يواصل نخبة من الصحفيين والكتاب وأصحاب الرأي والقانونيين الى جانب عدد من المنظمات المدنية والمؤسسات الصحفية بضمنها شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية حملة “الدفاع عن حرية التعبير” التي انطلقت في 3 حزيران بعد أيام من ايقاف برنامج “المحايد” تحت ضغط شخصيات نافذة في السلطتين القضائية والتنفيذية.
و”المحايد” هو برنامج حواري يستضيف شخصيات عامة، يقدمه الصحفي سعدون ضمد من على قناة العراقية الممولة من المال العام، ويعد البرنامج الأكثر شهرة في القناة. وتعرض مقدم البرنامج وضيوفه الى الهجوم من رئيس مجلس القضاء الأعلى عبر بيان (خاص) وصف فيه مقدم البرنامج وضيوفه بالمتطرفين الذين يستهدفون القضاء.
وصدرت عقب ذلك بيانات وتصريحات هجومية على البرنامج من جماعات مسلحة وشخصيات في الأجهزة التنفيذية فضلا عن نقابة الصحفيين بإدعاء الدفاع عن القضاء، في وقت يفرض القانون والدستور بأن يلجأ أي شخص (أو جهة) ترى انها استهدفت او تعرضت للتشهير، الى القانون وترفع دعوى على من تجاوز عليها، بدل ان تلجأ لبيانات الضغط والتهديد.
ومع الهجوم على البرنامج تعرض مقدمه وضيوفه لتهديدات بالقتل من قبل شخصيات معروفة، ولم تقم السلطات (لا القضائية ولا التنفيذية) بأي تحقيق أو استدعاء أو حتى التواصل مع مقدم البرنامج ومعديه بشأن التهديدات العلنية التي تعرضوا لها.
وكانت قناة العراقية قد اوقفت في وقت سابق برنامج “المراجعة” أيضا الذي كان يستضيف مفكرين وباحثين في مجال الدين والاجتماع والتاريخ والثقافة، وواجه قرارها في حينها انتقادات شديدة وأسئلة عديدة على رأسها: هل شبكة الاعلام العراقي شبكة تابعة للأحزاب الحاكمة وخاضعة لرؤية جماعات محددة، وهل قناة العراقية محصور عملها في الترويج لخطاب السلطات والأحزاب الحاكمة؟ واين مصلحة المواطن وقانون الشبكة والحقوق الورادة في الدستور من كل ذلك؟
ومع وقف البرنامج والترويج بانهاء عقود العاملين، تحرك مئات الكتاب والصحفيين لوقف ما عدوه “انتهاكا لحرية الصحافة وحرية التعبير” وخرقا واضحا للدستور، وتهديدا باعادة البلاد الى زمن الاستبداد، بقيام شخصيات نافذة في الدولة رؤيتها على شبكة ممولة من المال العام تأسست لتنقل مختلف الرؤى لا ان تتحول الى مؤسسة ناطقة باسم السلطات ومروجة لرؤيتها فقط.
ووقع على البيان أكثر 2000 صحفي وكاتب وناشط مدني رافض للمواقف والقرارات والاجراءات غير الدستورية التي تنتهك حرية الصحافة وحرية التعبير، فضلا عن سياسيين ونواب وشخصيات عامة.
ضمد يقدم تساؤلات صادمة
وبعد مرور عشرة ايام على الحملة وجه مقدم برنامج “المحايد” سعدون ضمد، رسالة الى الجهات المعنية بالقضية كشف فيها ومن خلال بعض التساؤلات، حجم الأخطاء القانونية والأحكام الكيفية والتخاذل والتجاهل الذي حصل، والذي بمجمله لا يهدد فقط حرية التعبير والصحافة بل يكشف عن حجم التراجع في الأسس التي تشكل عليها النظام الجديد بعد 2003 والتي كانت تتمثل في ضمان الحريات والديمقراطية وسيادة القانون بعد عقود من سيطرة الاستبداد والدكتاتورية.
يقول ضمد: كنت طوال الأيام الماضية اتجنب النشر، أو حتى التعليق، خشية من أن يُؤخذ كلامي إلى سياقات غير التي اتحدث فيها، في ظل ظرف معقد وملتبس. الآن أريد أن أطرح الأسئلة التالية:
أولاً: أنا أعمل في تقديم البرامج منذ أكثر من 13 سنة، وقد التقيت بالأعم الأغلب من قادة الكتل، إسلاميين وعلمانيين، بضمنهم رئيس السلطة القضائية السابق، ووزراء ورؤساء الحكومات السابقة، فهل اتّهمني أي منهم، وبسبب لقاءاتي التلفزيونية معهم، بأنني ذو نوايا مُبيّتة وانطلق من مواقف مُسْبقة؟
هل حُركت ضدي اي قضية نشر بسبب قذف او سب او تجاوز حدود إدارة اللقاءات والحوار الإعلامي؟ ألا يدل هذا على أداء يحترم ضوابط المهنة وأخلاقياتها؟
إذاً، على ماذا تأسس اتّهامي بالتطرف في استهداف القضاء؟ مع الأخذ بنظر الاعتبار بأن هذا الاتهام بمثابة حكم بالإعدام على حياتي المهنيَّة!
ثمَّ كيف تم تجاهل مواقفي الكثيرة الداعمة للقضاء والسلطة القضائية، المنشورة على صفحتي الخاصة أو عبر مقالاتي في الصحف؟
ثانياً: لاحظ الجميع بأنني تعرَّضت إلى تهديدات بالقتل انطلقت من صفحات تخص شخصيات معروفة ومؤثرة لدى الجماعات المسلحة، فلماذا لم تلاحظ الجهة التي اتهمتني بالتطرف هذا التصرف الخطير، ولم تدلي ولو بتصريح بسيط تحذّر فيه من استثمار بياناتها المتعلقة بالحلقة الأخيرة من برنامج المحايد في تعريض حياتي للخطر أو تهديدي او الضغط علي او ترويع عائلتي؟
ثالثا: مع حجم التهديدات السافرة التي وُجّهت ضدي، لماذا لم يصدر من السلطة التنفيذية المسؤولة عن حمايتي أي موقف يضمن سلامتي، أو حتى تصريح يشجب تهديدي، أو على الأقل اتصال هاتفي يطمئن على سلامتي ويساعدني بتوفير ابسط شروط الأمان لي ولعائلتي؟
رابعاً: هذا التخلي من السلطات الأمنية عزَّزه تخلي المؤسسة التي أعمل فيها، حيث لم يصدر منها أي توضيح او تعليق يستنكر تهديدي بالقتل ويوضح للرأي العام أن رأيي كمقدم برامج لا علاقة له بتصريحات الضيف، وأن الاتهامات التي تربط بين القضيتين تحتاج إلى تحقيقات عادلة ومنصفة.
خامساً: موقف نقابة الصحفيين، وهي الجهة المعنيّة بالدفاع عن حقوقي، من الموضوع أقرب إلى التخاذل، خاصَّة وأنها لم تكلّف نفسها عناء الاتصال بي ولو لدقائق معدودة تستوضح فيها ملابسات القضية، وتأخذ وجهة نظري بالموضوع، قبل أن تصدر بيانها الذي زاد من المخاطر على حياتي وعزّزها كثيراً.
نص بيان 3حزيران “دفاعًا عن حرية التعبير”
تتواصل منذ سنوات خروقات حرية التعبير على امتداد العراق، بعد فسحة الحريات النسبية التي أتاحها الخلاصُ من نظام قمعي استبدادي، وكانت – في الحقيقة – واحدةً من نتاجات هشاشة الدولة الناشئة بعد العام 2003، ولم يمأسسها ويصنها نظام واضح وبنية تشريعية متماسكة.
غير أن الأشهر الأخيرة، شهدت تصاعدًا واتساعًا في هذا المجال، على نحو يثير المزيد من القلق على مستقبل البلاد وحقوق مواطناتها ومواطنيها. ويأتي هذا بعد أن واجهت البلادُ وسلطاتها العامة وتخطت عددًا من التحديات الكبيرة، وفي صدارتها الإرهاب. وفي ارتكاب هذه الخروقات، عادةً ما تلجأ السلطات المعنية وشاغلو مناصب عليا في الدولة، فضلاً عن ساسة في أحزاب مُشاركة في السلطة، إلى استعمال مصطلحات من قبيل “الإساءة لمؤسسات الدولة”، و”إهانة القضاء”، و”التطاول على الرموز”، في وصف ما يعدّونه سلوكًا إجراميًا، يستدعي إجراءات عقابية بحق المواطنات والمواطنين الذين يطلقون هذه الآراء، وهي آراء تقع في مجال حرية التعبير، التي كفلها الدستورُ العراقي واشترط وجودَها في مواد عدة، بوصفها خصيصة أساسية وتعريفية للنظام السياسي العراقي. يكفي، هنا، التذكير بأن أحد المبادئ الأساسية للدستور، غير القابلة للتعديل، هو منع تشريع قوانين تتعارض مع الديمقراطية، بما تفضي إليه هذه القوانين من إجراءات رسمية. وحريةُ التعبير هي عماد الديمقراطية، وهي أمّ الحريات على الإطلاق، وهي تتضمن إمكانية التعبير من دون خوف العقاب على هذا التعبير أو محتواه.
وفي ظل النقص في مأسسة الدولة العراقية وتحديث مدونتها التشريعية، ومع ضعف تقاليد سلطات الدولة وأجهزتها في استيعاب الممارسة الديمقراطية، تقضي صيانةُ المسار الديمقراطي للعراق اليوم جعلَ حرية التعبير والدفاع عنها أولوية كبرى، ترتبط حمايتُها بحماية المؤسسات العامة وإطارها السياسي من الانزلاق التدريجي نحو تقاليد الاستبداد والدكتاتورية وتكميم الأفواه التي عانى منها العراق طويلًا.
من هنا، نعتقد أن السلطات العامة وموظفيها جميعًا، مطالبة ومطالبون بأن يكون سلوكهم في هذا المجال منسجمًا مع الدستور. وبضمن ذلك الامتناع عن اللجوء إلى إجراءات تعسفية، كالفصل من الوظيفة، وإصدار أوامر اعتقال، واتهام أصحاب الآراء المخالفة بالعمالة والتجسس وتنظيم المؤامرات ضد الدولة والمجتمع، وغير ذلك من أنواع التحريض، التي بتنا نألف صدورها من مسؤولين في الدولة وساسة وبرلمانيين.
في هذا السياق، نجد لزامًا علينا إعادة التأكيد على ثوابت ديمقراطية، لا يمكن لأي نظام سياسي يصف نفسه بأنه ديمقراطي أن يتجاهلها، من دون أن يصبح مستبدًا ومتغوّلًا على حقوق مواطناته ومواطنيه:
1 – إن مؤسسات الدولة العامة، بما فيها القضاء، وظيفتُها خدمةُ المواطن، وهي ليست مقدّسة، ولا محصّنة من النقد.
2 – إن نقد المؤسسات العامة، بما فيها القضاء، ونقد القائمين عليها، هو حق أساسي، ينبغي أن يصونه القانون والمجال العام الديمقراطي، ولا يمكن أن يدخل – بأي حال من الأحوال – في باب التشهير، طالما أنه ينتقد هذه المؤسسات والقائمين عليها بوصفهم موظفين عموميين، ولا يتناول حياتهم الشخصية.
3 – إن القانون العراقي نفسه لا يبيح الملاحقة القانونية لمواطن عراقي أسند، علانية، واقعة معينة إلى موظف مكلّف بخدمة عامة، ذات صلة بوظيفته، وأقام الدليل على ما أسنده. ومن ثم، الصحيح ديموقراطيًا، هو أن يرفع المتضررون من النقد من الموظفين العموميين، دعوى قضائية، لتقرير ما إذا كان ما أُسند إليهم صحيحًا أم لا، مع حماية حق الدفاع القانوني للمتهم. أما ما يجري من إصدار أوامر اعتقال، أو المطالبة به، أو معاقبة صاحب الرأي مؤسساتيًا، أو تهديده وترويعه، فإن هذه كلها تقع ضمن الأفعال الاستبدادية والتعسفية.
4 – لا يحق للمؤسسات العامة، بما فيها القضاء، أن تحكم على نوايا المواطنين، وتتخذ إجراءات على أساس فهمها وتأويلها لهذه النوايا. يقود هذا السلوك المتكرر إلى تحويل هذه المؤسسات إلى ما يشبه محاكمَ تفتيش لضمائر العراقيين، وهو ما يضر بشرعيتها القانونية والأخلاقية، ويخرجها من إطار اختصاصها من حيث هي مؤسسات خدمة عامة.
5 – لا يمكن الاستمرار باعتماد مواد قانونية شرّعها نظام شمولي يدينه الجميع، وكلفت سياساته القمعية البلاد ما لا يُعد من الضحايا، وهي مواد بطبيعتها مخالفة لمبدأ حرية التعبير عن الرأي، وتُستعمَل لتهديد أصحاب الرأي وملاحقتهم. ونجد لزامًا على السلطتين التنفيذية والتشريعية تعديل هذه المواد بما ينسجم مع المادة 38 من الدستور العراقي والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان، وحق حرية التعبير بالذات.
6 – لا بد من مواجهة التضييق المنهجي على حق العراقيات والعراقيين في التعبير عن آرائهم، الذي تمارسه جهات سياسية ورسمية، وينخرط في هذا أشخاص يتولون مناصبَ عليا في سلطات الدولة العامة ومؤسساتها. وعاملون وعاملات في مجال الإعلام، ومؤثرون ومؤثرات في وسائل التواصل الاجتماعي. ويجري ذلك باستعمال مفاهيم من قبيل “الحصانة” و”القداسة”، تُضفى على مؤسسات وأشخاص، رسميين أو غير رسميين، لمنع نقد سلطات الدولة العامة ومؤسساتها، أو القائمين عليها، أو الشخصيات العامة.
7 – في أمثلة كثيرة ومتواصلة، اتخذت طريقة دفاع هذه المؤسسات عن نفسها أشكالًا صريحة من التعسف والاستبداد، عبر الملاحقة القضائية، وتهديد أصحاب الآراء الناقدة، واعتقالهم، وإلحاق الضرر بوظائفهم ومصادر عيشهم، وما سوى ذلك من أوجه التعسف، في بلد فيه الكثير من السلاح السائب والمسيّس، الذي فشلت الدولة في إخضاعه لسيطرتها. ويعني هذا الأسلوب وضع حياة المنتقدين في خطر وإجبارهم (وإجبار الآلاف سواهم) على الصمت.
من دون أن تلتزم السلطات العامة، بما فيها القضاء، بهذه الثوابت، ستوضع البلاد في مسار سلطوي يقود إلى عودة الدكتاتورية ومآسيها الكثيرة، ولكن في إطار جديد: سلطة عاجزة عن تقديم ما ينبغي لها تقديمه لمواطناتها ومواطنيها، وقمعها وشراستها يطولان هؤلاء المواطنين عند نقدهم لها أو احتجاجهم عليها.
المزيد عن أخبار
أخبار","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":19577}" data-page="1" data-max-pages="1">