قصص: مستشفيات نينوى “المريضة” من يحمل العلاج لها؟

مستشفيات نينوى “المريضة” من يحمل العلاج لها؟

أنس الباشي:
طوال عقود كانت مستشفيات مدينة الموصل الحكومية وعياداتها الخاصة التي يعمل فيها أفضل الأطباء في المنطقة ومن مختلف الاختصاصات تستقبل المرضى من معظم محافظات شمال العراق، لكن الصورة انقلبت تماما بعد 2005  مع رحيل الكوادر الطبية عنها خوفا من الاستهداف ومن ثم تدمير المؤسسات الصحية في معارك استعادة الموصل من تنظيم داعش.
في منتصف العام 2019، تعرض “أبو ياسر” لأزمة صحية طارئة، وبعد مراجعات سريعة لعدد من المستشفيات والأطباء في الموصل، ظهر انه مصاب بعجز في الكليتين ويحتاج الى رعاية صحية دقيقة.

يقول أبنه ياسر (26 عاما) “فوجئنا بتدهور صحته وبعد تشخيص دقيق لحالته على يد عدة أطباء، تبين انه مصاب بعجز حاد في الكليتين، كان ذلك في صيف العام 2019 ومعها دخلنا نحن أبناؤه جميعا حالة الطوارئ لتأمين الرعاية الصحية الضرورية له”.
يضيف وهو يشتري بعض الادوية من صيدلية في مدينة دهوك “بعد تشخيص الأطباء المختصين للحالة بحثنا في جميع مشافي المدينة سواء الأهلية او الحكومية بالإضافة إلى المجمعات الطبية عن طبيب مختص بزراعة الكلى لمتابعة حالته ففشلنا، حتى أخبرنا طبيب مقيم بالحقيقة الصادمة: لا تضيعوا وقتكم لا يوجد طبيب بهذا الاختصاص هنا”.
لم نصدق ما سمعناه في بادئ الأمر، يقول ياسر فالموصل معروفة بأطبائها الممتازين ومن مختلف الاختصاصات، وهي تضم نحو ثلاثة ملايين انسان فكيف تخلو من طبيب متخصص في هذا المجال.

يقول ياسر “استوعبنا سريعا الحقيقة المرة، فخيرة الاطباء توجهوا ومنذ سنوات الى العمل في اربيل ودهوك والسليمانية التي تمتلئ مستشفياتها بالخبرات الموصلية او الى خارج العراق ولم يعد لهم وجود هنا بسبب شعورهم بالخوف على حياتهم في ظل اوضاع امنية غير مستقرة”.

وتواجه الموصل نقصا حادا في البنى الصحية التي تعرضت للدمار في حرب تحريرها في العامين 2016 و2017 الى جانب نقص المستلزمات والاجهزة الطبية والأدوية، كما ان المدينة لم تشهد بناء مستشفيات جديدة منذ تسعينات القرن الماضي رغم تضاعف عدد السكان،  وهو ما يدفع الكثيرين من اهالي المحافظة ممن تسوء حالاتهم ويحتاجون الى رعاية خاصة الى البحث عن العلاج في مدن اقليم كردستان القريبة او في بغداد.

رحلة العلاج والبحث

بعد يومين من الصدمة، عثرت عائلة ياسر على طبيب مُختص بزراعة الكلى في مدينة دهوك، وهناك بدأت معاناة جديدة وهي البحث عن متبرعين للكلى.
يتابع ياسر سرد فصول من معاناة عائلته مع تأمين العلاج لوالده الذي تدهورت حالته وشدد الأطباء على ضرورة الاسراع في ايجاد كلية تناسبه من أجل انقاذه: “بعد أيام من البحث وصلنا إلى سمسار (دلاّل) لبيع الكلى والاعضاء البشرية، فلا توجد وسيلة اخرى للوصول الى متبرعين او الحصول على كلية، والسعر الذي حدده كبير جدا، وكل شيء كان يجري خارج إطار القانون”.
بعد فترة وجيزة تمكنت عائلة ياسر من ايجاد متبرع مناسب وتأمين المبلغ المطلوب لاجراء العملية، وهو أمر تعجز عن تحقيقه الكثير من العائلات، فالكلف تصل أحيانا الى 50 الف دولار. وتم اجراء العملية في دهوك باشراف كادر متخصص لتستقر حالة (ابو ياسر) في الأشهر التالية.
“عشنا اسابيع صعبة، كنا نخشى ان نفقد الوالد، صدمنا بعدم وجود أطباء اختصاص ولاحقا بعدم توفر المستشفيات التي تتابع مثل هذه الحالات، وعدم توفر الأجهزة والمستلزمات الطبية في ثاني اكبر مدن البلاد والتي تتوزع كفاءاته الطبية في الدول العربية والغربية”.
يتابع ياسر “لم تنته معاناتنا فالعلاج يتطلب متابعة دقيقة ومستلزمات وأدوية عليك ان تركض هنا وهناك من أجل تأمينها”.
تلك المعاناة تعيشها عشرات آلاف العوائل الموصلية التي تبتلى بمرض فرد منها بأي من الأمراض التي تتطلب رعاية طبية خاصة او تداخلا جراحيا دقيقا، لغياب المشافي الحكومية وحتى الأهلية وعدم وجود الأجهزة الطبية والمستلزمات التقنية الضرورية للكثير من الحالات الصحية والعمليات الجراحية الدقيقة كعمليات القسطرة وزراعة الكلى والجراحات الحساسة.

16 مستشفى متضرر

يؤكد الدكتور محمود الحيالي، تلك الحقيقة، قائلا “المستشفيات وينها حتى نكدر نجيب أجهزة حديثة؟.. وان وجدت وين نسوي العمليات الدقيقة بالكرفانات مال مشفى الجمهوري، لو كرفانات مشفى السلام والبتول؟”.
يضيف الحيالي :المسألة تراكمية وحرب داعش الأخيرة دمرت ما كان موجودا ورجعت القطاع الطبي الى نقطة الصفر من ناحية البنية التحتية .. قبل العام 2014 نادراً ما كان يحتاج المريض الى اللجوء لمشافي العاصمة بغداد او الإقليم ولكن اليوم يُقال للمريض جيب معاك صوندة او مغذي او سرنجة على حسابك الخاص”.
وادت معارك استعادة المدينة من تنظيم داعش إلى تعرض 14 مشفى حكومي للدمار الجزئي، وبنسب أضرار تتراوح بين 20% و80% للمباني والأجهزة الطبية، بينما أسفرت العمليات الحربية عن تدمير كامل لمشفيي ابن سينا والجمهوري الحكوميين الذين تحولا الى ساحة للمعارك، وفق مدير عام دائرة صحة  نينوى الدكتور فلاح الطائي.
يقول الطائي ان المحافظة كانت تحتوي على 6 مراكز طبية متخصصة و16 مشفى حكوميا بسعة 4600 سرير قبل احتلال داعش لها في حزيران 2014، لكن عدد الأسرة انخفض بشكل كبير بعدها، وهو ما قلل من قدرتهم على تأمين متطلبات المرضى.

العمل في الاقليم

يرجع الدكتور علي عبد العزيز، انتقال معظم اطباء الخبرة والاختصاص في نينوى من الموصل الى بغداد ومحافظات اقليم كردستان الى البحث عن حياة وفرص عمل أفضل.

ويقول ان السبب الأبرز لانتقال الأطباء المميزين وذوي الكفاءة من الموصل إلى إقليم كردستان هو “امكانية الحصول على مبالغ أعلى بالعمل في المستشفيات الخاصة هناك، إضافة إلى توفر خدمات العيش الكريم ووسائل الترفيه المختلفة بالاقليم والتي تفتقر إليها الموصل”.

لم تكتمل رحلة البحث عن طبيب ومن ثم “كلية مناسبة” لوالد ياسر وتأمين متطلبات اجراء العملية ومن بعدها العلاج الطويل على النحو الذي تمنته عائلته التي صرفت نحو  48 الف دولار.
يقول ياسر: “في عصر أحد الايام بعد نحو ثلاثة أشهر من اجراء العملية، فوجئنا بصراخ والدي من وجع شديد في كليتيه ومن دون سابق إنذار.. حملناه سريعا بين أذرعنا لعدم قدرته على المشي او حتى الوقوف على قدميه وتوجهنا الى طبيبه في دهوك”.
يضيف:”خلال الطريق كان يصرخ في المقعد الخلفي وجبينه يتصبب عرقاً رغم ان الجو لم يكن باردا وكنا مقبلين على الشتاء.. في منتصف الطريق وانا احاول تهدأته والتأكيد أننا سنصل قريبا توقف فجاة عن الصراخ وساد الصمت، التفتُ اليه، وتيقنت سريعا ان أنفاسه انقطعت وانه فارق الحياة.. بقيت ابكي لا اعرف ماذا افعل، غير لعنة الزمن الذي جعلني اعيش بمحافظة تفتقد ابسط ما يحتاجه الإنسان من وسائل الاستشفاء”.

مئات من أهالي الموصل يضطرون للسفر اسبوعيا واحيانا يوميا الى اربيل او السليمانية طلبا للعلاج الذي لا يتوفر في مستشفياتها ومراكز وعيادات أطبائها.

تقول الحاجة “ام علي” (55 عاما) وهي تنتظر ظهور فحوصات ابنتها المريضة في احد مختبرات اربيل وتطالع الساعة التي قاربت السادسة مساء، قبل ان تقول لشخص كان يجلس الى جوارها: “والله تعبنا.. ما نعرف يمتى تطلع الفحصوات حتى نرجع”.

تصمت السيدة لبرهة بعد ان لاحظت سماعنا لكلامها ومتابعتنا لها، قبل ان تهم بفتح كيس مليء بالكشوفات الطبية، وتقول موجهة كلامها لنا:”هذه الكشوفات تتطلب ملايين الدنانير لمرض ابنتي كيف لي ان اؤمنها؟ وعلينا تأمين مصاريف التنقل والاقامة في اربيل.. ماذا لو اعادوا قطع الطرق بسبب كورونا، ستموت البنت هناك (الموصل)”.
تعاني ابنة “ام علي” من شلل رباعي، وعليها ان تكافح لانقاذها بمفردها فزوجها قتل بمعارك تحرير المدينة القديمة، تقول “هذا ابتلاء من الله ولا نملك الا الصبر، حتى معاملة تعويض زوجي لم استطع اكمالها بسبب الروتين القاتل في الدوائر الحكومية”.
في عيون الحاجة “ام علي” وعلى خطوط وجهها البارزة، تلمح الحزن والغضب على أحوال البلد التي لا تتحسن، لكنها تعتبر كل ذلك ابتلاء من الله فتكبت كل شيء في قلبها، ربما أملا في خلاص يأتي في قادم الأيام.

يتساءل احمد مهند وهو أحد أصدقاء ياسر، والذي شهد بعض تفاصيل قصة مرض وعلاج والد صديقه، عن عدد المرضى في الموصل الذين يعيشون معاناة ياسر ويخشون فقدان احبتهم في مدينة خرجت قبل نحو اربع سنوات من الحرب، لكن مايزال قطاعها الصحي مدمرا ينتظر ان تمتد اليه يد الاعمار.
يسترسل مهند في حديثه: “لا شيء اهم من تأمين الخدمات الصحية والخدمية… للأسف الألم وفقدان الأمل وافتقار المدينة للخدمات الرئيسية هي العناوين الأبرز  في جلسات الموصليين بدل أن يكون العنوان هو اعادة الاعمار والأمل”.

*انجز التقرير لصالح مشروع تمكين المرأة بالتعاون مع منظمة cfi

المزيد عن قصص

Stories

قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18684}" data-page="1" data-max-pages="1">