المكاتب الحكومية في نينوى تغرق في “خردة” فساد “الحشد الشعبي”
تحت مظلة الحشد .. مكاتب اقتصادية لفصائل مسلحة تستحوذ على مفاصل اقتصاد نينوى
تحت مظلة الحشد .. مكاتب اقتصادية لفصائل مسلحة تستحوذ على مفاصل اقتصاد نينوى
موفق محمد وفريق نينوى الاستقصائي/ يناير كانون الثاني:
بعد مرور أشهر على تحرير مدينة الموصل من داعش صيف 2017، بثت قنوات فضائية محلية مقطع فيديو أظهر محافظ نينوى نوفل العاكوب ذي النزعة القبلية وهو يتوعد خصوماً له من أعضاء مجلس المحافظة بـ”قص قرونهم” رداً منه على اتهامات وجهوها إليه بالفساد.
بعد أكثر من ثلاث سنواتٍ، وتحديدا يوم الثلاثاء 16شباط/ فبراير 2021 أصدرت محكمة جنايات مكافحة الفساد المركزية في العاصمة بغداد، حكمين متلاحقين بالحبس الشديد بحق العاكوب وفقاً للمادة 340 من قانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969 بتهمة الإضرار بالمال العام.
تم تعيين العاكوب من قبل مجلس محافظة نينوى في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 خلفاً لسابقه أثيل النجيفي الذي أقيل برلمانياً وهو ما عده مراقبون لشأن نينوى تمهيداً لسيطرة الميليشيات على مقدرات المحافظة ولاسيما أنها هي التي ضغطت على مجلس نينوى لتنصيبه محافظاً.
وأثبت العاكوب في أكثر من مناسبة “عدم اهليته” لإدارة ثاني أكبر محافظة عراقية بعد بغداد، إذ ظهر في مرات عديدة خلال نشرات أخبار قناة “نينوى الآن” المرتبطة بالمحافظة وهو يوبخ مدراء مدارس ودوائر حكومية ويوجه لهم الشتائم كما ارتبط أسمه بملفات فساد عديدة أثارها أعضاء في مجلسي نينوى والنواب.
وتمت إقالته بتصويت من مجلس محافظة نينوى يوم الأثنين 12أيار/مايو 2017 وتم تعيين النائب منصور المرعيد محله، لكن وبحسب عضو سابق في المجلس، حصل العاكوب وبدعم من الحشد الشعبي على قرار نقض قضائي وعاد لمنصبه بعد ستة أشهر.
تنص المادة التي حكم وفقاً لها العاكوب في 2021، على عقوبة “السجن مدة لا تزيد عن 7 سنوات أو بالحبس لكل موظف أو مكلف بخدمة عامة أحدث عمداً ضرراً بأموال أو مصالح الجهة التي يعمل فيها أو يتصل بها بحكم وظيفته أو بأموال الأشخاص المعهودة بها إليه”.
مجموع الحُكمين بلغ خمس سنوات، في حين تنتظره ثمانِ أحكام في دعاوى قضائية أخرى تنظر فيها المحكمة ذاتها، أبرز الاتهامات فيها تتمثل بالاختلاس وهدر المال العام والإهمال الوظيفي الجسيم، خلال فترة توليه منصبه محافظاً لنينوى والتي مركزها مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) بين سنتي 2017 -2019.
لم يكن العاكوب المسوؤل الكبير الوحيد الذي لوحق في المحاكم العراقية، فقبله تمت ملاحقة سابقه أثيل النجيفي وصدرت أوامر قبض عديدة بحقه مع حكم غيابي أصدرته محكمة جنايات نينوى في 2019 بالسجن لسبع سنوات.
“لكنه بقي خارج القضبان، ثم ألغي الحكم وأسقطت جميع التهم الموجهة إليه قبيل الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر2021 ” يقول لازم حمدون المختص ببحث قضايا الفساد ويضيف:
” كان العاكوب أداة بأيدي فصائل في الحشد الشعبي كعصائب أهل الحق، وبعد انتهاء دوره ترك وحيداً ليواجه العشرات من تهم الفساد بمفرده، بينما أثيل النجيفي وبسبب الثقل الذي يتمتع به هو وشقيقه رئيس مجلس النواب السابق أسامة النجيفي في الطرف السني من المعادلة السياسية، استخدمت التهم والأحكام القضائية ضده كأوراق ضغط لا أكثر”.
في الفترة التي لحقت استعادة المدينة صيف 2017، ظهرت فصائل تابعة للحشد الشعبي كبديل لداعش في مسكها الأرض وفرض سيطرتها المطلقة على القرارين الإداري والأمني وتمويل نفسها من خلال مكاتب اقتصادية تابعة لها مدت أذرعها عميقاً وبنحو رئيسي في مجالات العقارات والمشاريع والمناصب الحكومية.
