تقارير سردیة: “مقبرة المنبوذات” في كردستان: الظلم يلاحق النساء حتى التراب!

“مقبرة المنبوذات” في كردستان: الظلم يلاحق النساء حتى التراب!

مقتولات ومنتحرات وعجائز ولقيطات منبوذات يُدفن بمعرفة البلدية في مساحة خلفية معزولة ضمن مقبرة المدينة لم تحد من اتساعها فرض عقوبة الإعدام على جرائم غسل العار في إقليم كردستان ولا الدعوات بإيجاد حلول لتزايد معدلات العنف الأسري.

صلاح حسن بابان:

قبيل الفجر، تتسلل “بيان” مخترقة العتمة ومتخطيةً العشرات من شواهد القبور التي لا تحمل أسماءً أو تواريخ وفاة، قاصدة قبر ابنتها في الجزء المخصص “للمنبوذات” في مقبرة (تلّة سيوان 1) بمدينة السليمانية شمال شرقي العراق حيث دفنت دون مراسيم أو أدعية وكلمات وداع أخيرة.

تفعل هذا مرتين في السنة مع قدوم عيدي الفطر والأضحى، ففي وقتٍ تعلنُ فيهِ جوامعُ المدينة والبلدات المحيطة بها قدوم العيد ويستيقظ الناس للإحتفال به تكون “بيان” قد سكبت الكثير من الدموع وأفرغت شيئاً من حزنها على “شلير” التي قتلت بيد شقيقها الوحيد وهي في السابعة عشر من العمر، غسلاً للعار.

حدث الأمر قبل نحو خمس سنواتٍ يوم اكتشف الشقيق علاقة حب تربطها مع أحد أبناء الجيران في قرية ضمن حدود جمجمال أكبر الأقضية التابعة لمحافظة السليمانية بإقليم كردستان.

إزاء موقف والده المتواطئ واكتفائه بمراقبة ما يجري، حاولت “بيان” وبكل ما تحمله من مشاعر أمومة ثنيهُ، غير أنهُ أرخى في النهاية إصبعه على زناد المسدس وأطلق أربع رصاصات تجاه “شلير” التي خرت على الأرض جثة هامدة.

اضطرت الأم المكلومة صحبة زوجها الى مغادرة القرية المحكومة بالأعراف والتقاليد العشائرية المتشددة ليستقروا في منطقة شعبية بمركز السليمانية، هرباً من الأقاويل و”وصمة العار” التي قالت بيان أن أسم العائلة قد تلطخ به.

زيارات سرية

رغم القيود والنظرة المجتمعية وآلام أمراض لا تفارقها، حافظت الأم على طقس زيارة مرقد ابنتها “المنبوذة” سراً، وهي من الأمهات القلائل اللواتي يكسرن الحظر المفروض على ذكرى قتيلاتٍ كـ”شلير” يحاول المجتمع التعامل معهن وكأنهن لم تكن موجوداتٍ في الأصل.

تقع “مقبرة المنبوذات”التي تضم نحو ألف قبر في مساحة منعزلة في الجزء الخلفي لمقبرة (تلّة سيوان 1) ولا يمكن للزائر غير الخبير معرفة ماهيتها فلا كتابة تعريفية على الشواهد أو آيات قرآنية أو أدعية دينية كما يجري عليه عرف المقابر الأخرى.

لا شيء مكتوب على تلك الشواهد الحجرية سوى كلمتين باللغة الكردية (ئارامكاى ژیان) والتي تعني بالعربية (مستقرّ الحياة).

مقبرة لا يحد اتساعها تعطيل اقليم كردستان لقانون تخفيف عقوبة جرائم غسل العار ولا الإعتراضات من كونها تنتقص من مكانة المرأة في المجتمع وتضعها في مرتبة متدنية.

وحتى عمليات دفن الموتى في المكان، تجري بعجالة شديدة وبنحو سري في الغالب بحضور ممثل عن العائلة أو اقتصار الأمر على عمال البلدية الذين يحفرون القبر ويهيلون التراب على الجثة كجزء من متطلبات وظيفتهم لا غير.

ووفق إحصائية رسمية شهد الاقليم مقتل 490 إمرأة خلال الأعوام بين 2010 إلى 2020، لكن تلك الأرقام قد لا تعكس الواقع بدقة، فهناك دائما حالات لا تسجل، بحسب ناشطين.

