الايزيديون ذوو الاحتياجات الخاصة .. أرواح منسية في مخيمات النزوح
المشكلة ليست في "الإعاقة" وحدها
المشكلة ليست في "الإعاقة" وحدها
بعد ساعات من الهجوم الواسع لعناصر تنظيم داعش على قضاء سنجار غربي نينوى في الثالث من آب/أغسطس 2014، وصلت مئات العائلات الإيزيدية الهاربة من عمليات القتل الجماعي إلى سفح جبل سنجار، وهي حائرة في كيفية النجاة بنفسها ومعها أطفال وبالغون من ذوي الاحتياجات الخاصة غير قادرين على الحراك.
ومع التقدم السريع لمقاتلي التنظيم نحو الجبل واقترابهم من مواقع انتشار العائلات المنهكة من المشي لساعات، لم يكن أمام الكثير منها خيارٌ غير الصعود إلى قمة الجبل والنجاة بمن يستطيع المشي تاركة العشرات من أبنائها المعوّقين ليواجهوا مصيرهم بمفردهم في الأسفل.
يقول داود علي (45 عاما) الذي تمكن من النجاة مع والديه المسنين بعد ان تناوب على مساعدتهما في المشي:”لم يكن امام العائلات خيار آخر، إما ان تتعرض كلها للاعتقال والقتل او تنجو بمن يستطيع المشي في جبل صخري يضم انحدارات قاسية”.
يضيف بصوت متقطع وهو يستعيد تلك الساعات “جرى كل شيء سريعا، ولا يمكن لوم أحد، كان من المستحيل أن تتحرك الكراسي المدولبة وسط الممرات الجبلية الوعرة. مررت برجل أربعيني كان يحاول وهو يبكي حمل ابنه المراهق المعوّق جسدياً والعاجز عن الكلام، فيما كان هناك طفلان آخران ضمن عائلته يحتاجان الى المساعدة، بدا يائسا تماما وهو يبادله النظرات.. لا اعرف ماذا حل بهما”.
ارتكب تنظيم داعش جرائم قتل واستعباد أدانها المجتمع الدولي خلال سيطرته على سنجار والبلدات القريبة منها، فبعد ان فصل النساء عن الرجال نفذ عمليات قتل جماعية لمئات الرجال الإيزيديين والمسلمين الشيعة بينهم كبار سن ومراهقون. وقبل أن يخسر سيطرته على المنطقة في العام 2017 ترك وراءه أكثر من سبعين مقبرة جماعية.
بعد نجاة العائلات من الموت قتلاً وعطشاً وسط حرارة تتجاوز الأربعين طوال أيام محاصرة التنظيم للجبل، حاول الآباء والأمهات دون جدوى التواصل مع الجهات الحكومية والمنظمات المحلية والدولية لمعرفة مصير من تركوهم قسراً وراء ظهورهم، وانتظروا إلى حين تحرير القضاء من قبضة التنظيم في تشرين الثاني/نوفمبر2015 ليكتشفوا بأن الكثير من أبنائهم باتوا في قوائم المفقودين مجهولي المصير، لا أحد يعرف إن كانوا قد نجوا أو دفنوا في مقابر جماعية سيتطلب فتحها وتحديد هوية الضحايا سنوات من العمل.
يقول مدير عام شؤون الايزيديين في وزارة الأوقاف في إقليم كردستان، سعود مسطو، إن من بين 6417 إيزيدياً مختطفاً من قبل مقاتلي التنظيم تم تحرير 3504 فقط، مشيراً إلى أن جهود البحث وتحرير المختطفين الباقين تراجعت في السنوات الثلاث الأخيرة، وان الحالة المادية والنفسية للناجين سيئة جداً.
ياسر(26 سنة) مصاب بشلل الأطفال، كان من بين القلة التي نجت، إذ أسعفته مقدرته التي اكتسبها من الصغر في المشي والزحف باستخدام يديه بدلاً من رجليه وبذلك تمكن من الصعود مع عشرات آلاف الايزيديين الفارين من بطش داعش، حسبما يروي: “لكن تعين عليَ بعدها أن أواجه مصاعب الحياة في المخيم، لأنها لا تطاق بالنسبة إلى شخص يعاني من اعاقة جسدية مثلي” يقول ياسر وهو ينحني من كرسيه بمهارة ليستقر على يديه ويجلس على الأرض ومن ثم يريح ذراعيه على فخذيه كأنه في تمرين يوغا.
يغمض عينيه ويقول بمرح “أتخيل نفسي أحيانا أسير بشكل طبيعي وأشارك في الحفلات مؤديا فيها الرقصات”.
نبرة الأمل هذه شكلت سلاحاً واجه به حياة النزوح منذ يومه الأول في مخيم شاريا للنازحين الايزيديين في محافظة دهوك بإقليم كردستان، على الرغم من آلام المفاصل التي عانى منها فضلاً عن مشاكل نفسية تخطاها بمرور الأيام.
يفتح عينيه فجأة ويهتف بصوت عالٍ “الحياة في المخيم جحيم حقيقي للأصحاء، فكيف بي أنا، إذ لا شيء هنا يتلاءم مع حياة ذوي الاحتياجات الخاصة ومتطلباتهم، حتى دورة المياه مشتركة وعامة”.
رغم كل شيء يواجه ياسر صعوبات حياته ويؤمن بأنه سيتخطاها، وانه محظوظ مقارنة بآخرين لم تسعفهم أجسادهم الهزيلة على صعود الجبل، أو يعانون من شلل كامل او اعاقة ذهنية “الناجون من هؤلاء حياتهم هنا كارثية، هم منسيون بلا رعاية تسعفهم”.
لا توجد إحصائيات دقيقة بشأن أعداد ذوي الاحتياجات الخاصة من الإيزيديين في مخيمات النزوح، غير أن مسؤولين في منظمات مدنية ونشطاء يقدّرون أعدادهم ببضعة آلاف موزعين في 13 مخيماً في دهوك وواحد في السليمانية بإقليم كردستان فضلاً عن العائدين الى المجمعات والقرى في سنجار.
يقول نزار برجس، من مجمع (بورك) للأيزيديين شمالي قضاء سنجار، والذي يدير منظمة “سنجار للأشخاص ذوي الإعاقة” بأنه وثق في سنجار 2,327 حالة لذوي الاحتياجات الخاصة من الايزيديين الذين يعانون من مختلف أنواع الإعاقات بما في ذلك الحركية والسمعية والبصرية.
وهو يعتقد أن العدد ربما يتضاعف ثلاث مرات حين يتم اضافة ذوي الاحتياجات الخاصة في مخيمات النزوح التي تضم الإيزيديين في محافظة دهوك، عشرات الآلاف من النازحين عن سنجار رفضوا العودة الى مناطقهم بعد تحريرها في 2015، نتيجة عدم قيام الحكومة بإعمار منازلهم المدمرة وبسبب غياب فرص العمل وعدم استقرار الوضع الأمني، وفقاً لما يقول ممثلون عنهم.
تعرض نزار إلى حادث دهس قبل خمس سنوات، ليفقد ساقيه ويعيش هو الآخر سنوات من المعاناة فاقمها عدم تلقيه العلاج المناسب، على حد تعبيره. بعد الحادث قام بمساعدة رفاق له في اعداد قاعدة بيانات تتعلق بذوي الاحتياجات الخاصة في سنجار، وتكللت جهودهم في 2021 بتأسيس منظمتهم وافتتحوا مقراً لها في مركز قضاء سنجار.
يصف أوضاع ذوي الاحتياجات الخاصة بـ”المؤسفة للغاية”، سواءً في المخيمات أو مدينة سنجار وقراها، إذ أنهم بحسب تأكيده “لا يتلقون أي دعم واهتمام”، داعيا الجهات الحكومية إلى مد يد العون إليهم، مؤكداً عدم تلقي منظمته أي تمويل لإطلاق مشاريع خاصة بهم.
يقول بأسف “المساعدات المقدمة تنحصر في توزيع كراسي مدولبة للمعوقين.. وهي غير كافية ولا تلبي المتطلبات والحاجات”.
في السوق الشعبي لمخيم إيسان في قضاء الشيخان (47 كم شمال الموصل) يدفع جميل الياس (35 سنة) كرسي ابنه المدولب (نوار 15 سنة) ويتوقف بين برهة وأخرى أمام محل تجاري أو مجموعة أصدقاء. يقوم بذلك بشكل شبه يومي ليخفف عنه شعوره بالملل جراء عدم قدرته على الحركة.
أصيب نوار في اليوم الأول لهجوم داعش على سنجار في 3 آب/ أغسطس 2014 بطلق ناري استقر في ظهره وشل أطرافه الأربعة، ومنذ ذلك الحين تنتابه نوبات صرع يوقظ بها، في كثير من الليالي، أفراد عائلته الثمانية الذين يكتفون بمراقبته عاجزين عن فعل شيء.
يقول الوالد بيأس “نعيش جميعنا في خيمة واحدة، لا يمكنني وصف معاناتنا” يومئ برأسه مشيراً إلى نوار ويتابع بصوت خافت “يطلب مني أحياناً شراء أشياء لا أستطيع توفيرها له، لأننا نعيش على المساعدات، وهي بالأصل غير كافية وأنا غير قادر على العمل بسبب تفرغي لرعايته وأشقائه الثلاثة وكلهم أطفالٌ صغار”.
يطلب نوار من والده وبإلحاح إعادته إلى الخيمة، يمتثل الأب بنحو آلي، ويدير وجهة الكرسي بهدوء، يقول وهما يبتعدان “فوق فقرنا وبؤسنا، نواجه حوادث مميتة فبين فترة وأخرى ووسط هذا الحر اللاهب تحترق خيامنا، الحكومة لا تعتبرنا عراقيين، حسنا فلتتعامل معنا كلاجئين وتقدم لنا ما يغطي أبسط حاجاتنا”.
الناشطة في مجال حقوق المرأة والطفل شيرين حسن تقول إن نحو 100 طفل ايزيدي فقدوا أطرافهم خلال سيطرة داعش على قضاء سنجار، ولاحقا أثناء تجنيده لهم في معسكرات تدريب في العراق وسوريا واستخدامهم دروعاً بشرية في معاركه ضد الجيش العراقي والبيشمركة وقوات سوريا الديمقراطية وغيرها.
وتشير إلى أن من تم تحريرهم لم يتلقوا الدعم النفسي أو العلاج النفسي فضلا عن العمليات الجراحية التي يحتاجها البعض، فبقوا مع عائلاتهم وأقاربهم “يعانون من الصدمات نتيجة التعذيب وغسيل الدماغ الذي مارسه التنظيم ضدهم” تقول شيرين.
وتضيف: “أكثر من 50 طفلاً من الناجين الإيزيديين من ذوي الاحتياجات الخاصة يعانون في المخيمات ولا يوجد مشروع خاص لإعادتهم إلى الحياة الطبيعية“.
يؤيد الناشط الحقوقي فلاح حسن ما ذكرته شيرين، ويشير إلى أن ذوي الإعاقة في مخيمات النازحين يعيشون ظروفاً مأساوية، داعياً وزارة العمل في الحكومة العراقية إلى تخصيص راتب لمن لا يملكه منهم، وزجّهم في دورات خاصة لتدريبهم على العمل ودمجهم بالمجتمع، مع فتح مراكز ترفيهية تخفف عنهم وتنتشلهم من الوحدة.
ويضيف: “الوضع النفسي للأشخاص ذوي الإعاقة سيء ومعظمهم يلازمون خيمهم الصغيرة ولا يغادرونها إلا نادراً، فلا أماكن مناسبة يذهبون إليها. للأسف أقول إنهم أشباح منسية في المخيمات”.
علي حسين (31 سنة) يعيش في مخيم شاريا للنازحين، لم يكن متواجداً في سنجار يوم هجوم داعش عليها في 2014، فقد كان يعمل بأجر يومي في أقليم كردستان حينها، لكنه دفع ثمناً باهظاً لذلك ومازال يعاني من تداعياته لغاية الآن.
اختطف التنظيم الإرهابي عائلته بأكملها (والداه وخمسة أشقاء) وهو طوال أشهر كان يقضي ساعات يومه يجول بين مكتب إنقاذ المختطفين وهيئة التحقيق وجمع الأدلة وأي جهة أخرى مهتمة بملف الإيزيديين، آملا أن يجد لدى إحداها أية معلومة بخصوص أفراد عائلته.
إلا أن وصلته بشارة العثور على شقيقته الصغرى حليمة (25 سنة) في سوريا 2018، وكانت قد فصلت عن والدتها هناك قبلها بسنة ونصف السنة كما أخبرت، وكان ذلك مبعث أمل كبير في أن يعثر على آخرين من أفراد عائلته “على الأقل علمت أنهما على قيد الحياة” يقول علي.
بعد أقل من عام من عودة شقيقته، عثر علي في آذار/مارس 2019 على شقيقه بركات في بلدة باغوز بسوريا التي اعتبرت آخر معاقل التنظيم قبل انهياره الكامل. لكن بشرى العثور عليه كانت في الوقت عينه بداية معاناة جديدة.
يطبق كفيه ببعضهما ويحركهما أمامه، في وقت حاول فيه حبس سيل دموعه “كان عبارة عن جثة هامدة حين جاؤوا به إلى دهوك، إذ كان مصابا بأعيرة نارية في رأسه وظهره وقدميه”.
أجريت لبركات سبعُ عمليات جراحية في اقليم كردستان، نجحت في إبقائه حياً، لكنها فشلت في إعادة الحياة إلى قدميه لتفرض عليه الإعاقة وعلى شقيقه الأكبر التفرغ الكامل للعناية به وقضاء حوائجه.
ينظر علي إلى صورة قديمة لبركات وهو طفل محمول على ذراع والديهما “لقد كان في السادسة من عمره عندما اختطفه إرهابيو داعش، غسلوا دماغه أنسوه دينه ولغته، واستخدموه مع أطفال إيزيديين آخرين دروعاً بشرية في معسكراتهم، ثم أطلقوا عليهم اسم “أشبال الخلافة” ووضعوهم في جبهة القتال في منطقة باغاوز السورية وهناك أصيب ….”.
يشيح عليٌ بوجهه، يمسح دموعه بباطن كفه ثم يواصل :”أعرف أن هنالك أمل في شفائه إذا تمت رعايته بطريقة صحيحة، ربما ليس بشكل كامل بسبب سوء وضعه، ولكن في أقل تقدير أن يتحسن ويتكيف مع وضع الإعاقة ويتدبر امور حياته”.
يتأمل الصورة ثم يعود ليقول بعد لحظات صمت “هو يهلوس في كثير من الأحيان، الأطباء قالوا بأن الرصاصة التي أصابت رأسه أثرت على دماغه، وأنا لا أعرف ماذا أفعل، وإلى متى سأكون قادراً على الاعتناء به وبشقيقتي؟”.
يحرص خدر سعيد (أسم مستعار) أن يُبقي ابنته البالغة من العمر 14 سنة والمصابة بإعاقة عقلية، بعيداً عن أعين الناس، بل يقوم بتقييدها إذا لزم الأمر داخل خيمتها المجاورة لخيمة العائلة بمخيم للنازحين الإيزيديين بمحافظة دهوك!
“لست أباً قاسياً” يقول خدر في محاولة لتبرير ما يرتكبه في حق ابنته عبر تقييدها، لكنه يخضع لمنظومة ذكورية تفضّل ربط البنات على السماح بأن يكن على تماس مع المجتمع: “نحن في بيئة محكومة بالأعراف والتقاليد الصارمة، ولن ترحمنا إذا ما تركت المسكينة ابنتي تخرج، سيقول الناس بأننا لا نحسن رعايتها وهم يقولون في الأصل باننا قساة لأننا نربطها أحيانا منعا لخروجها”.
الفتاة أصيبت بحمى وهي طفلة صغيرة، ولم تفض العلاجات التي تلقتها إلى نتيجة، حتى تدهورت حالتها شيئاً فشيئاً إلى أن فقدت قدرتها التامة على التواصل مع محيطها وصارت غارقة في عالمها الخاص.
بعينين مليئتين بالدموع يتابع خدر إفراغ ما في قلبه “المشكلة ليست في الإعاقة وحدها، البنت في مجتمعاتنا ليست كالولد، وأن تفقد الفتاة عقلها فذلك يعني كارثة بالنسبة للعائلة، لأننا لا نفكر فقط في أن تؤذي المسكينة نفسها إذا ما خرجت، بل نخشى أيضاً أن يتعرض لها احد(عانياً بذلك التحرش أو الاغتصاب)، حينها كيف أرفع رأسي بين الناس؟”.
رغم الصعوبات التي يواجهها ذوو الاحتياجات الخاصة في المخيمات والفقر والصدمات التي عاشوها، لكن بعضهم يحاول النهوض وبناء حياة جديدة، كياسر الشاب المصاب بالشلل.
يقول ان العيش في ظل الفقر كان أكثر وجعاً وألماً من أي مرض أو معضلة حياتية أخرى “لهذا كان عليَ أن أجد عملاً وأن لا أكون عالة على أحد”.
نجح الشاب في إقناع بعض أقربائه وأصدقائه لإقراضه مبلغاً من المال، وافتتح متجرا صغيرا لبيع ملابس الأطفال، عبارة عن خيمة بمساحة ثلاثة أمتار في مخيم النازحين ذاته الذي يعيش فيه.
أول ما حققه له متجره، تعرفه على فتاة جمعته بها قصة حب استمرت لنحو عام وتكللت في 2019 بالزواج وهما ينتظران الآن مولودهما الأول.
يقول ياسر بوجنتين محمرتين: “نقلتني زوجتي من عالم الحزن وهواجسه، إلى آخر مليء بالسعادة والكثير من الأمل، فأنا ومنذ صغري محروم من السير واللعب كالآخرين، حتى الدراسة حرمت منها، وكنت أعتقد قبل وصولها انني لن التقي أبداً بشخص يحبني وأحبه”.
يجهد ياسر نفسه في إعالة عائلته الصغيرة فضلاً عن أسرة أبيه المكونة من سبعة أفراد، مع أمل في أن يجد فرصة للسفر إلى أوروبا وتلقّي العلاج هناك أو على الأقل الحصول على أدوات تعينه على الحركة بسلاسة أكبر بدلاً من كرسيه المتحرك المتهالك.
*أنجز التقرير بدعم من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية ونشر على موقع درج