تقارير سردیة: تفشي عمالة الأطفال… يدفعون ضريبة الحرب وتدهور الاقتصاد وفشل الحكومات

تفشي عمالة الأطفال… يدفعون ضريبة الحرب وتدهور الاقتصاد وفشل الحكومات

يونس عيسى/ نينوى:

في وقت يتوجه فيه الأطفال بمدينة الموصل (405 شمال بغداد) صباحاً إلى مدارسهم، يرافق مؤمن (9 أعوام) والدته وعمته وشقيقه الذي يصغره بسنتين، متنقلين من حاوية نفاياتٍ إلى أخرى يفتشون عما لفظته المنازل من علبِ المشروبات الغازية والبلاستيكية والأواني والأسلاك النحاسية.

مع انتصاف النهار تكون العائلة قد أنجزت مهمة ذلك اليوم ووضعوا ما جمعوه في أكياس كبيرة يحملونها على أكتافهم ليبيعوها مقابل مبالغ تتفاوت بحسب كمية ما يجمعونه بين 5- 10 آلاف دينار ( 3-6 دولار) يوميا.

دفع الفقر المدقع عائلة “مؤمن” العربية المؤلفة من أحد عشر فرداً للنزوح من قضاء سنجار غربي نينوى سنة 2013 لتسكن واحدة من بيوتات العشوائيات (التجاوز) في الطرف الجنوبي للموصل. وخلال حرب التحرير من داعش 2017 انهت رصاصة طائشة حياة رب الأسرة ليجد أفرادها أنفسهم بلا معيل في مدينة مدمرة تندر فيها فرص العمل ويفتقد سكانها، ونحو نصفهم من الفقراء، لنظام رعاية اجتماعي حقيقي.

تقول عمته فاطمة (44 عاما) انها ووالدته تشعران بألم كبير كلما مرا قرب مدرسة، لأن مؤمن وباقي أشقائه وشقيقاته محرومون من التعليم ولم يلتحقوا بالمدارس مثل أقرانهم “ليس لدينا خيار، علينا أن نعمل جميعنا لكي نعيش”.

قصة مؤمن تشبه في كثيرٍ من تفاصيلها مئات القصص الأخرى التي أبطالها أطفالٌ غيرت الحرب بتداعياتها مسارات حياتهم وبدلاً من التواجد على مقاعد الدراسة تحولوا الى طلاب مهن وباحثين عن أي فرصة عمل في الشوارع والمحال الصناعية والتجارية، هناك حيث تهدر طفولتهم دون أي إجراء حكومي يذكر.

نصرت ياسين (10 أعوام) واحد من هؤلاء، يقضي ساعات النهار الطويلة قرب إشارات المرور في منطقة المجموعة الثقافية بالموصل عارضاً عبوات المياه المعدنية على المركبات المارة وخدمة تلميع زجاجها إذا لزم الأمر.

شقيقان أصغر منه وشقيقتان تكبرانه وأمٌ أربعينية مريضة، أجبرته ظروف الحرب التي غيبت والده على العمل لإعالتهم، قال وهو يفرك جبينهُ المغبر قبل أن يركض صوب يد خرجت ملوحة له من نافذة سيارة.

عاد بملامح مبتسمة: “يجب ان تكون سريعاً هنا، فالإشارة الخضراء تعني بأن المشتري لن يأخذ منك الماء، وبعضهم لن يدفعوا لك إذا أخذوه!!”.

ثم هرول مجدداً ملبياً نداء سائق آخر، وهو يردد: “لهذا أنا أحب الضوء الأحمر بعكس السواق!”.

على مسافة قريبة من المكان الذي يتحرك فيه نصرت بنشاط ومثابرة، يجلس بجانب الرصيف صبيٌ بثياب رثة ونظرة منكسرة ماداً يده بكسل للعابرين. فيما يدفع في الجانب الآخر من الشارع فتى مع شقيقته عربة دفع مليئة بالخضار متجهين نحو زقاق حيٍ قريب.

مشهد يومي مألوف في مختلف أنحاء مدينة الموصل وكذلك في البلدات المحيطة بها التي تشكل محافظة نينوى التي يفوق عدد سكانها عن الأربعة ملايين نسمة وسجلت واحدة من أعلى معدلات الفقر في البلاد والتي بلغت 39% بحسب مدير إحصاء نينوى نوفل سليمان.

وبحسب سليمان فأن إحصائيات عامة عن عمالة الأطفال تجرى كل ثلاث إلى أربع سنوات، كان آخرها سنة 2018 بتسجيل نسبة عمالة بين الأطفال للفئة العمرية (5-14 سنة) بلغت 2.8%. وهو يعتقد بأن النسبة في الوقت الراهن قد زادت كثيراً عن ذلك الرقم بسبب ارتباطها بالأوضاع الاقتصادية التي تشهد تدهوراً كبيراً عقب انتشار فيروس كورونا.

داعش وكورونا هما السبب !

ويعزو معاون مدير تربية نينوى خالد شاهين، جزءا من عمالة الأطفال المنتشرة، الى انقطاعهم عن الدراسة التي توقفت لنحو ثلاث سنوات خلال فترة سيطرة تنظيم داعش على الموصل 2014- 2017 “ثم في مرحلة لاحقة كانت هنالك حرب مدمرة وظروف اقتصادية صعبة أرهقت المجتمع وأفرزت ظاهرة عمالة الأطفال وهي أسباب رئيسية لارتفاع معدلات التسرب من المدارس”.

معاون مدير التربية يؤكد بأن إجراءات دائرته بالتعاون مع منظمات دولية، بافتتاح مراكز التعليم المسرع وتعليم اليافعين الذين فاتتهم فرصة التعليم فضلاً عن تشكيل فرق جوالة لمتابعة الطلبة المتسربين كانت ستأتي أُكلها مع عودة نحو 100 آلف طالب إلى مقاعد الدراسة في عموم نينوى “لولا ظهور كورورنا” الذي قطع مجددا الأطفال عن الدراسة وزاد من الصعوبات الاقتصادية نتيجة ندرة فرص العمل.

يقول شاهين: “الجائحة أدت إلى تسرب هائل من مدارس الأطفال ولاسيما في الأحياء الفقيرة”.

تشير آخر إحصائية أجرتها تربية نينوى في سنة 2020 إلى تسرب (19955) طالباً من المدارس، معظمهم من المدارس الإبتدائية. بلغت أعداد الصبية منهم (8512) والفتيات (6983).

وهي بحسب شاهين، أقل وبنحو طفيف من إحصائية التسرب المسجلة في 2006 إذ بلغت الأعداد حينها (22584 ) متسرباً ومتسربة، مع ملاحظة ان البلاد حينها كانت قد خرجت من الحرب وسنوات العقوبات الاقتصادية الطويلة ودخلت في موجة من التفجيرات الارهابية اليومية.

تخطت “جميلة هاشم” عامها الثاني عشر في آب المنصرم، ودخلت سنتها الثالثة في مزاولة عمل الخياطة يوميا لساعات مع والدتها في منزلهم بحي الكرامة في الجانب الأيسر للموصل.

تحاول الفتاة اخفاء حنينها لمقعد الدراسة ولزميلاتها اللواتي تفتقدهن، بتجنب الحديث عن مدرستها التي تركتها مجبرة وراحت تعدد قطع الثياب الصوفية التي تتقن حياكتها والفستان الذي نجحت أخيراً في خياطتها بدون أي مساعدة من والدتها.

هي تعتقد بأنها ستعود لدراستها يوماً ما، مثل اعتقادها بعودة والدها الذي أخذه عناصر داعش من المنزل في سنة 2016، تنظر إلى والدتها المنهمكة بقص قطعة قماش “أمي تقول بأن الخياطة أفضل من الدراسة”.

يشير الباحث كمال نجيب برهان إلى أن ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس في الموصل ليست بجديدة، إذ أنها ظهرت في تسعينيات القرن الماضي بسبب الحصار الدولي الذي كان مفروضاً على العراق وقتها وشاعت حينها ظاهرة عمالة الأطفال.

وأن الأمر طبيعي إلى حد كبير في البلدات والاقضية المحيطة بالموصل مركز محافظة نينوى، بسبب الطبيعية الريفية لتلك المناطق واستعانة أهلها بالأطفال في الرعي وأحيانا الزراعة وجني المحاصيل.

ويستدرك:”لكن في الموصل، الأمر تكرر مع الأزمات الكبيرة التي حدثت، منها التدهور الأمني بين 2004 2014. وسنوات سيطرة داعش على الموصل 2014-2017 ثم حرب التحرير منه والخراب الذي وقع وأخيراً البطالة والفقر المتفشيين في المجتمع بسبب فايروس كورونا”.

تقول الناشطة المدنية هند صالح انها صدمت في بداية فصل الصيف من مشهد “حشر عشرات الأطفال في سيارات حمل في ساعات الفجر الأولى ليقوموا بمهمة جني محصول البطاطا في الحقول الزراعية شمال وشرقي الموصل”.

وتضيف: “اطفال عائلات كاملة بقرى متناثرة يعملون لعدة ساعات في جني المحاصيل مقابل بضعة آلاف من الدنانير .. غالبيتهن كن من البنات الصغيرات في العمر.. للأسف معظمهن تركن الدراسة نهائيا”.

الأحياء الفقيرة وعمالة الأطفال

المهندس الزراعي فائق عبد الوهاب، ذكر بأن نينوى عانت في العقد الأخير من القرن الماضي من مشكلة التصحر، التي كانت تؤدي سنوياً الى زحف رمال بسرعة تراوحت بين 5-10 كيلو متر. وهو ما أدى إلى تدمير المزارع والمراعي الطبيعية وحدوث هجرة من الريف إلى المدينة هي الأكبر نوعها على مر تاريخ المحافظة.

وبحسب المهندس فائق، فإن أحياءً كاملة بعضها عشوائي تشكلت إثر ذلك في الجزء الغربي والجنوبي من الموصل، والبطالة والفقر كانتا السمتين المشتركتين بين الوافدين الجدد للمدينة لأنهم لم يكونوا يتقنون غير الزراعة والرعي.

يوافق غسان مال الله، وهو باحث متخصص في الشأن الاجتماعي ما ذهب إليه المهندس فائق ويذكر بأن الهجرة تلك لم ترافقها إنشاء بنية تحتية تعليمية في المناطق التي استقرت فيها تلك العائلات، ويقول:”ما نشهده اليوم من تدني في الوعي المدني وترييف الموصل بحيث أصبح من الطبيعي مشاهدة قطعان الماشية تجول في شوارع بعض المناطق الى جانب تزايد المشاكل الاجتماعية، والسبب الرئيسي يكمن في عدم تطبع القادمين من الارياف بطباع المدينة، وعمالة الاطفال المرتفعة وظاهرة التسول إنما هما وفي جزء واسع منهما نتاج للجيل الثاني من أولئك المهاجرين للموصل”.

رصدنا خلال بحثنا الذي شمل مناطق عديدة في جانبي مدينة الموصل الأيمن والأيسر، عشرات الأطفال واليافعين المنخرطين في سوق العمل بمختلف قطاعاته وأيضاً ضمن شبكات تسول تتركز في أسواق المدينة وشوارعها الرئيسة كالمجموعة الثقافية وسوقها ودورة المحروق وشارع الأسدي وتقاطع سوق النبي يونس والحي الصناعي في الجانب الأيسر للموصل، وباب جديد وسوق الدواسة وتقاطع شارع بغداد ودورة الرسالة وسوق موصل الجديدة في الجانب الأيمن.

وتتفاوت الأعمال التي يقوم بها الأطفال بين مساندة في المحال التجارية والمطاعم أو الورش الميكانيكية أو حافلات النقل. وأيضاً فردية كباعة الخضار والوقود الجوالين أو جامعي الخردوات وباعة المياه والمناديل الورقية، والتسول في الشوارع.

شعيب حسام الدين (14 سنة) يعمل بأجر يومي لدى عمه في مطعم شعبي بمنطقة كراج الشمال، ليست لديه ذكريات مدرسية لأنه لم يمضي غير أشهر من سنة دراسية ابتدائية واحدة قبل ان يسيطر عناصر داعش على الموصل في حزيران 2014 ويقضي بعدها مع عائلته أربع سنوات كاملة في مخيمات النزوح وعقب عودتهم كان عليهم مواجهة الفقر بجهود كل أفراد الأسرة وهو من بينهم.

” لم يفت الأوان” يسمع هذا العبارة باستمرار من والديه، فبوسعه أن يعود للدراسة ويواصل عمله في الوقت ذاته. “لكن ماذا سيحدث بعد إكمالي للدراسة؟” يجيبهم بسؤال ثم يرد عليه بنفسه “سوف أحصل على شهادة جامعية كالتي حصل عليها عمي الذي أعمل معه الآن في مطعمه!”.


حقوق الطفل بنظر القوانين

 يذكر المتخصص في القانون الدولي بجامعة الموصل د. محمد ناظم أن “القانون الدولي لحقوق الإنسان ضَمن للأطفال التعليم، ومنع في بعض نصوصه عمالة الأطفال وعدم التحاقهم بالمدارس وكذلك فعل الدستور العراقي لعام 2005 الذي ضمن حق التعليم للأطفال وأعتبره من الحقوق الاساسية. ”

وتنص الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي أدرجت ضمن القانون الدولي عام 1989 والتي صادق العراق عليها عام 1994 على الاعتراف بحق الطفل وحمايته من التنكيل والاستغلال، كما وتلزم الاتفاقية الدول الموقعة على توفير حقوق الطفل واحتياجاته وأن تتصرف الدولة بما يتوافق مع مصلحة الطفل المثلى.

ووفقا للدستور العراقي لعام 2005 تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة ويحضر الاستغلال الاقتصادي للأطفال كافة وتتخذ الدولة الإجراءات الكفيلة بحمايتهم وتمنع كافة أشكال العنف والتعسف في الأسرة والمجتمع وتكفل الدولة للفرد والأسرة وخاصة الطفل حياة كريمة.

لكن مدير المفوضية العليا لحقوق الإنسان في محافظة نينوى ياسر ضياء، يرى ان “ملف حقوق الطفل يتقدم ببطء وأن الالتزامات على العراق فيما يتعلق بالأطفال كثيرة والحكومة تحاول تنفيذها، لكن بعد عام 2014 الذي سيطر فيه داعش على ثلث مساحة البلاد بضمنها نينوى، ونتيجة الانهيار الاقتصادي إثر الحرب أُنهِكت ميزانية الدولة، وأصبحت المرافق المعنية بالطفل مهملة كوسائل الترفيه والدور الايوائية، ومنحة التلميذ الدراسية تراجعت”.

المفوضية العليا لحقوق الإنسان والتي بدأت عملها فعليا في العراق عام 2018، اشرت ارتفاعا في معدلات عمالة الأطفال وشيوع ظاهرة انخراطهم في أعمال خطرة لا تتناسب وأعمارهم مع ارتفاع نسبي في التسرب الدراسي واستفحال ظاهرة تسول الاطفال.

غير أن تقريرها الذي أوردت فيه كل ذلك “لم يجد الاهتمام سوى في الأروقة ألإعلامية في حين قطاعات الدولة وأجهزتها المعنية ومجلس النواب بصفته التشريعية، تغافلت عن الأمر كأنه يحدث في بلاد أخرى غير العراق” يقول الناشط المدني صفاء عبد حسين بشيء من الانفعال.

الأسباب الاقتصادية

الفقر المدقع للأسر والوضع الاقتصادي العام الهش من أبرز المسببات التي تدفع الأهالي للزج بأبنائها في سوق العمل بحسب مايرى د. عد إبراهيم التدريسي بقسم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة الموصل.

ويضيف:”بسبب فقدان الكثير من الأسر لمعيلها تلجأ للأطفال كبديل معتمد للعمل فضلاً عن استسهال أصحاب المهن لتشغيل الأطفال مقابل أجور زهيدة إذا ما قورنت بالشباب الأكبر عمراً والذين يطالبون بأجور أعلى”.

والحل برأي د. وعد هو تشديد الرقابة على المناطق التي يعمل فيها الاطفال ومحاسبة من يشغل الاطفال خصوصا في الاعمال الصعبة. فضلاً عن التوعية والمتابعة المجتمعية، والأهم أن توفر الدولة دخلاً يليق بالأسر التي بلا معيل لكي لا تضطر إلى إرسال الاطفال للعمل”.

ويحذر من الآثار المترتبة على ترك تفشي عمالة الاطفال وتسربهم من المدارس دون معالجة، بما فيه إمكانية تعرضهم للانحراف السلوكي نتيجة اختلاطهم بمستويات مختلفة في العمل والشارع وتكوين عصابات الاطفال على سبيل المثال عصابات التسول.

فضلاً عن انعكاس ذلك على الأسر ذاتها لأنها ستحرم هؤلاء الأطفال من حياتهم الطبيعية “فمكان الطفل هو بين الاسرة والمدرسة وليس مواقع العمل”.

شيماء فاضل (32 عاماً) يعمل اثنين من أبنائها، الأول اسمه سعد وهو في الحادية عشرة من عمره ويعمل في مقهى شعبي بحي الفاروق في الجانب الأيمن لمدينة الموصل، والثاني اسمه سيف وهو في الثالثة عشرة من عمره ويعمل في متجر للمواد الغذائية وسط المدينة.

تقول بحسرة “يعزُ علي ارسالهما للعمل، وأشعر بقلق دائم عليهما فهما ما زالا طفلين لكنني مجبرة، فبعد وفاة والدهما لم يعد لدينا مصدر رزق سوى ما يجنيانه على الرغم من قلته”.

شيما حصلت على وعد من قريب لها بان يسهل لها حصولها على راتب من دائرة الرعاية الاجتماعية “لو حدث ذلك، سأقنع واحداً منهما بالذهاب الى المدرسة، فالراتب المحدد لا يسد نصف احتياجاتنا الأساسية”.

ولا تقر جمعية التحرير للتنمية التي تنشط في الموصل ضد عمالة الأطفال، بمسؤولية الأوضاع الاقتصادية وحدها إزاء تشغيل الاطفال. وقال مديرها وليد الطائي بأن أشخاصا يمتهنون التسول، جندوا أطفالهم وزجوا بهم في الشوارع والأسواق ليتسولوا كمهنة وليس كحاجة مؤقتة بسبب ظرف اقتصادي تمر به الأسرة.

ودعا الطائي إلى وضع مراقبين مرتبطين بالشرطة المحلية لرصد شبكات التسول التي تنتشر في الموصل وحذرت من استمرار الأمر لما يحمله من مخاطر على المديين القصير والطويل.

الرائد في الشرطة المجتمعية زياد صلاح يؤكد ذات الأمر، ويقول: “رصدنا قبل فترة أطفالاً يعملون في احدى التقاطعات وبعد التحقيق معهم تبين أن شقيقهم الكبير هو من يقوم بتشغيلهم”.

ويضيف: “نحن لا نملك سلطة محاسبتهم، وتتمثل إجراءاتنا بتوجيه وإرشاد الأشخاص أو جعلهم يتعهدون بعدم تكرار التسول لا غير”.

ويشير إلى أن بعض الآباء وأولياء الأمور اتخذوا الأطفال موردا اقتصادياً، ويستدل على ذلك من خلال عرض تقدم به للعديد ممن حقق معهم بتسجيلهم في دائرة الرعاية الاجتماعية ليستلموا راتباً شهرياً منها بدلاً من التسول هم وأطفالهم، كان الرد يأتي بالرفض في العادة وعدد منهم قال صراحة “لا نريد راتب الرعاية نحن سوية نجمع من الشارع في اليوم الواحد ما يعادل هذا الراتب”.

وبموجب تشريع أقر في نيسان 2021 فقد بلغ ما تتقاضه الأسرة العراقية المستفيدة من راتب الحماية الاجتماعية والمكونة من أربعة اشخاص أو أكثر، مبلغ 275 الفاً (188 دولار) يزداد المبلغ بمقدار 100 الف دينار(68 دولار) بالنسبة للعائلات التي تديرها امرأة.

جهود غير حكومية

جمعية التحرير للتنمية تعاونت مع مديرية التربية والشرطة المجتمعية وغيرها من الجهات ذات الصلة من خلال دعم الاطفال الذي يعملون نفسيا واجتماعيا وتشكيل فريق في كل من جانبي المدينة لرصد الحالات ومحاولة إيجاد الحلول لها.

يقول مدير الجمعية لؤي الطائي: “وثقنا خلال ستة أشهر أكثر من ألف حالة في الموصل، أطفال يعملون في مهن مختلفة، معظمهم صبية”.

ويتابع: “قطعاً هي ليست كل الحالات الموجودة في المدينة لأن العدد أكبر بكثير من ذلك”.

ويحدد الطائي أكثر الأحياء التي تشهد عمالة أطفال في الموصل “الانتصار، الاربجية، الهرمات، اليابسات والآبار”.

وينوه إلى أنه توصل خلال احتكاكه بالحالات المرصودة إلى أن بعضاً من أولياء الأمور يرسلون أبناءهم للعمل بدافع تعليمهم مهناً معينة بسن مبكرة أو لإبعادهم عن المنزل لكي لا يثيروا المشاكل فيه وفقاً لما قالوه وهو يرى بأن “قلة الوعي هو ما يجعلهم يفكرون بذلك النحو”.

ثيابٌ متسخة بالزيوت وملامح جادة توحي بالبلوغ وصوت يحاول قدر استطاعته أن يجعله غليظاً، هكذا  يبدو مصطفى زهير (13 عام) الذي يعمل بأجر أسبوعي في ورشة لسمكرة السيارات في المنطقة الصناعية بالجانب الايمن لمدينة الموصل والتي تسمى شعبياً (صناعة وادي عكَاب).

زملاؤه في العمل وغالبيتهم شبان ورجال في منتصف العمر، يقولون بأنه كان طفلاً ناعماً مبتسماً على الدوام عندما جلبه والده ليعمل في الورشة بصفة منظف قبل أكثر من سنة، لكنه تغير بسرعة كبيرة وهو يحاول تقليد الكبار حوله، لدرجة أنهم ينسون في بعض الأحيان انه مجرد طفل، ويوكلون إليه انجاز أعمال ليست سهلة حتى بالنسبة للبالغين كتفكيك اطارات بعض السيارات.

“ليس هذا فقط” يقول أحدهم مختنقاً من الضحك: “هو يتحدث عن كرة القدم ويفهم في شؤون السياسة والنساء والعقارات وأنواع ومواصفات السيارات وطرق اللحام”.

قاطعه زميل آخر “أصبح يردد ما نقوله نحن، إنه نسخة منا جميعاً!”.

إلتقط مصطفى متفاخراً سيكارة نوع (كلواز) كانت محشورة خلف أذنهِ اليسرى وقذفها بسرعة وخفة في فمه ثم أشعلها واستند بظهره على عمود رافعة محركات. قال بعد أن مج السيكارة وأخرج الدخان من منخريه: “الحياة صعبة وقاسية وإن لم تكن قوياً ستسكر!”.

أنجز التقرير بدعم من مؤسسة نيريج للصحافة الاستقصائية

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":19349}" data-page="1" data-max-pages="1">