سجلت هذه المرحلة استحواذ هذه الفصائل على المبالغ المرصودة للأعمار وغالبيتها تمثلت في منح دولية لتمويل مشاريع إعادة الأعمار والتعويضات ودعم النازحين، بمشاركة أحزاب ونواب ومسؤولين وموظفين حكوميين.
يتتبع هذا التحقيق مسار بعض الممتلكات والأموال العامة المنقولة وغير المنقولة المفقودة في نينوى بعد تحريرها من داعش، وبشكل خاص ملف السكراب، والجهات المتورطة بالاستيلاء عليها أو هدرها والإجراءات التي اتخذت قضائياً لمواجهة ذلك.
“كارثة” غرق العبارة
تسبب غرق عبارة سياحية كانت تقل أكثر من 200 مواطن من أهالي الموصل في نهر دجلة (الجزيرة السياحية) بمنطقة الغابات وسط مدينة الموصل في 21 أذار/مارس 2019 بوفاة 120 شخصاً معظمهم نساء وأطفال.
الحادث ووفقاً لتعبير الخبير السياسي عادل كمال “فتح العيون على حجم الفساد الذي تغرق فيه مدينة الموصل الخارجة مدمرة بنيوياً ومنهكة نفسياً من حرب تحريرها، وكان لزاماً على الجهات النافذة تقديم كبش فداء!”.
التحقيقات الأمنية أكدت بأن الطاقة القصوى للعبارة الغريقة كانت 50 شخصاً فقط، لكن مع ذلك تم تحميلها بأربعة أضعاف طاقتها، جرى ذلك دون أي رقابة من الحكومة المحلية. وتم إلقاء المسؤولية على المحافظ نوفل العاكَوب وخرجت مظاهرات شعبية مطالبة بإقالته وبدأت خطوات عملية لتحقيق ذلك في مجلس النواب.
ردود الفعل والإجراءات المتخذة أزاحت الستار عن حقيقة امتلاك ميليشيات تابعة للحشد الشعبي في نينوى (عصائب أهل الحق) حصصاً في الجزيرة السياحة حيث غرقت العبارة، وفي أماكن أخرى، وهو ما سمح بمرور مخالفات دون أي محاسبة، لكن الذي حدث أن القوات الأمنية (الأساييش) اعتقلت في أربيل عاصمة اقليم كردستان أواخر آذار/مارس 2019 عبيد إبراهيم علي الحديدي وابنا له يدعى ريان، بوصفهما مالكين رئيسين للجزيرة.
في تلك الأثناء حصل إجماع تحت قبة البرلمان في بغداد خصص لإقالة المحافظ نوفل العاكَوب الذي فر بدوره إلى أربيل هرباً من أوامر قبض قضائية صدرت بحقه.
هيئة النزاهة وفي بيان صدر عنها في 22 نيسان/أبريل 2019 كشفت عن فقدان 64 مليون دولار أي ما يعادل وقتها (76 مليار دينار عراقي) من موازنة محافظة نينوى، اختلسها موظفون مقربون من المحافظ الملاحق قضائيا.
وأوضحت ان عمليات الاختلاس تمت على شكل صكوك أو إيداعات في حسابات شخصية وأن ما يقارب من 45 مليار دينار عراقي (37 مليون دولار) هي من أموال تنمية الأقاليم لعام 2018 خاصة بالمحافظة، وقد تم استعادة نحو ثمانية مليارات دينار (ستة ملايين دولار) فقط.
كان ذلك أساساً لتعتقله ملاكات تابعة لهيئة التحقيقات القضائية بالنزاهة وفقاً لأحكام القرار 160 لسنة 1983 من الهيئة التحقيقية القضائية المؤلفة بموجب الأمر 126 لسنة 2020 الخاصة بالنظر في قضايا الفساد الكبرى.
ويمثل العاكوب في دعاوى حوكم باثنتين منها شباط 2021 امام محكمة جنايات مكافحة الفساد في العاصمة بغداد. وتلا ذلك قيام الحكومة البريطانية في 22 تموز/يوليو من ذات العام بفرض عقوبات عليه وعلى أربع شخصيات من دول أخرى، متهمة إياهم بالفساد. حسبما أكد وزير خارجيتها دومينيك راب.
مصدرٌ في هيئة نزاهة نينوى ذكر أن واحدة من التهم التي يواجهها العاكَوب اختلاسه مبلغ 11.3 مليار دينار (9.4 مليون دولار) من أموال كانت مخصصة للنازحين ولتأهيل مشفيين في نينوى.
لكن لا توجد أية تهمة ضده من النزاهة أو القضاء لغاية الساعة تتعلق بتسهيله وبكتب رسمية عملية الاستيلاء على السكراب للفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي سواء عصائب أهل الحق أو سرايا السلام التي ذكرها بالاسم منصور المرعيد البرلماني ومحافظ نينوى المؤقت خلفاً لنوفل العاكوب.
العاكوب حاول رد التهم الموجهة إليه وحرك دعوى قضائية ضد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي مطالباً بإلغاء الأمر الديواني المرقم 29 لسنة 2020 بالعدد م.ر.و/س/د7/م.ر 18/610 ألذي تحرك بموجبه الجهاز القضائي واعتقل العديد من المسؤولين الحكوميين ومن بينهم العاكوب الذين كانوا يتمتعون بحصانة تمنحها لهم فصائل مسلحة.
وطالب المحافظ السابق في دعواه بإلزام رئيس الوزراء بإعادة الدعاوى الى هيئة النزاهة والغاء اجراءات لجنة الأمر الديواني. والسبب في ذلك حسبما قال المشاور القانوني هاشم سعد الله منيب هو محاولة اعادة ملفاته إلى محافظة نينوى حيث نفوذ الميليشيات الداعمة له والمعروفة بخلافها وتقاطعها مع رئيس الوزراء.
لكن مناورة العاكوب القانونية هذه لم تنجح، وسيضطر لمواجهة أحكام أخرى قد تصل إلى 20 سنة إضافية بحسب خبراء قانونيين.
غطاء لعمليات النهب
الباحث في الشأن السياسي معتصم عبد الله جمال، يقول بأن المحافظ نوفل العاكوب الذي تم تعيينه في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2015 خلفا لسابقه أثيل لنجيفي المقال برلمانياً هو الآخر، كان مجرد غطاء لعمليات نهب واسعة استهدفت المال العام والخاص عقب تحرير الموصل من داعش.
وذكر بان ميليشيات الحشد الشعبي وأبرزها (عصائب أهل الحق) التي تملك مكاتب اقتصادية داخل الموصل كما غيرها من الميليشيات كالخرساني والسلام واللواء 30، استغلت تسهيلات كثيرة قدمها المحافظ العاكَوب ونائباه للسيطرة على عقارات وأملاك منقولة تابعة للدولة بحجة أنها من مخلفات تنظيم داعش.
ومن خلال تتبعنا لملف الفساد في نينوى فان أول عملية استيلاء على أموال عامة تمت وفقاً للطريقة التي ذكرها معتصم عبد الله، حدثت في مطلع سنة 2017 أي بعد أشهر من تحرير الجانب الأيسر من الموصل وكانت نيران المعارك ماتزال مشتعلة في جانبها الأيمن.
أكد لنا جنديٌ كان يخدم في الفرقة العسكرية (16) التابعة للجيش العراقي قيام عناصر مسلحة تابعة للحشد الشعبي وباستخدام آليات حكومية بنقل أربع مولدات كهرباء ديزل كبيرة بطاقة (2 ميكَا) من مشروع تصفية المياه في حي العربي السكني شمالي الموصل والذي يعرف بـ(مشروع القصور الرئاسية).
وقال الجندي، بأنه يتذكر وقتها أن العناصر المسلحة كانوا يحملون أوراقاً رسمية ولم يتسن له او لزملائه منعهم من نقل تلك المولدات بسببها “كانت سلطتهم أعلى من سلطة الجيش”.
موظف يعمل في مشروع ماء القصور الرئاسية أيد تلك المعلومات وقال بأن مدير الدائرة تقدم بشكوى الى مراجعه في الوزارة أبلغ فيها عن سرقة مولدات تابعة للمشروع. وبعد أيام “أعيدت اثنتان من تلك المولدات فقط ووجهت لنا أوامر إدارية بعدم الحديث مطلقاً عن المولدتين الاخريين”.
كان هذا مفتتحاً لعلميات سلب واسعة للمال العام في الموصل، فطوال اشهر مابعد توقف المعارك تم إفراغ شوارع المدينة الرئيسية والمنشآت العسكرية من هياكل المركبات والآليات المتضررة وحديد التسليح من أنقاض الأبنية العامة وحتى الخاصة المدمرة ونقلتها شاحنات مليئة بها صوب إقليم كردستان شمالاً وبغداد جنوباً ليتم صهر بعضها في معامل محلية أو تمضي في طريقها الى ايران.
شكلت انقاض (12925) مبنى عام وخاص مدمرٍ في المدينة بسبب الحرب التي هطلت صواريخها على مدى نحو عام غنائم سهلة لقادة الفصائل التابعة للحشد الشعبي الفارض سلطتها المطلقة على المكان.
مشاهد الشاحنات الكبيرة المحملة بتلك الغنائم، ماتزال حاضرة في ذاكرة “س.ح” وهو مدرس جامعي كان يسافر عدة مرات في الاسبوع بين مكان اقامته في اربيل وعمله في الموصل. يقول “كانت الشاحنات تتحرك ليلا وفي بعض الأيام نهاراً. لعدة مرات كانت سبباً في تأخرنا على الطريق، خاصة في المواقع التي وضعت سواتر أمنية أمامها”.
يضيف، بشيء من الحدة: “كان السكراب ينقل أمام مرأى الجميع دون ان يجرؤ أحد على ايقاف ذلك.. كنا نعرف انه يُجمع ويباع خارج القانون، لكن كان التحرك مستحيلا في تلك الفترة فكثيرون كانوا يعتقلون لمجرد الشبهة أو بدعاوى كيدية وفي ظل فوضى التحقيقات الأمنية وقوائم عناصر داعش المطلوبين للسلطات”.
غنائم المكاتب الاقتصادية
مولت تلك الغنائم فصائل مسلحة عبر ما تعرف بالمكاتب الاقتصادية التي توزعت في انحاء متفرقة من الموصل مستغلة عقاراتِ كان تنظيم داعش قد وضع اليد عليها إبان سيطرته على المدينة وجلها لمسيحيين مغتربين أو مهجرين من الكرد أو حتى من العرب السنة.
أبو أيوب (43 سنة) من سكان حي القاهرة شمال شرق الموصل، كان يعمل بين سنتي 2017 -2018 في جمع الحديد أو ما يعرف شعبياً بـ (السكراب) من أنقاض الأبنية ويبيعه في منطقة تجميع لصالح المكاتب الاقتصادية وسط الموصل.
يقول بأنه كان يوصل ما “يغتنمه” يوميا الى ساحة بالقرب من الجسر العتيق (أقدم جسور الموصل) ليتم وزنه هناك بواسطة ميزان للأحمال الثقيلة (قبان) بسعر تراوح بين (60-70) دولارا للطن الواحد.
ماكان يقوم به أبو أيوب، كان عملاً شائعاً وقتها لمئات من مواطني الموصل الذين عدوا الأمر هدنة مؤقتة من البطالة الخانقة بسبب انحسار الأعمال. وكانت المكتب الاقتصادية تعتمد عليهم في ذلك بعد أن كانت قد تولت هي الاستيلاء على الكميات الاكبر من الآلات والخردة التي يفترض أنها ملك للدولة.
مع تزايد الضغط بسبب التركيز الاعلامي على ظاهرة السلب العلنية تلك قام محافظ نينوى نوفل العاكوب في اوائل 2018 بإصدار أوامر لجمع السكراب في ساحة قريبة من جسر الموصل الخامس في منطقة تعرف بـ(الطوالب).
سرعان ما تحولت الى مقبرة هائلة للسكراب، يحرسها ليل نهار عناصر من الحشد الشعبي وتم بيع قسم من الخردة في مزادين علنيين وفقاً لقانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم (21) لسنة 2013 المعدل وذلك من خلال إعلاني بيع عممهما ديوان محافظة نينوى وبسعر لم يتجاوز (100) ألف دينار للطن (80) دولار. بحسب ما ذكره المحافظ العاكوب وقتها.
وعن هذا الأمر تحديداً قال تجار متعاملون بالخردة قابلناهم خلال سيرنا في إجراء هذا التحقيق بأنهم منعوا من دخول المزادين اللذين جرياً في النصف الثاني من 2018 وفي كل مرة كان يرسو فيها المزاد على شخصية من الشخصيات المرتبطة بالحشد الشعبي وبسعر رمزي لا يصل إلى نصف قيمته أو ربما أقل من ذلك.
مزاد ديوان المحافظة الصوري لم يحد من تجارة السكراب التي راجت بنحو كبير في الموصل بعد ستة أشهر من انتهاء عمليات تحريرها من داعش أي مطلع 2018 وكانت في الموصل عشر ساحات لتجميع السكراب تحت حراسة عناصر تابعة للحشد الشعبي توزعت في مناطق عدة بالجانب الايمن للمدينة .
وقد سُخر حتى عمال بلدية الموصل لتجميع السكراب بعنوان (جمع الأنقاض) وكان الجهد الحكومي هذا ايضاً يذهب لمصلحة الميليشيات ومكاتبها الاقتصادية المستفيد الاول من السكراب وبيعه بحسب برلمانيين ومواطنين.
وكانت شاحنات تنقل السكراب من تلك الساحات بعد الساعة 11 ليلاً صوب معامل الصهر في أربيل شمالاً وبغداد جنوباً أو الى وجهات أخرى بحسب تجار ومقاولين.
