أحمد عبيد/ كاتب وصحفي سوري مقيم في اسطنبول
نيسان 2022
“كنّا جميعًا عراة تمامًا، ممنوعين من الوقوف أو الحديث أو النوم في معظم الليالي، فالماء البارد كان حاضرًا مع حرّاس المعتقل المتلذّذين بتعذيبنا. لا تنفس في المكان، ولا حمامات، مكان نومنا وجلوسنا هو ذاته مكان طعامنا والتخلّص من فضلاتنا”.
هذا ما يقوله عبد الرزاق (اسم مستعار) واصفًا ما جرى معه، عندما اقتاده رجال لا يعرفهم أواخر تشرين الثاني 2019 من منزله في ناحية “تل حميس” في ريف الحسكة شمالي شرق سوريا، إلى سياراتهم سحلًا على الأرض، وهم يوّجهون له الضربات بأعقاب البنادق على مرأى من زوجته وأطفاله.
مكث عبد الرزاق في المعتقل قرابة الشهر لا يعلم أين هو، إلى أن بدأت أولى جلسات التحقيق معه. “قال لي المحقق: زوجتك هنا وتسمعك الآن. ستبقى في ضيافتنا إلى أن تعترف بكلّ ما قمت بفعله”. يقول الرجل ذو الخامسة والأربعين، ثم يضيف، إنّه علم قبل الدخول إلى غرفة التحقيق أنّه متواجد في مدينة “القحطانيّة” شرقي مدينة القامشلي، في واحد من سلسلة مراكز الاحتجاز التابعة لقوات سوريا الديمقراطيّة، يُطلِق عليها أبناء المنطقة اسم “غوانتانامو” تشبيهًا بالمعتقل الأمريكي سيء السمعة.
“غوانتانامو.. نعم.. يبدو في الاسم مبالغة.. لكنّني جرّبته بنفسي.. هو بالفعل كذلك”، يقول محمد (اسم مستعار/ 19 عامًا)، الذي اعتُقل رفقة والده، وقضى أكثر من سنتين متنقّلًا بين المعتقلات السريّة الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطيّة” شمالي شرق سوريا، بدأت في مطلع أيار 2018، واستمرت حتى أواخر تموز 2020، عاش خلالها قصة لطالما سمع عنها من قبل ولم يصدّقها عن وسائل التعذيب الجسدي والنفسي وطرائق التعامل مع السجناء والمعتقلين. يتابع محمد: “لقد كان الحديث عن هذه الأماكن مجرّد روايات وإشاعات بالنسبة إليّ، إلى أن عشت تجربة السجن بنفسي، بل إنّي فقدت والدي بسببها”.
من خلال رحلة بحث استمرّت لأشهر، تضمّنت إجراء مقابلات مع معتقلين سابقين وذويهم، ومقابلات مع حقوقيين وصحفيين وباحثين مختصين ومحرّري شبكات إخباريّة عاملة في شمالي شرق البلاد، نعرض في هذا التحقيق توّزع مراكز الاحتجاز والمعتقلات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطيّة، بما فيها تلك الخاصة بالسيدات والأطفال، ونبيّن تصنيفها وطبيعة الجهات المسيطرة عليها، ونجمع وثائق وشهادات عن وسائل التعذيب المستخدمة فيها.
نشأة وتأسيس
أنشأت قوات سوريا الديمقراطية، وهي الجناح العسكري للإدارة الذاتيّة الحاكمة، منذ إعلان تأسيسها في الحادي عشر من تشرين الأول 2015، في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور وأجزاء من محافظة حلب، عشرات السجون والمعتقلات في مناطق سيطرتها، بينها سجون مركزيّة كانت تتبع للنظام السوري سابقًا، وأخرى أقامها “تنظيم داعش” خلال سيطرته على المنطقة ثم توّلت “قسد” إدارتها بعد نزع السيطرة منه.
بعد توسيع سيطرتها أسّست “قسد” العديد من السجون الأخرى، منها ما هو داخل مبانٍ حكوميّة سابقة، وأخرى داخل مدارس وأبنية سكنيّة، إضافة لبعض السجون التي أقيمت في المغاور الصحراويّة، وهو ما تمكنّا من توثيقه عبر التواصل مع معتقلين سابقين وصحفيين وناشطين من أبناء المنطقة، إضافة للشبكات الإخباريّة المحليّة المتخصّصة في تغطية أخبار مناطق شمالي شرق سوريا.
تُقسم أماكن الاحتجاز الموجودة في هذه المنطقة إلى عدّة أنواع، منها سجون مُعلنة شبيهة بالسجون المركزيّة في مناطق سيطرة النظام السوري، وأخرى معتقلات سريّة أشبه بسجون “جبهة النصرة” في محافظة إدلب وسجون النظام السوري، وثالثة تتبع لقوات التحالف الدولي بشكل مباشر.
ووفق شهادات جمعناها، تنوّعت بين محامين حقوقيين ومعتقلين سابقين وصحفيين محليين، بلغت حصيلة مراكز المعتقلات السرّية في المنطقة، ثمانية وثلاثين مركز احتجاز ومعتقل سريّ تُشرف عليها جهات مختلفة من مكوّنات قوات سوريا الديمقراطية، كحزب العمال الكردستاني، والـ PYD والأسايش، وثمانية سجون مركزية “معلنة رسمياً”، وثلاثة سجون تابعة لقوات التحالف الدولي بشكل مباشر، ليكون المجموع تسع وأربعين سجناً ومعتقلاً.
وعن التفريق بين السجن والمعتقل، يوضح المحامي “غزوان قرنقل” رئيس “تجمع المحامين الأحرار“، أنّ التفريق بينهما ينحصر بطبيعة استخدام مكان الاحتجاز، “فالسجن هو المكان المخصّص لتنفيذ حكم أو عقوبة قانونيّة صدرت بحق الشخص بموجب حكم قضائي أبرم ووجب تنفيذه، وتكون عادة خاضعة لإشراف وزارة العدل والرقابة، أما المعتقل فهو مكان الاحتجاز غير القانوني، ويكون تحت سلطة وإدارة جهة أمنيّة تتخذ قرار اعتقال شخص أو أشخاص بقرار أمني وليس بقرار قضائي، ولا تخضع المعتقلات للرقابة أو لإشراف أي جهة قضائيّة”.
توزّع وتصنيف
توزّعت المعتقلات السريّة في مناطق شمالي شرق سوريا، على محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، وأجزاء من محافظة حلب، وكانت حصيلتها خمسة عشر معتقلًا في مدينة الحسكة، هي “مساكن الضباط” و”الكلاسة” في مركز المدينة، و”جركن” و”علايا” و”الرميلان” و”هيمو” و”القحطانيّة” في مدينة القامشلي، فيما أقامت معتقلات “قبيبة” و”الجبسة” و”الهجانة” و”كم البلغار” و”الكم الصيني” أو ما يُعرف باسم “بوكا2” في ريف الحسكة الجنوبي، فضلًا عن معتقل “ديريك” الذي يُعرف أيضًا باسم “السجن الأسود” في ناحية المالكيّة، و”تل معروف و”ناف كر” شمالي المحافظة.
تركّز معتقل “المخابرات العسكريّة” الذي يُعتبر من أبرز معتقلات قوات سوريا الديمقراطيّة في محافظة الرقة، كونه الأكبر من حيث عدد المعتقلين، ويتم تحويل معظم المعتقلين من أبناء دير الزور والرقة إليه خلال فترة التحقيق، وفيه تتم عمليات التعذيب ونزع الاعترافات بحسب معتقلين سابقين قابلناهم، إلى جانب سبعة معتقلات في المحافظة ذاتها، هي “الأمن العام” و”سجن الأسايش” و”جهاز الجريمة” و”سجن التحقيق” و”جزيرة عايد” و”تل السمن” و”المحمودلي” و”ولات داود”.
اثنا عشر معتقلًا آخرا، انتشرت في محافظة دير الزور، بينها معتقلات “محيميدة” و”حوايج” و”سجن الاستخبارات” في الريف الشرقي، و”الباغوز” و”البصيرة” و”الصبحة” و”هجين” و”الجفرة” و”الطيانة” و”أبو حمام”، إضافة لمعتقلي “الحصان” و”الصور” في ريفها الشمالي.
ونشأت قوات سوريا الديمقراطيّة أيضًا، مُعتقلين اثنين في ريف حلب الشرقي الخاضع لسيطرتها، هما “مكافحة الإرهاب” و”جبال صرين” في ناحية كوباني (عين العرب).
إلى جانب هذه المعتقلات، أقامت قوات التحالف الدولي، ثلاثة مراكز احتجاز تحت إشرافها المباشر هي سجني “الشدادي” و”الجبسة” في ريف الحسكة، وسجن “حقل العمر” في ريف دير الزور، وعلى الرغم من سيطرتها على هذه السجون، إلّا أنها قُسّمت إلى قسمين بداخلها، أحدهما يخضع لإشراف التحالف الدولي بشكل مباشر، ويضمّ القياديين البارزين في صفوف تنظيم داعش، لا سيما الأجانب منهم، وقسم آخر يخضع لإشراف قوات سوريا الديموقراطيّة، ويضم قياديي داعش الأقلّ أهمية.
وأُقيمت أيضًا سجون مُعلنة في مناطق سيطرة “قسد” أشبه بالسجون “المركزيّة” في مناطق سيطرة النظام السوري، هي سجون “الكسرة” و”الجزرات” في ريف دير الزور، و”الصناعة” في حي “غويران” في مدينة الحسكة، وسجن “الهول” شرقها، إضافة لسجني “الرقة المركزي” و”الأحداث” في الرقة، وسجني “منبج المركزي” و”المالية” في منبج.
حاول معدّ التحقيق التواصل مع مدير مكتب إعلام قوات سوريا الديمقراطية “فرهاد شامي”، والمسؤول في المكتب الإعلامي بدائرة العلاقات الخارجيّة في الإدارة الذاتيّة “زوزان حسن” عن طريق الواتساب للتعليق على هذا التحقيق وتمثيل وجهة نظر قوات سوريا الديمقراطيّة والإدارة الذاتيّة، إلّا أنّهما رفضا التصريح والإجابة على الأسئلة المتعلّقة بالسجون والمعتقلات الموّجهة لهما.
يقول المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” الحقوقي “بسام الأحمد”، إنّ الإدارة الذاتيّة تُبرّر كثرة السجون ومراكز الاحتجاز في مناطق سيطرتها، بانتزاعها السيطرة على المنطقة من يد تنظيم داعش، ووجود اثني عشر ألف معتقل من عناصر التنظيم والمشتبه بانتمائهم إلى صفوفه في تلك المراكز، إضافة لوجود أكثر من ثلاثين ألف عنصر للتنظيم بين سوريا والعراق، استنادًا إلى تقارير أمنيّة بعضها صادر عن الحكومة الأمريكيّة، مضيفًا: “ليست جميع مراكز الاحتجاز في المنطقة تتبع للإدارة الذاتيّة بشكل مباشر، فهناك مراكز احتجاز خاصة بقوات سوريا الديمقراطيّة، وأخرى تتبع للأسايش”.
مراكز احتجاز تُحاكي معتقلات النظام السوري
“شاهدتُ الدورية قادمة باتجاهنا، كانت مؤلفة من ثلاث سيارات “بيك آب” مليئة بالعناصر الملثمين، وما إن توقفت على باب صيدلية والدي، حتى دخلوا جميعًا إليها موّجهين أسلحتهم إلى صدورنا، وانهالوا علينا بالضرب أثناء سوقنا إلى صناديق السيارات. لم تكن طريقتهم مختلفة عن سياسة استخبارات النظام وجهاز الحسبة التابع لتنظيم داعش بالاعتقال”.
ستة وعشرون شهرًا، قضاها محمد (مستعار/ 19 عامًا) في معتقلات قوات سوريا الديمقراطيّة مُتهمًا بالانضمام إلى خلية تابعة لتنظيم “داعش”، تعرّض خلالها للتعذيب منذ لحظة اعتقاله في بلدته، في ريف دير الزور الغربي، مطلع أيار 2018، وحتى إطلاق سراحه في أواخر تموز 2020.
