في الساعة الثامنة من صباح كل يوم، كان أبو غسان يفتتح نهاره بزيارة “بسطة” الصحف المحلية على الرصيف المقابل للعمارة التي تقع فيها شقته، قرب ساحة كهرمانة، وسط العاصمة بغداد، يدقّق في العناوين ويقلّب بشغف الصفحات قبل أن يلف واحدة من الصحف بشكل أسطواني ويضعها تحت إبطه ويمضي.
طقسٌ اعتاد عليهِ التربويُ المتقاعد منذ أن كان تلميذاً قبل نحو خمسة عقود، غير أن الفضائيات والإنترنت ومن ثم كورونا “قتلوا متعتي القديمة”، يقول وهو يحدِّق في شاشة التلفاز.
حتى أعوام قليلة، كان بوسعه الاستمتاع بقراءة الصحف صباحاً وقضاء ساعة أو اثنتين في تقليب صفحاتها لمتابعة مستجدات الأوضاع العامة، قبل أن تفرض الأزمات الاقتصادية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي واقعاً جديداً. وأخيراً، أتى كورونا لينهي عادته الأثيرة وعقوداً من الاحتفاء بالصحف.
لا يجد أبو غسان اليوم غير التلفزيون سبيلاً لإبقاء نفسه ضمن دائرة متابعة ما يجري في البلاد، بعد أن توقفت صحفه المفضلة عن الصدور.
“إنها نهاية الصحافة المطبوعة في العراق”، يقول أبو علي الذي عمل منذ صيف 2003 في مهنة بيع الصحف وفي أسواق توزيعها. ترصد ذاكرته رواجاً كبيراً للصحف اليومية والأسبوعية والمجلات في الفترة التي أعقبت سقوط نظام حزب البعث.
“في كل يوم، كنّا نجد مطبوعة صحافية جديدة، كانت هنالك العشرات منها، ست أو سبع تتبادل صدارة المشهد يومياً وتكتسح الأسواق وتحقق أرباحاً من الإعلانات… كل ذلك انتهى إلى غير رجعة”.
يتابع أبو علي وهو يشير إلى أكشاكٍ مقفلة ومكتبات حوّلت واجهاتها المخصصة لبيع الصحف إلى عرض القرطاسية: “بعض الصحف كانت تُصدر يومياً 30 ألف نسخة وأخرى تَصدر بنسخ أقل طبعاً، والرئيسية منها كانت تحظى بإعلانات جيّدة. تغيّر كل شيء، تراجعت المبيعات وتوقفت الإعلانات، فتراكمت خسائرها وتوالت انهياراتها، وما بقي منها اليوم هو على عدد أصابع اليد، وهي لا تطبع إلا بضعة مئات من النسخ”.
الظروف غير المؤاتية في مهنة بيع الصحف وجهت أبو علي أيضاً ليعمل في مهن أخرى، يتنقل من واحدة إلى أخرى دون استقرار.
المال السياسي وأزمات الاقتصاد
يتّفق معظم العاملين في مجال الصحافة المطبوعة، سواء في الإعداد أو الطباعة أو التوزيع، والذين خسر غالبيتهم وظائفهم في السنوات الأخيرة، على أن الصحافة المطبوعة “تترنح على حافة الهاوية” نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية بعد انخفاض أسعار النفط الذي تعتمد عليه ميزانية البلاد بنحو 90% والذي أثّر بدوره على تمويل الأحزاب والمؤسسات وحتى على عمل الشركات.
ويلفت الصحافي عادل كمال إلى أن الصحافة في عهد النظام العراقي السابق كانت موجهة ولم تكن هنالك سوى أربع صحف يومية “تمثل لسان حال النظام وتمجّده”، على حد توصيفه.
وبعد تغيّر النظام في نيسان/ أبريل 2003 انتعشت الصحافة الورقية وصار لكل حزب أو تيار سياسي صحيفته الخاصة. يقول كمال: “أيامها كان الإقبال الشعبي كبيراً بسبب تعطش الناس لمتابعة الأصوات التي بقيت لعقود مكبوتة وللاطّلاع على الواقع الجديد خاصة مع لجوء غالبية الصحف إلى نشر معلومات ووثائق عن الحقبة السياسية السابقة والتي كانت محجوبة عن الرأي العام”.
وإلى جانب الفضائيات والإنترنت، يعتقد كمال أن هنالك سبباً آخر أدى إلى فقدان الصحف الورقية بريقها عراقياً، يتمثل في ارتباط معظمها بشخصيات وأحزاب سياسية، ما جعل احتجابها أو استمرارها بالصدور مرتبطاً بنجاح ذلك السياسي أو الحزب في السلطة من عدمه.
بين عامي 2004 و2012، عمل كمال مراسلاً ومحرراً في صحف عراقية عدة توقفت عن الصدور بعد أن فقد ممولوها مناصبهم السياسية أو فشلوا في الانتخابات.
ويضيف إلى تلك الأسباب التي كتبت “نهاية الصحف المطبوعة” فقدان الثقة بخطاب الأحزاب التي تموّل غالبية الصحف، وتداعيات سيطرة تنظيم داعش عام 2014 على ثلاث محافظات، ما أدى إلى تقطّع أوصال البلاد وتعذّر توزيع الصحف، فضلاً عن ظهور المنصات الإلكترونية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتحوّلها إلى مصدر رئيسي لنقل الأخبار، وانتهاءً بكورونا الذي أعطى بما فرضه من إغلاقات المبرر لمالكي بعض الصحف التي قاومت خسائرها طويلاً لإغلاقها بشكل نهائي.
“غياب الإعلانات وملاحقة الصحافيين إلى حد تصفيتهم، يجعلان من الصحافة مهنة قاتلة، فيما الأحزاب النافذة تعمل بكل قدرتها على احتكار المشهد الإعلامي عبر منصاتها… بالنهاية هي لن تسمح لك بالعمل وستواجهك بالرصاص حين تمسها”
خلال سنوات، وعلى وقع هذه العوامل، توقّفت غالبية الصحف المستقلة، وتعثر صدور الصحف الحزبية، وراجت المنصات الإلكترونية التي لا يستسيغها الكثير من القراء وعلى رأسهم كبار السن ممّن لا يتقنون استخدام الأجهزة الإلكترونية ويعانون من صعوبة في القراءة على اللوحات الهاتفية، مثل أبو غسان الذي يقول: “لذلك صار التلفزيون سبيلنا الوحيد”.
تسريح العاملين
يمكن تتبع أثر توقف الصحف الورقية عن الصدور من خلال آلاف العاملين الذين سُرّحوا، من صحافيين ومصوّرين ومصممين وإداريين وعمال مطابع وموزعين، ولم يجد إلا عددٌ قليل منهم فرصاً بديلة.
يرى رئيس المرصد العراقي للحريات الصحافية هادي جلو مرعي أن الصحافة الورقية شهدت في السنوات الأخيرة “تراجعاً مخيفاً” في كل بقاع العالم وليس العراق فقط، وصار التحوّل نحو المنصات الرقمية هو المتسيّد.
ويعتقد جلو أن مشكلة الصحافة الورقية مرتبطة اليوم بتكلفتها العالية بعد التطور التقني الذي حصل، وأنها باتت تمثل “مشروعاً خاسراً لمَن يستثمر فيها”، وأن “المتلقي وجد في المواقع الإلكترونية ما يلبّي رغباته”.
بالتزامن مع التحوّل الذي شهدته الصحافة من ورقية إلى إلكترونية في العالم، شهد العراق أزمة اقتصادية. هذا الواقع الجديد ببعديه التقني والمالي “ألقى بظلاله على العاملين الذين باتوا مهددين بالاستغناء عن خدماتهم، بعد أن صار البحث عن مصادر للتمويل وإدامة الإصدار هو الشغل الشاغل”.
ووفقاً لمرعي، تلقّى المرصد العديد من الشكاوى المتضمنة “قطع رواتب العاملين في الصحف المحلية، أو التعثر في دفعها، إلى جانب تسريح بعضهم دون سابق إنذار، فيما أضحت الكثير من الصحف الإلكترونية تعتمد على عمل شخصين أو ثلاثة فقط”.
تقدّر نقابة الصحافيين العراقيين أعداد الصحف التي صدرت في البلاد بعد عام 2003 بنحو 250 صحيفة، فضلاً عن عشرات المجلات، إلى جانب تأسيس أكثر من 100 محطة تلفزيونية. أغلقت معظمها في السنوات العشر الأخيرة في ظل تراجع المبيعات والإعلانات والتمويل.
ويؤكد نقيب الصحافيين مؤيد اللامي أن الوضع المالي للصحف المطبوعة شهد تدهوراً في السنوات الأخيرة، فأعلنت العديد من إداراتها إفلاسها وتوقفت، فيما اكتفت أخرى بالنشر الإلكتروني، بعد عجزها عن تأمين مرتبات العاملين فيها وتكاليف الطباعة.
فوضى مهنية
ليس نقص المبيعات والإعلانات وتراجع التمويل ومن ثم انعكاسات جائحة كورونا وحدها التي دفعت بالصحافة الورقية إلى نهايتها في العراق، فثمة مَن يعتقد أن الصحافة الورقية تشهد “فوضى مهنية” انعكست على الأداء منذ عام 2003.
يقول عميد كلية الإعلام السابق الدكتور هاشم حسن إن الصحافة العراقية “شهدت فوضى كبيرة في ظل وجود أعداد كبيرة من الطارئين على العمل الصحافي، ففقدت بريقها ومهنيتها ومصداقيتها وأضحت مادة رخيصة في الابتزاز والإثارة الفارغة”.
وينفي حسن، وهو صحافي مخضرم، وجود صحافة مطبوعة في العراق اليوم، معتقداً أن “قراء كل صحيفة لا يتجاوزون بضع عشرات”، وأن الصحف تصدر “لديمومة احتكار الإعلانات الحكومية والترويج للشركات والمستثمرين وبعض السياسيين”.
إلى جانب الفضائيات والإنترنت، هنالك سبب آخر أدى إلى فقدان الصحف الورقية بريقها عراقياً، وهو ارتباط معظمها بشخصيات وأحزاب سياسية، ما جعل احتجابها أو استمرارها مرتبطاً بنجاح ذلك السياسي أو الحزب في السلطة من عدمه
ويعلق على تأثير فيروس كورونا في واقع الصحافة الورقية قائلاً: “الصحف المطبوعة كانت ميتة قبل شيوع الفيروس وأي محاولة لإعادة إصدارها مستقبلاً هي بمثابة انتحار”، منوهاً إلى أن “صحفاً عراقية شهيرة كالزمان والمدى والمشرق على سبيل المثال تطبع ومنذ سنوات أعداداً لا تتجاوز ألفي نسخة، ولا يُباع منها إلا بضع مئات فيما تُرمى النسخ المتبقية مع المرتجعات أو تكدَّس في المخازن، بينما تطبع صحف أخرى 100 نسخة فقط تُستخدم للإعلانات الحكومية مدفوعة الأجر أو للأرشفة الورقية”.
ليست الصحف المستقلة أو شبه المستقلة وحدها التي تشهد تراجعاً، فقد شمل التحدّي صحيفة الصباح شبه الرسمية نتيجة “سوء التوزيع في الأقضية والقصبات البعيدة عن مراكز المدن، وتأخر مواعيد وصولها”، حسب عميد كلية الإعلام الذي يرى أن قراء الصحيفة هجروها نحو المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي “رغم الشكوك التي تحوم حول مصداقيتها”.
يضيف الدكتور هاشم حسن ساخراً: “جائحة كورونا ساعدت العديد من الصحف المطبوعة في الخروج من مأزق عزوف القراء عنها وعدم الاكتراث بما تنشره بعد أن غادرت مهنيتها وعجزت عن إثارة القضايا والملفات المهمة تحت ضغط التمويل الحزبي وضمان تدفق الإعلانات”.
إخفاق أكاديمي
الإشارات إلى التراجع في “الأسس المهنية” للعمل الصحافي الذي طال الصحافة المطبوعة والذي يظهر بوضوح أيضاً في الصحافة الإلكترونية، لا ترتبط بتعقيدات وتحديات بيئة العمل في المؤسسات الصحافية فقط، كما يقول الأستاذ الجامعي الدكتور مسلم عباس، بل أيضاً بفشل كليات الإعلام في مواكبة التطورات التي شهدتها الصحافة العالمية.
ويؤكد أن المناهج الجامعية تعاني من القِدَم والتكرار ومن التركيز على المواد النظرية، واقتصرت التحديثات على إضافة مادة الصحافة الإلكترونية مقابل التحوّلات الهائلة التي حصلت في الصحافة.
ويدعو عباس الذي سبق وعمل في قسم الإعلام في جامعة أهل البيت الأهلية، كليات الإعلام إلى الإسراع في تحديث مناهجها ليكون لها دور في تطوير الأداء الصحافي.
كما يلقي باللائمة على نقابة الصحافيين لعجزها عن “التأقلم مع الواقع الجديد للصحافة وافتقار أساليبها في التعاطي مع البيئة الإعلامية الإلكترونية الحديثة إلى الدقة والموضوعية”.
وينبّه إلى ما يصفه بـ”معضلة غياب الممول الذي يمتلك مشروعاً صحافياً حقيقاً بعيداً عن الأدلجة السياسية”، معرباً عن قناعته بأنها مسألة “عصية على الحل”.
ويجزم بقرب “نهاية حقبة الصحافة المطبوعة في العراق” بعد أن أضحت الصحف بلا قراء عدا شريحة صغيرة من كبار السن، وفقاً لما يعتقد.
دوافع سياسية
وسط دوامة غرق الصحف، هناك مَن يعتقد بأن تعرّض “الإعلام المهني” للوهن لم يكن عشوائياً، بل تم العمل على جعله عاجزاً عن مواجهة ظواهر الفساد بفعالية، حتى يكون الرأي العام مهيئاً للأدلجة وللبروباغندا الحزبية التي تسعى إلى دفع الجمهور لاتجاهات محددة.
في 21 آب/ أغسطس 2017، أعلن عدد من رؤساء تحرير الصحف المحلية عن تأسيس اتحاد مهمته إيقاف ما وصفوه بـ”مسلسل الانهيار المستمر للصحف”، متهمين جهات سياسية بفرض إرادة مضادة تسعى في الباطن لتدمير الصحف “استجابة لدوافع سياسية فاسدة لا يسرّها انتعاش الصحافة التي تشكل مصدر قلق للفاسدين”، بحسب وصف بيان التأسيس.
ودعا البيان الرئاسات الثلاث إلى القيام بواجبها في حماية وصيانة حرية الرأي، من خلال تقديم الدعم والمشاركة في طرح الحلول وتسهيل إقرار تشريعات تضمن “استمرار عطاء صاحبة الجلالة ومواصلة أداء واجبها المهني كسلطة رابعة”، مستنكراً “حالة التجاهل والإهمال على الرغم من تكرار النداءات لإغاثة الصحف التي بدأت بالانهيار تدريجياً”.
لكن أي من تلك المطالب لم يتحقق واستمر مسلسل انهيارات الصحف وسط الأزمات السياسية وحملات استهداف الصحافيين والمدونين التي شهدتها البلاد والتي راح ضحيتها العديد منهم ومعها انحسرت آفاق حرية الرأي.
معركة خاسرة
يرى مسؤول القسم السياسي في إحدى الصحف الإلكترونية مصطفى سعد أن تفشي كورونا قضى على “ما تبقى من بارقة أمل”، كاشفاً عن “تسريح عدد كبير من الصحافيين الذين لا يمتلكون في الغالب عقوداً تضمن حقوقهم، وعن تكرار تأخير سداد الرواتب لأشهر عديدة، والاستحواذ على جزء من مستحقاتهم”.
ويصف الصراع ما بين الصحافة المطبوعة والتكنولوجيا الحديثة بـ”المعركة الخاسرة”، معتبراً أن الصحافة المطبوعة “تعيش في ظل أزمة اقتصادية حادة وتراجع خطير في مستوى الأداء”.
لكن هفال زاخويي، رئيس تحرير صحيفة الأهالي الليبرالية، والتي استمرت في الصدور لنحو 13 سنة قبل أن تتوقف عام 2015 بسبب الأزمة الاقتصادية وندرة الإعلانات، يرى أن الأزمة تتعلق بالصحافة عموماً وليس بالصحف المطبوعة فقط.
“خلال السنوات الماضية، توقفت العديد من الوكالات والمواقع الخبرية وسُرّح صحافيوها حتى دون دفع كامل مستحقاتهم”، يقول.
ويضيف: “نعم، تكاليف الطباعة ومشاكل التوزيع والإعلانات أنهكت الصحافة المطبوعة، لكن الصحافة الإلكترونية أيضاً تواجه مشاكل عميقة فهي بدورها لا تستطيع تغطية مصاريف موظفيها وتعاني من ذات مشكلة غياب الإعلانات إلى جانب قلة القراء”.
ويشير زاخويي إلى مشكلة “غياب الرؤية المستقبلية لدى القائمين على المؤسسات الصحافية بسبب العناصر الطارئة على المهنة الذين تم استقطابهم بتأثير من المال السياسي مقابل إقصاء وتهميش الكفاءات المستقلة والمهنية”.
والمشكلة الأكبر بحسب زاخويي، تتعلق بـ”غياب الأسس المهنية” في الصحافة الإلكترونية التي تسيطر عليها جهات سياسية. “أنت تقرأ فيها الكثير من الأخبار التي يظهر لاحقاً أنها مفبركة أو تضم معلومات غير دقيقة أو مسروقة، والمشكلة الأخيرة شائعة فالكل يسرق من الكل إلى حد أنك إذا صادفت خبراً مفبركاً لا تعرف ما هو مصدره”.
وعود حكومية معطلة
في السابع من أيار/ مايو 2019، بحث وفدٌ من نقابة الصحافيين برئاسة النقيب مؤيد اللامي ومجموعة من رؤساء تحرير وممثلي الصحف مع النائب الأول لرئيس مجلس النواب حسن كريم الكعبي، سبل دعم المؤسسات الإعلامية بصورة عامة والصحف المطبوعة بنحو خاص.
نوقش خلال اللقاء “وضع مقترح قانون يتضمن تقديم الحكومة منحاً مالية للصحف، والاتفاق على تأسيس صندوق لدعم الصحافة يموَّل عبر الاستقطاع من شركات الهاتف النقال والشركات النفطية، والتنسيق مع المطابع الحكومية لطباعة الصحف مجاناً، وإعادة المكافآت التشجيعية للصحافيين التي توقفت بسبب الأزمة المالية”.
لكن أياً من تلك المقترحات والنقاط لم يرَ النور، بينما زاد انتشار فيروس كورونا من عمق الأزمة لتهدد بتفكك مزيد من المؤسسات وتراجع الأسس المهنية للعمل الصحافي.
يرى عضو الهيئة الإدارية لنقابة الصحافيين العراقيين فراس الحمداني أن الحلول الحكومية ستظل “حبراً على الورق، ما لم تسارع الحكومة إلى تنفيذها وفقاً لتوقيتات زمنية محددة”.
ويقول: “عشرات الصحف أغلقت أبوابها وسرّحت موظفيها، فيما هجرت أخرى الطبعة الورقية وتوجهت نحو الصحافة الإلكترونية قسراً”، مبيناً أن انتشار كورونا ألقى بتداعيات موجعة على الصحافة الورقية.
أمام هذا الواقع، يدعو عضو لجنة الاتصالات والإعلام البرلمانية علاء الربيعي إلى تحرك عاجل من الجهات المعنية “لإنشاء صندوق لدعم المؤسسات الصحافية المستقلة، وزيادة عدد الاشتراكات الحكومية من الصحف المطبوعة، ورفع القيمة المادية للإعلانات المنشورة”.
ويقول الربيعي: “لا يمكن أن تبقى الحكومة متفرجة أمام واقع الصحافة المزري، وينبغي أن يكون الدعم من مهامها التشجيعية الأولى”.
مؤسسات بلا أثر
الركون إلى الدعم الحكومي لإنقاذ الصحافة من أزمتها يعني، بحسب صحافيين محترفين، الخضوع لإرادة الأحزاب النافذة في الحكومة والبرلمان وفقدان الاستقلالية وذلك شرط أساسي لصحافة قادرة على القيام بعملها في كشف مواضع الخلل.
من هنا، يرى الصحافي دلوفان برواري أن غياب اقتصاد حر وشركات منتجة قوية وارتباط معظم الصحف بالأحزاب والشخصيات السياسية، يعني صعوبة بناء صحافة قادرة على المنافسة “ففي النهاية الصحافة الحزبية أو الممولة بنحو غير مباشر من المال السياسي الداخلي والخارجي تضع أمام نفسها الكثير من الخطوط والقيود”.
ويضيف: “المال السياسي دمّر الصحافة المهنية وقتل فرص ولادة صحافة حقيقية، خاصة مع تدخل الأحزاب في توجيه الإعلانات إلى صحف بعينها وحجبها عن صحف أخرى”.
ويشير برواري إلى أن “شبكة الإعلام العراقي” التي كان يُفترض بها أن تؤسس لإعلام وطني حيادي ومؤثر، فشلت في مهمتها. “تم توظيف نحو خمسة آلاف شخص فيها وحين تنظر إلى النتاج تجده مخجلاً، إذ لم تتمكن الشبكة من القيام بدورها كمعيار للصحافة المهنية لتقتدي بها باقي المؤسسات”.
ويشرح برواري ما آلت إليه الأمور في الشبكة التي تضم عدة منصات: “قناة العراقية تحولت إلى قناة الحكومة وصحيفة الصباح شبه الرسمية التي تضم نحو 170 موظفاً لا تكاد تحس بوجودها في عالم الصحافة الحقيقية، فهي ليست مصدراً للأخبار أو للسبق الصحافي، ووسط موجات الفساد لم نقرأ يوماً فيها تقريراً يكشف حالة فساد كبيرة. حتى الموقع الإلكتروني للصحيفة يثير الاستغراب”.
أعمق من التمويل
“لا ترتبط أزمة الصحافة بالتمويل فقط وبإغلاق الصحف المطبوعة، إنها أعمق بكثير من هذا”، يقول صحافي، فضل عدم كشف اسمه، خوفاً من الملاحقة، ويضيف: “هي أزمة متعددة الأوجه، فهي طوال سنوات لم تكن قادرة على التأثير، وهي اليوم غير قادرة على قول الحقيقة خوفاً من الاستهداف”.
ويوضح أن المؤسسات الصحافية التي تحاول التزام المهنية “تعاني بشدة في ظل ثنائية التمويل والتهديد. غياب الإعلانات وملاحقة الصحافيين إلى حد تصفيتهم، يجعلان من الصحافة مهنة قاتلة، فيما الأحزاب النافذة تعمل بكل قدرتها على احتكار المشهد الإعلامي عبر منصاتها التي لا ينقطع تمويلها رغم ضعف أدائها. بالنهاية هي لن تسمح لك بالعمل وستواجهك بالرصاص حين تمسها ولن تجد أحداً يحاسبها”.
ويرى الصحافي الذي قضى نحو 20 عاماً في المهنة أنه “في البداية تم القضاء على الصحف المطبوعة، ثم جاءت الضربات ضد الصحافة الإلكترونية التي هرب بعض الصحافيين إليها. ومع بروز السوشال ميديا كبديل قوي لنشر المعلومات وكشف الحقائق، أطلقوا جيوشهم الإلكترونية لينشروا الأخبار المحرّفة هناك”.
أبو علي، موزع الصحف السابق الشغوف بالصحافة، يرى أن فرصة الصحافة المطبوعة بالاستمرار معدومة و”لن تجد مَن ينقذها”، وأن الكلمة العليا باتت لوسائل التواصل الاجتماعي المليئة بالأخبار المزيفة. وبرأيه، “ليس أمام جمهور الصحف وخاصة كبار السن ممَّن لا يجيدون استخدام التكنولوجيا غير هجرة عاداتهم القديمة وتناسي مطالعة الصحف”.
*أُنجز هذا التقرير بدعم وتحت إشراف شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية.