوك العشائري لحل المشكلات بين المتخاصمين او المختلفين او المتخالفين، وتحولت الى كابوس يخافه كل من يزل ولو زلة بسيطة بحق صديق او جار او حتى احد المارة يسمع اثناء مروره من جانب شخص يصادف انه تحدث بكلمات نابية او غير مقبولة.
تاريخيا لا اعلم انها كيف بدأت الا انها حسب اعتقادي هي مرحلة مخففة من عمليات الغزوالتي كانت تتبادلها العشائر البدوية قبل قيام الدولة بشكلها الحالي واحتكارها العنفوالبدأ بنشر نفوذها وسيطرة قوات الجيش والشرطة على تراب البلاد.
انواع الدگات
تتنوع الدگات العشائرية، ووفق ذلك التنوع تتفاوت في خطورتها، فهناك دگة من نوع التصرف الفردي وهي ان يقوم شخص برد معين على اذى لحق به او اهانة تعرض لها، من دون علم عائلته اوعشيرته، وهذا النوع من الدگات يتم عادة معالجتها بشكل سريع عن طريق تدخل اطراف اخرى بين المتخاصمين بتشجيع من عائلة صاحب الدگة.
النوع الثاني هو الدگة العائلية، حيث تقوم العائلة بتحشيد ابنائها ودفعهم للقيام بالدگة ربما تكون مع صديق او قريب من ذات العشيرة او جار او شخص غريب، وتكون حلحلت هذا النوع من الخصومة قبل استفحالها وتطورها الى حالة قتل أو جرح، اكثر تعقيدا من النوع الأول.
النوع الثالث، وهو الأخطر يحصل بين قبيلتين او عشيرتين وهذا النوع من الدگات هو احتراب عشائري بالاسلحة وغالبا ما يقع ضحايا نتيجة له سواء من المسلحين او غير المسلحين، واحيانا يسقط العديد من القتلى، ويحتاج ها النوع الى تدخل السلطات من الشرطة والجيش وبشكل سريع لوقف امتداده، الى جانب تدخل وسطاء عشائريون واحيانا الاستعانة بمرجعية دينية لها قدسيتها وتأثيرها فتلزم المتنازعين بالجنوح الى السلم.
والى جانب حالات القتل العمد فان قضايا الشرف تعد من ابز أسباب الدگات التي تتطور فيها الأمور، وهذه القضايا توصف بالسوداء كونها تسيء للسمعة.
تقول زينب الساعدي، وهي محامية وناشطة سياسية تنحدر منمحافظة ميسان الجنوبية التي تشهد بشكل متكرر دكات ونزاعات عشائرية: “انتشار الدگات العشائرية مؤشر على غياب القانون،وحينها يلجأ الفرد الى الثارات، وهذا يزيد من اتساع المشكلة وامتدادها، وكلما طال امدها ارتفع عدد ضحاياها سواء تحت عنوان الثار او بسبب الاطلاقات العشوائية”.
وترى ان غالبية النزاعات العشائرية تنتهي بالفصل العشائري(الدية) واعتمادا على الأعراف التي هي بالعادة مخالفة للقوانين الوضعية والشرائع السماوية، حيث يحصل احيانا أن تكون الدية فتاة “وهي تسلب من عائلة القاتل لصالح عائلة المقتول، وهذا يمثل نوعا من العبودية، وله تداعيات خطيرة اجتماعيا”.
الحاجة للعشائر والعودة الى الدگة
في سبعينات وثمانينات القرن الماضي ومع القبضة الحديدية لأجهزة الدولة اثر سيطرة حزب البعث على مفاصل السلطة وفرضه لعقوبات صارمة على اي نوع من السلوكيات والعادات التي تضعف تأثير الحزب في ضبط المجتمع، أصبح من النادر حصول دگات عشائرية، فالحزب حرص على الحد من دور العشائر وتأثيرها والكل كان عليه الالتزام بالقانون والقبول باحتكار الحكومة وحدها للعنف.