تعديل القانون لم يفضي إلى حل

يقول حراس بمقبرة (تلة سيوان 1) ان الجزء الخاص بالمنبوذات في المقبرة أنشأ في سنة 2005، ومنذ ذلك الوقت صار عرفاً أن تدفن فيه نساءٌ مقتولات أو منتحرات أو مجهولات الهوية يتم العثور على جثثهن ضمن حدود المحافظة دون أن يكون هناك ما يدلُ على هوياتهن أو حتى بلاغات بفقدانهن.

وتتباين الأعداد السنوية لجرائم القتل التي تقترف في السليمانية ضد نساء بأيدي أقرباء لهن (الأب، الأخ، الزوج)إذ وصلت في سنة 2008 إلى 72 حالة وانخفضت في 2020 لتبلغ أربع حالات فقط، بينها مقتل الشقيقتين (ئاواره 19 سنة وهيلين 17 سنة) على بيد والدهما في الثالث من أيلول/سبتمبر2020 وقيامه بدفنهما سوية في حفرة لايتجاوز عمقها نصف متر بالقرب من مقبرة قديمة متروكة في قرية برايم آغا جنوبي المدينة، قبل ان يكتشف الأمر.

تلك الحادثة وقعت أيضاً في قضاء جمجمال بالسليمانية، وكما في الكثير من الجرائم المماثلة هرب الجاني مع اكتشاف خيوط الجريمة وقبل ان تعتقله السلطات.

ويشكل تمكن الكثير من الجناة من الهروب بعد اقتراف جرائمهم تحدياً أمام تطبيق القانون، فهم يلجؤون سريعاً الى محافظة أخرى أو منطقة نائية تخضع لنفوذ العشائر أو أحزاب أخرى أو يحاولون الوصول الى أوربا.

وفق ذلك مازال الوالد القاتل متوارياً كما هو الحال مع شقيق شلير الذي هرب إلى أوربا بحسب والدتهما التي كانت حائلاً ولمرات أخرى عديدة بين ابنتها وفوهة مسدس أبنها الغاضب على الدوام، لكنها لم تنجح في المرة الأخيرة من حمايتها.

وتصل عقوبة القتل العمد في العراق إلى الإعدام وفقاً للمادة 406 من قانون العقوبات النافذ رقم 111 لسنة 1969، وهذه العقوبة يمكن أن تطال الزوجة في حال قتلت زوجها بداعي ما يعرف بـ(غسل العار).

بينما تنص المادة (409) من القانون ذاته والمعمول بها في المحاكم العراقية خارج اقليم كردستان، على معاقبة الرجل الذي يفاجئ زوجته او احدى محارمه في حالة تلبس بالزنى أو وجودها في فراش واحد مع شريكها فقتلهما في الحال أو قتل أحدهما أو اعتدى عليهما أو على أحدهما اعتداءً أفضى إلى الموت أو إلى عاهة مستديمة، بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات.

وفي اقليم كردستان تؤكد رئيسة البرلمان ريواز فائق عدم وجود قانون مخفف لعقوبة جرائم غسل العار، مشيرة إلى أن المادة (409)من قانون العقوبات العراقي المعمول بها في باقي أنحاء العراق غير فاعلة في الإقليم ولم يعد هناك تخفيف لجريمة القتل بحجة غسل العار.

لكنها تستدرك بشيء من خيبة الأمل “تعديل القانون وعلى الرغم من أنه يمثل إنجازاً، لكنه لم يحل المشكلة على أرض الواقع، فما زال التعامل يجري مع قضايا غسل العار بعيداً عن القانون بنحو عشائري أو من خلال منع الشكوى وإخفاء الأدلة وتغلق الملفات بشكل أو آخر”.

شهران في الطب العدلي

يضم جزء المنبوذات من مقبرة “تلّة سيوان 1” نحو ألف قبرٍ لنساء تنحصر أعمار غالبيتهن بين 15- 45 سنة، قتلن غسلاً للعار مع نسبة قليلة من المنتحرات اللواتي تبرأ ذووهن منهن بسبب ما أقدمن عليه.

لكن ليست جميع القبور عائدة لمقتولات أو منتحرات، فبينها أيضاً لعجائز لا أهل أو سائل عنهن ولا تجد دار المسنين مكاناً آخر تدفنهن فيه غير مقبرة المنبوذات.

وإلى جانب قبور هؤلاء هناك أخرى صغيرة، تضم رفات لقيطات حديثات الولادة عثر على جثثهن ملقاة في أماكن نائية كالوديان أو في مجاري الصرف الصحي. وبخلاف الجثث الأخرى التي يعثر عليها وتبقى في الطب العدلي لشهرين بموجب القانون، تدفن جثث اللقيطات مباشرة.

من خلال تتبعنا لمسار الجثث التي يعثر عليها وجدنا أنها تسلم بعد الحفظ شهرين في برادات مستشفى الطبّ العدلي الى معتمدٍ من بلدية السليمانية ليتم دفنها في مقبرة المنبوذات إذا لم يظهر أحد من ذوي صاحبة الجثة للمطالبة بها.

وهو إجراء أتخذ خلال السنوات الأخيرة كما أفاد موظفون في الطب العدلي، فقد كانت الجثة تمكث في العادة يوماً واحداً فقط قبل أن يصار إلى دفنها.

والآلية المتبعة حالياً في التعامل مع جثث القتيلات والمنتحرات المنبوذات أو وفيات النسوة اللواتي لا أهل لهن بعد مرور الشهرين، قيام معتمد البلدية باستلامها بموجب كتابين رسميين أحدهما صادر من الطبّ العدلي والآخر من المحكمة.

وتصرف البلدية أجور دفن تبلغ (136) دولاراً. وعن ذلك يقول موظفٌ بلدي طلب عدم الإشارة إلى أسمه “الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الإقليم منذ فترة ليست بالقصيرة طالت حتى الموتى، فقد كانت أجور الدفن قبل عام 2019 تبلغ 345 دولاراً”.

وذكر الموظف أنه وبعد استلامه للجثة يعهد بغسلها لاثنتين من النساء المتخصصات مقابل أجر يبلغ (28) دولاراً، ويصرف (70) دولاراً أخرى على حفر القبر و(20) دولاراً للكفن و(18) دولاراً لشراء شاهدٍ للقبر وملحقاته.

وقال بأن الإجراءات تتم وفقاً للشريعة ألإسلامية إذ يتم (التلقين) من قبل رجل دين وبإشراف من دائرة البلديات الموكلة من قبل حكومة الإقليم رسمياً، ويوضح “إجراءات الدفن ليست سرية كما يعتقد البعض، كل ما في الأمر أنه لا يتواجد أحدٌ من أقرباء صاحبة الجثة أثناء دفنها”.

وتُحتفظ السلطات الأمنية برموز خاصة فيها أرقام تعريفية للاستدلال على هوية صاحبة القبر إضافةً الى معلومات تتعلق بالجثة ككيفية وقوع حالة الوفاة ومكان وتاريخ العثور عليها وملامح الوجه أو أية علامات مميزة في الجسد من وشم أو ما شابه ذلك.

كورونا حدت من الحوادث

الموظف البلدي، ذكر بأنه تولى إجراءات دفن أربع جثث فقط خلال سنة 2020، ثلاثة لنساء مقتولات، مجهولات الهوية والرابعة لإمرأة مسنة من دار المسنين.

ويجد الموظف بأن العدد قليل جداً قياساَ بسنوات سابقة، إذ تسجل ذاكرته لما بين 2008 – 2010 ست حالات شهرياً ثم أخذ العدد بالتراجع تدريجياً. تغلب الحيرة في نبرة صوته  “هل يعقل أن تكون جائحة كورونا سبباً في ذلك؟”.

وليس بعيداً عن تساؤل موظف بلدية السليمانية، فالجهات الأمنية سجلت وبنحو عام انخفاضاً في معدلات الجرائم السالبة للحياة في فترات حظر التجوال التي عملت به حكومة الإقليم لشهورٍ عدة مع وقف حركة التنقل بين المدن والأرياف.

فتراجعت معدلات جرائم قتل النساء في الأشهر التسعة الاولى من 2020 إلى (7) حالات، و(18) حالة إنتحار، و(22) حالة حرق، مع تسجيل (6217) دعوى قضائية منها (51) تتعلق بالاعتداء الجنسي.

في حين كانت الحصيلة خلال الأشهر التسع الأولى من عام 2019 (29)حالة قتل و(47)حالة إنتحار، و(81) حالة حرق، و (8911) دعوى قضائية، منها (92) تتعلق بالإعتداء الجنسي، والضحايا في جميعها نساء.

وبحسب بيانات رسمية نقلتها مواقع كردية، تم تسجيل 63 حالة قتل وانتحار لدى النساء و157 جريمة اغتصاب واعتداء جنسي في إقليم كوردستان خلال عام 2020.

تصاعد كبير ولجان عمل

لكن ذلك التراجع يبدو كانه كان حالة مؤقتة، فالحوادث ازدادت في الأشهر الأخيرة، وخلال الأسابيع الثلاث الاولى من شهر نيسان 2021 سجلت تسع حالات قتل وأربعة حالات انتحار.

في منتصف نيسان، قتلت “زهراء” (21 عاماً) على يد طليقها، داخل منزل أبيها وأمام أنظار عائلتها في حي باداوا بأربيل. القتيلة هي أم لثلاثة أطفال وكانت قد تزوجت في سن 12 عاما وواجهت طوال سنوات زواجها مختلف أشكال العنف قبل ان تنفصل عن زوجها عشائرياً وبحضور رجل دين “استحلف” الزوج على ان لا يقتل زوجته. لكن عائلة الزوج كانت تعتبر ان خروج المرأة من منزلها والطلاق أمر “لا يُغتفر”.

في ذات الاسبوع، قام أب بقتل ابنته (23 عاما) التي كانت قد تشاجرت مع زوجها وتركت منزلها ولجأت الى منزل ابيها في منطقة طقطق. قام الأب بخنق ابنته ورميها في احد الأنهر.

بعد سلسلة الحوادث تلك شكل أعضاء ببرلمان اقليم كردستان لجنة لجمع البيانات ومتابعة زيادة حالات العنف مع الجهات التنفيذية والسلطة القضائية لإيجاد آلية مشتركة “لصياغة استراتيجية لمواجهة ظاهرتي العنف الاسري” وتحديد مواضع الخلل بما فيه تشخيص الثغرات القانونية والعمل على تعديل القوانين الحالية.

في حين ذكر وزير داخلية الإقليم ريبر احمد، ان حالات القتل والإنتحار بين الأزواج باتت ظاهرة، متهما وسائل إعلام بأداء دور سيء “هي تبعث برسائل ملتوية من خلال تغطيتها لتلك الحوادث”، داعيا اياها إلى عدم اجراء المقابلات مع المتهمين “لمخالفة ذلك القوانين”.

 

كيف يتم التعامل مع الجثث؟

تفرض حالات العثور على جثث لنساء مقتولات أو منتحرات لا تعرف هوياتهن، اتخاذ اجراءات محددة. يقول المتحدث باسم شرطة السليمانية النقيب سركوت أحمد، أن أول ما يقومون به حال تبلغهم بوجود جثة ملقاة في مكان ما هو إجراء المسح الفوري وأخذ عيّنات منها لإجراء فحوصات مختبرية، ومن ثمّ كتابة تقرير مفصل عنها وتصويرها فيديويّاً بالكامل لتوثيق معالمها ولاسيما الوشوم والعلامات البارزة ويتم الاحتفاظ بالفيديو والصور تحسباً لظهور ذويها لاحقاً.

بعد الانتهاء من هذه الإجراءات الروتينية تقوم الشرطة برفع الملف الخاصّ بالجثة الى المحكمة للنظر فيه وتسلّم بعدها الى دائرة الطبّ العدلي وتبقى هناك لمدة شهرين كاملين على أملٍ أن يظهر أحد من ذويها أو حدوث أي تطور في ملف القضية إذا كان جنائياً.

وفي حال عدم حصول أي من هذين الأمرين تقوم البلدية بدفن الجثة. ووفقاً لـخبرة زردشت رشيد مدير إعلام رئاسة بلديات السليمانية فأن العديد من ذوي المدفونات يظهرون لاحقاً وبعضهم قام بالفعل بإخراج جثث ونقلوها لدفنها مجدداً في مقابر أخرى.

وبالعودة للشرطة المحلية فأن المتحدث باسمها النقيب سركوت يؤكد بأن بعض الجثث تتشوه كليّاً أو جزئياً لأسباب عديدة كالحرارة التي تؤدي الى تفسخها أو الحيوانات السائبة التي تأكل أجزاء منها في المناطق النائية.

ويرفض المتحدث باسم شرطة السليمانية وصف العثور على جثث نساء عربيات أو إيرانيات بالظاهرة، كما يشاع بعض الأحيان، بل هي “مجرد حالات قليلة وبعضهن يظهر ذويهن بعد فترة أي لايبقين ضمن عداد مجهولات الهوية”.

الدين لا يفرض دفنهن بمقبرة خاصة

يؤكد رئيس هيئة إفتاء السليمانية وأستاذ الشريعة في جامعتها د. محمد بينجويني أنّ الشريعة الإسلامية ترفض حالات القتل التي تطال الرجال والنساء على حد سواء.

ويقول أنه لا وجود لشيء اسمه “القتل بداعي الشرف أو غسل العار”، بل هي حالة وحيدة وتستلزم وجود أربعة شهود على وقوع ما يعرف بفعل “الزنا”، وتكون العقوبة بجلد الأعزب ورمي المتزوج بالحجارة وهذا الحكم “يشمل الذكر والأنثى وليس أحدهما دون الآخر”.

ولفت إلى أن الشريعة الإسلامية لا تفرق في مراسم الدفن بين المرأة المقتولة بداعي الشرف أو غسل العار وامرأة أخرى توفيت لسبب آخر، وتابع “ارتكاب الذنب أو الرذيلة لا يُخرج الإنسان من الدين باستثناء الكفر”.

وينفي بينجويني وجود نصوص أو أحكام تشير إلى دفن المقتولات أو المقتولين بسبب الزنا والمعاصي الأخرى في مقبرةٍ خاصة ليتم احتقارهم في الدنيا قبل الآخرة.

لكنه يؤيد في ذات الوقت قيام الحكومة بتخصيص مكان محدد لدفن المقتولات والمقتولين بسبب الزنا أو غسل العار من باب “تحذير الأحياء بعدم القيام بمثل هذه المعاصي التي تغضب الله، وأيضاً لتربية الأجيال بأن هؤلاء المدفونين في هذا المكان قاموا بذنوب ومعاص أغضبت الله فكان هذا مكانهم”.

 

مقبرة جامعة لمختلف القوميات

لا تضم مقبرة المنبوذات رفات نساء كرديات فقط، بل وأيضاً لنساء عربيات من مناطق وسط وجنوب العراق وإيرانيات ومن دول أخرى، قُتلن لأسباب مجهولة وعُثر على جثثهن في السليمانية والأقضية والنواحي التابعة لها ودفنَ في هذه المقبرة منذ العام 2005.

عبير (30 عاماً) واحدة منهن، أجبرتها عائلتها المعدمة على الزواج من رجل يكبرها سناً مقابل مهر يبلغ عشرة آلاف دولار أمريكي، لكن زواجها لم يستمر طويلاً إذ هربت من بيت الزوجية في العاصمة بغداد وعاشت في مدينة السليمانية لنحو عام عملت كراقصةً في واحدة من الملاهي الليلية التي تعج بها منطقة سرجنار السياحية ويعمل فيها كثيرات مثل عبير، هاربات من ماضيهن.

الأوراق التحقيقية لقضية مقتل عبير توجه أصابع الاتهام للزوج الذي اكتشف محل عملها ورصد مقر سكنها ثم استدرجها صيف 2020 إلى جبل أزمر الذي يتوافد عليه السياح العرب القادمين من مختلف المدن العراقية، بغية التفاوض لوضع حد لزواجهما غير أنه وضع حداً لحياتها هناك ثم فر هارباً إلى جهة مجهولة.

غسل العار للنساء دون الرجال

تأتي العادات والتقاليد في مقدمة الأسباب التي تزيد من حالات العنف ضد النساء في اقليم كردستان وذكرت بهار منذر الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة بأن جرائم القتل بداعي الشرف أو كما يعرف بغسل العار تطال النساء دون الرجال.

وتقول: “نادراً ما يُسجل المجتمع الكردي حالة قتل رجل فيما يتعلق بغسل العار أو الشرف، وهذا يحدث أيضاً في عموم الشرق الأوسط ولا يتوقف الأمرعند الإقليم أو العراق فقط”.

وما يشكل محل “ألم وصدمة” بالنسبة لهذه الناشطة أن الكثير من العائلات تحكم على البنت أو المرأة بالموت في حال كشفت ارتباطها بعلاقة عاطفية. وهي ظاهرة أخذت بالازدياد بعد العام 1991 وهو العام الذي حصل فيه الكرد على حق إدارة إقليمهم بأنفسهم بدعم من الأمم المتحدة حيث ضُعف تطبيق القانون.

ووصفت “بهار” دور حكومة الإقليم في معالجة الأمر بـ”البائس”. لعدم إتخاذها الإجراءات الصارمة بحق مرتكبي جرائم القتل ضد النساء بالشكل المطلوب، وفقاً لتعبيرها.

وتلقي باللائمة أيضاً على المحاكم وتُحملها جزءاً من مسؤولية تفاقم ما تصر على تسميته بـ”ظاهرة” قتل النساء. ولا تخفي يأسها من امكانية حل المشكلة لعدم وجود “إجراءات حقيقية وجدية تعالجها على أرض الواقع.”

وتبدي “بهار” أسفها لأن واقع المرأة الكردية اليوم لم يتغير عن الذي كان عليه في الماضي، وتقول بأن المرأة  “ضحية دوماً وتستخدم كسلعة أو أداة لإصلاح ما يفسده الرجل”.

وتسوق مثالاُ على ذلك ما يرتبط بـ”إجبار المرأة على الزواج من شخص، لإجراء صلح عشائري  كما يحدث في الكثير من مناطق اقليم كردستان أو في مناطق العراق الأخرى ذات الطابع القبلي بأغلبيته”.

وترى بأن وجود مقبرة خاصّة لدفن النساء المقتولات أو المنتحرات ما هو إلا “دليل واضح على الهروب من المسؤولية بدلاً من السعي لتحملها وهي ناتجة عن السيطرة العقلية الذكورية لا غير”.

ووفقاً لرؤية الباحث الاجتماعي “فريق حمه” أيضاً فأن وجود مقبرة للمنبوذات يعد انتقاصاً من حقوق المرأة ومكانتها الاجتماعية وتأكيداً على أن المجتمع الكردي يضع المرأة بالدرجة الثانية أو الثالثة.

تقول الناشطة المدنية ليلى حسن، ان “تحقير النساء والنظر اليهن كعورة” لن يتوقف ما لم تتغير القيم والرؤى المجتمعية التي تنظر الى المرأة ككائن دوني خاضع للرجل. تواصل وهي تغطي عينيها بكلتا يديها “قبل أيام حيث اسكن في دهوك، انتحرت فتاة في مقتبل العمر بالقاء نفسها من شقة سكنية، كان جسدها قد تشوه تماما بعد ارتطامه بالأرض. صراخ افراد عائلتها والجيران كان يملأ المكان، بين موجات الصراخ والبكاء كان البعض يصيح بإلحاح اجلبوا بطانية لتغطية جثتها، فجسدها المهشم يظل عورة”.

تتوقف عن الكلام لبرهة وشفتاها ترتجفان ثم تتابع:”لا يغادر منظرها ذاكرتي، كان الدم في كل مكان، وشقيقتها الأصغر تبكي بحرقة قرب جثتها، ووسط الفوضى سمعت احدهم يقول اجلبوا غطاء رأس لها لا يجوز ان تخرج للشارع هكذا حاسرة الرأس”.

تتساءل ليلى عن النظرة الاجتماعية التي ستلاحق جارتها الصغيرة المنتحرة الى الأبد “كثيرات يواجهن العنف والظلم طوال حياتهن وحين يَنتحرن او يُقتلن يَظلن منبوذات حتى لو دفن في مقابر العامة، يكفي انهن انتحرن او قتلن لينظر اليهن بسوء”.

 

*أنجز التقرير بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الإستقصائية.

المزيد عن تقارير سردیة

Reports

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18738}" data-page="1" data-max-pages="1">