يؤكد متطوعون في حملات رفع الأنقاض التي تركزت في المدينة القديمة أنهم رفعوا كميات هائلة بمبالغ لاتصل حتى إلى 1% من ألـ 20 مليار دينار التي أعلنت حكومة نينوى إنفاقها.
“إنها خسارة مزدوجة” يقول عزام عبد الله، أحد المتطوعين. فالمبلغ حسب تصوره مبالغ به وتحوم حوله شبهة فساد كونه كان في المكان خلال مشاركته بحملة رفع الانقاض التطوعية. وشاهد الجزء الخجول من مشاركة الحكومة وكانت من خلال عمال البلدية الذين يتقاضون اجورهم من الدولة.
شكوك عزام هذه أفصحت عنها هيئة النزاهة وبالأدلة التي قدمتها إلى المحكمة المركزية في العاصمة بغداد وتم تجريم العاكَوب بموجبها عن مشاريع وهمية في تنظيف وإعادة تأهيل الابنية في محافظة نينوى للفترة من 2017 إلى 2019.
عضو في مجلس قضاء الموصل طلب عدم الاشارة إلى أسمه، ذكر مستعينا بما دونه عن تجارة السكراب في الموصل، وافترض صحة ما تداولته التقارير الصحفية العالمية عن كمية السكراب المنهوب بـ(سبعة مليون طن) لأنه يعتقد أن الكمية ضعف ذلك.
وقال “لنفترض أن سعر الطن الواحد هو 160 الف دينار و أجور نقل تبلغ 40 ألف دينار للطن. فيصبح المجموع مئتي الف دينار وهي التكلفة التي كان يتحملها التجار المرتبطون بفرق الحشد”.
ثم عاد ليؤكد بأنهم كانوا يبيعون الطن الواحد بسعر لايقل عن 320 الف دينار أي بربح مقداره (120000) دينار أقل من 100 دولار في وقتها.
” إذا ضرب المبلغ في سبعة مليون طن يصبح المجموع 840 مليار دينار عراقي “.
وتساءل: “كم جسراً أو مبنى يمكن ان يعاد بناؤه بهكذا مبلغ؟”.
في الموصل، أطلق السكان على الخردة (السكراب) الذي استولت عليه الميليشيات بـ(سكراب العبادي) نسبة الى رئيس الوزراء العراقي السابق (حيدر العبادي) الذي كان في هرم المسؤولية خلال عمليات تحرير الموصل وما بعدها.
تلك الفترة شهدت سلباً للأموال العامة المنقولة التي خلفتها الحرب ولاسيما الاليات العسكرية والمدنية والحديد في انقاض الابنية الحكومية أو المدنية.
مقاول البناء (أحمد عويد) ذكر بان سكراب الموصل نقل جزء منه الى معمل أسمه (الماس) في اقليم كردستان. وأنتج منه حديد التسليح (للبناء) والذي تم بيعه بسعر 700 الف دينار في الموصل.
وقال بان السكراب لم يذهب فقط الى مصهر اربيل بل الى السليمانية حيث صهر هناك ونقل الى ايران التي اشترت كميات كبيرة من الحديد لرخص ثمنه.
النائب عن نينوى نوري العبد ربه، أكد دور فصائل حشدية في عمليات البيع:”المكاتب الإقتصادية التابعة للحشد الشعبي كانت لها حصة كبيرة من السكراب وكانت تجبي كذلك الاموال من تجار في الموصل. فلا يتم المباشرة بأي مشروع اقتصادي في الموصل إلا بعد دفع مبلغ أو تخصيص حصة لواحد من هذه المكاتب الاقتصادية.
واتهم نوري العبد ربه شقيق المحافظ الأسبق نوفل العاكوب ويدعى (بسمان العاكوب) بحصوله على مابين 20% و 30% مقابل أي مشروع كان يُحال من قبل محافظة نينوى “رغم أنه لم يكن يحمل أي صفة في المحافظة وليس موظفاً اصلاً”.
موظف مخضرم في ديوان محافظة نينوى، طلب عدم إيراد أسمه لأسباب أمنية، قال بأن المكاتب الاقتصادية فرضت نسباً على مشاريع الحكومة المحلية في نينوى أو التي تحيلها لشركات المقاولات تبدأ من 20% وترتفع بحسب المشروع.
وأوضح أن تلك المكاتب “تتدخل في الكثير من التفاصيل ومنها على سبيل المثال تولي تزويد المشاريع بحديد التسليح، بمعنى انها تستفاد من بيع الحديد السكراب ومن ثم أعادة بيعه بعد تدويره”.
وأشار الموظف ساخراً وهو يبتسم، أن شيئاً لم يتغير في نينوى، فقبل 2014 كان تنظيم داعش يفرض 20% نسبة على مقاولات المشاريع التي يكون ديوان المحافظة طرفاً فيها وبعدها فعلت الفصائل المسلحة ذات الأمر.
زهير الجلبي الرئيس السابق للجنة اعمار أم الربيعين في نينوى التابعة لرئاسة الوزراء، اتهم قيادة عمليات نينوى والقطعات العسكرية التي تحت أمرتها بالفساد وقال بان السكراب “هرب كل يوم أمام تلك القطعات دون أن تقوم بشيء”.
وقال الجلبي عير حسابه الخاص في فيسبوك: “الغريب أن قائد العمليات اللواء نجم الجبوري (أصبح محافظاً لنينوى في 28 نوفمبر 2019) تم إشراكه في خلية أزمة شكلتها الحكومة العراقية في نهاية العام 2018 لمكافحة الفساد والحد منه غير أن اعضاؤها اصلا من أسباب الأزمة، ربما لكي يغطي أحدهم على الآخر!!” على حد توصيفه.
وتساءل الجلبي:”يفترض أن خلية الازمة تم تشكيلها بعد تقرير نيابي كشف عن أن الفساد وراءه القوات ألأمنية فكيف شكلت خلية الازمة هذه بعضوية قائد العمليات وقائد الشرطة؟”.
ووصف الجلبي الموصل بـ”غنيمة”، لمن قال أنهم “فاسدون” وأن الغالبية العظمى من المشاريع التي خططت لها منظمات المجتمع المدني الدولية لمرحلة ما بعد التحرير من داعش، توقفت بسبب الفساد.
التقرير النيابي الذي تحدث عنه الجلبي، قدمته لجنة تقصي الحقائق في الموصل التي تشكلت بموجب الأمر النيابي (130) في 22/11/2018 برئاسة رئيس البرلمان الاسبق (أسامة النجيفي) وعضوية ثلاث وأربعين نائباً.
التقرير الذي قدم إلى رئاسة المجلس تألف من 36 صفحة (حصلنا على نسخة منه) تضمن إشارة الى قيام المكاتب الإقتصادية بتهديد المواطنين لمنع مشاركتهم في المزادات العلنية لبيع السكراب.
واتهم التقرير النيابي المكاتب الاقتصادية بنهب الممتلكات العامة من حديد السكراب وغيره بمبالغ تقدر بالمليارات وأن مكتب الأمانة العامة لمجلس الوزراء هو الذي يمنح الموافقات ويرسل البرقيات الخاصة بها.
وأن هذه المكاتب المدعومة بعناصر الحشود ظلت تقوم بنقل الحديد وبيعه خارج نينوى مع أن هنالك قراراً صدر عن مجلس محافظة نينوى في7/3/2018 نص على “وقف تهريب السكراب وتشكيل لجنة لبيعه أصولياً لصالح نينوى”.
كما نقل التقرير إفادة محمود الشبلي مسؤول لجنة الأمن والدفاع في مجلس محافظة نينوى التي أكد فيها أن المكاتب الاقتصادية في نينوى هي مكاتب حزبية يتلخص عملها بنسبة كبيرة على المتاجرة بحديد السكراب وتهريبه.
وأيضاً ما قاله مدير شرطة نينوى العميد النامس من أن المكاتب الإقتصادية تستولي على الأراض في الموصل وتهرب السكراب.وأوردت تصريح مشابه لقائد عمليات نينوى. الى جانب ما ذكره قائممقام الموصل بشأن تهديدات المكاتب الاقتصادية للمواطنين من حضور المزايدات العلنية في الدوائر الحكومية وكان هذا سبب إصرار الحكومة المحلية على إجراء المزايدات داخل مبنى المحافظة.
واحتوى التقرير كذلك إقراراً من “سيد علي” قائد عمليات الحشد الشعبي في نينوى أفاد فيه أن قيادياً في الحشد يدعى “أبا رقية” وأسمه الكامل (تحسين علي حبيب الدراجي) يملك كتباً رسمية من رئاسة الوزراء بالعمل والاستيلاء على النفط.
عمليات الفساد تلك التي أشرتها اللجنة النيابية، جرت في عهد حيدر العبادي واستمرت في وقت تولي عادل عبد المهدي رئاسة الوزراء، في مؤشر على أن كل شيء جرى تحت أعين الحكومة سواء بإرادتها او دون ذلك.
طوال نحو ثلاث سنوات تركز حديث وشكاوى نواب نينوى ومسؤوليها وبعض نشطائها وعامة الناس، على عمليات تهريب السكراب لأنها كانت تجري أمام أعينهم، وكانت تلال السكراب تختفي تدريجيا من الشوارع والساحات حتى خلت منها أخيرا. لكن عمليات فساد أخرى منظمة جرت بهدوء ولم تحظى بالمتابعة كقطاعي العقارات والنفط.
فقد تحدث التقرير البرلماني عن تورط فصائل في الحشد الشعبي بسرقة وتهريب النفط بذات الطريقة التي استخدمها تنظيم داعش. وكذلك تزوير السجلات الرسمية في دائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيسر للموصل، والاستيلاء على الاراضي بالتعاون مع مدير الدائرة وموظفين فيها فضلاً بيعها للدور والأراضي التي كان داعش يسيطر عليها قبل تحرير الموصل.
وطالب التقرير بمعالجات فورية، وبتحديد من يتولى الأمن في المحافظة وإخراج الحشود ومكاتبها الإقتصادية إلى خارج نينوى ومحاسبة الموظفين المتعاونين معها لمنافع شخصية وإعادة الأمور الى احوالها السابقة فيما يخص العقارات.
نتج عن التقرير تصويت مجلس النواب العراقي في 24 آذار 2019 على مجموعة قرارات تخص نينوى بضمنها : “إيقاف كل أشكال التهريب وخاصة الحديد و السكراب والنفط” مع اهمال للعديد من الفقرات الأخرى كالعقارات، لكن التصويت هذا بقي عملياً حبراً على ورق بسبب نفوذ الميليشيات وسطوتها في نينوى.
وبدلاً من محاسبتها، أحيل عدد كبير من موظفي الدولة، بينهم موظفون في عقارات نينوى وبلديتها الى المحاكم مع أن غالبيتهم كانوا ينفذون أوامر قادة المكاتب بسبب ما تمتلكه من سلطة قرار في المحافظة على الصعيدين الإداري والأمني.
فساد بتواقيع محلية وسكوت الحكومة المركزية
النائب “نوري العبد ربه” أبرز كتاباً صدر في 23/5/2017 بالعدد 33 حمل توقيع المحافظ المقال نوفل العاكوب نص على: “الغاء أمرنا الإداري الخاص بطلب شخص يدعى عبد الواحد مكي بنقل الحديد السكراب من مواقع في محافظة نينوى بعد شرائها من الأهالي”.
وعلق العبد ربه على مبرزه بالقول: “في ذلك التاريخ كانت الحرب قد توقفت للتو وأكثر من نصف السكان في مخيمات النزوح والمهاجر والباقون يعيشون تحت وطأة الخوف من ملاحقة القوات الامنية بتهمة الانتماء الى داعش وغيرها. فعن أي أهالي يبيعون الحديد تحدث كتاب المحافظ ؟”.
ونفى العبد ربه ان تكون المحافظة قد أعلنت عن بيع السكراب في مزاد علني. وقال: “لم يجر أي مزاد بحضور أهالي الموصل أو نينوى”.
عبد الرحمن الوكاع رئيس لجنة الأعمار في مجلس محافظة نينوى (المنحل) أقر في تصريحات صحفية باستيلاء الحشد الشعبي على السكراب الحكومي وما وصفها بالعصابات المرتبطة بالحشد التي استولت بدورها على السكراب العائد للمواطنين.
وقال بأنه كتب مذكرة في 2018 الى رئاسة مجلس المحافظة “لإصدار قرار يمنع إخراج السكراب والمخلفات الحربية الى خارج نينوى”، كما وجه خطابات الى الحكومة المركزية في بغداد للتدخل، لكن الاجابات التي كانت ترده ضمت اشارات الى وجود موافقات رسمية من رئاسة الوزراء تسمح بإخراج السكراب الى خارج محافظة نينوى، وتأمر الاجهزة الامنية بعدم اعتراض الشاحنات التي تنقلها.
“جرى كل شيء، عبر تفاهمات سياسية وغطاء أمني، وأحيانا بكتب رسمية”، كما يقول محامي تابع الملف. تظهر نسخة من عقد شراكة حصل عليه كاتب التحقيق تهافت تجار ومستثمرين متورطين بملفات فساد كبيرة على تلك الصفقات المغرية.
أحد طرفي العقد هو “رشدي سعيد الجاف” وهو شخص متورط ببيع شقق وهمية للمواطنين وصدرت أحكام غيابية بحقه بين 2015 و2018 من محكمة الجنح في دهوك بموجب المادة 456 من قانون العقوبات العراق رقم 111 لسنة 1969 بلغ مجموعها السجن لـ 180 سنة . تعهد الجاف الذي كان مجهول الاقامة وقتها بسبب الدعاوى القضائية المفتوحة ضده، بموجب عقد الشراكة هذا تأمين ونقل الحديد السكراب الى الطرف الثاني في أربيل.
