أحمد عبيد/ كاتب وصحفي سوري مقيم في اسطنبول:
(سوريا، إدلب)، مسرعةً إلى غرفة زوجها دخلت منال (مستعار/ 38 عاماً) وحالة من الهلع تسيطر عليها. وقفت عاجزة أمام صرخات “رامي” ودموعه التي لم تفهمها. ارتجاف جسدها منعها من التقدم نحوه ومساعدته. لم تدرِ ما الذي يمكنها فعله. كانت صدمتها تشلّ حركتها وتفكيرها. لم تمرّ سوى ثوانٍ قليلةً حتى تمتم الزوج بكلماته الأخيرة: “سامحيني.. وانتبهي على الأولاد.. أنا انتحرت”.
كان بائع الكعك “رامي مراد” ملقى على الأرض وحوله أطفاله الصغار يراقبون دون فهم. وما إن استعادت زوجته السيطرة على نفسها حتى هرعت إلى شقيقها ليساعدها على نقل زوجها إلى المشفى، بعد إقراره بتناول حبتين من مادة “غاز الفوسفين” وأربعة أقراص من حبوب “باراسيتامول” بقصد الانتحار، لكنها لم تتمكن من إنقاذ حياته، لأن “حبوب الغاز” كما يطلق عليها في الشمال السوري (وهي عبارة عن مبيد للقوارض والحشرات)، كانت قد أتلفت كبده وطحاله، ولفظ أنفاسه الأخيرة قبل وصوله إلى غرفة الطوارئ.
عشرات الحالات يتم تسجيلها في الشمال السوري سنوياً لأشخاص انتحروا عبر تناول حبوب غاز الفوسفين السام، بينها شبان وأرباب أسر، وأخرى لسيدات وأطفال من أهالي المنطقة والنازحين إليها (يبلغ عدد قاطنيها قرابة أربعة ملايين نسمة).
الشائع عن “حبوب الغاز” بحسب أهالي المنطقة أنها الأقل إيلاماً بين وسائل الانتحار المتاحة، إضافة لكونها متوفرة بكثرة ومن السهل الحصول عليها لانعدام الرقابة وأسعارها الرخيصة، لنكون أمام ظاهرة (الانتحار بحبوب الغاز) لم تقتصر على مناطق سيطرة المعارضة السورية، وليست وليدة سنوات الحرب الأخيرة فقط.
ففي عام 2009 صدرت إحصائية رسمية عن حكومة النظام السوري، وثّق فيها انتحار ثلاثة وأربعين حالة في محافظة إدلب وحدها بين عامي 2008 و2009، لنكون أمام أسئلة كثيرة يعالجها هذا التحقيق ويسلط الضوء عليها: كيف وصلت وتصل حبوب الغاز إلى أيدي المنتحرين وهي حبوب زراعية في الأساس؟ وكيف يتم بيعها في الصيدليات الزراعية والبيطرية وبعض مخازن بيع المواد الغذائية في مناطق سيطرة فصائل المعارضة شمال غربي سوريا؟ وهل هناك رقابة وضوابط لعمليات البيع؟ ومن المسؤول عن انتشارها؟ كم بلغت حصيلة المنتحرين بواسطة هذه الحبوب؟ وما هي نسبة السيدات منها؟ أسئلة يعالجها هذا التحقيق الذي أعدته حكاية ما انحكت و”شبكة نيريج” من مناطق سيطرة فصائل المعارضة شمالي غرب سوريا.
انتحار غير مألوف
ضجّت وسائل الإعلام المحلية، في الخامس من آب/ أغسطس 2020، بخبر انتحار رجل خمسيني من قاطني مدينة بنش في ريف إدلب الشرقي، لتُسجّل محافظة إدلب الحالة الثانية خلال شهر واحد، وذلك بعد إقدام شخص آخر من مهجّري ريف إدلب الجنوبي إلى شمالها، على الانتحار.
“كانت الحالة المادية للخمسيني رامي مراد الذي أقام في دمشق عدة سنوات جيدة، لكنها تردت بعد عودته إلى مدينته قبل قرابة ثماني سنوات، جراء تنقله من منزل إلى منزل، وفشله في الحصول على فرصة عمل يستطيع من خلالها تأمين مستلزمات أطفاله الثلاثة، فلم يبق أمامه سوى بيع الكعك والمعروك، وعُرف منذ ذلك الوقت باسم “بائع الكعك”، يقول الصحفي غيث السيد المقيم في المدينة ذاتها.
يضيف السيد في حديثه لـ “حكاية ما انحكت”: “عصر الخامس من آب أغسطس الفائت، وبعد عودته من عمله بقرابة الساعة الواحدة، كانت عائلة “مراد” منشغلة بالتحضير لحفل زفاف شقيق زوجته، وما إن غادرت زوجته غرفتها للبدء بمساعدة عائلتها في التحضيرات حتى عادت إليها مسرعة على صوت صراخ زوجها، لتجده يتقلّب ألماً، بالقرب من أطفاله البالغ أكبرهم من العمر خمسة أعوام، علما بأننا لم نتمكن من رصد أثر الأمر على الأطفال في ظل بيئة تتحفظ على الانتحار ولا تعترف بحدوثه، وهذا ما جعل مصادرنا تنحصر في أقارب من درجة ثالثة للمنتحرين، فيما رفض المقربون الحديث عن الأمر.
أحد أبناء ريف إدلب الجنوبي، يُدعى “محمد خضرو” روى قصة انتحار قريبه “محمد إبراهيم” البالغ من العمر 45 عاماً، في أحد مخيمات الشمال السوري، بعد سيطرة النظام على قريته ونزوحه منها إلى خيمة في قرية “معارة الشلف” شمالي إدلب.
يقول خضرو: “مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تردّت أوضاع “محمد” المادية، كونه لا يملك سوى منزله، وقضى حياته عاملاً في معامل البلوك والإسمنت. وازدادت أوضاعه سوءاً بعد مقتل ولده في إحدى معارك إدلب عام 2015، من ثم انفصال ابنته عن زوجها بعد عامين على مقتل شقيقها، لتنزح برفقته مع من تبقى من عائلته إلى تلك الخيمة التي أنهى حياته فيها”.
سوء الأوضاع المعيشية، وعجزه عن تأمين متطلبات عائلته، إضافة لمصير أبنائه، كانت دوافع لإقدام محمد على ابتلاع حبتين من غاز الفوسفين في إحدى الليالي مطلع حزيران الفائت، لتستيقظ عائلته على صراخه بعد منتصف الليل، ويُفارق الحياة في خيمته قبل العثور على سيارة يُنقل فيها إلى المشفى، يضيف خضرو.
ما هي حبوب الغاز؟
تتحلل حبوب الغاز عندما تتعرض لدرجة حرارة مناسبة ورطوبة جوية، لدرجة حرارة مناسبة ورطوبة جوية، لدرجة حرارة مناسبة ورطوبة جوية، وتنطلق منها غازات مختلطة، بينها غاز ثاني أوكسيد الكربون CO2، وغاز الأمونيا NH3، إلى جانب غاز الفوسفين PH3 الذي ينطلق بمقدار ثلث وزن كل قرص، وهو غاز شديد السمية، وقابل للاشتعال، يتميز برائحة تُشبه رائحة الثوم، وزنه أثقل من الهواء، ودرجة غليانه منخفضة جداً، ويمكن له التسرب من خلال فتحات التهوية في المنازل بسهولة، وانتشاره يتم بشكل سريع جداً عن طريق المجاري والهواء، في حين يبقى من الأقراص رواسب هيدروكسيد الألمنيوم.انتشرت بشكل كبير منذ عام 1940، حيث اعتُبرت المادة الأكثر فعالية لتعقيم المحاصيل الزراعية، بسبب سرعة انطلاق الغاز منها، وهي من المواد المحظورة تماماً، والتي يمنع ترويجها بشكل كامل، ويمنع بيعها دون آليات وضوابط محددة.
“حبوب غاز الفوسفين، أو فوسفيد الهيدروجين، التي يُطلق عليها أيضاً اسم “فستوكسين”، وتُعرف محلياً باسم “حبوب الغاز”، هي حبوب مصنوعة من مزيج بين كربونات الأمونيوم وفوسفيد الألمنيوم، تأتي على شكل أقراص صغيرة الحجم تُحفظ في علبة معدنية من المعمل المصنّع، وتُستخدم كمبيد للحشرات والقوارض، ولتعقيم المستودعات والصوامع المخصّصة لتخزين الحبوب، وتعقيم المحاصيل تحت الأغطية في العراء”. يقول المهندس الزراعي مروان صهيوني.
يعزو المهندس استخدام حبوب الغاز عند المقدمين على الانتحار بكونها “منخفضة الثمن ومتوفرة بكثرة في الأسواق، ويمكن التعامل معها بشكل فردي دون الحاجة للفرق المختصة أو الشركات، فضلاً عن أنها المادة الوحيدة المتوفرة للتعقيم في السوق المحلية”.
أسامة درويش (36 عاماً) أحد مزارعي ريف إدلب الجنوبي يقول لـ “حكاية ما انحكت”: “نعتمد طريقتين مختلفتين في استخدام المبيدات الحشرية والمواد السامة المخصّصة لحماية المحاصيل الزراعية، ففي حال أردنا تخزين المحاصيل الزراعية، نضع حبوب الغاز في أكياس النايلون ونغلقها بإحكام، ثم نوضّبها في أكياس التخزين المخصّصة، ونحرص على عدم ملامستها للمحاصيل بشكل مباشر، للحفاظ على سلامة المستهلكين من التسمّم، أما في حال أردنا الحفاظ على بعض المحاصيل في العراء، كالحنطة مثلاً بعد تجميعها، فنضع عدداً من حبوب الغاز في مكان تجميع المحصول أو في محيطه، ونجعلها تلامس الحنطة بشكل مباشر دون أي عازل، شرط عدم استخدامها للطعام قبل مرور عام كامل على عملية التعقيم”.
كيف تؤثر حبوب الغاز على جسم الإنسان؟
أخصائي الأمراض الداخلية، الطبيب عبد الله كامل، العامل في مشفى الحياة الخاص في مدينة عفرين بريف حلب الشمالي، يوضح آلية تأثير مركبات أقراص “غاز الفوسفين” على جسم الإنسان فور تناولها.
يقول الطبيب في حديثه لـ “حكاية ما انحكت”: “تتفاعل الحبوب فور دخولها معدة المريض مع المياه وعصارة المعدة، وتنتج عقبها غاز الفوسفين شديد السمية، ما يؤدي إلى إصابة كافة أجزاء الجسم بالتلف الكامل. إذ يحصل انخفاض شديد في ضغط الدم وتسرّع في ضربات القلب، إلى جانب ارتفاع نسبة السكر في الدمّ وصدمة حرارية، ثم انهيار القلب والأوعية الدموية وفشل كلوي وضيقٌ حادّ في التنفس، ما يؤدي إلى الوفاة خلال ساعات قليلة”.
(صورة لعبوة حبوب الغاز كما تصدر من الشركات، وهي تضم 12 أسطوانة صغيرة، كل أسطوانة تحوي 12 حبة (خاص/ حكاية ما انحكت)
المشكلة الكامنة في هذه الحبوب تتمثل في عدم وجود “أعراض سريرية واضحة لدخول غاز الفوسفين إلى الجسم، ولذلك يصعب تشخيصه إلا في حالة إقرار المريض أو أحد أفراد أسرته بأنه تناول هذه الحبوب” كما يتابع الطبيب مشيراً إلى أن “الأطباء يتعاملون مع المريض بحسب الأعراض الظاهرة عليه، ويقومون بإجراء تحاليل معملية مثل تحليل صورة الدم وتحليل الغازات في الدم لاكتشاف نوعية الغاز الموجود، وبعض الحالات تحتاج لأشعة مقطعية، لكن غالباً ما تتدهور حالة المريض بسبب التأخر في إجراءات الكشف”.
أما أهم أعراض التسمّم بهذه الحبوب، وفق قول الطبيب، فهي ضيق التنفس، والدوخة، والصداع، والغثيان، والإسهال، والتعرّق البارد والرطب، إضافة لخمول الجسم، موضحاً أن تأثير الحبوب يتعلق بالكمية أولاً، ثم في طبيعة الجسم، كما يرتبط بالأمراض التي تعاني منها كل حالة، وسرعة نقله إلى المشفى والإجراءات المتخذة في كل من المشافي.
وختم كامل: “الأطباء أطلقوا اسم “القاتل الصامت” على غاز الفوسفين، لأنه يقتل المريض دون أن يُعلن عن نفسه بشكل ظاهر”.
ثلاثة ملايين قرص في الشمال السوري
ثلاثة ملايين ومئتان وخمسون ألف قرصاً من حبوب غاز الفوسفين تُباع سنوياً في جميع الصيدليات الزراعية والبيطرية الموجودة في الشمال السوري، والبالغ عددها قرابة الخمسمئة صيدلية وفقاً لمصادر متقاطعة من صيادلة زراعيين ومجالس محلية وموزعين للمبيدات الحشرية.
في استبيان أجراه معد التحقيق، وزّعه على خمس وعشرين صيدلية في الشمال السوري، أخذنا فيه عدد المبيعات السنوية في كل منها، ثم تبين أن متوسط المبيع السنوي لكل صيدلية هو ستة آلاف وخمسمائة وستة عشر قرصاً.
وعلى اعتبار أن الشمال لسوري يحوي خمسمئة صيدلية زراعية وبيطرية زراعية تم ضرب المتوسط الناتج بعدد الصيدليات الكلي، ليتبيّن أن كافة الصيدليات تبيع ثلاثة ملايين ومئتين وثمان وخمسين ألف قرصٍ سنوياً كعدد تقريبي. ووفقاً للاستبيان، بالطريقة ذاتها، تبيّن أن هذه الصيدليات تبيع ثلاثين بالمئة من الأقراص في فترة غير المواسم، وهي ثمانية أشهر.
وفي استطلاع أعداد الحبوب المتوفرة حاليا في مخازن الصيدليات في الشمال السوري، تبيّن أن متوسط أعداد الحبوب في الصيدليات الخمسة والعشرين يبلغ ألف وثلاثمئة قرصاً، ما يعني أن الصيدليات كافة تضم قرابة الستمائة وخمسين ألف قرصاً من حبوب الغاز، إذا ما تم ضرب المتوسط المذكور بعدد الصيدليات الكلي.
الطبيب البيطري نجيب الطراف، مالك إحدى الصيدليات الزراعية البيطرية في بلدة ملس بريف إدلب الشمالي، بيّن أن الصيدليات الخمسمائة جزء منها مختص ببيع المبيدات الحشرية إلى جانب الأدوية الزراعية والأسمدة، وجزء آخر يعرف بالبيطريات الزراعية، مختص بمكافحة الآفات وعلاج الحيوانات، وكلا النوعان يحتوي على حبوب الغاز.
وعن طريقة وصول حبوب غاز الفوسفين إلى محافظة إدلب يقول الطراف لـ “حكاية ما انحكت”: “هناك نوعان من حبوب الغاز، أحدهما صناعة صينية، وأخرى صناعة تركية، وهو المتوفر بشكل كبير في المنطقة، يتم استيراده من تركيا من قبل التجار العاملين في استيراد المواد الزراعية والمبيدات الحشرية إلى الشمال السوري، ثم تُباع لمستودعات المواد الزراعية، التي تقوم بدورها ببيعها للصيدليات الزراعية عبر موزعيها بسعر يتراوح بين مائة إلى مائة وخمس وعشرين ليرة سورية للحبة الواحدة، أي ما يقارب الـ 0.4 دولار أمريكي”.
ويؤكّد الطراف أن عملية البيع لا تتقيد بأية ضوابط أو شروط مفروضة على الصيدليات، وأن الحبوب متاحة للجميع دون أي رقابة أو تنسيق مع وزارة الزراعة، موضحاً: “مسألة البيع تعود للصيدلي أو البائع بشكل شخصي، فغالباً يمتنع الصيادلة عن بيعها للأطفال والنساء، والشبان من غير المزارعين”.
من جهته، أكّد المهندس الزراعي، أحمد نجيب، أن جميع الحبوب باتت تدخل من الأراضي التركية عبر معبر باب الهوى الحدودي، بعد إغلاق المعابر مع مناطق النظام السوري، وامتناع التجار عن استقدامها من مناطق سيطرته.
من المسؤول عن انتشارها؟
مسؤول الرقابة الدوائية في مديرية صحة إدلب التابعة للحكومة السورية المؤقتة، مصطفى الدغيم، نفى في حديثه لـ “حكاية ما انحكت” مسؤولية مديرية الصحة عن بيع حبوب غاز الفوسفين في الصيدليات الزراعية والزراعية البيطرية بشكل تام، قائلا: “ليس لنا أية علاقة بالصيدليات الزراعية، ومسألة مراقبة وضبط بيع حبوب الغاز وغيرها من المواد الزراعية خارج صلاحياتنا ومسؤولياتنا، فجميع الصيدليات الزراعية تتبع لمديرية الزراعة فقط، والأمر مرتبط بها دون غيرها”.
في حين قال مدير زراعة حلب في الحكومة السورية المؤقتة، المهندس حسن الحسن إنه لا يمكن لوزارة الزراعة ضبط عمليات بيع حبوب الغاز وغيرها من المواد السامة في الصيدليات بالوقت الراهن، كون تراخيص الصيدليات الزراعية في المنطقة تصدر عن المكاتب الزراعية التابعة للمجلس المحلي لكل مدينة وبلدة (المجلس المحلي مؤلف من عدة مكاتب على غرار المجلس البلدي: مكتب تنفيذي، مالي، طبي، إعلامي، زراعي…)، ملقياً مسؤولية فرض الرقابة والضوابط على عمليات بيع هذه الحبوب على عاتق تلك المكاتب، على اعتبارها الجهة التي فرضت التراخيص الإدارية على الصيدليات الزراعية والبيطرية الزراعية.
(صورة لأسطوانة الحبوب الداخلية، تحوي 12 قرصاً من الحبوب (خاص/ حكاية ما انحكت))
ويبيّن مدير زراعة حلب أن الوزارة أنشأت مؤسسة أطلقت عليها اسم “مؤسسة إكثار البذار” في مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، ولديها العديد من مراكز البيع والصيدليات الزراعية في مختلف المدن والبلدات، وهي تخضع للرقابة المباشرة من قبل الوزارة.
وهو ما أكّده مدير المراكز الزراعية في مؤسسة إكثار البذار، المهندس “مصطفى العبدو”، لافتاً إلى أن “المراكز لا تبيع هذه الحبوب إلا للأشخاص المعروفين بالنشاط الزراعي، كما تمتنع عن بيعها دون فواتير نظامية، إضافة لمنع بيعها للأطفال والأشخاص المشكوك بأن لهم أغراض أخرى غير زراعية، وذلك يتم من خلال عدة أسئلة تطرح على المشتري يستشف من خلالها طبيعة الشخص ومدى معرفته بالمادة واستخداماتها، إلا أن المؤسسة لا تمتلك أي صلاحيات رقابية على الصيدليات الأخرى، في حين يفتقر الشمال السوري لكافة الجهات الرقابية العاملة على ضبط وجود حبوب غاز الفوسفين”.
إلا أنّ الصيدليات الزراعية ومراكز البيع التابعة لمؤسسة إكثار البذار في الشمال السوري، تعمل بتصريح مباشر من وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة، دون حصولها على تراخيص إدارية من المكاتب الزراعية في المجالس المحلية، وعلى الرغم من خضوعها لإشراف ورقابة الوزارة بشكل مباشر، إلا أنها لا تخلو من التجاوزات في عمليات بيع حبوب الغاز لأشخاص غير مؤهلين، وفقاً لعدد من الأهالي.
(صيدلية زراعية في ريف إدلب الجنوبي (خاص/ حكاية ما انحكت))
من جهته، قال مدير المكتب الزراعي في المجلس المحلي لمدينة بزاعة في ريف حلب الشمالي، المهندس خالد حاج عمر أن “العائق الأكبر أمام المكاتب الزراعية في الشمال السوري بالكامل، هو عدم وجود ضوابط ورقابة على عمليات بيع حبوب غاز الفوسفين والمبيدات الحشرية السامة في الأسواق، واقتصار الرقابة والتوجيهات على بعض الصيدليات فقط، في حين يمكن للأهالي الحصول عليها من أي مركز لبيع المواد الزراعية”.
وبناء عليه، يبدو واضحا أن لا رقابة على بيع وشراء هذه الحبوب لأن صحة إدلب وحلب وزراعة إدلب وحلب لا علاقة لهما بعمل الصيدليات والمكاتب الزراعية، فيما يقتصر عمل المكاتب الزراعية التابعة للمجالس المحلية على متابعة عمل الصيدليات وليس بقية المحلات الزراعية.
معاون وزير الزراعة والري في حكومة الإنقاذ “أحمد الكوان” بيّن لـ “حكاية ما انحكت” أن وزارته عملت على مراقبة بيع حبوب الغاز والصيدليات الزراعية وغيرها من محال بيع المواد الزراعية والمبيدات الحشرية بخطوات وصفها بـ “العملية”، مضيفاً أن الوزارة أصدرت تعميماً منعت بموجبه بيع حبوب الغاز، وخصّصت عدداً من دوريات التموين في إدلب، مهمتها التأكد من طريقة بيع هذه الحبوب في الأماكن الملائمة لها.
وهنا لا بد من توضيح نقطة تتعلق بوجود حكومتين في الشمال السوري، الأولى هي “الحكومة المؤقتة” التابعة للائتلاف المعارض، والثانية هي حكومة الإنقاذ المشكلة من قبل هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقا”، حيث إن الحكومة المؤقتة تتولى إدارة جميع المؤسسات الحكومية من مديرية صحة وزراعة ومجالس محلية وغيرها، وجميع التصريحات أعلاه لمسؤولين فيها، في حين تبقى مسؤولية حكومة الإنقاذ شكلية في كافة الأمور المتعلقة بتلك المؤسسات.
رئيس تجمع المحامين الأحرار “غزوان قرنفل” أوضح “إن وجود حكومتين في الشمال السوري، يُساهم بشكل كبير في عدم استقرار الأسواق والغياب الكامل للرقابة، لا سيما أن حجم اللامبالاة والاستهتار في شؤون الأهالي واضح في أداء الحكومتين. وهو ينعكس على الحياة اليومية للأهالي الذين يعانون من التضارب في الصلاحيات وتحديد المرجعيات بينهما”، مؤكداً أن “وجودهما خلق أدوات حكم مختلفة بين منطقة وأخرى، إضافة للإدارات المتنازعة والقرارات المتضاربة والضرائب المتعددة”.
الحبوب في محال المواد الغذائية!
ليست الصيدليات الزراعية وحدها مقصد الأهالي للحصول على حبوب غاز الفوسفين، بل يمكن لهم الحصول عليها من بعض محال بيع المواد الغذائية في مختلف البلدات. فموزعو المواد الزراعية والمبيدات الحشرية يعملون على بيع هذه المواد لمحال بيع المواد الغذائية والأدوات المنزلية في أسواق الشمال السوري بالكامل، دون أي اكتراث لصحة الأهالي وما قد يؤثر على حياتهم، واصفاً عملية بيعهم بـ “الربحية البحتة”.
يقول المهندس خالد حاج عمر في حديثه لـ “حكاية ما انحكت” إن الخطر الأكبر يكمن في بيع هذه الحبوب من قبل المتاجر، وليست في الصيدليات وحدها، مضيفاً: “المجالس المحلية أوقفت الندوات التوعوية بعد فشلها في تحقيق الهدف المرجوّ منها، فهي تستهدف الصيادلة الزراعيين، لكن الباعة أصبحوا يتنقلون بين جميع المناطق، وبيعها يتم بشكل مباشر للمزارعين والمحال التجارية الأخرى”.
أنس طرّاف (35 عاماً) وهو أحد موزعي الأدوية الزراعية في إدلب، يقول إن عملية توزيع الحبوب تعتمد على طلب الصيادلة الزراعيين من حيث الكمية، مبيّناً أن الموزع يحصل على هذا النوع من المواد من التجار العاملين على استيرادها من تركيا، و”يمكن لأي شخص يحمل بطاقة تاجر استيراد ما يريد من تركيا دون أي رقابة أثناء دخولها الأراضي السورية”.
وأشار موزع الأدوية إلى أن عملية البيع تتعلق بالموزع نفسه دون أي شرط يُفرض عليه من أي جهة رقابية، وأن قسماً من الموزعين يعمل على بيعها للمحال التجارية، وهو ما أكّده أحد المدنيين القاطنين في ريف إدلب، يُدعى محمد نور (34 عاماً)، موضحا أنه اشترى حبوب الغاز من محال المواد الغذائية عدّة مرات بهدف تعقيم الحبوب.
سهولة الحصول على هذا النوع من الحبوب في مدينة إدلب، ظهرت أثناء إقدام معد التحقيق على شرائها من أحد المحال التجارية المخصصة لبيع المواد الغذائية منتصف عام 2018، بعد نصيحة تلقاها من أحد قاطني المدينة باستخدام هذه الحبوب في تعقيم البقوليات المراد تخزينها، ليتبيّن أن عملية بيعها ليست مقترنة بأي سؤال عن دراية المشتري بمكوناتها ومخاطرها، إضافة لغياب النصائح المقدمة من الباعة بشكل نهائي.
من جهته، رأى المهندس الزراعي، فاتح السعيد، أن السلطات الحاكمة لم تحاول منع بيع هذه الحبوب في المحال التجارية، وحصرها في الصيدليات الزراعية كونها لم تُخصص أي جهة رقابية لمتابعة هذه الظاهرة، مضيفاً أنها تسمح بدخولها المنطقة كونها المادة المعتادة لدى الأهالي، ولا بديل مألوف لها.
ثلثا الضحايا المُسجلة من السيدات
رغم الاختلاف بالأسباب والدوافع بين حالة وأخرى، وبعيداً عن الأوضاع المعيشية المتردية التي كانت الدافع الرئيس لانتحار “مراد”، هزّت الشمال السوري مطلع أيلول/ سبتمبر الجاري، حادثة انتحار المدرّسة ميساء درباس (ثلاثون عاما)، القاطنة في مخيم أطمة بريف إدلب الشمالي، باستخدام الحبوب ذاتها، إثر خلاف أسري مع زوجها.
وفي تفاصيل الحادثة، أوضحت المدرسة غيداء الحسين، وهي زميلة لها في تصريح نقله موقع أورينت نت، أن “ميساء” قدمت باكية إلى المدرسة قبل يومين على انتحارها، ونقلت لزميلاتها معاملة زوجها السيئة لها، فقد طردها من المنزل ومنعها من رؤية أطفالها، كما حرمهم من الذهاب إلى المدرسة ليتجنّب التقائها بهم.
وأكّدت الحسين أن زميلتها تناولت حبوب غاز الفوسفين بقصد الانتحار قبل ذهابها إلى منزل عائلتها الذي توفيت فيه، بعد الصدمة الكبيرة التي تعرضت لها جراء حرمانها من أطفالها.
“كانت قد خسرت طفلها، وأُصيب شقيقه الأكبر بمرض السرطان، وزوجها بدأ بالبحث عن زوجة أخرى”، أسباب اعتبرها “عبد الله كنجو” دوافع رئيسية لإقدام قريبته “آمنة” على الانتحار.
يقول عبد الله (32 عاماً) لـ “حكاية ما انحكت”: “بعد ثلاث سنوات من وفاة ابنها الأصغر “أحمد” في التاسعة من عمره، وإصابة طفلها الأكبر “محمد” بسرطان الدم بعدها بعامين، علمت آمنة (37 عاماً) أن والد أطفالها ينوي الزواج من امرأة أخرى، فأقدمت منتصف عام 2018 على الانتحار عبر تناول عدة أقراص من حبوب الغاز، دون الإفصاح لأحد عن نيتها”.
وأضاف عبد الله: “عمل زوج آمنة ونجله “محمد” الذي كان يبلغ من العمر 12 عاماً آنذاك، على نقلها إلى المشفى الوطني في مدينة إدلب، بعد أقل من نصف ساعة على تناول الحبوب، لكنها فارقت الحياة بعد دقائق من وصولها المشفى، قبل خضوعها لعمليات غسيل المعدة، ليبقى محمد يصارع المرض وحده، متنقلاً بين منزل والده وجدتيه”.
لا أعداد موثقة لحالات الانتحار في الشمال السوري على اختلاف الطريقة، لكن بحسب تقديرات حقوقيين مطلعين، وآخرين من أعضاء الكوادر الطبية العاملة في الشمال السوري، فإن ستين بالمائة من الحالات تمت عبر تناول حبوب الغاز السامة، تليها الشنق ثم الانتحار بالرصاص.
الطبيب “نور شعبان” المنحدر من مدينة تفتناز، والعامل في مشفى “السلام” في منطقة دركوش في ريف إدلب الغربي وثّق خلال العامين الماضيين ثماني عشر حالة انتحار بواسطة حبوب الغاز في مكان عمله، بينها تسع سيدات، وستة رجال وثلاثة أطفال، في حين أكّد الممرض “سرور شيخ نجيب” إنه شهد خمسة عشر حالة انتحار بواسطة الحبوب ذاتها، خلال عمله في مشفى “نبض الحياة” جنوبي إدلب، ومشفى “srd” في منطقة إسقاط بريف إدلب الشمالي، منذ عام 2018 وحتى اليوم، بينها عشرة نساء وأربعة رجال وطفل واحد.
وعلى اعتبار معظم فئات المجتمع في إدلب ترفض الاعتراف بانتحار أحد أبنائها، وما يخلّفه الرفض من صعوبة في توثيق الأعداد الصريحة للمنتحرين، كان لا بد من توثيقها من أقارب من الدرجة الثانية أو الثالثة في بعض الأحيان، في ظل إهمال المنظمات العاملة في المنطقة لتوثيق تلك الحالات.
ووفقاً للحالات الموثقة عبر وسائل إعلام محلية، وأخرى وثقها بعض الناشطين بشكل فردي، فإن حصيلة حالات الانتحار في إدلب منذ مطلع عام 2018، وحتى نهاية أيلول/ سبتمبر، بلغت 52 حالة، منها 34 حالة نتيجة تناول حبوب الغاز، بينها 17 للسيدات، و12 للرجال و5 للأطفال، في حين أكّد المسؤول الطبي في إدلب، منذر الخليل، في تصريح سابق له، أن معدل الانتحار ارتفع من حالة واحدة إلى تسع حالات شهرياً مع حلول عام 2018، في المنطقة التي يُقدر عدد سكانها بنحو أربعة ملايين نسمة.
يرى الباحث الاجتماعي “فيصل سليم” المقيم في إدلب أن الدافع الأبرز لدى المقدمين على الانتحار هو النزوح وما خلّفه من ضغوط نفسية وفقر وانعدام للخصوصية، لا سيما بالنسبة للسيدات القاطنات في الخيام اللاتي كثيراً ما تأثرن بالكثافة السكانية والضغوط التي نتجت عنها.
أربعة ملايين شخص يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة شمالي غرب سوريا، الغالبية العظمى منهم تعيش تحت خط الفقر، في ظل الازدحام الكبير في مخيمات اللجوء على طول الحدود السورية التركية، بعد تهجير مئات الآلاف من محافظات ريف دمشق وحلب وحمص إليها، ونزوح آخرين من قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي جراء العمل العسكري على مناطقهم مطلع العام الجاري، ناهيك عن الانفلات الأمني وغياب الرقابة وافتقار المنطقة لأبسط مقومات الحياة المعيشية والأمنية.
وبيّن الباحث الاجتماعي لـ “حكاية ما انحكت” أن اختيار حبوب غاز الفوسفين للانتحار، جاء نتيجة الحديث السائد عن سهولة إنهاء الحياة بواسطتها بالمقارنة مع الوسائل الأخرى، إضافة لكونها الأسرع بالنسبة لمتخذي القرار بدافع انفعالي، ولا تحتاج عملية الانتحار بواسطتها لأي تدبير معقّد.
ورفض السليم اعتبار الانتحار بواسطة حبوب الغاز أسلوباً شعبياً متعارفاً عليه للانتحار في إدلب، على غرار ظواهر أخرى كتلك التي في ألمانيا، حيث نسبة من المقدمين على الانتحار تقصد سكة القطار مثلاً، موضحاً أن حالات الانتحار المسجلة متنوعة الوسائل، وليست مقتصرة على الحبوب فقط، إضافة لكونها موجودة منذ سنوات ما قبل الحرب، وأن المجتمع بمعظمه يرفض فكرة الانتحار بالمجمل.
الحبوب في متناول الأطفال!
لم تكن عمليات الانتحار مقتصرة على الشبان وأرباب الأسر والسيدات، فالطفلة “سمر” ذات الأربعة عشر عاما كسرت في حكايتها الصورة النمطية لمفهوم الانتحار الذي لطالما أُرجع لسوء الأوضاع المعيشية.
أحد أبناء ريف إدلب الجنوبي، سليم (مستعار/ 32 عاماً) يقول لـ “حكاية ما انحكت”: “ربيع عام 2014، أقدمت “سمر” المنحدرة من قرية “أرمنايا” في ريف إدلب الجنوبي على الانتحار بواسطة هذه الحبوب، بعد خلاف دار مع أبويها على خلفية فشلها في إقناعهما بتزويجها لأحد شبان القرية ذاتها، مستندين إلى أوضاعه المعيشية المتردية، كونها تعيش في مجتمع لا يمانع زواج القاصرات، فأقدمت سمر على إرسال شقيقها الأصغر البالغ من العمر آنذاك ثلاثة عشر عاماً فقط، إلى إحدى الصيدليات الزراعية لشراء حبة من غاز الفوسفين، وهو ما تمكّن منه بالفعل”، علما أن مسألة الانتحار لا تتعلق بكمية الحبوب المتناولة، لكن الكمية تؤثر في سرعة القتل دون أن تمنعه إذا كانت قليلة.
يذكر أن الحبوب تباع بالجملة والمفرق، إذ يعمل البائعون على بيع العبوات التي يحوي كل منها 12 قرصاً، وبيع الأقراص بشكل مفرد عبر وضع ما يطلبه الزبون في كيس من النايلون. وهذا يأتي تحت طلب المزارعين، لا سيما أن البعض يستخدم كميات قليلة منها، ولا تزيد احتياجاته عن أربعة أقراص مثلاً.
(صورة لأقراص غاز الفوسفين كما يتم بيعها بالمفرق (خاص/ حكاية ما انحكت))
تم نقل سمر إلى مشفى معرة النعمان في ريف إدلب الجنوبي، بعد ظهور أعراض التسمم عليها، إلا أن الأطباء لم يتمكنوا من إنقاذ حياتها، فبقيت في المشفى إلى صباح اليوم التالي وفارقت الحياة، يضيف سليم.
حادثة أخرى شهدتها مخيمات النزوح في قرية “خربة الجوز” بريف اللاذقية، في الثالث والعشرين من نيسان المنصرم، راح ضحيتها طفلين من نازحي الساحل السوري، جراء تناولهما قرصين من هذه الحبوب عن طريق الخطأ، إذ يستخدمه قاطنو الخيام للقضاء على القوارض وحفظ المؤن، في ظل افتقار الخيام لوسائل الحفظ والتخزين، علماً أن الحبوب تأخذ شكلاً مستديراً يزيد حجمه عن الحبوب الدوائية، ذات لون أبيض، ورائحة تُشبه رائحة الكلور قبل تحللها، وتصبح رائحتها أشبه برائحة الثوم بعد التحلل.
كيف تتعامل المشافي مع ضحايا القاتل الصامت؟
المشافي والقاتل الصامت: تجري المشافي عمليات غسيل المعدة عدة مرات، باستخدام ثلاثة ليترات من عقار “بيرمنغنات البوتاسيوم” (وهو مركب كيميائي على شكل بلورات بنفسجية اللون، لها بريق معدني، يكون فيه المنغنيز في حالة الأكسدة، يُستخدم كمطهر في العديد من الحالات المرضية، بعد تحويله إلى محلول) إلى جانب إعطاء الحالة مادة “زيت الزيتون” كونه المتوفر لدينا في المنطقة، وفي أحيان أخرى قد يستخدم الكادر الطبي مادة “الفحم الفعال”، (وهو نوع من أنواع الفحم، وشكل من أشكال الكربون، يُستخدم لتخليص الجسم من السموم، إضافة لاستخدامه كعلاج في العديد من الحالات)، ثم يُنقل المريض إلى قسم العناية المركزة، ويتم إعطاؤه سوائل ومحلول السيروم السكري، مع مادة الأنسولين، وتجري له التحاليل بشكل مستمر لمراقبة ارتفاع حمض اللاكتيك، وزيادة جرعات الأنسولين والسكر المركز كلما ارتفعت للحفاظ على حياته
يقول الطبيب ياسر الاسماعيل، وهو إخصائي الأمراض الداخلية، والمقيم في ريف إدلب الجنوبي إن مشفى معرة النعمان (350 ألف نسمة) الذي كان يعمل به قبل سقوط المدينة بيد قوات النظام مطلع العام الجاري 2020، استقبل العديد من حالات الانتحار عبر تناول حبوب غاز الفوسفين، بمعدل حالة واحدة شهرياً، جميعها عن طريق القصد بهدف الانتحار.
ويضيف الإسماعيل: “فور ورود مثل هذه الحالات إلى المشفى، نسارع إلى إجراء عملية غسيل المعدة عدة مرات، إلى جانب إعطاء الحالة مادة “زيت الزيتون” كونه المتوفر لدينا في المنطقة، أما في البروتوكول الأمريكي، فيجب منح الحالة “زيت جوز الهند”، وفي أحيان أخرى قد يستخدم الكادر الطبي مادة “الفحم الفعال” ثم يتم تحويل المريض إلى قسم العناية المركزة، ويتم إجراء التحاليل بشكل مستمر للحالة الواردة”، مؤكداً: “نسبة الناجين من الموت ضئيلة جداً، وذلك متعلق بسرعة إسعاف الحالة، والإجراءات المتبعة في المشافي وإمكانياتها”.
هل هناك بدائل لحبوب الغاز؟
المهندس الزراعي مروان صهيوني دعا المؤسسات الرسمية والشركات المتخصصة لتأمين بدائل حبوب الغاز، ليعتمدها الأهالي والمزارعين كمواد تعقيم رئيسية، كالتعقيم بالحرارة أو التعقيم بأشعة غاما أو بالكهرباء وبالتبريد والتسخين، أو تأمين مواد غاز بروميد الميثيل (غاز عديم الرائحة واللون وغير قابل للاشتعال، يتم إنتاجه صناعياً وحيوياً، ويُستخدم لأغراض التبخير وللتعقيم والتخلص من الآفات)، وغاز حمض الإيدروسيانيك (مركب كيميائي غازي عديم اللون ذو رائحة مميزة، ويعتبر حمضاً ضعيفاً جداً، يحترق في الهواء وهو سام جداً وإن تم خلطه مع الهواء، يُستخدم في قتل القوارض والحشرات، أو رباعي كلوريد الكربون التي تُعد أقل خطورة على حياة الإنسان من غاز الفوسفين، أو عبر التدخين الفراغي في الصوامع الحديدية.
وعن إمكانية استخدام البدائل، يقول مالك إحدى الصيدليات الزراعية، المهندس سعيد الأحمد لـ “حكاية ما انحكت” إن الأهالي يفضلون غاز الفوسفين في عمليات التعقيم على غيره من المواد، كونه سريع الانتشار وفعّال أكثر من غيره وأسهل للاستخدام من الناحية العملية، إضافة لكونه أقل تكلفة منها، فمادة المونوسيد مثلاً التي تأتي في المرتبة الثانية استخداماً، يزيد سعرها عن الفوسفين بقرابة تسعة أضعاف، في حين تُعد البدائل الأخرى من النوادر في الأسواق.
عشرات الأشخاص باتوا في سجلات ضحايا القاتل الصامت دون معرفة، فكان للاستخدام الخاطئ دوراً كبيراً في رفع الحصيلة، دون أدنى فكرة لأحد منهم عن تركيبة هذه الحبوب وأضرارها، في الوقت الذي كانت فيه نصيحة البائع الوحيدة لأحد أبناء إدلب الذي اشتراها كما قال لنا: “حاول إبعاد وجهك عنها عند الاستخدام، واغسل يديك بعد الانتهاء للضمان”، دون أي توضيحات أخرى، فهل يكفي هذا؟
انجز التحقيق بدعم مؤسسة “نيريج” ونشر بالتعاون مع “حكاية ما انحكت”