يقول محمد إن عمليات التعذيب بدأت منذ لحظات الاعتقال الأولى، إذ قضى أكثر من نصف ساعة بين أقدام العناصر الملثمين في صناديق السيارات، بأيادٍ مكبلة وأعين مغلقة، لحين وصوله إلى معتقل الكسرة في ريف دير الزور الغربي، وهو أشبه بأقسام التحقيق في الأفرع الأمنيّة، والذي قضى فيه الأشهر الأربعة الأولى برفقة والده، تعرّضا خلالها للتعذيب والضرب عدّة مرات، رغم عدم إخضاعهما لأيّ جلسة تحقيق، أو توجيه أيّ سؤال مباشر لهما، أو حتى الإجابة على سؤالهما الوحيد: “لماذا نحن هنا؟”.
يستعيد محمد بصوت مرتجف تلك الفترة، مشيرًا أثناء الحديث إلى مواضع الضربات في جسده، ومبرزًا صورًا له التقطها بعد خروجه من المعتقل، “كانت جلسات التعذيب أشبه بالدور المنتظم، ففي نهاية كلّ أسبوع كنتُ أخضع للتعذيب مدّة تتجاوز ثلاث ساعات متواصلة، أتعرّض في كلّ جلسة منها للضرب بالمواسير المخصّصة للتمديدات الصحيّة، إضافة لـ”الشبح” (التعليق في السقف)، والصعقات الكهربائيّة في معظم الأوقات، ناهيك عن الضرب بالكرابيج وأكبال الكهرباء، والسحل على الأرض من الزنزانة إلى غرفة التعذيب وبالعكس، وبالتأكيد، لا راحة.. لا راحة بعد جلسات التعذيب، فلا يمكنك الاستلقاء بين أربعين سجينًا يجلسون في زنزانة لا يزيد طولها عن ستة أمتار، ولا يتجاوز عرضها ثلاثة أمتار”.
مرّ عماد (اسم مستعار/ 30 عامًا) بتجربة اعتقال مشابهة، بدأت بمداهمة استهدفت منزله في ريف الرقة بعد منتصف ليل الأول من تشرين الأول من العام 2020، واستمرت لمدة أربعة شهور، عاش خلالها تفاصيل لا تختلف عن قصة “محمد” سوى بأسماء المعتقلات فقط، ونُقل بعد ساعات قليلة إلى معتقل “جهاز الجريمة” في الرقة مع أربعة أشخاص آخرين، وبقي فيه خمسة أيام، ضمن زنزانة طولها قرابة عشرة أمتار، وعرضها لا يزيد عن أربعة أمتار، برفقة أكثر من ثمانين معتقلًا بتهم مختلفة، منها ما يتعلق بالتعامل مع تنظيم داعش، وأخرى بالتعامل مع النظام السوري والسلطات التركيّة، وأخرى “جنائيّة” تتعلّق بالسرقات والتهريب وإثارة الشغب وغيرها، قبل أن يُنقل إلى “سجن التحقيق” في مدينة الرقة.
بجسد كان الارتجاف واضحًا عليه من خلف كاميرا تطبيق “سكايب” الذي تواصلنا عبره مع عماد القاطن في ريف الرقة الشمالي، ولم يخف العرق المتصبّب من جبهته، روى تفاصيل احتجازه، قائلًا إنّه قضى خمسة عشر يومًا في معتقل “التحقيق”، خضع خلالها للتحقيق بتهمة الاختلاس، كونه من موظفي أحد المجالس البلديّة في المنطقة، وتعرّض خلالها للعديد من أساليب التعذيب التي تُطابق الأساليب التي تعرّض لها “محمد” في معتقل الكسرة، والتي كانت على يد أشخاص ملثمين في معظم الأحيان.
يضيف عماد: “صباح اليوم الحادي والعشرين من اعتقالي، نُقلت إلى محكمة مدينة الرقة لمواجهتي بالاعترافات المدوّنة في الضبط المقدّم للقاضي، وأفصحت حينها بأنّ جميع الاعترافات انتُزعت تحت التعذيب، وأنّه لا علاقة لي بتلك التهمة، لكن قضيتي لم تنته هنا، فالقاضي أمر بإعادتي إلى السجن مجدّدًا، ودخلت سجن «الرقة المركزي» بناء على ذلك القرار، وقضيت فيه قرابة ثلاثة أشهر دون توجيه أيّ سؤال لي، وخرجت منه بأمر من مسؤول السجن دون حكم قضائي”.
وفقًا للشهادات التي جمعناها من معتقلين سابقين لدى “قسد” حول أساليب التعذيب التي تعرّضوا لها، تشترك سجون قوات سوريا الديمقراطيّة مع معتقلات النظام السوري بواحدة وأربعين وسيلة تعذيب، من أصل اثنتين وسبعين وسيلة يستخدمها في سجونه، وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير صدر عنها في الحادي والعشرين من أكتوبر من العام 2019، صنّفت فيه أنماط التعذيب في سجون النظام ضمن سبعة محاور أساسيّة، ويتفرّع عن كلّ نوع عدّة أساليب ثانوية، بينها 39 أسلوبًا للتعذيب الجسدي، وثمانية أساليب للتعذيب الجنسي، وثمانية للتعذيب النفسي، وستة للإهمال الصحي، إضافة لتسعة أساليب للتعذيب في المشافي العسكريّة، كذلك تشترك مع سجن العُقاب التابع لـ “جبهة النصرة” في إدلب بستة وثلاثين وسيلة تعذيب.
الحقوقي “بسام الأحمد” قال إنّ “قسد تبرّر استخدام وسائل التعذيب في سجونها بنزع الاعترافات من الموقوفين والمحتجزين، وغياب الرقابة عن السجون يساعدها على استخدام تلك الأساليب، ما يدفع بعض المعتقلين للاعتراف بتهم نُسبت إليهم للخلاص من التعذيب”، مؤكّداً أنّ استخدام التعذيب ممنوع مهما كانت المبرّرات أو صفة المحتجز، سواء كان مقاتلًا أم مشتبهًا به أم مدنيًا، “لذلك فإنّ على الإدارة الذاتيّة إجراء تحقيقات تتمتع بالشفافيّة ومحاسبة مرتكبي تلك التصرفات، وليس الاكتفاء بالاعتراف باستخدام التعذيب في مراكز الاحتجاز فقط”.
كما أكّد الأحمد على أنّ الإدارة الذاتية ألزمت نفسها بموجب بيان التأسيس، بالقوانين الدوليّة التي تمنع التعذيب بأيّ شكل من الأشكال، وهو ما أكّده المحامي “غزوان قرنفل” الذي أشار إلى أنّ المعايير الدوليّة تفرض عدم تعريض أيّ محتجز للضغط البدني والتعذيب النفسي، ومنع التحقيق مع الموقوف دون حضور محامٍ يمثله، كما تفرض أن تتم مواجهته بالأدلة دون إكراه، وتدوين أقواله بلا تحريف، “لكن ما يحصل في هذه المعتقلات السرّية خلاف ذلك، ولا يمت للقوانين بصلة”. يؤكد المحامي قرنقل على أنّ أيّ تحقيق يتم دون حضور محام عن المتهم، ويمارس فيه ضغط بدني، هو تحقيق “غير قانوني” ويجب عدم الأخذ بما يخلص إليه.
سجن التابوت
“هو معتقل لا تختلف أوصافه عن القبور التي نعرفها، قضيت فيه مئة وخمسين يومًا جاثيًا على ركبتيّ، ولولا وجود أشخاص بجواري لظننت أنّني قد دُفنت حيًّا”، عبارة اختصر بها “عبد الرزاق” (اسم مستعار/ 45 عامًا) حديثه عن فترة اعتقاله، التي بدأت أواخر تشرين الثاني 2019.
يقول عبد الرزاق: “لا أذكر عدد السيارات التي داهمت منزلي، لكنّني شاهدت أكثر من عشرة عناصر شاركوا في ضربي، وما إن وصلت صندوق السيارة حتى تلقيت ضربة على رأسي، فقدت وعيي على إثرها، واستيقظت مجدّدًا في مكان يشبه القبر، كان سقفه قريبًا جدًا من وجهي. اعتقدتُ للوهلة الأولى أنّهم دفنوني حيًّا، ظنًّا منهم أنّني فارقت الحياة، لكن مع أوّل محاولة لرفع رأسي، اقترب مني أحد الأشخاص ووضع قدميه على رأسي إلى أن استعدت وعيي تمامًا، لأكتشف أنّه أحد السجون التابعة لقوات سوريا الديمقراطيّة”.
يضيف عبد الرزاق: “كان المعتقل عبارة عن غرفة مصنوعة من البلوك، طولها يُقارب الأربعة أمتار، ولا يزيد عرضها عن المترين، وسقفها لا يصل إلى المتر الواحد، قضيت فيه خمسة شهور رفقة ثلاثة معتقلين آخرين، كنّا جميعًا عراة تمامًا، ممنوعين من الوقوف أو الحديث أو النوم في معظم الليالي، فالماء البارد كان حاضرًا مع حرّاس المعتقل المتلذذّين بتعذيبنا، ولا تنفس في ذلك المكان، ولا حمامات فيه، فكان مكان نومنا وجلوسنا هو ذاته مكان طعامنا الذي كان عبارة عن وجبة واحدة يوميًا تتمثل برغيف خبز واحد وقطعتين من مثلثات الجنبة المطبوخة فقط، ومكان التخلّص من فضلاتنا، ولم يكن أحدنا يعلم ما هو ذلك المكان في الشهر الأول من الاعتقال، أي قبل خضوعي لأولى جلسات التحقيق حينها”.
مكبل اليدين ومغلق العينين، خرج عبد الرزاق من ذلك المعتقل الغريب للمرة الأولى بعد قرابة الشهر على اعتقاله، ونُقل إلى مقر عسكري قريب منه للخضوع لأول جلسة تحقيق (حُقّق معه ثمّ أعيد إلى المعتقل إياه)، ليكتشف حينها أنّه في معتقل يقع في مدينة “القحطانيّة” شرقي مدينة القامشلي، ووفق روايته، ما إن وصل إلى غرفة المحقّق، حتى سمع عبارة ردّدها الأخير: “زوجتك هنا وتسمعك الآن. ستبقى في ضيافتنا إلى أن تعترف بكلّ ما قمت بفعله”، وصفها بأنّها الأشدّ قسوة رغم الجلد والصعق بالكهرباء والحرق الذي تعرّض له في جلسات التعذيب داخل ذلك المعتقل.
يعلق عبد الرزاق: “أصرّيت على عدم الاعتراف بتهمة «التعامل مع فصائل المعارضة» التي قد تودي بحياتي، رغم خوفي من صدق المحقّق في رواية اعتقال زوجتي. كان لديّ أمل 1% أن يكون المحقق كاذبًا”.
المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بسام الأحمد علق قائلًا: “رغم وجود حالات اعتقال بتهم غير صحيحة، أو بموجب تقارير أمنيّة كاذبة، إلّا أنّ حالات الاعتقال الصحيحة تفوق نسبة الأولى بكثير، وغالبًا ما تكون بمشاركة قوات التحالف الدولي، ويتم خلالها اعتقال عناصر سابقين في صفوف تنظيم داعش، أو من عناصر الخلايا النائمة للتنظيم، وآخرين من المشتبه بانتمائهم لداعش، إضافة للمتهمين بقضايا جنائيّة وفساد وغيرها”.
يتابع الأحمد: “الاعتقالات موجودة في معظم دول العالم، لكنها تستهدف أشخاص معينين من مخالفي القوانين وغيرهم، وتتم عمليات الاعتقال بإجراءات معينة تتضمن لائحة اتهام وأدلة وأسباب منطقيّة تدعو للاعتقال، لكن المشكلة في مناطق سيطرة الإدارة الذاتيّة تتعلّق بالإجراءات بحدّ ذاتها، كتعرّض بعض الأشخاص للضرب أثناء الاعتقال، والاحتجاز لعدّة أيام دون معرفة التهمة الموجهة، ومحاسبة المعتقلين على أساس التهمة وليس على أساس الأدلة، إلى جانب الحرمان من الحقوق الكامنة في علنيّة التهمة وعدم التعرّض للتعذيب وتوكيل محامي دفاع”.
قضايا ملفقة، والتعامل مع “داعش” أبرز التهم
“كنتُ في الخامسة عشر من عمري أثناء طرد تنظيم داعش من بلدتنا مطلع آذار 2017، ولم أعرف ما يعني الانضمام إلى صفوف التنظيم أو التعاون معه، فلا عاقل يعيش طفولته في ذلك السواد، يُعيد التجربة ويتعاون مع داعش في منطقة لا يسيطر عليها”، يقول محمد.
اتُهم محمد بالانضمام إلى خلية تابعة لتنظيم داعش عند اعتقاله، رغم أنّ عمره لم يتجاوز السابعة عشر حينها، ولم يكن له أيّ نشاطات خارج صيدلية والده ومنزله وفقًا لقوله، بينما اتُهم عبد الرزاق الذي عاش تجربة الاعتقال في “سجن التابوت”، بـ”تشكيل خلايا تابعة للمعارضة السوريّة” في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطيّة، وآخرين اعتُقلوا بتهم مختلفة، لكن ما اتفق عليه الجميع هو عبارة: “لا نعرف من أين جاءت تلك التهمة”.
يقول الكاتب والصحفي فراس علاوي، الذي يدير شبكة إخباريّة متخصّصة بتغطية أخبار شمال شرق سوريا، إنّ قوات سوريا الديمقراطية تعمل وفق سياسة مشابهة لسياسة النظام السوري بتوجيه التهم للمعتقلين في سجونها، فكما كانت تهمة “الإرهاب” جاهزة لجميع المعتقلين في سجون النظام، فإنّ تهمة “التعامل مع تنظيم داعش” جاهزة لمعظم المعتقلين في سجون قوات سوريا الديمقراطيّة”، مقدّرًا نسبة المعتقلين المتهمين بالتعامل مع تنظيم داعش بنحو ثمانين بالمئة من المعتقلين، في حين أنّ التهم الموّجهة لقرابة عشرين بالمئة هي التعامل مع تركيا والمعارضة والفساد والسرقة وغيرها، على حد تقديره.
فيما اعتبر الحقوقي “بسام الأحمد” أنّ النسبة المذكورة مبالغ بها، مبيّنًا أن “هناك جزء من الاعتقالات جرت بناء على تهم غير صحيحة، لكن النسبة الأكبر منها كانت لأشخاص ثبتت عليهم تهمة الانضمام إلى صفوف تنظيم داعش أو التعامل معه”.
فيما يقول علاوي إنّ التهم الموّجهة للمعتقلين “غالبًا ما تكون باطلة، وملفقة لهم بناء على تقارير كيديّة تتلقاها قوات سوريا الديمقراطيّة من مخبريها في مناطق سيطرتها”، مضيفًا: “وثّقنا أربعة حالات اعتقال جرت عبر تنفيذ عمليات إنزال جوي من قبل قوات التحالف الدولي في ريف دير الزور، وكانت النتيجة اعتقال أشخاص مدنيين عن طريق الخطأ، من القاطنين بجوار المقرّات التي استهدفتها عمليات الإنزال، بعضهم قضوا أكثر من أربعة أشهر في سجون التحالف الدولي رغم إثبات أنّ اعتقالهم كان مجرّد خطأ”، يؤكد الحقوقي “بسام الأحمد” أنّ قوات سوريا الديمقراطيّة، وقوات التحالف الدولي تمتلكان شبكات “قويّة جدًا” من المخبرين في شمال شرق سوريا، وتعتمد على تقاريرهم في تنفيذ معظم عمليات الدهم والاعتقال، مبيّنًا أن عمل المخبرين يكون “بمقابل مادي”.
من جهتها، قالت عضو الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان “نور الخطيب”، إنّ قوات سوريا الديمقراطية باتت تستخدم تهمة الانتماء والتعامل مع تنظيم داعش ذريعةً لقيامها بحملات الدهم والاعتقال في مناطق سيطرتها، مشيرةً إلى أنّ الشبكة وثّقت اعتقال نحو أربعة آلاف وثمانية وعشرين مدنيًا، منذ بداية الحرب في سوريا، وحتى الخامس عشر من آذار 2022.
أكدت الخطيب أنّ جميع الأعداد الموثقة هي للمدنيين فقط، وأنّ إحصائيات الشبكة تُمثل الحد الأدنى من الانتهاكات الواقعة، مقدّرة نسبة المعتقلين في سجون قوات سوريا الديمقراطية بنحو اثنين ونصف بالمئة من إجمالي المعتقلين في سوريا.
في حين ذكرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير سابق لها، إنّ “هناك ثلاثة وأربعين ألف أجنبي من الرجال والنساء والأطفال المرتبطين بتنظيم داعش، ما زالوا محتجزين بشكل غير قانوني في ظروف لا إنسانيّة من قبل الإدارة الذاتيّة في شمال شرقي سوريا، لم يتم تأمين محاكمة عادلة لهم”، ما يُنذر بخلق “غوانتانامو جديد” في سوريا.
أطفال وبالغين في زنازين مشتركة
“لا يوجد في سجن الكسرة سجن أو زنازين للأطفال، فجميع السجناء في زنازين مشتركة، ولا يوجد فصل بالتهم، فكان السجن مليئًا بالمعتقلين، بينهم أطفال في الثانية عشر من عمرهم، وبينهم شبان وآخرين من المسنين، كما كان بيننا أشخاص متهمون بالسرقة، وآخرون متهمون بالتعامل مع فصائل المعارضة السوريّة، والنسبة الأكبر من المتهمين بالتعامل والانتماء لخلايا تنظيم داعش كما كانت تهمتي”، يقول محمد الذي كان في السابعة عشر من عمره عند اعتقاله بتهمة الانضمام إلى خلية تابعة لتنظيم داعش.
يضيف محمد: “نُقلت بعد أربعة أشهر إلى سجن “تل معروف” المخصّص للأحداث في مدينة الحسكة، وهو سجن يتألف من خمسة زنازين يبلغ طول الواحدة منها نحو عشرة أمتار، وعرضها قرابة ستة أمتار، تضم كل منها عدد يتراوح بين خمسة وعشرين إلى أربعين طفلًا، دون تمييز بين التهم الموّجهة لهم أو القضايا التي سجنوا لأجلها”.
ويتابع محمد “كانت وسائل التعذيب فيه تشترك مع الأساليب الموجودة في بقيّة السجون، فالضرب والجلد والصعق الكهربائي موجود هناك، إلى جانب الشتم والتهديد والتعذيب النفسي، كما أنّ جلسات التعذيب مرهونة بتصرفات الأطفال داخل الزنازين، ومخالفة القوانين المفروضة عليهم من قبل إدارة السجن، إلى جانب مزاج السجان الذي كان سببًا مباشرًا للتعذيب في ظل غياب القانون أو الضوابط التي تمنعه من ضرب وتعذيب الأطفال بدوافع شخصيّة”.
عبد الرزاق المعتقل السابق في سجن “التابوت”، أكد أنّ قوات سوريا الديمقراطيّة تجمع بين الأطفال والكبار في زنازين مشتركة، دون التمييز بين التهم أيضًا، لافتًا إلى أنّه قضى فترة اعتقاله في السجن مع طفل يبلغ من العمر أحد عشر عامًا كان مُتهمًا بالسرقة، وشاب متهم بالانتماء لتنظيم “داعش”، وآخر متهم بتهريب البضائع بين سوريا والعراق.
وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، اعتقال نحو سبعمائة وتسعة أطفال على يد قوات سوريا الديمقراطيّة، منذ بداية الحرب في سوريا، وحتى منتصف آذار 2022.
زنازين مخصصة للسيدات
اعتُقلت علا (اسم مستعار/ 34 عامًا) في أواخر العام 2020 أثناء تسوّقها من أحد المحال التجاريّة بالقرب من منزلها في مدينة الرقة، من قبل ثلاثة أشخاص مسلحين اقتادوها إلى سيارتهم ووضعوا كيسًا أسودًا في رأسها فور وصولهم إليها، ثم نقلوها إلى معتقل سري يبعد عن مركز المدينة قرابة نصف ساعة، لم تعرف عنه أي تفصيل على الإطلاق، قضت فيه عشرة أيام داخل غرفة مظلمة، لم ترَ فيها أيّ شخص، ولم تسمع سوى صوت الباب الحديدي أثناء رمي الطعام، وفقًا لوصفها.
تتابع علا رواية قصتها، قائلة: “ظننت أنّني وحدي في ذلك المكان الذي سُجنت فيه، لكن في مساء اليوم العاشر دخل أحد العناصر وأخرجني من غرفة احتجازي إلى غرفة أخرى، التقيت ثلاث فتيات محتجزات في المكان ذاته، ونُقلنا على الفور إلى معتقل آخر، يُعرف باسم “سجن الأسايش” إلى جانب منطقة “الصوامع” في الرقة، قضيت فيه أربعة أشهر خضعت خلالها لجلستي تحقيق فقط، أولهما بعد شهر من وصولي إلى المعتقل، وثانيهما قبل أيام من إطلاق سراحي”.
الشهادات التي حصلنا عليها، تبيّن أنّ المعتقلين في مراكز الاحتجاز شمالي شرق سوريا لا يخضعون لعمليات التحقيق بشكل مباشر، ومعظمهم يبقى لفترة تمتد من أسبوع واحد وتصل إلى عدّة أشهر قبل الخضوع للتحقيق أو الإعلان عن التهمة الموّجهة إليهم، وهو ما يعتبره الحقوقي “بسام الأحمد” مخالفًا للقوانين التي ألزمت الإدارة الذاتيّة نفسها بها، مشدّدًا على وجوب توجيه التهمة والأدلة للمعتقلين بشكل فوري، وعرضهم على المحاكم في أسرع وقت ممكن.
كما أشار الأحمد إلى أنّ كثرة أعداد المعتقلين في مراكز الاحتجاز يُشكل عبئًا كبيرًا على الإدارة الذاتيّة، سواء كان ذلك على الصعيد الأمني أم على الصعيد الاقتصادي، خاصة أنّ عائلات أولئك العناصر يقطنون في مخيّمات مختلفة بالمنطقة، أبرزها مخيم “الهول”، لكن استمرار احتجازهم سببه امتناع الدول العربيّة والأوروبيّة عن سحب عناصر التنظيم القادمين من بلادهم مع عائلاتهم من المنطقة، وعجز الإدارة الذاتيّة عن محاكمتهم ومحاسبتهم.
بينما رأى الكاتب والسياسي “فراس العلاوي” أنّ فترة اعتقال الأشخاص لفترات طويلة دون خضوعهم لأيّ عملية تحقيق، تعود لكثرة أعداد المعتقلين، وعدم قدرة قسد على ترتيب أمورها القضائيّة في ظلّ غياب المحاكمات والقاعدة القانونيّة بشكل عام، وأنّ الاعتقالات التي تجري حاليًا هي عبارة عن “عمليات تجميع فقط”، معتبرًا أن الإدارة الذاتية تستفيد من الجهات المانحة والداعمة لها، وتزيد حصتها من النفط والموارد في المنطقة كلما زادت أعداد المعتقلين وطالت فترة احتجازهم، بذريعة تغطية المصاريف لاستمرار احتجاز عناصر تنظيم داعش، في خطوة وصفها بـ “ابتزاز للدول الداعمة”.
على الرغم من التهم الجاهزة لمعظم المعتقلين في سجون قوات سوريا الديمقراطيّة، إلّا أنّ “علا” لم تكن كغيرها من المعتقلين والمعتقلات، فقد تغيّرت تهمتها فجأة، بعد خضوعها لجلسة التحقيق الأولى.
تتابع “علا” سرد قصتها: “في الجلسة الأولى أفصح لي المحقق أن أحد مصادره الموثوقين في المدينة، قال إنّني على ارتباط مباشر مع تنظيم داعش، وإنّني أعمل على تأمين مساكن لعناصر التنظيم لتنفيذ العمليات في المنطقة، لكن أثناء التحقيق عرف أنّني خسرت ابني الوحيد البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا على يد التنظيم عام 2016 في ريف الرقة، أطلقوا عليه الرصاص أثناء انسحابهم من المنطقة خلال الحملة العسكريّة عليها، وانتهت الجلسة عند ردي بتلك الحادثة، لتتغيّر التهمة في جلسة التحقيق الثانية من التعامل مع تنظيم داعش إلى التعامل مع النظام السوري، كونه ليس من المنطقي أن أتعامل مع قتلة ابني الوحيد”.
خرجت علا من المعتقل بعد أكثر من أربعة أشهر من الاعتقال، دون خضوعها لأيّ جلسة قضائيّة أو محاكمة، ولسبب لم تعرفه حتى اليوم، قضت معظمها في زنزانة كانت تضم نحو 30 سيدة، وهي الزنزانة الوحيدة المخصّصة للسيدات داخل معتقل “الأسايش”.
بحسب شهادتها، كانت علا وبقيّة النساء المعتقلات يتعرضن للتعذيب بين الحين والآخر، على يد شبان وفتيات من المتطوعين/ات في صفوف قوات سوريا الديمقراطيّة، لكن بشكل أقل من المعتقلين الشبان، فكان التعذيب مقتصرًا على جلسات التحقيق، وعلى المخالفات للقرارات والأوامر فقط، لافتة إلى أنّها تعرّضت للضرب بمواسير التمديدات الصحيّة أثناء جلسة التحقيق الأولى، إلى جانب الشتم والتهديد من قبل المحققين وعناصرهم.
الصحفي في شبكة “فرات بوست” المتخصصة بتغطية أخبار مناطق شمالي شرق سوريا “صهيب الجابر” بيّن أنّ سياسة قوات سوريا الديمقراطيّة في اعتقال السيدات، تختلف تمامًا عن سياستها باعتقال الشبان والرجال، مؤكّدًا أنّ معظم عمليات الاعتقال للسيدات تتم بطريقة مشابهة لعمليات “الخطف”، ويتم حجزهن في سجون سريّة، خوفًا من مواجهة العشائر بشكل مباشر، وهو السبب الرئيس الذي يدفعها لإنكار اعتقال السيدات أو وجودهن في سجونها.
قوات سوريا الديمقراطيّة اعتقلت خمسمائة واثنتين وعشرين سيدة منذ بداية الحرب في سوريا، وحتى منتصف آذار 2022، بحسب بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي حدّدت في منهجيتها مدّة عشرين يومًا ليتحوّل المعتقل إلى مختفٍ قسري، وفقًا لما أوضحته عضو الشبكة السورية لحقوق الإنسان “نور الخطيب”.
السجون المركزيّة.. غطاء للانتهاكات
إلى سجن “الجزرات”، وهو أحد السجون المركزيّة التابعة لقوات سوريا الديمقراطيّة في ريف دير الزور، نُقل محمد المتهم بالانضمام إلى خلية تابعة لتنظيم “داعش” رفقة عشرة شبان من المعتقلين في سجن “تل معروف” للأحداث، أواخر عام 2019، بعد تجاوزهم عمر الأحداث، ليدخلوا مرحلة جديدة من السجن، لحين عرضهم على القضاء وإصدار الأحكام بحقهم.
“كانت الأوضاع بالنسبة للسجناء والمعتقلين في سجن الجزرات، مختلفة تمامًا عن واقعنا في بقيّة المعتقلات، فكان عدد السجناء في الزنزانة الواحدة، يتراوح بين اثني عشر إلى خمسة عشر سجينًا، ويصل إلى عشرين سجينًا في بعض الأحيان، وذلك بحسب عدد السجناء هناك، وكان الطعام وكانت الرعاية الصحيّة أفضل بكثير من المعتقلات الأخرى، إلا أنّ الأمر متعلّق بمزاجيّة السجّان، فإدارة السجن خصّصت ثلاث وجبات للسجين يوميًا، إلّا أنّ بعضنا كان يُحرم من الوجبات في بعض الأحيان بحسب علاقة السجين بالعناصر، كما أنّ الرعاية الصحيّة كانت متاحة للجميع هناك، لكن على نفقتنا الخاصة، فكنّا نتحمل تكاليف المعاينة الطبيّة وثمن الأدوية اللازمة لنا”. يصف محمد.
على غرار سجن الجزرات المركزي في دير الزور، كان الوضع العام في سجن “الرقة المركزي” أفضل حالًا من معتقل “جهاز الجريمة”، حيث تُخصّص الزنزانة الواحدة لعدد لا يزيد عن اثني عشر معتقلًا، وفقًا لعماد الذي قال إنّ الزيارات في سجن الرقة المركزي كانت مسموحة للأقارب من الدرجة الأولى لمرة واحدة كلّ أسبوعين، كما يسمح للسجين بالاتصال الهاتفي مرة واحدة أسبوعيًا لمدة خمسة عشر دقيقة، إضافة لجلسات التنفس التي كانت مسموحة للسجناء والمعتقلين لمدة ساعة واحدة يوميًا، وكلّ زنزانة على حدة، على خلاف السجون السريّة التي يمنع فيها التنفس بشكل نهائي.
يقول الكاتب والصحفي “فراس علاوي” إنّ قوات سوريا الديمقراطيّة تحاول من خلال سجونها المركزيّة، عكس صورة مختلفة عن السجون في مناطقها، من خلال التعامل مع السجناء والإطعام والتنفس وغيرها، خاصة أنّ السجون المركزية “المُعلنة” تخضع لجولات تفتيش من اللجان الدوليّة أو وسائل الإعلام، معتبرًا أنّها تحوّل السجناء الأقل خطورة إلى السجون المركزيّة، أمّا المتهمين بقضايا العمالة وغيرها، فلا يتم نقلهم إلى هذه السجون.
