تقارير سردیة: “زواج مبكر” أو “عنوسة”..ظاهرتان متفاقمتان في ظل قيود اجتماعية واقتصاد متعثر

“زواج مبكر” أو “عنوسة”..ظاهرتان متفاقمتان في ظل قيود اجتماعية واقتصاد متعثر

حنان سالم/ بغداد/ آب 2022

على الرغم من بلوغها الثانية والثلاثين من عمرها، إلا أن فاطمة حسن، مازالت واقعة تحت تأثير حكاية خالتها الكبرى التي زوجت وهي بعمر 12 سنة فقط، ولاسيما الجزء المتعلق بحيرتها بين أن تأخذ معها دميتها المفضلة إلى بيت زوجها أو تركها لشقيقتها الصغرى (أم فاطمة).

الأوامر العائلية كانت واضحة جداً، وهي أن تطيع الزوج الذي يكبرها بستة عشر سنة في كل شيء وأن تتجنب الشكوى مهما حدث، وهكذا أصبحت الخالة أماً وهي لم تتجاوز الثالثة عشر من عمرها وتمثالاً منزلياً معتاداً على التعنيف والتهميش والاستخفاف برأيها وتغييب دورها في اتخاذ قرارات تخص بيتها حتى بعد سنوات من الزواج.

“كل ذلك من أجل ألا تعود مطلقة إلى بيت جدي مع أطفال ينبغي لأحد ما إعالتهم” تقول فاطمة معللة قدرة خالتها الخارقة على احتمال جحيم بيت الزوجية وفقاً لتوصيفها. ثم تؤكد بحزم “هي وغيرها ممن أعرفهم سببٌ ماثلٌ يمشي على قدمين لرفضي الزواج لغاية الآن”.

لم يقتصر الأمر على خالتها فقط، فوالدتها كذلك تزوجت بعمر أربعة عشر عاماً. تقول بنبرة حزن “اكتشفتُ بعد أن كبرتُ أن كل التعنيف وأحيانا الضرب الذي كانت تتعرض له امي على يد أبي لم يكن لعباً وأن بكاءها لم يكن أبداً نتيجة دخول الصابون في عينيها كما كانت تقول لنا”.

تصر فاطمة على موقفها الرافض لفكرة الزواج وللضغوطات التي يمارسها والداها عليها على الرغم من استقلالها المادي “كثيراً ما يسلط والدي، اخوتي الذكور عليَّ، ويدفعهم أحيانا لاختلاق مشاكل وضربي حين أرفض المتقدمين لخطبتي، وما يحزنني حقاً هو أن أمي تقف بصفهم بمجرد أن يتعلق الموضوع بالزواج”.

تحبس فاطمة دموعها وتقول “أحيانا لا ألوم أمي حين تلح عليَّ لتكوين أسرة فهي لم تدرس وتزوجتْ بعمر صغير لم تعرف معه من العالم إلا ما يجري وسط جدران منزل العائلة، وأفكارها ليست سوى نسخة منمقة من أفكار والدي الذي يعتبر المرأة أداة تكاثر وإطعام ليس إلا”.

زواج مبكر ونسب طلاق مرتفعة

يشير تقرير الأمم المتحدة الصادر في 2022 الى أن ما يزيد عن ربع النساء العراقيات المتزوجات (امرأة من كل أربع) في 2021 تزوجن دون سن الثمانية عشر عاماً في حين كانت واحدة من بين كل خمس نساء تقريباً تتزوج دون ذلك السن في العام 2011 فنسبة زواج القاصرات لم تكن تتجاوز الـ 21.7%.
https://iraq.unfpa.org/ar/news/%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%88%D8%B5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A9-%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%A7%D8%AC

وبحسب مصادر قضائية ومحامين فان زواج القاصرات لم يعد يقتصر على القرى بل بات شائعاً في المدن، ليحمل معه مشاكل كثيرة بدءا بالانقطاع عن التعليم والوصول الى عوامل التمكين، وانتهاءً بارتفاع حالات الطلاق والتفكك الأسري، إذ أن غالبية حالات الطلاق تكمن عند تلك الشريحة.

وقد عقد ببغداد في 14حزيران/يونيو2022 مؤتمر مشترك بين صندوق الأمم المتحدة للسكان والأمانة العامة لمجلس الوزراء، تم خلاله التنبيه الى أن معدل الزواج المبكر (لمن هن دون الـ18 عاما) ارتفع من 21.7% إلى 25.5% خلال السنوات العشر الماضية،  بينما في إقليم كردستان وصل الى 22.6٪.

((صندوق الأمم المتحدة للسكان: في أحيان كثيرة تؤدي ظاهرة الزواج المبكر، الى حرمان الفتيات من الوصول لعوامل التمكين وقد تضيف عبئاً وعقبات أمام تعليمها وتنميتها))

وتشير وزارة التخطيط العراقية أن معدل سن الزواج في العراق يقع بين 24-26 عاماً. وتقدم الوزارة أرقام تظهر ان تعداد أصحاب تلك الاعمار في العام 2020 تبلغ لمن هم في 24 من عمرهم نحو (659 الفا) ولمن يبلغون 25 عاما نحو (618 الفا) ولمن هم في 26 من عمرهم نحو (612 الفا).

وبحسب الجهات القضائية، تم خلال العام 2021 تسجيل نحو 273 الف عقد زواج في المحاكم العراقية. ويتجاوز حجم النمو السكاني المليون نسمة في العام الواحد.

الوزارة كانت قد أشارت في إحصائية لها لسنة 2011 أن أعداد العازبين الذكور والإناث بين الفئتين السنيتين 30-40 قاربت 15%. لكن تلك النسبة وصلت الى الضعف في السنوات الأخيرة بحسب ناشطين في منظمات معنية بأوضاع الأسرة، موضحين انه في ظل غياب ارقام رسمية فان ذلك يظل مجرد تقديرات تعتمد على استطلاعات صغيرة.

وبحسب تلك النسبة (30%) فان هناك نحو مليون و648 الف عازب بين الفئات العمرية (30 الى 40 عاما) والتي يبلغ تعدادها 5,493,000 بموجب إحصائيات وزارة التخطيط للعام 2020.
https://cosit.gov.iq/documents/population/projection/%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA%20%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%202020.pdf

نسبة تجدها الاكاديمية والباحثة الاجتماعية ندى العابدي، مُبررة، وذلك لتعقد الحياة اقتصادياً وعدم إحساس الشباب بالأمن الاقتصادي والاجتماعي، وفقا لما تقول، فضلاً عن ارتفاع نسب الطلاق والتي وصلت الى 24177 حالة طلاق وتفريق في أشهر كانون الثاني وشباط وايار وحزيران للعام 2022 بحسب احصائيات مجلس القضاء الأعلى، ما يعني فشل الكثير من العلاقات الزوجية في تكوين أسر مستقرة.

( مجلس القضاء الأعلى: عدد حالات الطلاق في العراق عدا محافظات اقليم كردستان بلغ 73 ألف و399 حالة خلال عام 2021 كانت الزيجات القسرية والزيجات المبكرة للقاصرات هي أكبر أسباب الطلاق)

وتورد العابدي جملة عوامل تدفع لتراجع معدلات الزواج، منها تنامي معدلات العنف والجريمة بين الأزواج وعدم الاستقرار الأمني في البلاد وموجات النزوح الى جانب تزايد البطالة وتراجع مستوى دخل الفرد، والتي أدت بمجموعها الى عزوف نسبة كبيرة من الشباب عن الزواج خوفاً من مستقبل لا يحمل ملامح واضحة بالنسبة إليهم.

وتضيف “العامل الاقتصادي هنا حاسم، في أحيان كثيرة يطلب ذوو البنت مهراً وتجهيزات مكلفة، لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي لأغلب الشباب في ظل استفحال مشكلة البطالة وتزايد متطلبات تكوين أسرة، فذلك سبب مهم للعزوف عن الزواج”.

يوافقها الرأي، الشاب حيدر عسكر، من بغداد، مشيراً إلى أن صعوبة توفير متطلبات الحياة تقف وراء زيادة نسبة العازفين عن الزواج وهو واحد منهم. ويتابع: “أغلب الشباب لا يملكون عملاً، وهم غير قادرين على مواجهة متطلبات الحياة بعد الزواج فكل شيء يحتاج الى مال حتى التعليم والصحة اللذين كانا مجانيين سابقا”، متسائلا كيف لهم تدبر كل تلك المتطلبات؟.

ويعبر حيدر الحاصل على شهادة البكلوريوس من كلية الزراعة، والذي اعتاد قضاء بعض الوقت مع زملائه في أحد المقاهي الشعبية، عن استيائه من طلب الأهالي مهوراً عالية بحجة ضمان حياة الفتاة، ويضيف: “بعض الفتيات يقدمن شروطا تفصيلية يجب أن تتوفر في الزوج بل ويضعن مبالغ محددة لقاء القبول بالزواج وكأنهن سلع يحصل عليها من يدفع ثمنها دون أي اعتبار لشخصياتهن أو شخصية الرجل المتقدم لهن “.

ويتابع وهو يشير الى عدد من زملائه الذين كانوا يجلسون على طاولة قريبة :”كلهم تجاوزوا الـ35 سنة من أعمارهم، في سنوات تخرجهم الاولى كانوا يفكرون بالزواج ولاحقا تخلوا عن الفكرة”.

يؤيده زميله علاوي، وهو يبتسم بينما ينسحب بكرسيه عن الطاولة:” المهور العالية ومتطلبات العروس وحفلات العرس تجعل معظم الشباب يؤجلون الزواج أو يلجئون الى الزواج التقليدي بسن مبكرة من أحدى قريباتهم”.

ويضيف: “كلما كبرت في السن تعقد الأمر أكثر، واذا تزوجت مبكراً دون تخطيط وتفكير دقيق، ستقضي حياتك وأنت مهموم تصارع المتطلبات، على الأقل هذا حال اثنين من اخوتي تزوجا قبل أن يكملا العشرين من العمر”.

وراء ظاهرتي الزواج المبكر أو الانتظار الى نهاية الثلاثينات من العمر، وهي سن الزواج التي باتت هي السائدة في العراق بحسب أنور أحمد (26 عاما) خريج علم النفس، تكمن وراءها دوافع عديدة وتداعيات كثيرة تختلف من الشاب الى الفتاة.

بالنسبة لسارة ستار (34 سنة) المحاضرة في احدى مدارس محافظة بابل، فان التسلط الذكوري في أغلب الزواجات التي تعرفها سواء لأقارب أو صديقات، والتجاوز على حقوقهن دون أن يسندها دين أو عرف أو قانون في بيئة ريفية، الغلبة فيها للرجل، أمور تجعلها ترتعب من فكرة الزواج على الرغم من رغبتها الشديدة بأن تصبح أماً.

تسعى سارة للحصول على شهادة جامعية أخرى بعد إتمام دراستها لعلوم الحاسبات، وتجد بأن استقلال المرأة مادياً من الأمور الأساسية سواء تزوجت أو لم تتزوج. لكنها تعتقد بأن الفتاة التي تملك وظيفة تؤمن دخلا مناسبا لها لا تجد نفسها أسيرة لهاجس الزواج بعكس الأخريات.

وهي لا تعير حسبما تقول أهمية للأسئلة التي تطرح عليها باستمرار بشأن حياتها الاجتماعية “لماذا لم تتزوجي لغاية الآن؟ ستندمين ولن تجدي غدا أحداً يرضى بكِ.. حين كنت بعمركِ كان لي ثلاثة أطفال، متى سنرى أطفالك؟ أسمع مثل هذه الأشياء دائما في تعد اجتماعي واضح وقد تعودت على عدم الاكتراث”.

ثنائية الزواج المبكر والمتأخر

تقول سلوى أحمد (38 عاما) وهي موظفة جامعية تحمل ماجستير في علم الاجتماع أن “تلك الأسئلة التي تتبعها تعليقات أو نظرات خاصة، بالنسبة للكثير من غير المتزوجات هي أسوأ ما في الموضوع”.

وتؤكد بأن الكلية التي تعمل فيها تضم الكثير من الفتيات اللواتي تجاوزن سن الثلاثين ولم يتزوجن لأنهن لم يجدن أنفسهن مضطرات للاقتران برجال لا يناسبونهن لمجرد الزواج. وتوضح بأن الزواج يغدو أكثر صعوبة بالنسبة إليها كلما تقدمت بالعمر “قرار كهذا يخضع لدراسة أكثر فالنضج دور حاسم عند اتخاذه”.

وترى سلوى ان الأسر بحكم التقاليد تريد تزويج بناتهن قبل الأولاد، لكن ذلك يصطدم بتزايد متطلبات الحياة التي تدفع الكثير من الشباب الى عدم التفكير بالزواج إلا حين يقتربون من سن الأربعين، وهذا يعني بالنتيجة تزايد معدلات العزوف عن الزواج.

وتركز سلوى حديثها عما تصفه بثنائية باتت تحكم المجتمع العراقي وتتمثل بالزواج المبكر والزواج المتأخر أو العنوسة، مبينة أن الحكومة غائبة ولا تملك برنامجا للتوعية بمخاطر الزواج المبكر حتى مع ارتفاع حالات الطلاق لتلك الشريحة بنحو خاص، كما لا تملك برامجاً لدعم زواج الشباب في سن مناسبة.

وتنبه الى أن العنوسة بالنسبة للبنت حتى لو كانت متعلمة ومستقلة ماديا أمر صعب في بيئة لا تستطيع فيها العيش بمفردها وتظل محكومة بالعيش مع أشقائها لتعاني من ذكورية المجتمع.

النضج وتغليب العقل على القلب، هما السببان اللذان أبقيا علي الغرباوي (مصور فوتوغرافي) خارج قفص الزوجية على الرغم من تجاوزه الثلاثين سنة “أجوب الشوارع بحكم عملي وألتقي الكثير من الناس واسمع معاناتهم ومشاكلهم، الحياة صعبة في العراق فلا غرابة مطلقاً في قلة الاقبال على الزواج”.

يقضي الغرباوي معظم ساعات النهار حاملاً كاميرته، يوثق بها ما يصادفه في بغداد، وأصعب ما عليه مواجهته حسبما يقول، هو منظر الأطفال المتسولين أو الباعة في تقاطعات الطرق الرئيسية أو الراقدين بنحو تمثيلي قرب أمهاتهم أو في أحضانهن تحت أشعة الشمس اللاهبة من أجل تليين القلوب والحصول على بضعة دنانير لتغطية نفقات الحياة.

يضيف: “لم أفكر يوماً بأن يحمل طفلٌ ما أسمي، ما فائدة أن أجلب طفلاً إلى هذا العالم يواجه الحرمان وشظف العيش. من الظلم بحق الطفل ونفسك ان تفكر بجلبه الى هذا العالم قبل ان توفر حاجاته وتؤمن مستقبله”.

ويخلص الغرباوي الى القول ان حتمية الزواج “تقليد وعرف قديم أنهك المجتمع وأدى الى زيادة غير مدروسة في عدد السكان”.

الدين والقبيلة

قرار الزواج إن كان بيد الشاب، فأنه ليس كذلك بالنسبة للغالبية العظمى من الفتيات في عموم أنحاء العراق بسبب الطبيعة القبلية والدينية التي يتصف بها المجتمع بنحو عام، فهن محكومات بأطواقٍ تبدأ بالعائلة ثم تتسع لتشمل الأقرباء فالعشيرة فالمنطقة والمدينة.

سارة النقّاش، دخلت في صراع عنيف مع عائلتها بعد اتمامها دراسة القانون، لعدم قناعتها بالزواج في بيئة “يسودها التمييز المناطقي والطائفي وتحكمها قوانين العشيرة” وفقاّ لما تعتقد.

تقول “كانت أمي رغم ضعفها، الساند الوحيد لي، أما ذكور العائلة، من أشقاء وأعمام، فقد كانوا يحاولون بشتى الطرق التخلص مني مع كل شخص يتقدم لخطبتي”.

تفكر قليلاً ثم تتابع بانفعال “يريدون من المرأة طاعة عمياء وخضوعاً تاماً وهذا ما يرفضه عقلي. لستُ مجبرة على أن أتقولب وفقا لقناعاتهم، فمن حقي أن يكون لي كياني، والتصرف وفقاً لإرادتي أنا وليس رغبات من هم حولي”.

تتوقف سارة عن الكلام، تمرر يدها على جبهتها قبل أن تكمل “لكن رفضك لما يحاولون فرضه عليك يدفعهم لمحاصرتك بالكلام والشكوك: هل تنتظرين أحداً؟ هل ميولكِ الجنسية طبيعية؟ هل اخطأتِ مع أحدهم؟ هل أغرتكِ مواقع التواصل الاجتماعي؟ وغيرها من الأسئلة الملغمة بالاتهامات”.

تعلو الابتسامة وجهها وهي تتساءل “ماذا لو أنني أتممت الثلاثين عاماً دون زواج؟ ما المعيب في ذلك؟ أليس من حقي التريث لحين مقابلة شخص يناسبني، فأنا التي ستعيش معه في النهاية وليس والداي وأقربائي”.

تعمل سارة متدربة في مكتب خاص للمحاماة في الأنبار وتحرص على المضي في حلمها بأن تصبح محامية ناجحة، لكونها تعول على الاستقلال المادي لتحديد مصيرها رغم ضغوط العائلة والمجتمع.

وهذا ما يراه الباحث في علم الاجتماعي د. هاني سلام خضر، مفتاحاً لتخلص المرأة من التبعية الكاملة للرجل أو في الأقل عدم البقاء رهينة لقراراته. ويقول “عمل المرأة يعني اعالتها لنفسها، وبالتالي اتخاذها القرارات الحاسمة في حياتها”.

لكنه لا يتفق مع الرأي القائل بأن أغلب العوانس هن نساء عاملات، ويشير إلى جملة من الأسباب تقف وراء ارتفاع نسب المتأخرات والممتنعات عن الزواج، منها “تغير مزاج المجتمع، فقديما كان الشائع بأن تختار العائلة العراقية الزوجة لأبنها ولم تكن أمام الأخير خيارات كثيرة في العادة. لكن ذلك تغير بعد خروج الفتاة للدراسة والعمل وامتلاك الشاب مساحة كبيرة من حق الاختيار خلافاً للسابق”.

ويعدد أسباباً أخرى، مثل رد الفعل إزاء ارتفاع نسب الطلاق المرتفعة وغير المسبوقة في العراق خلال السنوات الأخيرة وخشية الكثير من الفتيات من ذلك المصير “عانس أفضل من مطلقة، فالمجتمع يتعامل بصرامة شديدة مع المرأة المطلقة”.

فضلاً عن متطلبات الزواج بدءا بالمهر وتجهيزات العروس ومنزلها وانتهاء بحفلة الزواج، الى جانب المشاكل التي فرضها سيطرة تنظيم داعش على عدة محافظات وما سببه من نزوح داخلي وهجرة خارجية لعشرات آلاف الأسر.

ويستدرك د. هاني “لا بد للوزارات والجهات المختصة من دراسة وحصر جميع الأسباب بهدف وضع حلول ومعالجات لمشكلة العزوف عن الزواج الآخذة بالازدياد لدى الإناث والذكور على حد سواء”.

المحامية المتخصصة في دعاوى الأحوال الشخصية ضحى محمود، تشير ومن خلال اطلاعها اليومي على الحالات المعروضة أمام المحاكم، الى تأثير تزايد حالات “الخيانة الزوجية” والعنف الأسري وارتفاع حالات الطلاق والتي تتركز في الفئة الأصغر عمراً، على الكثير من النساء للبقاء ضمن دائرة العزوبية.

كما أن التدهور الاقتصادي الذي أجبر الشباب على السكن مع ذويهم بعد الزواج، زاد من احتمالية فشل العلاقة الزوجية لذا نجد أن كثيراً من النساء “يرفضن الزواج برجل لا يستطيع تأمين سكن مستقل عن ذويه”.

وتدعو المحامية ضحى إلى تأهيل المقبلين على الزواج من قبل المحاكم العراقية واستحداث دائرة حكومية تعنى بالمتابعة النفسية للمتزوجين حديثاً تجنباً لحدوث الجرائم وإبراز صورة أكثر استقراراً لمؤسسة الزواج في العراق، حسبما ذكرت.

القانون غير منصف واحكام عشائرية

الناشطة في مجال حقوق المرأة نورس حسين، تجد بأن عزوف قسم من النساء عن الزواج يرجع الى القوانين التي تحكم منظومة الزواج في العراق التي تقول بأنها غير منصفة “للرجل الحق في انهاء عقد الزواج دون قيد أو شرط ومتى ما أراد بينما ترزح المرأة تحت ظلمه وتحيز المجتمع إليه، في حين يقف القانون موقف المتفرج تجاه وضعها بل ويعدها انساناً من الدرجة الثانية!”.

بخلافها يرى المحامي عبد الغفور مرتضى، أن القانون العراقي يرتب للمرأة حقوقاً أكثر من التي يوفرها للرجل في حال وقوع الطلاق، وأهمها حق الحضانة لغاية بلوغ الطفل سن الرشد 18 سنة، وقال بأن هذا يضاف إلى أسباب أخرى تدفع الشبان للتريث في الزواج.

نورية (أسم مستعار) من قرية تابعة لقضاء الحضر جنوب مدينة الموصل (405كم شمال بغداد) واقعة منذ نحو تسع سنوات تحت ما يسمى بعرف (النهوة) العشائري، بقرار من عمها قضى بمنع أي شخص من التقدم لطلب يدها، نتيجة لرفضها الزواج بابنه.

“أبن عمي عديم الشخصية، ولحسن الحظ والدي يعرف ذلك، ولم يجبرني على الزواج منه” تقول نورية بامتنان، وتواصل “هنالك المئات مثلي في القرى والأرياف مجبرات على حياة العنوسة، على الرغم من أن النهوة مخالف للقانون والشرع”.

تغرق عيناها بالدموع وتكتسي نبرة صوتها بالحزن “سيكون مصير أي شخص يتقدم لي القتل، أنا أمام خيارات ثلاثة واحدة أتعس من الأخرى، فإما أن أقبل العيش مع شخص غير سوي أو أقبل بالزواج من آخر فتسيل الدماء بسبب ذلك، أو أن أقضي بقية عمري أحلم بزوج وأبناء لن يكونوا لي أبداً في الواقع”.

  • أنجز التقرير بدعم من مؤسسة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":19797}" data-page="1" data-max-pages="1">