صراع اقليمي واشتباكات محلية ترسم خارطة القوى وواقع النزوح والهجرة في سنجار
ثلثا السكان ما زالوا نازحين تتقاذفهم الصراعات وغياب الخدمات وتعطل حملات الاعمار والتعويضات
ثلثا السكان ما زالوا نازحين تتقاذفهم الصراعات وغياب الخدمات وتعطل حملات الاعمار والتعويضات
“لقد خابت آمالنا مُجدداً… عدنا قبل ثلاث سنوات الى سنجار لنؤسس لحياةٍ جديدة بعدما فقدنا كل شيء عام 2014، وها نحن ننزح مجدداً هرباً من المعارك… هذه باتت أرضاً لصراعات القوى المحلية مختلفة الولاءات وميداناً لتصفية صراعات الدول الإقليمية، فكيف يمكننا البقاء؟”.
يقول الايزيدي الثلاثيني قاسم علي، بعد أن اجتاز بسيارته القديمة التي أقل بها عائلته المؤلفة من أربعة أشخاص، نقطة تمركز لقوات البيشمركة الكردية شمال سنوني التابعة لسنجار (120 كلم غرب الموصل) باتجاه إقليم كردستان عقب استحصاله على موافقة الدخول الى محافظة دهوك.
يضيف وهو يرفع يديه وينظر إلى السماء “سنذهب الى أقاربنا في زاخو… ماذا نفعل؟ كتب علينا أن نمضي بقية أعمارنا هاربين من المعارك ونازحين في المخيمات”.
وشهدت بلدة سنوني (147 كلم غرب الموصل) مطلع أيار/ مايو 2022 اشتباكات مسلحة متقطعة امتدت ليومين، بين قوات الجيش العراقي ومقاتلي وحدات “مقاومة سنجار” (يه به شه) التي غالبية مقاتليها من الايزيديين وينضوي جزء من تشكيلاتها تحت ألوية “الحشد الشعبي” المعترف بها قانونياً، لكنها مقربة فكرياً من “حزب العمال الكردستاني” الذي دعم تأسيسها في خريف 2014 لمواجهة تنظيم “داعش”.
الاشتباكات لم تكن الأولى لكنها كانت الأوسع، سقط خلالها أربعة قتلى وعشرة جرحى من الجانبين، ما أثار مخاوف السكان من انهيار الأوضاع الأمنية، في ظل ضعف قوة الدولة وغلبة سيطرة الفصائل المسلحة في منطقة تضم بحسب مراقبين أكثر من 20 ألف مسلح.
وكان قاسم، أمضى أكثر من أربع سنوات في مخيم جمشكو للنازحين في مدينة زاخو أقصى شمال إقليم كردستان، بعد فراره مع عائلته من سنجار في آب/ أغسطس 2014 إثر عمليات القتل والخطف التي نفذها تنظيم “داعش” الذي سيطر على المنطقة قبل أن يعود عام 2017.
يقول عن تلك الفترة، “مواسم الصيف والشتاء في خيم صغيرة متلاصقة، وتحملنا كل شيء، الفقر وألم فقد العشرات من أحبتنا، وكان لدينا أمل باستعادة حياتنا، وتعلم الدروس مما حصل لنا”.
يضيف وهو يضرب كفيه ببعضهما: “اليوم جميعنا يائسون بسبب الخلافات السياسية، فأبناء سنجار انقسموا بين مختلف القوى ولا جامع لهم، والسلاح بات في كل مكان وبيد الجميع”.
يشكل قضاء سنجار بامتدادته شمالاً إلى الحدود التركية، وغرباً الى سوريا، وجنوباً إلى بادية وصحراء الانبار وشرقاً إلى مدينة الموصل الاستراتيجية، ثاني أكبر مدن البلاد، نقطة صراع محلية واقليمية، وشهدت خلال العامين الأخيرين جولات عدة من الاشتباكات الى جانب هجمات بالطائرات التركية المسيرة في ظل انتشار فصائل مسلحة مختلفة الولاءات تتصارع على السلطة هناك.
اندلعت الاشتباكات الأخيرة إثر محاولة الجيش العراقي السيطرة على نقاط أمنية تابعة لوحدات مقاومة سنجار واسايش ايزيدخان الايزيديين اللتين رفضتا التخلي عن موقعيها.
المشهد الأمني المتوتر والصراعات المسلحة على النفوذ لا تغيب عن سنجار منذ آب/ أغسطس 2014 حين هاجمها مقاتلو تنظيم “داعش” وقتلوا واختطفوا آلاف الايزيديين والتركمان الشيعة، فيما نزح نحو 300 ألف شخص نحو إقليم كردستان وما زال نحو ثلثيهم يعيشون في المخيمات، برغم مرور نحو سبع سنوات على استعادة المنطقة.
يقول الباحث السياسي عادل كمال، إن الكثير من القوى العربية والكردية تتنافس اليوم على الأرض هناك فضلاً عن دول إقليمية كإيران وتركيا، نظراً لما تشكله المنطقة من أهمية لها.
ويوضح، “إيران تعد سنجار، جزءاً مهما من طريقها الاستراتيجي نحو سوريا أو ما يصفه موالون لها بـطريق السبايا، في حين أن تركيا تعدها بوابةً لتوغلها نحو المناطق التركمانية في قضاء تلعفر المحاذي لسنجار، ومفتاحاً لمدينة الموصل (405 كلم شمال بغداد) ولايتها المفقودة تاريخياً”.
وبسبب ذلك، يرى كمال بأن “القضاء بات منقسماً الى مناطق نفوذ متداخلة، ربما سيتطلب الأمر سنوات قبل حسم الصراعات فيها”.
يمتد قضاء سنجار من الحدود السورية غرباً والى البادية الممتدة الى الأنبار جنوباً حيث معقل الجماعات السنية المسلحة منذ 2003 لغاية 2017، وشمالاً إلى إقليم كردستان الذي يحكمه الحزب الديموقراطي، وشرقاً الى مدينة الموصل أكبر وأهم المدن السنية والتي تضم في الوقت ذاته خليطاً عربياً كردياً تركمانياً سنياً وشيعياً.
بعد ساعات من المعارك، تم قطع الطرق الرئيسية من قبل الأطراف المتقاتلة، غير أن آلاف الفارين من مجمعات شمال سنجار( خانصور وسنوني ودوكوري) تسللوا عبر طرق فرعية وترابية ووصول الى اقليم كردستان في مشهد أعاد ذكريات الهروب من تنظيم “داعش” عام 2014.
سليم وهو خريج جامعي، اضطر لإيقاف سيارته التي حشر فيها سبعة ركاب، حين قفز ابنه الصغير خارجاً منها بعد نوبة بكاء، بدا غير راغب في الكلام، قبل أن يتمتم “هذا حالنا يعرفه الجميعن بكاء وهروب ونزوح دائم”.
يضيف وهو يحاول تهدئة ابنه الذي لم يبلغ الرابعة بعد: “لقد هربنا من سنوني… الصراع المحتدم على السلطة بين جهات مسلحة يمنعنا من استعادة حياتنا الطبيعية ويثير مخاوف الباقين في المخيمات من العودة”.
يقول سليم الذي عاد عام 2017 ورمم منزل العائلة المدمر نتيجة حرب التحرير من “داعش”، مستخدماً مدخراته التي جمعها من عمله لسنوات في البناء بأجر يومي “بعد تكرر الاشتباكات بات واضحاً أن الحلول غائبة وأن أحلامنا البسيطة لن تتحقق”.
ينقل الايزيدي الشاب مشاهداته “أصوات الرصاص كانت تسمع لساعات وفي كل مكان، الطرق الرئيسية كانت مغلقة، والاشتباكات وصلت لبعض الأحياء السكنية حيث انتشر المسلحون… رأينا اسلحة متوسطة، واستقدم الجيش مدرعات وأسلحة ثقيلة، لو أن ربع تلك القوة ظهرت عام 2014 لما سقطت سنجار بأيدي الدواعش أبداً”.
بإلقاء نظرة سريعة على سنجار، نجد أنها مزدحمة بالقوى المسلحة المتنافسة، ففي مركز المدينة وأطرافها تنتشر وحدات من الجيش العراقي وترفرف الأعلام العراقية على أسطح الدوائر الحكومية والأبنية الرئيسية، فيما ترتفع أعلام فصائل “الحشد الشعبي” المختلفة والقوى الايزيدية مختلفة التوجهات في جوانب المدينة.
وتبسط فصائل الحشد الشعبي المقربة من إيران التي تعد الحاكم الفعلي للمنطقة وصاحبة القرار فيها وفقاً لما يؤكدهُ أهالي المنطقة، سيطرتها على جنوب سنجار وقرب الشريط الحدودي مع سوريا وشرقاً الى مدينة تلعفر أحد معاقلها.
أما في جبل سنجار شمالاً، وعلى طول امتداده غرباً والمجمعات السكنية المحيطة به، فتنتشر وحدات مقاومة سنجار الايزيدية الموالية فكرياً وعقائدياً لـ”حزب العمال الكردستاني” المعارض لتركيا. وليس بعيداً، في شمال شرقي قضاء سنجار تسيطر الوحدات التابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني والتي تأمل في استعادة سيطرتها المفقودة على القضاء مجدداً.
سعيد إبراهيم (38 سنة) وهو ايزيدي آخر كان عاد إلى بلدة سنوني منتصف عام 2018 وافتتح محلاً صغيراً للملابس الرجالية ليؤمن بدخله قوت عائلته المكونة من خمسة أفراد، انتهى بهم الحال مجدداً في المخيم.
يقول بشيء من الأسى، “حصلت اشتباكات عنيفة ليلاً، استخدموا خلالها جميع أنواع الأسلحة، عرفت ذلك من خلال الأصوات المختلفة، كانت النيران تحيط بنا. ثم أغلقوا الطرق الرئيسية فخرجنا عبر الطرق الترابية ذاتها التي خرجنا منها هرباً عام 2014 من داعش”.
يتهم إبراهيم وحدات مقاومة سنجار الموالية لـ”حزب العمال الكردستاني”، باستغلال العائلات خلال مواجهتها للجيش العراقي: “إذا قتل مدني سيتهمون الجيش. كان على الطرفين وبشكل خاص الجيش اخبار العائلات بالخروج قبل بدء عمليتها وإطلاق النار الذي نشر الرعب والفوضى”.
يتابع الايزيدي الذي ملء سيارته بكل ما استطاع من مئونة وحاجيات منزلية، في إشارة ربما الى قراره بعدم العودة مجددا لمنطقة يمكن ان ينهار فيها الأمن بأي لحظة في ظل وجود قوى متناحرة :”يبدو ان علينا قضاء كل حياتنا في هروب دائم.. من الصعب جدا العودة إلى سنجار.. حقا الموت في المخيمات أفضل من الموت برصاصة طائشة”.
ابراهيم، المحبط من اضطراره إلى ترك منزله ومحله التجاري، قال: “نزحنا خوفاً على حياتنا، قبل أيام أصيب مدنيان في دوكرى برصاص طائش. لم نعد نثق بأي طرف يدعي الدفاع عنا وحمايتنا”. سكت لبرهة ثم أكمل بنبرة فيها تصميم “سأعرض محلي للبيع وأستقر في كردستان فهذه لعبة خطرة”.
في تعليقها على اشتباكات سنجار، حملت خلية الإعلام الأمني للجيش العراقي في بيانٍ لها، المسؤولية لوحدات مقاومة سنجار التي تعرف بـ( يه به شه )، وطالبتها بوقف ما وصفته بـ”تحركاتها الخارجة عن القانون”.
وذكرت أن مجموعة من عناصر هذه القوة قامت في 2 أيار بغلق عدد من الطرق التي تربط مركز ناحية سنوني ومجمع خانصور بالمجمعات والقرى المجاورة، وأقامت حواجز أمنية ومنعت حركة المواطنين، ما دفع القطعات العسكرية في قيادة عمليات غرب نينوى والوحدات المتحالفة معها إلى التدخل، إلا أنها تعرضت لـ”رمي كثيف بالرصاص” وهو ما دفعها إلى الرد على مصادر النيران، “وفقاً لقواعد الاشتباك” لفرض سلطة القانون والنظام واعادة فتح الطرق. وفقاً للبيان.
وفي اليوم التالي، الثاني من أيار/ مايو 2022، زار رئيس أركان الجيش العراقي اللواء عبد الأمير يارالله و نائب العمليات المشتركة اللواء عبد الأمير الشمري يرافقه قائد القوات البرية ومدير الاستخبارات العسكرية، قضاء سنجار بغية تهدئة الأوضاع، بحسب ما تم تداولهُ إعلامياً.
إلا أن مصادر مطلعة في قيادة العمليات، أكدت أن هدف الزيارة كان منح الفصائل المسلحة التابعة للعمال الكردستاني مهلةً للخروج من سنجار وتسليم مواقعها، لكن على الأرض لم يتحقق ذلك وعاد كل طرف إلى مواقعه السابقة.
قبلها بأيام، كانت قيادة العمليات المشتركة، أعلنت عن وصول “تعزيزات عسكرية” كبيرة إلى سنجار “لفرض القانون”. وأضافت في بيان لها، بأنها لن تسمح “بوجود مجموعات مسلحة في القضاء، ولن تسمح لأي قوة بفرض إرادتها فيه”.
وفي سؤالنا للمصادر التي تواصلنا معها في قيادة العمليات، عن المتسبب بالمشكلة، أشارت إلى المسيطرين على القرار في الفوج 80 من الحشد الشعبي (قادة وحدات مقاومة سنجار) وهم أشخاص موالون لـ”حزب العمال الكردستاني” وليسوا أفراد الفوج.
وانتقدت “وحدات مقاومة سنجار” (يه به شه)، التي كانت رفضت تطبيق اتفاقية سنجار بشكلها المعلن، موقف الحكومة العراقية، ونددت عبر متحدثين عنها باستخدام الجيش لمواجهة قوات قالوا بأنها تشكلت لمواجهة داعش والدفاع عن الأيزيديين وهي اليوم جزء من “الحشد”.
وأبلغنا مصدر من داخل هذه الوحدات أن “حكومة الكاظمي” دفعت في 17 نيسان/ أبريل 2022 بقوات من الجيش للهجوم على نقاط أمنية تابعة لها بهدف السيطرة على تلك النقاط وهو ما دفعهم للرد.
ولفت المصدر، الذي فضل عدم الاشارة الى اسمه، إلى أنه برغم إطلاق حوارات في حينها للتوصل إلى حل “فإن الحكومة العراقية واصلت حشد القوات وارسال الأسلحة الثقيلة للهجوم مجدداً على مواقعنا بالمجمعات السكنية في شمال سنجار، ما أجبرنا على قطع بعض الطرق لمنع تقدمها”.
كما وقعت اشتباكات بين قوات آسايش ايزيدخان والجيش العراقي يومي 18 و19 نيسان 2022، بعدما طلب الأخير من عناصرها إخلاء نقطة عسكرية بالقرب من بلدة سنوني.
المواجهات بمجملها، أسفرت عن مقتل أحد عناصر “يه به شه” وإصابة ثلاثة آخرين الى جانب إصابة 20 جندياً وعدداً من المدنيين، كما اعتقل الجيش 35 مسلحاً تابعين لـ”يه به شه”، التي أسرت بدورها 47 جنديا عراقيا. وتم لاحقا تبادل الأسرى بين الجانبين.
ومن جملة اتهامات “يه به شه” لرئيس الحكومة العراقية إيعازه لشن تلك الهجمات ارضاءً لتركيا وبتأييد من “الحزب الديموقراطي الكردستاني” الذي يأمل بإعادة بسط سيطرته على سنجار، معلنة رفضها “محاولات نزع السلاح الايزيدي وإنهاء وجود قواتهم في الوقت الذي يمر العراق بأزمات خطيرة تهدد بعودة الحركات المتطرفة” وفق ما جاء في تصريحات وبيانات لمسؤولي تلك الوحدات.
وتقول “يه به شه” إن “مشكلة سنجار ليست عسكرية بل سياسية”، وأن من حق الايزيديين امتلاك “قوة ذاتية” تدافع عنهم بعد ما حصل في 2014 حين تخلى الجيش والبيشمركة عنهم ما مكن تنظيم “داعش” من السيطرة على مناطقهم وتنفيذ عمليات قتل واسعة فيها، ويكررون في تصريحاتهم “سنحمي أنفسنا ضد أي هجمات وليحدث ما يحدث” .
يرى كاتب وصحافي من سنجار، يتابع منذ 2003 تحولات المشهد في المنطقة، أن الاشتباكات بين القوى المحلية المسلحة المتنافسة في سنجار، هو في العمق صراع إقليمي لاعباه الرئيسيان، هما إيران وتركيا.
ويوضح الصحفي الذي فضل عدم ذكر اسمه لحساسية موقعه :” أن لكل من ايران وتركيا مصالحها الخاصة في السيطرة على سنجار، فأنقرة مهتمة بالمنطقة وتريد فرض سيطرتها عليها فهي أمنيا تشكل مثلثا مهما لها بين ثلاث دول، واقتصاديا تعد طريقا استراتيجيا للخط البري الذي تريد مده من أراضيها الى الموصل ولاحقا كركوك وبقية المناطق السنية عبر تلعفر التركمانية، وبالنسبة لايران هو طريق استراتيجي أمني واقتصادي نحو سوريا وهي مساحة نفوذ مهمة وسط بيئة سنية غير موالية لها”.
واستبعد الصحافي، أن ينتهي الصراع المحلي الإقليمي على سنجار خلال وقت قريب، مرجحاً أن تشهد المنطقة جولات صراع بين فريقين، الأول مدعوم من إيران ويتمثل بـ”الحشد الشيعي” مع الحشد الايزيدي والمتناغم مع القوى الموالية لحزب العمال. والثاني مدعومٌ من تركيا ويتمثل بالحزب الديموقراطي وبعض القوى السنية اضافة الى تشكيلات الجيش العراقي التي تريد فرض سلطة الحكومة الاتحادية على المنطقة في مواجهة سلطة الحشد، على حد قولهِ.
يتفق الكاتب الكردي سامان سنجاري مع تلك الرؤية، ويقول إن تركيا تريد على المدى البعيد قطع التواصل بين كرد العراق وكرد سوريا عبر السيطرة على سنجار وهذا يحقق مشروعها باضعاف اقليم كردستان وخنق الادارة الذاتية الكردية في سوريا.
ويشير إلى أنها، أي تركيا “تستخدم حجة القضاء على “حزب العمال الكردستاني” باعتباره منظمة ارهابية في تحركاتها، في حين تريد إيران الحفاظ على نفوذها القوي هناك لضمان خطوط إمداد أمنية بل وحتى لدعم مشاريع مد خطوط الطاقة من ايران الى سوريا عبر المنطقة”.
وينبه سنجاري الى حجم التعقيدات وتداخل القوى وتقاطع المصالح في الملف، فـ”حزب العمال الكردستاني” وهو فصيلٌ يحارب تركيا وله جناح معروف باسم (حزب الحياة الحرة) يحارب إيران، بات اليوم ينسق عبر القوى المقربة منه في العراق مع طهران لشن هجمات على الوجود العسكري التركي في اقليم كردستان وشمال العراق، مستدلاً بذلك الى توالي الهجمات على قاعدة بعشيقة التركية في شمال الموصل، والتي تبنى آخر هجوم عليها بطائرتين مسيرتين أودى بحياة شخص، فصيلٌ تحت اسم “أحرار سنجار”.
ويرى سنجاري بأن اتفاقية سنجار لم تجد طريقها إلى التطبيق لأنها لم تراعِ التوازنات على الأرض في ظل وجود الحشد والقوى الايزيدية التي ترفض إعادة بسط سيطرة الجيش العراقي وقوات البيشمركة التابعة لـ”لحزب الديمقراطي الكردستاني” على القرار هناك، وأن المشهد الحالي هو “هدنة مؤقتة دون وجود رؤية وخطط واضحة للحل في ظل توازن القوى القائم هناك”.
بعد ساعات من اشتباكات سنجار في 2 أيار 2022، أعلن مدير دائرة الهجرة والمهجرين في دهوك ديان بير جعفر، عن وصول 650 عائلة من سنجار الى محافظة دهوك بإقليم كردستان تضم 3570 فرداً، لكن الأرقام تصاعدت سريعاً لتصل الى أكثر من 1700 عائلة. في وقت كشف محافظ دهوك عن وصول 10 آلاف نازح.
بعد نحو أسبوعين من توقف الاشتباكات، أعلنت دائرة الهجرة عن عودة 200 عائلة الى مناطقها في سنجار “لالتحاق أفراد فيها بوظائفهم وأعمالهم هناك”، فيما بقي الجزء الأعظم من النازحين لدى أقاربهم في المخيمات أو بيوت في مدينتي دهوك وزاخو.
النازحون الجدد اضيفوا الى النازحين السابقين في المخيمات. فبحسب إحصائيات مديرية الهجرة والمهجرين في محافظة دهوك، من مجموع 135 ألفاً و 844 نازحاً موزعين على 15 مخيماً في دهوك، عاد إلى سنجار 33 ألفاً و724 شخصاً فقط، فيما بقي 102 ألفاً و 120 في المخيمات.
وتعليقا على موجة النزوح الأخيرة، غردت نادية مراد الناشطة الايزيدية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، قائلة “بعد سنوات من النزوح، يضطر العائدون الجدد مرة أخرى إلى الفرار من منازلهم بسبب الاشتباكات المسلحة. أدعو المجتمع الدولي إلى التدخل والعمل مع الحكومة العراقية لحل القضايا الأمنية المستمرة في المنطقة وحماية المدنيين”.
إلى جانب الصراعات الأمنية، هناك عاملان آخران حاسمان في مسألة الاستقرار بسنجار، الأول يتمثل بالوضع الاقتصادي، حيث تندر فرص العمل هناك، والثاني يتضمن توفير الخدمات الأساسية وإطلاق عمليات الاعمار.
يذكر تقرير صدر عن المجلس النرويجي للاجئين، في ايار 2022 أن الدمار الواسع والتوترات الامنية والاجتماعية يعيق عودة نحو ثلثي أهالي سنجار إلى ديارهم، مشيراً إلى أن 99 في المئة ممن تضررت منازلهم وقدموا طلبات تعويض للحكومة لم يتلقوا تعويضا لغاية الآن. وأضاف التقرير أن “نحو 193 ألف شخص من ايزيديين وعرب وكرد، ما زالوا يعيشون حالة نزوح”.
ويشير التقرير إلى أن الاشتباكات الاخيرة أدت الى نزوح أكثر من 10 آلاف و260 شخصاً، اكثرهم عايشوا جولتين أو ثلاث جولات نزوح سابقة، وتكشف نتائج استطلاع لآراء 1500 نازح أجري قبل موجة النزوح الأخيرة، بشأن تقييم استعداد النازحين للعودة، أن “64 في المئة منهم قالوا إن منازلهم متضررة على نحو كبير، في حين أن 32 في المئة أبدوا قلقهم من الوضع الأمني”.
ليلى قاسم، سيدة إيزيدية نازحة في دهوك، تعرض منزلها في سنجار للتدمير، تقول “معظم أهالي سنجار فقراء ولا يستطيعون إعادة بناء دورهم المهدمة والحكومة لم تعوضهم، كما أن الخدمات هناك سيئة، بل إن المسؤولين في نينوى يقولون صراحة إنهم لن يقوموا بحملات إعمار ما لم يعد السكان”.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، توصلت الحكومة الاتحادية مع حكومة إقليم كردستان الى اتفاقٍ لتطبيع الأوضاع في سنجار ومعالجة الملفين الإداري والأمني، الأول عبر تشكيل إدارة جديدة تخضع للسلطة الاتحادية لكن بالتنسيق مع حكومة الإقليم، والثاني عبر ابعاد قوى الحشد وتسليم أمن القضاء للجيش والشرطة الاتحادية وتعين 2500 عنصر من أهالي سنجار على ملاك الشرطة المحلية لحماية المنطقة.
لكن الاتفاقية واجهت صعوبات في التنفيذ، أشارت إليها الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت، في تقريرها المقدم الى مجلس الأمن في 17 أيار 2022، قائلة “بينما يحتاج السكان المحليون على نحو عاجل إلى إعادة بناء حياتهم، ما زالوا يواجهون عقبات غير معقولة بسبب الخلاف على الترتيبات الأمنية وتقديم الخدمات العامة والإدارة الموحدة”.
ممثلة الأمم المتحدة قالت أيضاً “منذ التوقيع على الاتفاق، دعوتُ إلى التنفيذ السريع له، لكن من الواضح إن العكس هو ما يحصل فحتى الآن لم يتم الاتفاق على اختيار قائمقام جديد مستقل (للقضاء) ولا تزال الأموال الخاصة بالقوة الأمنية المحلية محجوزة ربما بسبب التدخل بإجراءات التعيين غير الواضحة”.
وفي إشارة إلى أهمية حل مشكلة المقاتلين الذين انضموا مضطرين الى فصائل مسلحة، ذكرت بلاسخارت في تقريرها “بخصوص إجراءات التعيين تلك، أؤكد مرة أُخرى على أهمية انتهاج مسار عملي وواقعي، إذ لا تمكن معاملة كل من انضم الى- قوات أُخرى- في الماضي بالكيفية ذاتها. ويجب أن ندرك أن بعضهم -وفي غياب سلطة الدولة- اختاروا ببساطة أن يحصلوا على شبكة أمان وهوية ودخلاً لإعالة أسرهم”.
وانتقدت بلاسخارت حكومتي بغداد وأربيل لضعف تواصلهما مع المجتمعات المحلية في سنجار، وقالت “من المهم أيضاً ملاحظة أن سنجار قد تحولت بنحو متزايد إلى ساحة للمفسدين الخارجيين والمحليين. هكذا لن يشهد الوضع أي تحسن”، منبهة إلى أن “الافتقار لآليات تنسيق وتنفيذ واضحة وهيمنة المصالح الحزبية يعوق بشكل كبير إحراز تقدم”.
عقب الاشتباكات الأخيرة وفي ظل غلبة المصالح الحزبية وضعف منظمات المجتمع المدني، أطلق نشطاء شباب مبادرات لإنهاء التصعيد واقتراح حلول جديدة لوضع حد للصراعات في سنجار. المبادرات تضمنت وقفات احتجاجية في ميادين عامة في سنجار وسنوني، ورسائل موجهة لأصحاب القرار.
أولى مطالب الحراك الشبابي، تمثلت بإخراج كل القوى المسلحة خارج المجمعات السكنية والإبقاء على الشرطة المحلية إلى جانب حل ازدواجية الإدارة بين بغداد واربيل، فيما يشير ناشطون خارج الحراك الى أن الحل النهائي “ربما يكمن في ضم وحدات مقاومة سنجار إلى القوات العراقية بشكل رسمي”.
لكن أصوات الشباب تظل خافتة في مواجهة المصالح الحزبية وطموحات الدول الاقليمية ووسط غابة القوى المسلحة في المنطقة، كما يقول جلال حسن، أحد المشاركين في الحراك، مضيفاً، “في ظل غياب مؤسسات الدولة في العراق التي تحفظ السيادة والأمن والمصلحة العليا لا يمكن إنتاج حلول، لذا تجد أهالي سنجار من ايزيديين ومسلمين يرفضون العودة”.
شيخ خلف (41 سنة) هو أحد النازحين من المنطقة، والذي بعد ثلاث سنوات من استقراره بسنجار عاد الى خيمته السابقة التي عاش فيها خمس سنوات في مخيم إيسيان في منطقة شيخان بسهل نينوى. يرى أن “التدخلات الخارجية لن تتوقف في مناطقنا، بوجود من يقاتل نيابة عنهم… فقدنا الأمل بأن تصبح سنجار آمنة… لقد باتوا يقاتلون بالأسلحة الثقيلة وكأنهم أعداء”.
أما طلال هسكاني، وهو شاب مهتم بواقع ومستقبل الايزيدية، فيقول، “الناس من حقها أن تهرب من سنجار، فاضافة الى سوء الوضع الاقتصادي، الأمن مهدد بسبب الصراعات”. ويضيف “انهم يخافون على أرواحهم ويريدون بناء مستقبل أفضل لأطفالهم، فالظروف غامضة وتجدد القتال متوقع في أي لحظة”.
ويرى هسكاني ضرورة ترك خيار البقاء أو العودة لكل عائلة دون ضغط، لكن غالبية الايزيديين، الشباب على وجه الخصوص يرغبون بالهجرة.
دلير، شاب في الرابعة والعشرين من عمره، كان يقف وسط عاصفة ترابية على مقربة من جسر سحيلا الذي يفصل اقليم كردستان عن مناطق سنجار، مودعاً عائلته التي كانت قد غادرت قبل عامين مخيمهم بأطراف دهوك وعادت الى قريتهم بسنجار. يقول وهو يدخن :”قلت لهم لا أمل ولا مستقبل هناك.. أي عاقل لا يمكنه البقاء وسط الصراعات ورغبة كل طرف فرض سلطته”.
لا يجد دلير أفقاً للحل ويرى أن كل ما يمكنه فعله هو أن يحاول مجدداً الهجرة الى أوروبا، فقد قضى في الخريف الماضي شهرين في بلاروسيا وتركيا محاولاً العبور لكنه لم ينجح فعاد أدراجه. يضيف الشاب وهو يهيئ الحوض الخلفي لسيارة كانت تنتظره ليضع فيه حاجياته: “سأهاجر، لا حل آخر”.
بحسب منظمات ايزيدية فأن نحو 150 ألف ايزيدي قد هاجروا من العراق باتجاه الدول الأوروبية منذ عام 2014 وهذا الرقم يعادل نحو ثلث العدد الكلي للإيزيديين الذين كانوا يعيشون في العراق قبل 2014.
يتابع دلير وهو يزيل الغبار من نافذة السيارة الأمامية خلال دقائق انتظاره “لا مستقبل لنا هنا، حكومة بغداد ضعيفة وعاجزة والكرد فشلوا في إدارة سنجار وحمايتها، وباتت المنطقة ساحة صراع اقليمي ستطول المعارك فيها”.
*انجز التقرير بدعم من شبكة “نيريج” ونشر على موقع “درج”