ضحايا تحت التعذيب
استطاعت عائلة محمد عبر التواصل مع أحد المقرّبين من قوات سوريا الديمقراطيّة، معرفة التهمة الموجهة لوالده الذي كان يبلغ من العمر 48 عامًا، والتي كانت موّجهة له على خلفيّة تقرير اتهم فيه بأنّه “أمير المستودعات” لدى تنظيم داعش، إلا أنّ القضاء أصدر حكمًا ببراءته، وكان بينه وبين إخلاء السبيل أيامًا قليلة، لكن برقية أحضرتها دوريّة تابعة لقوات سوريا الديموقراطيّة إلى منزل العائلة أواخر آب2018، أبلغتهم فيها بضرورة مراجعة سجن الكسرة لاستلام والده، قتلتْ حلم العائلة المنتظر.
توّجه “سعيد” الشقيق الأكبر لـ”محمد” برفقة عمه لاستلام والده من السجن بناء على تعليمات البرقيّة، ظنًّا منهما أنّ قرار إخلاء السبيل قد صدر، لكن بعد وصولهما تبيّن أنّهما تلقيا برقيّة لاستلام جثمانه، وفقًا لـ”سعيد” الذي قال إنّ جثة والده عُرضت على طبيب شرعي من أبناء المنطقة قبل إقامة مراسم التشييع والدفن، ليتبيّن أنّها تحمل آثار ضرب وصعق كهربائي.
أوضح سعيد في حديثه لحكاية ما انحكت وشبكة نيريج أنّه “وردتنا رواية من عدّة معتقلين سابقين كانوا برفقة والدي لحظة وفاته، وأكدوا أنّ أحد السجانين انهال عليه بالضرب لسبب مجهول بواسطة قطعة من مواسير تمديد المياه، فأصيب بنزيف داخلي جرّاء الضرب، ما أدى إلى وفاته بعد ساعات”.
عثمان (اسم مستعار/ 30 عامًا) فقد هو الآخر شقيقه “خلدون” الذي اعتُقل أواخر عام 2016 من صيدليته الزراعيّة في حي “حلكو” في القامشلي بتهمة تتعلّق بـ”الإرهاب”، ونُقل إلى معتقل “ناف كر” بالقرب من الحدود التركيّة شمالي غرب القامشلي، وهو المعتقل المخصّص للتحقيق مع معظم المعتقلين من أبناء المدينة وريفها.
يقول عثمان: “بعد ثلاثة أشهر من تاريخ الاعتقال، تواصل «كومين» حيّ الأربوية في القامشلي، (مسمّى وظيفي بمثابة مختار الحيّ) مع زوجة شقيقي خلدون، وأبلغها بوفاة زوجها إثر إصابته بنوبة قلبيّة في المعتقل، نُقل على إثرها إلى مشفى “فرمان” التي فقد حياته فيها، فتوّجهت مع عدد كبير من أفراد عشيرتنا إلى المشفى لاستلام جثمانه، لكن تجمعنا الكبير أخاف عناصر قوات سوريا الديمقراطيّة من ردّة الفعل، فأقدموا على إخفاء الجثمان وأنكروا وفاة خلدون في معتقلاتهم”.
“مجموعة من عناصر قوات سوريا الديمقراطيّة قامت بنقل الجثة إلى مسجد «معشوق الخزنوي» في الحيّ الغربي بالقامشلي، وأبلغتنا بالتوّجه إليه لاستلام الجثمان، فذهبنا وعثرنا عليه بالفعل، دون وجود أيّ من العناصر قربه، كان يرتدي ملابسه التي اعتُقل فيها أثناء اعتقاله، وكانت آثار الجلد والضرب ظاهرة على وجهه وظهره”. يضيف عثمان متابعًا: “وجهت قوات سوريا الديمقراطية عبر «كومين» الحيّ، تعليمات تقضي بمنعنا من إقامة مجلس العزاء في القامشلي، فاضطررنا لإقامة العزاء في قرية «تل علو» بالحسكة، خوفًا من الاعتقال والملاحقة حال مخالفة التعليمات”.
وثّقت الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان، مقتل تسعة وسبعين مدنيًا تحت التعذيب في معتقلات قوات سوريا الديمقراطيّة، منذ بداية الحرب في سوريا، وحتى الخامس عشر من آذار 2022، بينهم سيدتين وطفلًا واحدًا، فيما قالت عضو الشبكة “نور الخطيب” إنّ من الممكن أن تكون حصيلة القتلى تحت التعذيب أكبر من الحصيلة الموّثقة لدى الشبكة، بما أنّها لم تتمكن من إجراء تحقيق دقيق حولهم، ولم تعلن قوات سوريا الديمقراطيّة عن إجراء تحقيق داخلي حول القتلى الموثقين على يد “جهات مجهولة” في مناطق سيطرتها.
بيّن المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” أنّ الكثير من وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقيّة، تتعاطى مع قضية المعتقلين ومراكز الاحتجاز في تلك المنطقة بحسب التجاذبات السياسيّة، فالمقرّبين من الإدارة الذاتيّة يدّعون أنّ جميع المعتقلين من “الدواعش”، والمناهضين يدّعون أنّ جميعها تهم غير صحيحة، “وفي كلتا الحالتين الادعاءات غير صحيحة، فهناك أشخاص متورطون وآخرون معتقلون بتهم غير صحيحة” مشدّدًا على وجوب الإسراع في التحقّق من التهم الموكلة إليهم وإطلاق سراح البريئين منهم، للخلاص من ظروف السجن والاعتقال والإجراءات المتبعة في مراكز الاحتجاز.
كلام الحقوقيين وتصريحات التأكيد أو الانكار، والتجاهل الذي تبديه قوات سوريا الديمقراطيّة ومسؤولي الإدارة الذاتيّة إزاء أسئلة الصحفيين، جميعها لا تنفع محمد الذي فقد والده داخل تلك المعتقلات، فهذا الشاب الذي كان معتقلًا هو وأبوه لم يجد راحته عند إطلاق سراحه بل على العكس، يتذكر يوم خروجه ويختصره بالكلمات التالية: “جميع لحظات السجن كانت قاسية، لكن لحظة خروجي كانت الأسوأ والأصعب. كنت أنتظرها بفارغ الصبر لأبحث عن والدي وأحاول إخراجه، لكنّني تفاجأت بخبر وفاته في السجن فور وصولي منزلي”.