وكان من أسباب تراجع الدگات صعوبة اقتناء السلاح من قبل الأفراد فالسلطة حرصت على منع ذلك في اطار حماية نفسها، كما ان وجود مساحة من الوعي الاجتماعي في ظل الانفتاح والجدل الثقافي والمنافسة السياسية في السبعينات كان يساهم في الحد من الدگات.
لكن في التسعينات وبعد هزيمة حزب البعث في حرب الخليج الثانية وانتفاضة الشعب ضد نظامه عام 1991 ومع الضعف الذي اصاب الدولة، وجد نظام صدام ان منح العشائر مساحة من الحركة سيساهم في اعادة نفوذه بالمحافظات الجنوبية المنتفضة، وهو ما فتح الباب مجددا لعودة سلوكياتها المتوارثة فبدأت تظهر الدگات.
ومع انهيار الدولة عقب احتلالها في العام 2003 من قبل القوات الأمريكية وما خلقه ذلك من فوضى وانهيار في النظام في ظل حل الجيش والاجهزة الامنية وفقدان الحكومة لسيطرتها على الشارع، اصبح الفرد في حاجة الى عشيرته لحماية نفسه وحقوقه او منع أي اعتداء عليه او الرد على اي اساءة تلحق به في ظل غياب القانون واذرع تطبيقه.
وهنا عادت الدگة للانتشار بقوة، لكن وكما يقول الباحث في الواقع الاجتماعي كمال علي “لم يكن بالضرورة أن يكون صاحب الدگةعلى حق فقد يكون على باطل ويستخدم قوة عشيرته لفرض أمر ما على شخص او عائلة او عشيرة اخرى أضعف، وهذا يتقاطع مع الحق والعدل والمساواة”.
وتشير المحامية زينب الساعدي الى الافرازات السلبية لذلك بالقول “العنصرية القبلية التي سادت تدفع الفرد الى التباهي بعشيرته والاعتماد عليها وعدم الركون للقانون وهنا قد تغيب العدالة، كما حين تسود العنصرية القبلية بين افراد الاجهزة الأمنية حيث ينحاز رجل الأمن الى الشخص المنحدر من قبيلته في قضاياالتحقيق او الاجراءات القانونية الاخرى”.
وترجع الساعدي أسباب تزايد الدگات في جنوبي البلاد مقارنة بباقي مناطقها الى “الاهمال الذي عاشه الجنوب من قبل السلطات المتعاقبة، والذي ولدَ الفقر والجهل وكلاهما يولدان الصراعات والأزمات في المجتمع ويزيدان من نسب الجريمة ومعه انتشار السلاح المنفلت”.
التغول بفعل الذراع السياسي
ازدادت في السنوات الأخيرة الدگة خطورة، مع حصول جماعات محددة على السلاح والسلطة واستخدامه لفرض مطالبها، لتدخل مرحلة التوحش بعد ان غلفت بغلاف سياسي من خلال تحالفبعض العشائر مع الميليشيات والفصائل المسلحة واصبحت تلك الأطراف تتخادم فيما بينها لفرض سلطتها ونفوذها على المجتمعوجني امتيازات غير شرعية في اماكن توجدها.
يقول الباحث كمال علي:”قبل ستة اعوام نشب نزاع مسلح في محافظة ميسان المحاذية للحدود الايرانية على منفذ الشيب الحدودي، حيث تقاتل فصيلان مسلحان على التحكم بادارة المعبر وعائداته لصالحه حيث رأى كل طرف احقيته بها، وانتقل النزاع الى العشائر حيث استعان كل فصيل بالعشيرة المتحالف معها لتشهد المحافظة معارك ليلية راح ضحيتها العديد من الأبرياء” .
ذلك التحالف بين العشائر والفصائل، والصراع الحاصل لفرض نفوذها على أساس “حقها في هيمنة كلمتها” أغرق المحافظات الجنوبية بالدگات العشائرية وتم تغييب القانون. حدث لك بشكل واضح في ضواحي البصرة كونها مناطق ريفية وتسكنها عشائر على شكل تجمعات قروية يسمح انتشارها المتنافر باستخدام الاسلحة المتوسطة واحيانا حتى الثقيلة التي احتفظوا بها بعد ان سرقوها من مخازن الجيش أبان انهيار نظام صدام او حصلوا عليها من خلال التهريب او الشراء من فصائل مسلحة.
