تقارير سردیة: نساء العراق في شراك التحرش والاستغلال والتشهير .. في ظل قوانين لا تحميهن وقيم تقيدهن

نساء العراق في شراك التحرش والاستغلال والتشهير .. في ظل قوانين لا تحميهن وقيم تقيدهن

استطلاع: نحو نصف نساء العراق العاملات تعرضن للتحرش

علي اياد – مروة قصي:

شَبكَت أصابع يديها محاولة التخلص من التوتر قبل مقابلة عمل هي الثانية لها في غضون شهر، فقد انتهت الأولى بشكل سيء. شعرت بموجة حر تسري في جسدها وبالعرق يتصببان على وجنتيها رغم ان جهاز التبريد كان ينشر نسماته في صالة الاستقبال.

بعد دقائق من الانتظار دخلت سوسن (30 عاما) الى مكتب المدير الذي نهض من كرسيه مرحبا واتجه اليها طالبا منها الجلوس على أريكة تتوسط المكتب ثم جلس الى جانبها قبل ان يفاجئها قائلا ودون مقدمات: “سمعت انك داعشية.. لا تقلقي سأقف الى جانبك وساساعدك لتعيشي حياة مرفهة وتكوني صاحبة بيت وسيارة”.

قبل ان تخرج سوسن من صدمة التهمة التي وجهت اليها بالانتماء لتنظيم ارهابي، وهي مجرد أرملة رجل بسيط من عائلة موصلية لم ينتمي اي فرد منها لداعش أو لأي تنظيم أو حزب، كان المدير قد اقترب منها ووضع يده على فخذها.

هول الصدمة الثانية كان أكبر، فصرخت في وجهه وهي تنهض مهرولة نحو الباب “يا عديم الأخلاق.. جئت هنا لأعمل .. هل هذا مكتب مؤسسة اعلامية أم وكر” قبل ان تغلقه بكل قوة قاطعة صالة الانتظار بسرعة وهي تكاد تختنق بعبراتها.

سوسن لم تبلغ على واقعة التحرش تلك، كون المتحرش بها ذو شأن ولأنها لا تملك دليلا على الواقعة وفي ظل قانون “عاجز” يعود الى ما قبل نصف قرن يفرض وجود شهود على واقعة التحرش.

كما انها تخشى التشهير بها اجتماعيا او تلفيق تهمة لها. تقول “لدي طفلتان يتيمتا الأب اريد تربيتهما بأمان، لا يمكنني خوض صراع قد ينتهي باتهامي وبأن تعيش ابنتاي بدون أم ايضا”.

هذه الواقعة تواجه نسبة كبيرة من النساء المتقدمات للعمل، أو العاملات في شركات تجارية ومكاتب قنوات اعلامية ومنظمات مدنية، في وقت يؤكد استطلاع نشره مركز البيان للدراسات والتخطيط ان نحو 70% من العاملات في القطاع الخاص تعرضن لأحد أشكال التحرش الجنسي.

ويُعرف قانون العمل العراقي رقم (37) لسنة (2015) التحرش الجنسي بأنه: “أي سلوك جسدي أو شفهي ذي طبيعة جنسية، أو أي سلوك آخر يستند إلى الجنس، ويمسّ كرامة النساء والرجال، ويكون غير مرغوب وغير معقول، ومهيناً لمن يتلقاه؛ ويؤدي إلى رفض أي شخص أو عدم خضوعه لهذا السلوك -صراحةً أو ضمناً-؛ لاتخاذ قرار يؤثر على وظيفته”.

 

نزوح وتحرش

في غرفة كرافانية مخصصة لمنظمة تعمل في مخيم للنازحين بدهوك، استدعيت شمس (23 عاما) من قبل مديرها في العمل، وما ان دخلت حتى نهض من كرسيه وسارع لاغلاق الباب خلفه، ما أثار فزعها وجعل كل جسمها يرتعش.

قال وهو يقترب منها “سأعرض عليك أمرا اذا قبلتيه ستساعدي ذويك كثيرا وتخرجيهم من المخيم.. اريدك ان تكوني صديقتي واعطيك كل شي” قبل ان يلمس بيده كتفها ويحاول تقبيلها من رقبتها، فيما حاولت تجبنه بحركة سريعة تمزق معها جزء من قميصها ومعها بدأت بالصراخ. لحظتها طرق الحارس الباب بعنف من الخارج وتمكن من فتحه لتخرج مهرولة.

بعد يومين من الحادثة كانت ادارة المنظمة وعلى اثر شكوى من شمس قد قررت فصل (المدير) عقب مجلس تحقيقي أثبت قيامه بالتحرش بالعديد من الفتيات.

شكوى شمس اوقفت مديرها، لكن في ظل الخوف من الوصمة الاجتماعية تبقى مئات حالات التحرش طي الكتمان، وتخسر آلاف النساء فرص عمل مناسبة لامكاناتهن او أوضاعهن ولا يفكرن بمعاودة اي عمل جديد، في ظل غياب الرقابة والمحاسبة داخل المؤسسات التي تقع فيها حالات التحرش وضعف القانون الذي يحمي المتعرضات للتحرش.

الأرامل “لقمة سائغة”

بعد اسبوعين على حادثة التحرش، كانت سوسن تقف قبالة شباك شقتها المطل على الشارع غارقة في التفكير بكيفية تدبر ايجار شقتها للشهر الماضي ومعيشة طفلتيها، حين رن الهاتف، حتى قبل أن تنظر الى الشاشة أدركت ان المتصل هي زوجة صاحب الشقة.

توسلت سوسن بها التريث عدة أيام اخرى، فهي لا تملك من المال حتى ما يكفي لاطعام ابنتيها.

بعد حديث قصير طالبتها السيدة المتصلة باخلاء الشقة اذا لم تدفع لها المال عاجلا، ليرتفع صوت سوسن وقد اخذتها موجة هستيريا: “ارحميني كل مقابلاتي للعمل فشلت فهم يريدون جسدي”. ثم أقفلت الهاتف وأجهشت بالبكاء وهي تنظر لصورة ابنتيها المعلقتين على الجدار وتردد “ماذا افعل يا ربي.. هل انتحر حتى أخلص من هذه الحياة”.

تجبر مئات النساء على القبول بأي عمل، حتى لو كانت في بيئات غير مناسبة او مهينة. سوسن المعيلة الوحيدة لطفلتيها والتي عجزت عائلتها الفقيرة عن مساعدتها بعد أن تركها زوجها الراحل دون راتب تقاعدي كونه كان عاملا في القطاع الخاص، مستعدة لأي عمل يحفظ عائلتها ونفسها حتى لو كان قاسيا او مهينا، فيما يراها مدراء العمل “لقمة سائغة لاشباع نزواتهم” على حد قولها.

تتكرر قصص التحرش بالمتقدمات للعمل في القطاع الخاص، فباتت الفتيات يفكرن الف مرة قبل التقدم للعمل في اي منشأة خاصة، ولا يعملن هناك الا اذا كن مضطرات، حتى لو كان صاحب العمل ملتزماً بسلوكه ويمنع اي محاولات تحرش، فالنظرة العامة للمجتمع أصبحت ترى في كل منشأة خاصة بمثابة مصيدة للفتيات.

تقول اسراء (27 عاما) التي تعمل في متجر لبيع الملابس النسائية، انها تعرضت لتحرش جسدي خلال تقدمها للعمل في احدى المولات التجارية بالموصل “اثناء المقابلة استفسر المسؤول عن وضعي الاجتماعي وبعد ان عرف اني ارملة، سألني وبدون تردد عن رأيي باقامة علاقة جنسية، “لم أجد جوابا.. رميت ما كان على الطاولة بوجهه وهربت”.

تضيف اسراء “أنا أعمل هنا منذ أشهر، ولم اواجه مشكلة، نعم الراتب أقل لكن لم يجرؤ احد على التحرش بي، وصاحب العمل يعاملنا باحترام كبير”.

ترى ناشطات مدنيات وباحثات اجتماعيات، ان اصحاب العمل يفضلن التحرش بالأرامل، فتقدم أرملة للعمل يعني انها مضطرة، ويعني ان اسرتها تخلت عن مساعدتها ولم تعد تكترث بوضعها، وكونها متزوجة يعني ان اي اعتداء او علاقة جنسية معها حتى ولو بالاكراه لن يترتب عليه ما يترتب على التعرض لفتاة باكر.

 

قانون شرع قبل نصف قرن

رصد فريق اعداد التقرير، وخلال بحث امتد لاسبوع واحد فقط، وبعد أسئلة وجهت مباشرة لمتقدمات للعمل وبالتواصل مع منظمات تعمل في مجال حقوق النساء، تعرض ستة نساء للمساومة أو أحد انواع التحرش من قبل مدرائهم قبل ان يباشرن العمل او في أيامه الأولى من اصل 15 امرأة تم التواصل معهن.

بحسب مختصين فان القانون العراقي، عاجز عن مواجهة مشكلة التحرش فالمواد الخاصة به (400,401,402) تعود الى العام 1969 والتي جاءت تحت عنوان الجرائم المخلة بالآداب، ولم يتم تعديلها منذ ذلك الوقت.

يرى المحامي سيف علي، ان البنود القانونية الحالية صدرت قبل نصف قرن “ولم تعد مجدية في حماية الفتيات، ويصعب معها اثبات التحرش ان لم نقل يستحيل ذلك وبالتالي ايقاع العقوبة بالمتحرشين، وحتى اذا ثبت التحرش سيغرم المتحرش بمبلغ مالي أو يحبس مدة لا تزيد عن سنة واحدة”.

وينص الاثبات بحسب علي “وجود شاهدين اثنين على واقعة التحرش”، ويتساءل “هل هذا معقول؟”.

يتفق مع ذلك الرأي المحامي محمد جمعة، قائلا: “حوادث التحرش من المستحيل ان تحصل في مكان عام فيه شهود، وغالبا ما تحصل هذه الجريمة في الخفاء وفي غرف موصدة ومن قبل متنفذين.. كما ان المحاكم لا تقبل بأي اثبات مرتبط بمحادثات او تسجيلات صوتية”.

ذلك القانون هو ما يمنع رفع شكاوى ضد المتحرشين، كما ان المتعرضات للتحرش يخشين البوح بما تعرضن له بسبب “الوصمة الاجتماعية”، وهو ما دفعهن ايضا الى الطلب من فريق التحقيق تغيير اسمائهن الحقيقية “خشية من الفضيحة”.

لكن الناشطة النسوية وعضو اتحاد نقابات عمال العراق منال جبر، ترى ان أغلب الفتيات “لا يلجأن الى القانون لأنهن لا يعرفن بحقوقهن” ولا يحاولن تغيير الواقع ويسكتن عن ما يتعرضن له. وتتساءل: كيف يمكن تعديل القوانين “اذا سكت الجميع ولم نقم بعمليات ضغط واسعة مؤثرة؟”.

نتيجة ذلك تبحث معظم العائلات عن أي فرص لتوظيف بناتهن في القطاع العام، حيث حالات الاستغلال أقل، حتى لو كانت تلك الأعمال لا تناسب مؤهلات بناتهن ولا ترضي طموحهن.لكن فرص العمل تلك باتت ومنذ سنوات شبه معدومة.

التهديد بالتشهير

مع حلول المساء، كانت أنغام (25 عاما) منشغلة بترتيب مكتب التصوير الذي تعمل فيه، وحمل حاجياتها، استعدادا لإغلاقه، حين تفاجأت بصاحب المكتب يقفل بابه من الداخل ويتوجه اليها وهو يقول “أخيرا صدتج”.

في ظل صدمة شلت قدرتها على الحراك توسلت به أن لا يمسها بعد أن حصرها في خلفية المكتب المظلمة وبدأ بتلمس جسدها وهي في حالة انهيار.

تقول “حاولت الافلات، لكنه كان اقوى مني، أمسكني بيديه وضغط على جسدي بقدميه ثم بدأ بنزع ثيابي، وكلما قاومت بمحاولة رفسه كان يشد بقبضتيه على جسمي .. لم تفد كل توسلاتي اليه، فقد انقظ عليَ كحيوان وجد فريسة ضعيفة”.

