تقارير سردیة: “خراب الموصل” يعود لدائرة النسيان بعد أن تحول الى “وجبة دسمة” للطامحين بدخول البرلمان

“خراب الموصل” يعود لدائرة النسيان بعد أن تحول الى “وجبة دسمة” للطامحين بدخول البرلمان

صور المرشحين في انتخابات نينوى اخفت وراءها خراب المدن المحررة التي تنتظر منذ سنوات مستلزمات الإعمار

مجيد العبايجي:

على بقايا أرصفة وشوارع البلدةِ القديمة في الموصل التي خاضت معارك نهشت معالمها وبيوتاتها المتكئة بعضها على بعض، انتشرت اللوحاتُ الدعائية للسياسيين المتنافسين للفوز في الانتخابات البرلمانية المبكرة. المشهد كان مرفوضا لدى كثيرٍ من اهالي “أيمن الموصل” فبالرغم من مرور أربعة أعوام على تحرير المدينة من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية” ما يزال مشهدُ الخراب يهيمن على معالمِ المدينة بأزقتها وبيوتها ومحلاتها واماكن الخدمة العامة لاسيّما بمنطقتي الميدان والشهوان.

يقول خالد وليد، الذي كان يملك بيتا في الميدان احالته الحرب الى ركام، وهو يشير الى لوحة دعائية كبيرة:”كان من المفترض أن تفضي الانتخابات السابقة إلى برامج تؤهل المدينة القديمة لكن اليوم المشهد يتكرر صور المرشحين الدعائية تملأ الشوارع والتقاطعات وتكاد تغطي معالم الدمار”.

يضيف وليد منتقدا صرف عشرات ملايين الدنانير من قبل القوى السياسية للفوز بمقعد في البرلمان:”أجزم انهم لن يخدموا المدينة، سيتسابقون كعادتهم على امتيازاتهم ويتركوننا في هذا الخراب.. لذلك لم انتخب مثل غالبية الناس”.

وجرت الانتخابات التشريعية في 10 تشرين الأول اكتوبر الجاري، وسط منافسة شديدة بين قائمتين كبيريتين (تقدم بزعامة محمد الحلبوسي، وعزم بزعامة خميس الخنجر) في المحافظات المحررة من داعش، وبمشاركة قوائم اخرى أصغر، ووسط حملات دعائية كبيرة استخدمت فيها كل الوسائل المتاحة من لافتات ضخمة للقوائم والمرشحين ملأت الشوارع الى الاعلانات التلفزيونية والاذاعية الى جانب اعلانات لسوشيال ميديا وفضلا عن التجمعات الانتخابية الضخمة.

سنوات عجاف يفترض أن تكون سمان

في ٢٠١٨ وبعد مرور أكثرَ من عام على تحرير المدينة من تنظيم داعش، شهدت الموصل انتخابات تشريعية شأنها شأن مدن العراق الأخرى، غير أن المدينة لم تكن تشبه تلك “الاخرى” في عمق مأساة أهلها الذين كانوا يبحثون عن جثث أحبتهم تحت أنقاض بنايات الجانب الأيمن منها ويستنطقون جدران بيوتها المهجورة الخربة علّهم يجدون بارقةَ أملٍ تدلهم على من فقدوا.

كانت المدينة مثقلة بتداعيات الحرب، ويتناقل اهلها قصص آلاف المفقودين والمغيبين والقتلى، فيما انشغل “مرشحوها” لمجلس النواب بالترويج لأنفسهم للظفر بامتيازات المقاعد النيابية لمدينة تئن تحت سيل من المشاكل وتنتظر نقطة انطلاق عمليات إعادة إعمارها وتأهيل المناطق المتضررة منها وتعويض الأهالي عن ما حملته لهم الحرب من ضحايا ودمار، لكن بعد مرور ثلاث سنوات لم تنل المدينة غير الاضطرابات السياسية التي أفضت إلى استبدال ثلاثة محافظين في غضون سنتين.

يقول المراقب السياسي محمد عبد الواحد” بسبب الولاءات الخارجية للنواب السابقين لم تحصل المدينة على حقوقها. يضاف إلى ذلك غياب شخصية تمثل المدينة في البرلمان وتتصدر مركز سيادي في بغداد.  فقد انشغل السياسيون  بالصراعات وبقيت المدينة تعاني من ويلات الحرب”.

ولم يبذل ممثلو المدينة في مجلس النواب جهدا لاستحصال حصة المحافظة من التعويضات ناهيك عن ضآلة تلك التعويضات مقارنة بالمدن المحررة الاخرى التي لم تتعرض لدمار بحجم ما تعرضت له الموصل.

وكشف صحافيون ومراقبون عن تقدم المحافظات المحررة “الانبار وصلاح الدين” على نينوى فيما يخص استحصال مخصصاتها من أموال التعويضات. وعلى وفق  احصاءات رسمية نشرت عام 2020 خصص لمحافظة نينوى ١٥ مليار دينار فيما كان نصيب أقلّ محافظة متضررة من الحرب  أكثر من ١٠٠ مليار دينار!.

وبعد مرور أكثر من عام على تلك الإحصاءات بدأت بغداد رفع مبالغ تعويض الأهالي من العمليات العسكرية بدفعات ما أثار استغراب محافظ نينوى نجم الجبوري الذي قال في تصريحات صحفية ان “المبلغ المخصص للتعويضات والبالغ 60 مليار دينار سيُقسط للدفع بواقع مليارين لكل شهر وفي الحقيقة هذا أمر غريب”.

التعويضات نقطة في بحر المتطلبات

وطالب المحافظ، رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي التعامل مع الموصل كحالة استثنائية، إذ لا يمكن أن يتم دفع المبالغ بهذه الطريقة لا سيما وأن المبلغ بأجمعه لا يسد إلا جزءا قليلا من أموال التعويضات”.

وعبر علي ميزر الجربا، نائب رئيس المفوضية العليا لحقوق الانسان عن استغرابه هو الاخر للتباين في توزيع الأموال بين المحافظات المحررة قائلًا إن “ما حصلت عليه نينوى لا يصل إلى نصف ما حصلت عليه الأنبار من أموال التعويضات بينما نينوى هي الأكثر تضرراً والموصل هي المدينة الوحيدة التي أعلنت منكوبة في البرلمان العراقي وعدد المتضررين وضحايا الإرهاب فيها يتجاوز عدد المتضررين كلهم  في المحافظات الأخرى”.

وتساءل “كيف تأخذ محافظة أخرى أقل ضرراً من نينوى وأقل عدداً بضحايا الإرهاب تخصيصات أكبر منها بضعفين أو ثلاثة أضعاف لولا تخاذل نواب نينوى وسكوتهم وضعف تمثيل نبنوى السياسي ما ادى الى ضياع  حقوق ابناء  المحافظة”.

تلك الأرقام المتواضعة تؤكدها تصريحات مدير دائرة التعويضات في محافظة نينوى محمود العكلة، الذي قال ان التعويض المادي “لم يشمل إلا قرابة 2600 معاملة فقط” في وقت بلغت عدد المعاملات التي روجت أكثر من 66 ألف معاملة.

ذلك ما يجعل أبو علي (٧٥ عاما) وهو من سكنة الميدان، ينتظر بأمل يتلاشى أموال التعويض عن دارٍ صغير أحالتها الحرب إلى ركام وصار يسكن في دارٍ مستأجرة، شأنه شأن الآلاف من أبناء المدينة على أمل أن تسعفه الحكومة بتعويض ينتشله من حالة الاحباط ليتمكن من البدء من الصفر!.

ولم تكن حصة نينوى من الموازنة الاتحادية أفضل حالا من التعويضات فقد أفردت حكومة بغداد لنينوى ٤٣٦ مليار دينار. رقم صغير جدا أمام تكلفة إعادة إعمار المدينة والتي تتجاوز بحسب محافظها ١٥ مليار دولار.

الجانب الأيمن.. دائرة بصراعٍ محموم

امتدت حلبة الصراع الانتخابي في نينوى التي تملك 31 مقعدا في البرلمان العراقي، إلى ثمان دوائر انتخابية، يتنافس عليها 423 مرشحا، وكانت حصة الدائرة السادسة من المتنافسين، والتي خصصت لها خمسة مقاعد وتضم كامل المدينة القديمة، أكثر من 100 مرشح.

وبحسب مدير إعلام مكتب مفوضية نينوى سفيان المشهداني، فان تلك الدائرة هي الأكبر من ناحية المرشحين في نينوى وكامل مناطق العراق، مبينا ان “الدائرة السادسة هي الأكبر من ناحية الكثافة السكانية وعدد مراكز الاقتراع، لذا كان عدد المتنافسين على مقاعدها 100 مرشح توزعوا على عدة كيانات سياسية”.

وأمام هذا الواقع بدأ المرشحون يتسابقون لتقديم المساعدات الآنية قبل موعد الانتخابات بأيام وواصلوا بث سيل من الوعود تتصدرها إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية وتعويض المتضررين وإنصاف ذوي الشهداء وبناء ما دمرته الحرب.

ينتقد الناشط مصطفى الدباغ استغلال حاجات الناس من الفقراء والبسطاء وجهلهم بمهام النائب في حال فوزه. يقول الدباغ. ” يجهل الكثيرون ان وعود النواب تتقاطع مع وظيفتهم التي تتركز في التشريع والمراقبة وليس القيام بأعمال تنفيذية”.

الالتفاف على مواطنين منكوبين

كل ما يأمله المواطن في الموصل القديمة، كما يقول الكاسب عبدالله علي، هو أن يؤمن يومه بقدر معين من المال يعينه على متطلبات معيشة عائلته الى اليوم الذي يليه ولا يكترث بموضوع الرقابة والتشريع فمثل هذه الامور “ترف لا يتناسب وواقعهم المتعب”.

يضيف علي، وهو خريج جامعي يعمل في مجال صبغ المنازل:”بالنسبة للفقراء، الإجراءات الآنية من خدمات ملموسة وتقديم طرود غذائية وحشو الجيب بمبلغ مالي بسيط أفضل من الحديث عن مهام معقدة تتقاطع مع مفاهيمهم البسيطة”.

في مساء اليوم الانتخابي، كان حسين فارس الذي يسكن في منطقة خزرج أيمن الموصل بدار مساحتها 90 متر، عائدا الى منزله وهو يحمل أكياسا سوداء بعد تسع ساعات قضاها في العمل.

الرجل الخمسيني، قاطع الانتخابات مثل معظم معارفة وأصدقائه، ولم يعر اي اهتمام لحركة الناخبين المتوجهين الى مركز انتخابي لا يبعد عن محل عمله اكثر من 100 متر، يتساءل: “هل يستطيع المرشح أن يؤمن لي ولعائلتي مثل هذه الاكياس يوميا حتى بعد الانتخابات؟”.

ويضيف، وقد بدا فرحا بما حصل عليه رغم انه قاطع العملية الانتخابية:”لا أعلم ما سيفعله المرشح بعد فوزه وأنا لا استبشر منهم خيرا. لكنهم منذ قرابة شهرين بدأوا بتوزيع المساعدات والأموال للناس هنا من خلال مكاتب فتحوها وبكل تأكيد سيغلقونها بعد الانتخابات”.

اتخذ العديد من المرشحين النهج ذاته، مع اشتداد حملات الدعاية الانتخابية وحتى يوم الاقتراع. ويرى المواطن أحمد محمد طاهر، في ذلك “استغلالاً لحاجة الناس وانتهازا لفرصة غير مرضية للإنسان السوي.”

وكانت نسبة المشاركة بمحافظة نينوى في انتخابات 10 تشرين، واحدة من ادنى النسب المسجل في عموم البلاد، إذ لم تتجاوز الـ40 في المئة، بالقياس على مليون ونصف المليون ناخب حدّثوا بياناتهم، فيما كان عدد من يحق لهم الاقتراع في المحافظة يبلغ أكثر من مليونين ونصف المليون. ذلك العزوف الكبير عن المشاركة، يعكس من جهة عدم رضا غالبية أهالي نينوى عن الواقع الخدمي والمعيشي فيها، ومن جهة أخرى يظهر غياب الثقة بالقوى السياسية الحالية وجديتها في إنتشال المدينة من أزماتها.

الحملات الكبرى لم تؤتِ أكلها

شهدت شوارع البلدة القديمة في الاسبوعين الأخيرين اللذين سبقا يوم الاقتراع، تجمعات دعائية يقوم أصحابها بتوزيع مقاعد بلاستيكية لجمهور يتجاوز عديده الخمسة آلاف شخص ينتظرون خطابا يلقيه المرشح. عادة ما كان الحاضرون يحصلون بعد انتهاء المؤتمر على مبلغ مالي يقدر بـ ٣٠ دولار لكل فرد.

مساء ذات اليوم كان المرشح يعود إلى مكتبه وينشر مقاطع فيديو عبر صفحاته على السوشيال ميديا يُظهر فيها حجم جمهوره ويُبشر أنه حسم الفوز مبكراً. لكنّ بعض هؤلاء المرشحين المنتمين لقوى تملك المال والسلطة وآخرين بوزن ثقيل سياسيا واجتماعيا خسروا المنافسة أمام مرشحين لم يقوموا الا بنشر بضعة صور تعرف بهم وبرقمهم في القائمة الانتخابية.

المراقب السياسي “سبأ الأغا” يفسر ذلك بالقول: “ليس بالضرورة أن يضمن المال وتجلب الشهرة السياسية الفوز لصاحبها. هناك شخصيات حلّت شيفرة الشارع ووصلت إلى الجمهور من خلال ذكائها وبساطة حضورها وليس “امكاناتها المالية”.

وخسر سياسيون وازنون في نينوى وآخرون تقليديون مثلوها في الدورات البرلمانية السابقة أمثال أسامة النجيفي رئيس “ائتلاف متحدون” والذي ترأس مجلس النواب في دورة 2010- 2014، وكذلك محمد إقبال الصيدلي الذي شغل منصب وزير التربية من 2014 إلى 2018، وغيرهما ممن روجوا حملاتهم بمبالغ مالية ضخمة بحسب مراقبين.

يرى باحثون ونشطاء، ان الناخبين في الموصل لم يستجيبوا عموما لدعوات المشاركة الكثيرة في الانتخابات، فالناس تتطلع أولا لإنهاء الدمار والخراب فالمشاهد في كثير من الأزقة ما زالت تشي بأن حرباً وضعت أوزارها للتو.

ينبه الباحث الاجتماعي أحمد غانم، الى خطورة اعتياد الناس على السلبية وعلى تقبل مظاهر الدمار، مشيرا الى تأثير ذلك على الحالة النفسية للمواطنين:”لقد جرّب الناس هنا العيش مع بقايا جثث بعد التحرير مباشرة والخوض في سراديب محشوة بأحزمة متفجرة حتى أصبح الناس هنا أقل بهجة وسرور وسلبيون تجاه كل شيء”.

مع اختتام المشهد الانتخابي بحملاته الدعائية ووعود مرشحيه التي انطلقت من وسط الخراب، ومع بزوغِ شمس اليوم التالي كان مئات الشباب والفتية منهمكين على الطرق الرئيسية في تفكيك صور المرشحين وقلع السنائد الحديدية لها وسلخِ الصور عنها، ليظهر مجدداً ما توارى خلف تلك الدعايات الضخمة من دمار.

الدمار الذي قد لا يراه المواطنون مجدداً، إذا تحولت ولو جزء من الوعود إلى برامج عمل خلال السنوات الأربع القادمة، وقد تبقى مشاهدُ الخراب قائمةً كما اعتادت عليها أعين الناس في قديمة الموصل، في حال تنّكر المسؤولون لوعودهم.

  • أنجز التقرير ضمن برنامج تدريب حول تغطية الانتخابات العراقية نظمته “أوان” awanmedia.net وبدعم من منظمة “دعم الإعلام الدولي” International Media Support.

المزيد عن تقارير سردیة

Reports

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":19374}" data-page="1" data-max-pages="1">