وتكثر النزاعات العشائرية في البصرة بسبب ضخامة واردتها الاقتصادية والصراع على تهريب النفط او السيطرة على الموانئ او الحصول على المناقصات من الشركات النفطية العاملة في حقول المحافظة. يقول الباحث كمال ان بعض العشائر “باتت تستخدم سلاحها علنا لفرض ارادتها في مناطق انتشارها، فيما قوات الحكومة تحولت الى ما يشبه اصحاب القبعات الزرق الأممية على حدود مناطق النزاع”.
ويضيف “يتحرك هذا السلاح ويفرض نفسه احيانا للحصول على مناقصة او فرصة اقتصادية او تعين عمال، حين تتنافس على ذلك عشيرتان، وفي احيان تتمادى احدى العشائر فتذهب الى مقر الشركة وتغلق أبوابها وباتت تغلق حتى بعض الحقول النفطية، كما حصل في آذار مارس الماضي حين قام افراد احد القبائل بمحافظة ذي قار بالتظاهر للمطالبة بالتعيينات وقطعوا الطريق الى حقل الناصرية الذي ينتج 70 الف برميل يوميا ما أدى الى ايقاف العمل فيه”.
ضحايا الدگات
لا تقتصر الدگات باطلاقات تحذيرية بل يصل الامر في حالات القتل وقضايا الشرف، الى حرق المنازل وكتابة كلمات تحذيرية باللون الاحمر او الأسود (مطلوب دم) او (البيت لا يباع ولايشترى لأسباب عشائرية) وهذا يعني ان على العائلة وحتى ربما الجيران ان يتركوا المكان، حيث تصبح عملية بيعه أو تأجيره مستحيلة ولو بعد سنوات قبل تسوية الخلاف، خاصة ان ضحايا الدگات في حالات كثيرة اناس عزل ليسوا طرفا بالنزاع لكنهم يتواجدون بمناطق حصول الاشتباك ويقعون ضحية الاطلاق العشوائي للنار، ويحصل ان يقع اطفال ضحايا للهجمات المتبادلة.
وكثيرا ما تجبر الدگات بعض الأشخاص الى ترك حيه السكني او مدينته وخسارة مصدر عيشه او نقل وظيفته والانتقال الى مدينة أخرى هربا من الملاحقة العشائرية، ما يؤثر على حياة كل افراد العائلة.
لكن الأخطر هو ان تصبح ضحية لمجرد ان لقبك يتطابق مع لقب شخص مطلوب عشائريا، فعند حدوث حالة قتل تنتقل المعركة الى الشارع وتذهب العشيرة التي سقط منها قتيل لنصب مفارز في الشارع تطلب من المارة الاوراق الثبوتية وكل شخص يحمل لقب العشيرة التي قتلت ابنهم سيكون هدفا لهم، حتى لو لم يعرف القاتل ولم يكن له اي صلة بعائلته.
ذلك تماما ما يخشاه “علي” الذي كتب لمعد التقرير مناشدة لرفعها الى الجهات الأمنية، لإنقاذه من الخطر الذي يتهدد حياته، كون أحد افراد عشيرته مطلوب ثأر ويمكن في اي لحظة ان يقع بيد نقاط تفتيش العشيرة الخصم.
يقول علي الذي يعيش في اطراف مدينة البصرة :”لا اعرف القاتل ولم التق به يوما، لكن العشائر لا تعرف كل ذلك، وأنا عملي يفرض علي التنقل بين مناطق عدة.. لا أعرف ما الحل، حياتي مهددة او عليَ ان افقد مصدر دخلي الوحيد.. قبل ايام قتل سائق تاكسي لذات السبب”.
ويلفت الى ان الكثير من ابناء عشيرته وبسبب حالة قتل أدت الى نزاع عشائري في اطراف البصرة “لا يستطيعون منذ اسابيع مغادرة بيوتهم، وبينهم الطبيب والمحامي والموظف والتاجر والعامل البسيط”.
ولا تستطيع حكومة البصرة وقيادة العمليات فيها متابعة كل حالات النزاع العشائرية وما ترافقها من تهديدات بالقتل، وهي تعجز في أحيان كثيرة عن توقيف القتلة، والحسنة الوحيدة بحسب مواطنين تحدث اليهم معد التحقيق، تتمثل في ارسال قوة عسكرية لمنع تجدد اطلاق النار.
يقول سمير احمد، مشككا بأهداف تلك الخطوة: “تنشر القوات فقط لمنع توسع الاشتباكات، فهي لا تقوم بايقاف مطلقي النار. واقعا هي تتحرك لمنع حصول ضجة اعلامية قد تهدد بالغاء بطولة كاس الخليج لكرة القدم المقررة في البصرة في العام المقبل”.
عقوبات مشددة فأين التطبيق؟
حاول الجهاز القضائي، التحرك لوضع حد لتفاقم حالات الدگة، فصنفه مجلس القضاء الأعلى في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 كعمل إرهابي يحاسب عليه وفق قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2005.
كان لهذا التوجه تأثيرا جيدا في الفترة التي تلت اعلان تطبيقه، وحصل تراجع في تسجيل الدگات بمحافظات ذي قار وميسان والبصرة ذات الطابع العشائري، بحسب مصادر امنية، ففي ذي قار تراجعت الحالات بنسبة 80% في المدن و20% في المناطق الريفية. لكن ضعف قدرات الاجهزة الامنية وعدم لجوء الكثير ممن يتعرضون للدگات الى اقامة الدعاوى القانونية أفشل محاولة لجم هذه الظاهرة.
رغم ذلك يؤكد الناطق باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، تراجع الدگات مقارنة بالسنوات السابقة بعد اجراءات القضاء والحكومة “المواطن بدأ يستشعر ذلك في الكثير من المناطق،وبعض المناطق انحصرت الظاهرة بشكل واضح، في ظل الاجراءات الصارمة تجاه من يقومون بالدگات”.
واوضح ان وزارته تستخدم اسلوبين لمعالجة الدگات “الاول يعتمد المجابهة الصارمة والقبض على الاشخاص وفق مواد مكافحة الارهاب، والثاني هو تغليب صوت الحكمة من خلال تكليف وجهاء وشيوخ العشائر بحل النزاع عند بداية وقوعه، منخلال مديرية شؤون العشائر، وهذه المبدأ به حكمة وسماح للاجهزة الامنية للتدخل لفرض القانون واحالة المخالفين الى القضاء”، وفق تعبيره.
ويرى الخبير القانوني علي التميمي، ان ظاهرة الدگات تتطلب تطبيقا حازما للقانون، ويقول مشيرا الى المواد القانونية التي تساهم بردع الظاهرة: “بموجب توجيه مجلس القضاء تعتبرالدگة عمل إرهابي يطبق عليه مادة ٤ من قانون مكافحة الإرهاب وذلك لانطباق التعريف الوارد في مادة ٢ من هذا القانون على هذه الأفعال التي تحدث الرعب والخوف في نفوس الناس، ولايطبق على الدگات مواد التهديد ٤٣٠ ..٤٣٢ من قانون العقوبات كما كان في السابق”.
وينبه الى ان الشكاوى بموجب ذلك “تحال إلى الجنايات وليس الجنح، وتصل العقوبة إلى الإعدام أو المؤبد وفق المادة ٤ إرهاب”.
ويوضح ان هذه الأفعال “غير قابلة للكفالة كما كان الحال في السابق بموجب المواد ١١٠ اصولية وما بعدها، وغير قابلة للصلح لوجود الحق العام بها وفق المواد ١٩٤ وما بعدها من الاصول الجزائية”، مؤكدا ان “هذا يحتاج إلى تفعيل قانون الأسلحة ٥١ لسنة ٢٠١٧ لكي يسيطرعلى الظاهرة”.
صوت اخر للسلاح المنفلت
الدعوة لتفعيل قانون الأسلحة، تبدو مستحيلة التطبيق في ظل واقع الصراع في العراق بين عدة اطراف والتعقيدات الأمنية على الأرض، وبوجود سلاح للفصائل المسلحة وسلاح الجماعات الارهابية الجهادية وسلاح العصابات المنظمة، يضاف اليها سلاح العشائر، وكلها تندرج ضمن السلاح المنفلت.
لكن مراقبين امنيين يرون ان سلاح الفصائل اذا كان يخضع للدولة ولا يتحرك الا في حالات محددة، وسلاح الجماعات الجهادية يتم ملاحقته وهو يتواجد بمناطق محددة، وسلاح العصابات المنظمة يمكن ردعه، فان سلاح العشائر هو الأخطر والأكثر انفلاتا.
يقول ضابط متقاعد في وزارة الداخلية، شدد على إخفاء اسمه، ان “خطورة سلاح العشائر يكمن في انه قد يظهر في أي وقت ولأي سبب ويظل دون رادع، في ظل أحزاب تسعى جاهدة لإرضاء العشائر من اجل ضمان اصواتها الانتخابية”.
بعد ستة أشهر من ترك منزله في مدينة الصدر هربا من تهديدات عشائرية واستقراره في منطقة أخرى، يحاول مهند كريم اعادة ترتيب حياته وشراء منزل صغير لإنهاء تداعيات قصة الثأر التي تسببت بحرق منزله ومنازل عدد من أقاربه وأدت الى تغيير حياتهم رأسا على عقب.
يقول الشاب الذي يعيل عائلة من خمسة أفراد، انهم كانوا ضحية جريمة قتل لا علاقة لهم بها، موضحا ان احد ابناء عشيرته قتل صديقه أثناء شجار عابر، فقامت عشيرة الضحية بالهجوم على بيت القاتل وعندما وجدوه خاليا قاموا بحرقه وارادوا تفجيره بالرمانات اليدوية لولا تدخل الجيران”.
يضيف مهند “لم ينته الامر عند ذلك الحد، فبسبب انتمائنا نحن وعدد من البيوتات الاخرى الى عشيرة الجاني، تعرضنا للتهديد وتدخل الجيران وطالبونا بترك منازلنا والهروب سريعا.. سبع عوائل بالكاد حملنا بعض ثيابنا والمستمسكات الثبوتية وخرجنا قبل ان يصلوا ويحرقوا منازلنا بما فيها من آثاث وحاجيات، وكتبوا على جدرانها: لا تباع ولا تشترى لأسباب عشائرية”.
ويروي الشاب انهم مروا بظروف أمنية واقتصادية صعبة كونهم خسروا أعمالهم وحتى الموظفون منهم تلقوا تهديدات بالقتل في اماكن عملهم فاضطروا لأخذ اجازات بدون مرتب، قبل ان تنتهي الأزمة بسجن القاتل ودفع الدية.
يتابع وهو يسحب نفسا عميقا “انقلبت حياتنا، وحتى الأطفال خسروا سنة دراسية، وفي النهاية لم يسمحوا لنا بالعودة الى منازلنا وانما فرض علينا بيعها، فاضطررنا الى ذلك بأسعار أقل من أسعارها الحقيقية، خسرنا جيراننا وبيوتنا فقط لأننا من عشيرة الجاني”.
الاخطر كما يقول الباحث كمال علي، ان ظاهرة الدگات لم تعد محصورة بحالات محددة وفق الموروثات العشائرية، بل اتسعت الى مديات خطيرة فبات بعض الطلبة يستخدمها لترهيب المدرسين عند منحهم درجة رسوب، وآخرون يهددون بها الأطباء عند حصول حالة وفاة بسبب مرض او عملية جراحية. ويتساءل بحسرة: “وسط هذا الواقع، كيف يمكن القول ان هناك قانون وحكومة ودولة؟”.
- أُنجزت المادة في إطار برنامج تدريب ضم صحافيات وصحافيين من العراق واليمن وغزة، تحت اشراف الجامعة الامريكية في بيروت وبدعم منظمة دعم الاعلام الدولي (IMS).