خضعت أنغام مرغمة أمام قوته، ولاحقا قام بايصالها الى المنزل وهي منهارة لا تعرف ما تفعل او تقول، وحريصة في ذات الوقت أن لا يعرف احد بما وقع لها، فهذا يجلب العار لكل اسرتها وحتى لطفلها الصغير مستقبلا.

تضيف أنغام “لم استطع النوم تلك الليلة، وفي الصباح اتصلت به وأسمعته سيلا من الشتائم قبل ان أبلغه بترك العمل.. هو اكتفى بوصفي بالعاهرة.. لكنه لم يتوقف عند ذلك بل قام بالحديث عني بسوء لجميع المكاتب القريبة، كان يقول لهم اني بنت شارع”.

منذ ذلك اليوم، لم تجد عملا آخر تعيل به نفسها وطفلها الذي تركه لها طليقها. وهي تخشى ان يسمع بقصتها زوجها السابق فتجبر على التنازل عن أبنها له، تقول “سأتحمل كل شيء لكي لا اخسر طفلي”.

بين الخمسة عشرة فتاة اللواتي أكدن تعرضهن للتحرش أثناء تقدمهن للعمل، تعرضت اربع منهن لحالات تشويه سمعة بعد رفضهن ومقاومتهن لفعل التحرش.

 

فعل استباقي

تُرجع مستشارة الصحة النفسية والأسرة رؤئ احمد، قيام الرجل بالتشهير بضحاياه الى سببين “الأول حبه للتملك والتسلط، والثاني خوفه على سمعته بين الرجال الآخرين فيقوم باستباق ذلك بتشويه سمعة الفتيات”.

وأطلقت منظمة حقوق المرأة العراقية في 2017 وسم (#لا_تسكتين) عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتلقت المنظمة مئات قصص العنف ضد النساء، بحسب عاملين في المنظمة.

تقول عضو المنظمة ريام كريم انها وحدها تلقت اكثر من 36 حالة في حين هناك زميلات لها استقبلن اضعاف ذلك الرقم بعد ايام من انطلاق الحملة.

وتلفت ريام الى ان “معظم النساء اللواتي تواصلن معهن طلبن عدم اثارة قضاياهن في الاعلام بسبب خوفهن من المساءلة العشائرية والخشية من النبذ الاجتماعي”.

تأخذ نفسا عميقا ثم تضيف “اذا عرف المجتمع بموضوع تحرشها سيقوم بجلدها ووضع اللوم عليها فلا أحد يسند هؤلاء في مجتمع ذكوري لا يرحم، والمتحرش يعرف هذا، بل يواصل تحرشه باتهامه للضحية”.

وتتعرض المتعرضات للتحرش لأشكال أخرى من الظلم، اضافة الى اضطرارهن لترك العمل او خسارة فرص تعيين هن في حاجة اليها، فبعضهن يتعرضن للاتهام بالسرقة أو المرض النفسي والجنون أو أن أزواجهن دواعش.

تؤكد ذلك الأمر سوسن: “عندما قال عني اني زوجة داعشي انتابني الخوف، أردت فقط ان ينساني، ولم افكر برفع دعوى لأنه ربما سيقلبها ضدي، هو يملك علاقات يستطيع معها ايذائي بشدة”.

ويعد المحامي محمد جمعة، ما يحصل من قبل بعض المتحرشين بأنه جريمة اخرى لكن كيف يمكن للضحية اثبات ذلك، ويقول “القذف بدون دليل جريمة عقوبتها السجن ودفع تعويض، لكن بشرط وجود شاهدين على واقعة القذف او التشهير”. وهذا صعب وحتى ان وجد شهود فعادة ما يكونون من العاملين مع المسؤول ولا يستطعيون مواجهته.

الملجأ الوحيد

في مساء يوم شتوي ماطر، كانت احلام (27 عاما) تعمل في مكتب استنساخ بشارع تجاري شهير في الموصل بدأت أبواب محاله تغلق ويكاد يخلو من المارة، حين دخل صاحب المكتب بشكل سريع وأغلق الباب الخارجي.

قبلها بدقائق كانت احلام قد ارسلت لوالدها رسالة نصية ليأتي لأخذها. بدأ صاحب المكتب بالحديث عن البرد وعن دفئ الأحضان، ومع كل جملة كان يقترب منها وهي تحاول تجاهله دون اثارته وحين حاول لمسها جاء طرق قوي على الباب.

سريعا خرج صاحب المكتب ليتفاجأ بوالد احلام وقد بدا عليه الغضب، فسبقه بالقول وهو يتلعثم “الطقس بارد لهذا اغلقت الباب”.

ما ان ركبت احلام السيارة وهي ترتجف، حتى روت لوالدها ما حصل فبادرها بالقول “بعد ماكو شغل الى ان تأتيك وظيفة حكومية”.

تبلغ نسبة النساء العاملات بالقطاع العام في العراق 27.7% من المجموع الكلي للعاملين في القطاع، النسبة الاكبر منهن يعملن في قطاع التربية، حيث بلغت نسبتهن 71.9%  من مجموع النساء العاملات ككل في القطاع العام، بحسب دائرة الاحصاء المركزية.

تقول عائشة عبدالستار المهتمة بقضايا حقوق النساء، ان “هناك توجه مجتمعي نحو مهنة التدريس لأنها المهنة الوحيدة التي يكون فيها الاختلاط بين الجنسين محدودا، كما ان عدد ساعات الدوام أقل فيمكن للمرأة أن تعود الى منزلها لتكمل واجباتها المنزلية”.

وتضيف مشيرة الى جانب آخر من المشكلة: “مجتمعنا لا يريد ان يرى المرأة في اماكن قيادية تلعب دورا فعالا، يريد ابقاءها في مواقع عمل محددة، وهي بدورها وحرصا على سمعتها صارت تفضل التدريس او الاعمال المكتبية في الوظائف الحكومية”.

وتشدد على ان الأمر لا يتعلق بتجنب الاختلاط فقط بل بالرغبة في تحجيم دورها “المجتمع يستخدم كل حجة متاحة لفعل ذلك بما فيها احتمال تعرضها للتحرش.. فعليا هو لا يريد مساعدتها ويلزمها بواجبات منزلية ثقيلة مهما كانت واجباتها بالعمل”.

تؤيد سرى ابراهيم التي تعمل في احدى المنظمات الدولية بالموصل، الرأي القائل بأن التدريس افضل مهنة للنساء لكن من زاوية مختلفة. تقول بلهجة مازحة “كنت انثى مدللة عندما عملت كمدرسة باحدى المدارس الأهلية، الآن في عملي بالمنظمة أشعر بالارهاق الدائم وكأني كبرت 30 عاما.. بل لم أعد أشعر بانوثتي”.

تسكت للحظات ثم تكمل: “التعليم هو افضل وظيفة للمرأة، مجهود وساعات عمل اقل تستطيع معها الحفاظ على نفسها والتفرغ لذاتها.. أما العمل بالقطاع الخاص فيشكل محنة لا تنقطع بسبب متطلبات العمل ومن ثم العائلة”.

 

ظاهرة بلا أرقام رسمية

تصف مديرة دائرة تمكين المرأة بمجلس الوزراء العراقي، التحرش بالعمل بـ”الظاهرة”، وتعتبره تحديا كبيرا يضع المرأة أمام خيارين احلاهما مر “ترك العمل او الرضوخ”.

لا تملك دائرة تمكين المرأة ارقاما بعدد النساء اللواتي تعرضن للتحرش، فتورد مديرة الدائرة ابتسام عزيز، أرقام “مركز البيان” الذي اجرى استطلاعا للرأي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وشاركت فيه 595 امرأة.

يظهر الاستطلاع ان 80% من النساء شاهدن او سمعن عن حالات تحرش في العمل، بينما 42% تعرضن للتحرش بشكل مباشر، 27% منهن تركن العمل بشكل فوري.

تلك الأرقام المرتفعة تؤكدها عضو نقابة عمال العراق منال جبر، التي قامت برصد ظاهرة “التحرش بالعمل” عبر فريق عمل شكل من مجموعة ناشطات، ورصد “خلال وقت قصير تعرض أكثر من 400 امرأة للتحرش”.

الرصد شمل ثلاث محافظات فقط هي بغداد والنجف والديوانية، واغلب الحالات كانت “مساومة”.

تضيف جبر: “هناك الكثير من الحالات المسكوت عنها، فنحن في مجتمع ذكوري لا تسطيع المرأة التحدث عن تعرضها للتحرش”.

وترى عضو منظمة حقوق المرأة ريام كريم، ان لطبيعة التنشئة الاجتماعية دور كبير في منع الحديث عن التحرش من قبل النساء “تربيتنا قبلية ولاتسمح بذلك، ولا تعطي المجال للمرأة للدفاع عن نفسها ضد المتحرشين او تقديم شكوى”.

وتضيف “ثم ما جدوى الشكوى اذا لم تستطع المرأة ان تجهز دليلا على تعرضها للتحرش.. فذلك الفعل يحدث فجأة وتعيش الفتاة حالة صدمة وتشعر بذعر شديد وتفكيرها يكون حينا مشوشا”.

الأرامل والمطلقات “فريسة” مفضلة

بحسب مخرجات عدة استطلاعات وعمليات رصد، فان أكثر النساء اللواتي يتعرضن للتحرش هن الأرامل والمطلقات بسبب النظرة المجتمعية عليهن، وشعور المتحرش بعدم وجود رادع سيمنعه من ذلك كونهن الحلقة الأضعف.

وفي العراق هناك أربع نساء أرامل ومطلقة واحدة لكل مئة امرأة (انثى)، أي ان نحو 5% من من مجموع النساء في العراق هن من تلك الشريحتين.

وبحسب احصاءات وزارة التخطيط لعام 2017 هناك نحو 225 الف امرأة مطلقة، في حين يبلغ عدد الأرامل نحو 875 الف أرملة.

هالة (29 عاما) مطلقة لديها خمسة اطفال، كانت تعمل موظفة خدمة بشركة خاصة لمدة سبعة اشهر دون مشكلة قبل ان يعرف مديرها بأنها مطلقة وينقلب وضعها.

كانت هالة حريصة على وضع الخاتم في اصبعها وتقول ان زوجها مريض ما يجبرها على العمل.

تقول ذات يوم طلب المدير هويتي الشخصية، وانا دون تفكير اعطيتها له، بعد دقائق رن جرس المطبخ وما ان دخلت عليه حتى طلب مني اغلاق الباب.. نظر الي وقال: انت مطلقة لماذا تلبسين خاتما وتقولين ان زوجك مريض.. قلت له الخاتم يحميني، فالناس تنظر للمطلقة بشكل غير لائق.. هز رأسه وطلب مني الانصراف.

“لم تمضي دقائق حتى دق الجرس مجددا وبعد ان دخلت قال: اعزميني على العشاء عندكم اليوم.. رفضت طلبه واستدرت للخروج، فصاح باسمي قائلا: تعالي وادلكي لي اكتافي… خرجت مسرعة الى الباب وقلت “انا مبطلة”.

تمتنع اليوم هالة عن العمل في اي من الشركات الخاصة او المنظمات، تقول: “اموت جوعا انا واطفالي ولا احد يمس شرفي”. تسكت قليلا لتلتقط أنفاسها ثم تتابع “عبالك وحوش يريدون اكلنا”.

تقول مستشارة الأسرة والصحة النفسية رؤى احمد ان “ارتفاع نسبة التحرش لدى المطلقات والأرامل تتعلق بنظرة المجتمع لها كإمراة ضعيفة ومتاحة للجميع وليس هناك من أحد ليحميها”.

وتنبه الى ان بعض النساء اللواتي تعرضن للتحرش “يصبن بصدمة نفسية من العمل ويبتعدن عنه، اضافة لإحساسها بعد الأمان وعدم الثقة بنفسها”.

 

غياب عن القطاع الخاص

ذلك الواقع الاجتماعي، هو ما جعل المرأة تغيب عن القطاع الخاص، فهي تشغل فقط نسبة 2%  من اصحاب المشاريع في 2010 وتناقصت النسبة لتصل الى 0.6% في 2019 بحسب منظمة العمل الدولية.

وتسعى دائرة تمكين المرأة بمجلس الوزراء رفع تلك النسبة الى 5% من خلال برنامج خاص اطلقته مع البنك الدولي، بحسب ابتسام عزيز مديرة الدائرة والتي ترى ان أحد أسباب محدودية نسبة عمل النساء في القطاع الخاص تكمن في “سمعة التحرش” في القطاع الخاص والتي تبلغ نسبتها 70% بحسب استطلاع مركز البيان.

تلك السمعة هي التي تقف حائلا امام سناء (33 عاما) للعمل في القطاع الخاص، فوالدها يرفض عملها وعمل شقيقتيها بشدة ويقول “لا تليق بالفتاة سوى الوظيفة الحكومية” في حين لا تتوفر فرص عمل لهم في القطاع الحكومي المتخم بالموظفين.

تقول نور (23 عاما) التي تخرجت من كلية التربية ان زوجها يمنعها من العمل في أي مدرسة اهلية رغم حاجتنا المادية. وتضيف “انه لا يقدم سببا محددا، لكني اعرف انه متخوف نتيجة ما يسمعه من قصص الاستغلال في العمل”.

تقول نور ان سنين دراستها الجامعية ذهب هباءً. وتضيف:”المشكلة عامة فقبل اسابيع قام أحد اقاربي بمنع ابنته من الدوام في شركة خاصة، بعد ان قالت جارتهم لوالدتها: كيف تسمحون لابنتكم بالعمل الى وقت متأخر وفي شركة خاصة”.

وفرص عمل النساء المحدودة اصلا تقتصر على المجالين الاداري والخدمي، ويزيد الأمر تعقيدا ساعات الدوام الطويلة واحيانا غير المحددة في الشركات الأهلية، هذه العقبات لا تواجه الرجال، بحسب منال جبر .

تبلغ نسبة النساء العاطلات عن العمل في العراق نحو 64% في حين تبلغ نسبة الرجال العاطلين نحو 17%. يؤشر ذلك ان ، ما يعني ان البطالة في صفوف النساء هي اربعة اضعافها عند الرجال.

وتبلغ نسبة النساء المستعدات للعمل 13% من مجموع النساء ككل. يحصل منهن 8% فقط على فرص عمل. في حين ان النساء يشكلن 49% من مجموع سكان العراق بحسب إحصاءات وزارة التخطيط العراقية لسنة 2014.

ويرى مختصون في مجالي الأسرة والاقتصاد، ان القطاع الخاص في العموم ضعيف بالعراق، وان مجتمع نينوى مثلا حديث الانفتاح على القطاع الخاص، ومؤخرا بدأت المرأة المشاركة فيه، وسيتطلب الامر سنوات من العمل لتحسين تلك المشاركة وذلك سيرتبط بتطوير القطاع الخاص وتعديل القوانين.

البحث عن فرص عمل في القطاع العام لا يعني خلوه من التحرش، فالكثير من الحالات تسجل هناك ايضا لكن تظل الموظفة محمية قانونيا واداريا.

خلال فترة انجاز التقرير التي امتدت لنحو اسبوعين تم توثيق عملية تحرش واحدة في القطاع العام، تعرضت لها الموظفة (ه.أ) من قبل زميلها اثناء تواجدهما في مكان العمل.

تقول “امسك بيدي فارتعدت خوفا، لكن ما ان سمعت اصوات مراجعين حتى بدأت ارفع صوتي فهرب وتركني.. اعتقد انه يعاني من مشكلة نفسية فنحن نسميه في الدائرة الحجي”.

 

مواجهة المشكلة

تجلس شمس احمد، وسط مجموعة من الفتيات تسمع مشاكلهن وتقوم بتوعيتهن بحقوقهن، فحوادث التحرش التي مرت بها وتجربتها في العمل بعدة أماكن وتثقيفها لنفسها عبر متابعة البحوث والمشاركة في ورش، منحتها الثقة بامكانية مساعدة الآخرين.

شمس التي تعرضت لخمس حوادث تحرش مباشرة، تقول انها منذ الحادثة الاولى حاولت مواجهة المشكلة وعدم السكوت، فأخبرت والدتها التي ساندتها، ومنذ ذلك اليوم هي لا تخشى مواجهة المتحرشين ومن يحاولون استغلالها.

تقول: “كنت في الـ 15 من عمري حين تعرضت لحادثة تحرش من قبل مدرس المدرسة فأخبرت امي التي قامت بنقلي الى مدرسة اخرى لكي لا اواجه اي ضغوط، ومن يومها هي دفعتني الى الحديث عن كل ما امر به ما جعلني اقوى”.

تطالب شمس الفتيات بتغيير المفاهيم السائدة وعدم الاستسلام لها وتقبلها كأمر واقع:”في احدى الجلسات مع مجموعة فتيات فوجئت ان معظمهن يضعن اللوم على الفتاة ويرددن المثل الشعبي: الي ما تفتح زمبيلها محد يعبيلها”. وهو مثل يطلق في نينوى على الاشخاص الذين يعطون الاذن للمقابل بالتمادي، اما بالاشارة او الكلام.

وتشير الى اهمية “التوعية المجتمعية، لمواجهة ظاهرة التحرش وتداعياتها السلبية على الفتيات سواء ما تعلق بنفسيتها او بعملها”.

يوافقها الرأي الناشط المدني خلدون صالح، الذي يدعو الى دعم الفتيات ليتكلمن ويواجهن هذه المشكلة بدل السكوت عنها.

يقول صالح ان المتحرش هو “انسان يعاني من مشاكل نفسية وانه قد يتعرض لأي فتاة، ويجب مواجهته وليس الاستسلام له”.

لكن المحامي محمد جمعة، يرى ان التحرش لا يمكن ايقافه دون تعديل القوانين المتعلقة بذلك، بما فيه القبول بمحادثات الهاتف وتسجيلات الصوت كأدلة اثبات، بهذا ستتشجع نساء اكثر للابلاغ عن المتحرشين.

من جانبها تطالب عضو اتحاد نقابات عمال العراق منال جبر، بدور حقيقي لوزارة العمل لمواجهة التحرش بالنساء في سوق العمل، داعية الى “تفعيل قانون العمل وتعريف المواطنين بوجوده وتفعيل دور المفتشين في وزارة العمل وزيادة عددهم”.

وتحدد دائرة تمكين المرأة، جملة متطلبات لتحسين وجود المرأة في سوق العمل ومواجهة محاولات استغلالها وتكبيلها، بدءا باجراء تسهيلات مصرفية للنساء اللواتي يرغبن في افتتاح مشاريع، ورفع الوعي بتجاه أهمية عمل المرأة، وتعزيز ثقافة مشاركة الرجل في الواجبات الأسرية، وزيادة حضانات الاطفال التي ستخفف عن النساء بعض أعباء واجباتهن المنزلية.

وتشدد عضو منظمة حقوق المراة ريام كريم، على أهمية التوعية والتثقيف باتجاه تشجيع النساء على الابلاغ عن حالات التحرش. وتقول “اليوم لا نستطيع القيام بحملات ضغط كبيرة، طالما لا تتوفر الكثير من حالات الابلاغ”.

وتطالب كريم الدولة بادراج قانون العنف الأسري، المعطل بين اروقة الحكومة والبرلمان منذ سنوات “هو سيحمي الضحية من عائلتها وبالتالي تكون اكثر قدرة على الابلاغ”.

في ظل عجز الدولة عن اعالة 875 الف إمراة أرملة غالبيتهن يفتقدن المعيل، ومع مستويات بطالة مرتفعة وفي سوق عمل تستغل به النساء، لا تملك سوسن إلا مد يديها للخيرين لمساعدتها على تربية أطفالها بدل التخلي عنهم، وتحاول البحث بلا كلل عن اي فرصة عمل تناسبها.

تقول وهي تحتضن طفلتيها وتمسح على رأس الصغيرة: “كل ليلة ادعو من الله ان يستر علينا وان يمد بعمري حتى يكبرن، وان لا يعانين من ما عانيته.. سأكون سندا دائما لهن لمواجهة قسوة الحياة”.

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18890}" data-page="1" data-max-pages="1">