تم استخدام وسائل عديدة لتمرير صفقات السكراب، منها عبر تجار محليين من أجل الاستيلاء على السكراب وبيعه لصالح الميليشيات ومكاتبها وأمام انظار أجهزة الدولة المتفرجة بأذرعها المتعددة.
أكد هذا النائب السابق “عزت الشابندر” حين قال بأن الحديد يسرق وينقل من المواقع التابعة لوزارة الصناعة في الموصل والانبار أمام أنظار الحكومة العراقية دون أن تفعل شيئاً، على حد تعبيره.
رغم سيل الاتهامات وحجم المبالغ التي نهبت من خلاله، أغلق ملف السكراب دون محاسبة أحد، وظلت الشكاوى ضد فصائل بالحشد وحتى قرارات اللجان بشأن وقف التهريب حبرا على ورق، فلم يتم مساءلة أحد ولم تسجل المحاكم العراقية أي حكم قضائي يتعلق بسرقة وتهريب السكراب، وخسرت معه نينوى عشرات الملايين من الدولارات كانت يمكن ان تساهم في اعادة بناء بعض القطاعات.
وحتى قضية غرق العبارة التي أجبرت الجهات الحكومية “تحت ضغط المأساة” على فتح بعض ملفات الفساد في نينوى ونفوذ الميليشيات فيها، فقد مرت دون محاسبة أحد وتم إغلاقها بعد أقل من سنة واحدة على الرغم من تسببها بوفاة 120 شخصا.
صاحب متنزه على ضفة نهر دجلة اليسرى، ذكر مشدداً على حجب أسمه، أنه أضطر لأن يدفع ولمرتين متتاليتين لشخصيات قال بأنها مرتبطة بعصائب أهل الحق لكي يعيد ترميم المتنزه في أواخر 2017 بعد أن كان قد خرج من يده لأكثر من ثلاث سنوات وتضرر خلال الحرب على داعش.
وقال بأن مجموع ما دفعه بلغ 35 ألف دولار، وهي قليل مقارنة بما دفعه أصحاب مشاريع سياحية أخرى مجاورة لمشروعه حسبما ذكر. لفت إلى أن بعضهم اضطر لقبول إدخال تابعين للمكتب الاقتصادي الخاص بالعصائب كشركاء ومساهمين وبعضهم اتخذ العصائب كحماية كما فعل صاحب الجزيرة السياحية التي تسبب غرق عبارة فيه بقتل 120 مواطن.
وتابع يقول باستياء : ” هم مثل قطاع الطرق في القصص، عليك ان تدفع لهم لكي تمارس عملك دون مشاكل “.
يقول المحامي (أحمد، ب) ان صاحب مشروع الجزيرة السياحية عبيد إبراهيم علي الحديدي الذي عرف بارتباطه بميليشيا “عصائب أهل الحق” أطلق سراحه مع أبنه بعد أقل من سنة على توقيفه، بعد أن منح كل عائلة من عائلات الضحايا مبلغ 10 مليون دينار مع قطعة أرض سكنية.
ويرى المحامي ان غرق العبارة كشف للعلن عن صلة بعض الجماعات المسلحة ليس باستثمار المواقع السياحية في غابات الموصل وعلى صفاف دجلة فقط، أو دورها في منح موافقات اجازات المطاعم والمنشآت التجارية، بل أيضا في صفقات اعادة البناء والأعمال التجارية.
ويعرب عن قناعته بأن أهالي ضحايا العبارة تقبلوا الأمر مرغمين بسبب تهديدات مباشرة وغير مباشرة تلقوها لكي يتنازلوا عن الدعاوى التي أقاموها ضد الحديدي المدعوم من الميليشيات وهذا ما يقول بأنه سمعه بنفسه من العديد منهم في لقاءات خاصة : ” لكنهم يخشون العواقب إن رفضوا او حتى تحدثوا عن الأمر في العلن”.
وتساءل: “أليس هذا فساداً علنيا في أقل تقدير، أن يتم رشوة الناس (على أنها دية) أو تهديدهم ليتنازلوا عن حق شخصي تحت انظار الجهات الحكومية، هذا إذا لم نقل أنها جناية بحد ذاتها”.
بعد إطلاق سراح عبيد إبراهيم علي الحديدي وغلق ملفه الجنائي، رشح نفسه كمستقل في الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2021، عن الدائرة السابعة تسلسل 49
وكان جل برنامجه الانتخابي يرتكز على توزيعه مبالغ (الدية) لذوي الضحايا مع قطع الأراضي ووعود بإيصال الخدمات من مياه وكهرباء اليها في حال فوزه, لكن ذلك لم يحدث عقب خسارته في السباق الانتخابي وجمعه لـ 3654 صوتاً، لم تكن كافية لإيصاله إلى مجلس النواب !.
*انجز التحقيق بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية