قصص: باعوا أصواتهم الانتخابية … أرامل ومرضى ومعوزون: لم يكن أمامنا بديل!

باعوا أصواتهم الانتخابية … أرامل ومرضى ومعوزون: لم يكن أمامنا بديل!

حوران جلال:

لم تستطع ألحان صلاح (33 عاما) وهي أرملة وأم لخمسة أطفال صغار لا يملكون سقفاً يأويهم، مقاومة العرض المالي البسيط الذي قدم اليها مقابل بطاقتها الانتخابية، فحاجتها الماسة لشراء خيمة تضم عائلتها دفعتها للتخلي عن صوتها الانتخابي مثل ناخبين آخرين.

العائلة التي تقيم في مدينة الشرقاط بمحافظة صلاح الدين واحدة من ضحايا تنظيم داعش الذي سيطر على مناطق واسعة شمال وغربي العراق في صيف 2014، ومارس سياسات تصفية كل خصومه وبينهم زوج “الحان” الذي اعتقله التنظيم بتهمة مناهضة الدولة الاسلامية ليختفي أثره لنحو عامين قبل ان تتلقى قصاصة ورقية نهاية العام ٢٠١٦ تبلغها باعدام زوجها نحراً.

بعد الفاجعة، خرجت الزوجة مع اطفالها من قضاء الشرقاط متوجهة إلى مدينة تكريت، وقضت هناك عشرة أشهر في مدرسة قيد التنفيذ اتخذت من احد صفوفها منزلاً في ظل غياب أي معيل للأسرة التي اعتمدت في معيشتها على حصص الإغاثة التي تحصل عليها من المنظمات الإنسانية.

تقول السيدة الثلاثينية وهي تحاول اخفاء وجهها الذي احرقته حرارة الشمس: “كنا نعد الأيام حتى تكتمل عمليات تحرير الشرقاط ونعود الى بيتنا.. كنا نحلم بأن يلمنا مجددا ويخفف حاجتنا، لكننا تلقينا خبر تفجيره من قبل عناصر داعش قبل رحيلهم.. لم نصدق ما نسمعه، كان بالنسبة لنا أمراً كارثياً”.

في انتظار حقوقه

طوال عامين ظلت السيدة تراجع بين فترة وأخرى دائرة ضحايا الإرهاب لترويج معاملة حقوق زوجها الذي قتله التنظيم، لكن أحلامها بالحصول على راتب تبددت فلا جثة لزوجها تثبت مقتله، فهو في نظر القانون “مفقود” خاصة ان أربعة أعوام لم تنقضي بعد على غيابه منذ تاريخ إعلامها بخبر موته حسب القانون العراقي.

تضيف السيدة التي عادت مع أطفالها بعد عمليات التحرير الى مدينتها:”حتى بعد سماعي بتدمير المنزل، كنت آمل أن أجد فيه أربعة جدران سليمة، لكني وجدته حطاماً، فكمية المتفجرات كانت أقوى من صمود أي سقف وجدار” .

تتابع السيدة التي لم تجد أي عمل يناسبها لإعالة عائلتها، فاضطرت للعمل أحيانا في خدمة بعض العوائل التي تعرفها:”سكنا بعد عودتنا ولنحو ثلاث سنوات في بيت متروك لأحد الأقارب الذي كان قد غادر الشرقاط، لكنهم قبل شهرين طلبوا منا إخلاءه لغرض الترميم والعوده إليه.. ماذا يمكننا أن نفعل لم أجد حلاً فقررت شراء خيمة ونصبها بين أنقاض البيت…هناك زاوية تكفي لنصب خيمة صغيرة تأوينا”.

بينما كانت تفكر ألحان في طريقة لتأمين مبلغ الخيمة الذي يبلغ 80 الف دينار، دون أن تضطر لمد يدها لأحد، وفي وقت بدأ أطفالها بالالتحاق بمدارسهم، كانت الحملات الدعائية للانتخابات البرلمانية قد بدأت وانتشرت لوحات المرشحين الكبيرة في كل مكان، واحتدمت المنافسة بين الراغبين بدخول البرلمان بأي ثمن، وسط انتشار أخبار شراء البطاقات الانتخابية.

“سمعت عن أناس يدفعون مبالغ مقابل التصويت لصالحهم، وسمعت بأن البعض يشتري البطاقات الانتخابية وبضمان استرجاعها بعد انتهاء الاقتراع مقابل ٥٠ الف للبطاقة الواحدة.. لا أعرف لماذا يريدونها خاصة اني سألت احد المعارف وقال لي ان أحدا لا يستطيع التصويت بها غيري” تقول الحان مبدية استغرابها، وتكمل “مهما يكن السبب والفائدة منها قررت بيعها”.

وجرت انتخابات البرلمان العراقي في 10 تشرين الاول اكتوبر وقبل نحو عام من موعدها، وجاءت نتيجة الضغط الذي احدثته الحركة الاحتجاجية التي شهدتها مناطق وسط وجنوب البلاد في تشرين الاول اكتوبر 2019 للمطالبة بالاصلاح وانهاء الفساد.

وكانت الاحتجاجات استمرت لنحو عام وقادها شباب من الشرائح الفقيرة والمتوسطة للمطالبة بتحقيق العدالة، لكن السلطات واجهت المتظاهرين بأقصى درجات العنف وقتلت نحو 600 شخص لتتطور المطالب الى اجراء انتخابات مبكرة ونزيهة لتغيير الطبقة السياسية.

وتنافس في الانتخابات 3250 مرشحا على أصوات أكثر من 25 مليون مواطن عراقي يحق لهم التصويت لاختيار 329 نائبا، لكن المشاركة كانت محدودة فقد اقترع نحو تسعة ملايين فقط، وهذا الرقم يعادل نحو 34% ممن يحق لهم التصويت فقط.

لم أكن الوحيدة

بعد يومين من التحري عن الأشخاص الذين يشترون البطاقات والسماسرة العاملين في هذا المجال، وصلت “ألحان” الى شخص يدعى “سيد علي” عرض عليها ٥٠ الف دينار مقابل بطاقتها مع ضمان استرجاعها بعد الانتخابات.

تقول ألحان انها لم تكن الوحيدة التي باعت بطاقتها، كان هناك آخرون يعرضون أصواتهم على “سيد علي” أو بطاقاتهم مع بطاقات عوائلهم، وذلك شجعها على ذلك مدفوعة بحاجتها.

رغم ذلك لم يكن القرار سهلا عليها تقول “أحسست بألم كبير.. شرحت له ظروفي وقلت له أعطني ثمن الخيمة مقابل بطاقتي، وعليك ان تعيدها الي بعد الانتخابات بيوم واحد، فوافق وحصلت على المبلغ فوراً وبقيت أكرر وأنا قلقة: سأعود واستعيدها بعد الانتخابات”.

حققت “ألحان” أمنيتها بشراء خيمة مستعملة تسع عائلتها، ونصبتها مع أطفالها في ذات اليوم بالزاوية الوحيدة التي خلت من انقاض منزلها، وحطت رحالها هناك ومدت في المساحة التي لا تتعدى ستة أمتار مربعة أفرشة الجلوس والمنام ووزعت كل ما تملكه من مستلزمات منزلية وأثاث مطبخي بسيط”.

الحاجة التي أجبرت ألحان على التخلي عن بطاقتها الانتخابية، ذاتها التي دفعت سالم حسن علوان، الى بيع بطاقته، فالشاب الذي لم يبلغ الثلاثين من عمره هو طالب دراسات عليا على النفقة الخاصة، يعمل طوال أشهر الصيف لتأمين أجور دراسته ومصاريفه الشخصية.

يقول علوان :”عرفت بموضوع بيع البطاقات الانتخابية من خلال أحد الزملاء الذي سبقني ببيع بطاقته، المبلغ ليس كبيرا لكنه يؤمن لي اجور السفر والنقل لشهرين”.

لا يخفي طالب الدراسات العليا عدم شرعية ما أقدم عليه ويعرف ماذا يعني ان يبيع صوته، وما تشكله تلك الخطوة قانونيا، لكنه برر ذلك بعد أن “شكك بنزاهة الانتخابات وجدواها” بالقول: “أنا في حاجة الى المال، ولم يكن بمقدوري اصلا الذهاب للانتخابات لأني اعمل في مجمع سكني بمدينة تكريت بعيدا عن المنطقة التي اقيم فيها والتي يجب أن أصوت فيها”.

500 الف مقابل اصوات العائلة

تكرر الأمر ذاته مع عائلة نداء داوود، التي واجهت حالة طارئة أجبرتها على بيع بطاقات كل افراد العائلة محدودة الدخل، مقابل 500 ألف دينار.

تقول:”أصيب شقيقي بفشل كلوي قبل فترة، وبعد مراجعة الطبيب المختص تأكدنا ان العلاج الوحيد يكمن في إجراء عملية جراحية تكلف اكثر من عشرة ملايين دينار، منذ اسابيع ونحن نجمع المبلغ من بعض الأقارب والخيرين لكنه لم يكتمل، وقبل أيام عرض علينا أحد الأشخاص شراء البطاقات الانتخابية للعائلة فوافقنا دون تردد”ز

لا تعرف نداء بشكل محدد ماذا سيفعل ببطاقاتهم من يعرضون شراءها. تقول “لم استفسر عن الأمر لسنا في وضع يجعلنا نفكر بالانتخابات، لكن يفترض ان يتمكنوا من التصويت من خلالها، لا أعرف اذا كان ذلك ممكنا أم لا، لكن أكيد هم لا يشترونها دون أن يستفيدوا منها.. بالنسبة لنا المهم ان نحصل على المال ونستعيد بطاقتنا دون مشكلة لاحقا”.

وافقت عائلة نداء على صفقة بيع جميع بطاقات أسرتها البالغ عددها ثمانية افراد مقابل ٥٠٠ ألف دينار.

بدورها باعت سميرة عبد السلام وهي أم لثلاثة اطفال، بطاقات عائلتها، فزوجها من ذوي الاحتياجات الخاصة ولا يستطيع العمل وهو في حاجة الى رعاية مستمرة في وقت لا تملك العائلة منزلاً خاصة بها فقررت استئجار مخزن صغير وترميمه واتخاذه مسكناً.

وجدت العائلة في رغبة بعض المرشحين للانتخابات التشريعية بشراء بطاقاتهم الانتخابية فرصة للحصول على مبلغ الترميم. تقول “بحثت عن مشتري للبطاقات ووصلت لأحدهم يدعى علاء، ودفع لنا مبلغ الترميم وإيجار المكان لمدة شهرين مقابل بطاقاتنا ودعوة من نعرفهم للتصويت لمرشحه”.

لماذا يشترون البطاقات؟

نفت مفوضية الانتخابات عدة مرات وعلى لسان أكثر من عضو فيها، امكانية الاستفادة من البطاقات التي يشتريها بعض المرشحين، مؤكدة انها تتابع الموضوع لمحاسبة من يقومون بذلك، واعلنت فعليا عن استبعاد بعض المرشحين لمخالفات تتعلق بذلك.

وأوضحت المفوضية ان عملية التصويت تتطلب من الشخص المصوت ان يكون اسمه موجودا في سجلات المركز الانتخابي وان يحمل الى جانب بطاقة الناخب هوية اخرى، مشيرة الى ان الاجهزة المستخدمة للتصويت تتطلب بصمة ابهام الناخب وبالتالي يتم كشف البصمات التي لا تتطابق مع هويات حاملي البطاقات ليصبح التصويت لاغياً عند عدم التطابق.

مع تأكيدات المفوضية باستحالة الاستفادة من بطاقات الناخبين لغير حامليها، ظل الناخبون يتساءلون عن سر شراء البطاقات الانتخابية، لفهم السبب وبصفة ناخبين يريدون بيع بطاقاتهم اتصلنا بـ”علاء” الذي باعت “سميرة عبد السلام” بطاقات عائلتها له.

بعد حديث تمهيدي عن سعر البطاقة وموعد اعادتها، رفض علاء اعطاء اي تفاصيل عن سبب شرائه للبطاقات ولصالح من، بعد أن ساوره الشك من أسئلتنا. لكن صاحب محل تجاري صغير قرب منزله كشف السر وقال ان جاره يعمل لصالح كتلة معينة وزنها الشعبي ضعيف في المنطقة لذا قاموا بجمع بطاقات الناخبين مقابل المال بهدف ضرب رصيد الجهات المنافسة لها.

ألحان تسترجع بطاقتها

في الأيام التي أعقبت نصب خيمتها وسط انقاض منزلها لم تستطع ألحان التمتع بتحقيق حلمها البسيط، طوال ساعات النهار ظلت منهمكة بترتيب الخيمة وسد الأماكن الممزقة فيها خاصة أطرافها السفلية التي دعمتها بالطابوق، فيما ظلت في ساعات الليل تحرس أطفالها من احتمال تسلل الحشرات إلى داخل الخيمة.

في صباح اليوم التالي للاقتراع، اتصلت ألحان هاتفياً بالشخص الذي باعت بطاقتها له بهدف استرجاعها، لكنه لم يجب على هاتفه، فتوجهت إلى منزله وهي في حالة قلق من فقدان بطاقتها التي تستخدم في بعض المعاملات الرسمية.

تقول “لم أجده هناك، خرج أحد الأطفال يحمل صندوق كارتوني فيه العشرات من البطاقات قال ابحثي عنها واستخرجيها.. وجدتها ورجعت وأنا أمسك بها بقوة وكأني حصلت على شيء ثمين”.

تضيف ألحان :”في الطريق وجدت الكثير من النساء أصابعهن ملونة بحبر الاقتراع، شعرت اني اختلف عنهم وكأنني بلا صوت ولاوجود.. لا استطيع ان اقول انني نادمة فالخيمة هي التي تحمي عائلتي اليوم، لكن كلمات جارتي وهي تتحدث عن ذهابها للتصويت واختيارها لمرشح تثق به أحرجتني، لم استطع قول شيء بقيت صامتة”.

رغم نبرة الحزن في صوتها، وهي تنظر الى خيمتها، بدت ألحان راضية على ما قمت به، وهي تدعونا لدخول المنزل :”سوف نعتاد على الأصوات التي تولدها التيارات الهوائية عندما تضرب الخيمة بقوة، وسوف نعتاد على برنامج الاستحمام الاسبوعي من خلال إفراغ الخيمة من محتواها واستغلالها كحمام بلا خصوصية”.

تسكت للحظات ثم تردف وهي لا تكاد تنسى انها تخلت عن صوتها:”على الأقل صار لدينا منزل.. وفي المرة القادمة سأصوت.. سأبحث عن مرشح يَعدُ باسترجاع حقوق زوجي، لكي أعيد بناء البيت وأضمن حياة كريمة لأطفالي”.

 

  • أنجز التقرير ضمن برنامج تدريب حول تغطية الانتخابات العراقية نظمته “أوان” awanmedia.net وبدعم من منظمة “دعم الإعلام الدولي” International Media Support

المزيد عن قصص

Stories

قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":19295}" data-page="1" data-max-pages="1">