مجيد العبايجي:
منذ عشرات السنين وعلى ظهر سكةٍ صدئةٍ يركبُ قطارُ الموصل، يروحُ ويجيءُ إلى بغداد ومنها الى محافظات جنوب العراق وصولا الى البصرة، هذا قبل أن يحطّم داعشُ مفاصله ويصيبه بالشلل منهياً أسفاره الطويلة، لكن ثمة نور في محطة أخرى كان قد غادرها مودعا آخر مرة قبل عقود، هناك عنتاب التركية تومضُ من بعيد.
في منتصفِ شهرِ أيلول سبتمبر 2020 وقف محافظُ نينوى نجم الجبوري، إلى جانبِ القنصل التركي محمد كوجوك، بديوان المحافظة في الموصل، داعيا الى استئناف العمل بخط سكة حديد “الموصل- تركيا” لتخفيف الزخم الحاصل على الطرق المعبدة، فيما أعلن القنصل عن فتح مكتبٍ لمنح التأشيرةِ التركيةَ للمسافرين من الموصل في خطوة لرفع مستوى التبادل بين البلدين بعد أن كانت محطةُ قطارِ الموصل تغذي هذا التبادل.
في منتصف شباط 2021 وسط دكانٍ تملؤه الألبسة الجاهزة، يقوم التاجر الموصلي ليث البرهاوي، بسلسة اتصالات مع أصحابِ شركات النقل، مستفسرا عن موعدِ وصولِ بضاعته من تركيا استعدادًا للموسم الصيفي.
يصدر التاجر ذو الخبرة الطويلة، نفسًا طويلًا ثم يقول “السفر إلى تركيا بات أمرا صعبا ومُكلفا في هذه الفترة، بسبب الاجراءات التي فرضها انتشار فيروس كورونا، ما يضطرنا للتواصل مع التجار عبر وسائل الاتصال الأخرى، أحيانا لا تكون البضائع مطابقة للمواصفات التي طلبناها”.
يردف وهو يشعل سيجارته ويسحب نفسًا عميقًا: “قبل عشر سنوات سافرتُ من محطة قطار الموصل إلى تركيا، بتذكرة بلغت قيمتها (٥٠ الف دينار) كانت رحلة سهلة وميسرة لولا مرورنا بالأراضي السورية التي كانت قد شهدت بداية التوترات الأمنية، يومها لم يسمح لنا بالعبور حتى قمنا بدفع مبلغ اضافي. لكن ذلك الخط توقف تماما، ولو عمل بشكل طبيعي لكان اختاره الكثيرون للسفر واستخدموه للتجارة، فالتجارة والسفر عبر القطارات أرخص وأيسر وأكثر أمناً”.
من مركز تجاري الى اسواق هرمة
في الجانب الأيمن من الموصل والذي شهد أشرس معارك تحريرها سنة ٢٠١٧ كان للسوق القديم حظ وافر من الدمار يسرد أبو أحمد العطار وهو يجلس في محله المخصص للتوابل وبعض الغذائيات بعد اعادة افتتاحه عقب عام من انتهاء الحرب مع محلات قليلة اخرى، قصص سنوات كانت فيها أسواق الموصل مركزا مهما واستراتيجيا في المنطقة بحسب قوله.
يتناول المكيال ليزن (١٠٠غ) من بهارات تركية لزبون يقف وحيدا في دكانه، ويتابع كلامه “كان تجار الموصل هم أسياد التجارة عبر المدن الرئيسية في المنطقة (بغداد وأربيل وحلب) وتصل تجارتهم أحيانا إلى عنتاب وميردين وديار بكر. كان أبي يتاجر بمهنتنا هذه بواسطة الجمل، وعلى مدى عقود لم يتغير الأمر، بقيت الموصل مدينة تجارية وصناعية يرفد حرفيّوها أسواق المنطقة ببضائعهم المختلفة.
يتوقف لبرهة وكأنه يستذكر أياما خلت، يهز رأسه يمينا وشمالا ويقول:”الحروب دمرت كل شيء، منذ أربعين عاما ونحن نعيش في حالة حرب أو شبه حرب فماذا تتوقع أن يحصل؟ فقدنا مركزنا وتجارتنا الحيوية، وجاءت الحرب الاخيرة لتدمر محلاتنا وليتسيد معها آخرون عملية التجارة وبتنا مكتوفي الأيدي”.
يعدد الباحث الموصلي أحمد غانم، المزايا التي كانت تحظى بها الموصل والتي جعلت تجارها يسيطرون على التبادلات التجارية بالمنطقة، ويضيف: “الكل يعلم كيف اكتسبت مدينة الموصل اسمها كمركز لربط الطرق والمدن. كما ان أمانة التاجر الموصلي وتأكيده على الالتزام بأخلاق المهنة زاد المدينة ثقلا اقتصاديا وجعلها تأخذ هذا الحيز الكبير والصدى الواسع”.
القطار والمطار
عدا تطلعات اهالي الموصل باستعادة حركة قطاراتهم جنوبا وشمالا بعد تأهيلها واعادة تطويرها ومد سككها الى تركيا وسوريا مجددا، تشكل خطط اعادة بناء مطار الموصل من قبل شركة فرنسية هي الآخرى أملا واعدا بأن تستعيد المحافظة عافيتها وتلعب دورا رياديا في التجارة والنقل.
أهمية اعادة بناء سكك الموصل ومطارها جعلاها محط تنافس بين تركيا وفرنسا، خاصة المطار الذي رغبت تركيا أن تجعله مدخلًا لتعزيز وجودها الاقتصادي في نينوى، لكن الرياح جرت لصالح الفرنسيين وفازت احدى شركاتها بعقد البناء.
ووقعت الحكومة المحلية في الموصل في كانون الثاني يناير 2021 عقدا مع شركةADP-l الفرنسية لاعادة اعمار المطار. وذكر مسؤولون فرنسيون في 24 أيار عقب زيارتهم لموقع المطار مع وفد من الشركات المنفذة لإعادة الإعمار وبرفقة محافظ نينوى ان “إعادة إعمار مطار الموصل يحظى باهتمام الرئيس الفرنسي شخصيا”.
في سياق متصل بتطوير قطاع النقل في نينوى، كشف وزيرُ النقل العراقي ناصر بندر، عن سعي الوزارة لاحياء سكةِ قطارِ الموصل واعادة ربطها أولًا ببغداد، الذي صار ينتهي قطارها بمحطةِ الفلوجة متجاهلًا طريقها الأثير الممتد لـ 400 كلم شمالا.
وقال متحدثا عن ربط السكة بتركيا “نعملُ بشكلٍ جديّ لإعادة تشغيل القطار من بغداد إلى الموصل ومن ثم إلى تركيا”.
لم يذكر أحدٌ من المعنيين كيف يمكن تجاوز سوريا أو التعامل معها والتي لابد للقطار أن يمرَّ بأراضي القامشلي السورية وفق طريقه القديم، في وقت تعاني مناطق شمال شرق سوريا من توترات أمنية ومن تعدد وتباين القوى التي تسيطر على الأرض بين الادارة الكردية والجيشين الروسي والامريكي وانتهاء بقوات الحكومة السورية.
ليست القامشلي وما يشكله وضعها الأمني المعقد وحده العقبة التي من الممكن أن تقفَ أمام قطار الموصل وعرباته، بل عقبات تصطنعها جهاتٌ أخرى بسبب الثقل الذي ستفقده مناطقها المنتعشة، من احتمال عودة النبض إلى قطار الموصل وتحليق الطائرات في مطارها، حسب قول الناشط السياسي أحمد عامر.
وتيرة العمل المحبطة
لم ينس أيُّ وزيرٍ للنقل يتسلم حقيبته وفي أيِّ حكومةٍ كانت، الإدلاء بتصريح يخص سكة الموصل ومحطتها فتتناقله وسائل الإعلام باهتمام لكنه يتلاشى بعد أشهر كزوبعةٍ مع واقع ان خطط العمل تظل معطَّلة على الأرض.
“سننهي ربط سكة الحديد التي تربط محطة بيجي بالمصفى ثم الموصل”، جملة من بيان مقتضب لوزير النقل بحكومة عبد المهدي، عبد الله اللعيبي أصدره في مستهل عام ٢٠١٩.
الشاهد الأكبر على تعثر الخطط، هو واقع محطة القطار المدمرة، فالمحطة التي ظلت ومنذ بنائها عام ١٩٤٠ معلما مهما للمدينة وتنافس المعالم الأخرى في المدينة والمنطقة، مازالت أثرا بعد عين.
كانت المحطة بباحتها الكبيرة والقاعةٌ الملكيةٌ التابعةٌ للملك فيصل والفندقٌ والمقهى، تقدم نفسها كهوية عمرانية للموصل. بناية كبيرة مكسوة بحجر الحلان مع نوافذ كثيرة، يتوسَّطُها شعارٌ أسود خُطَّ عليه، “محطة قطار الموصل”.
سلسلة غارات وعمليات تفجير حولت البناية التاريخية الشهيرية الى ركام، لتفقد معها الموصل واحدة من معالمها المهمة التي لا يمكن تعويضها.
تكفّلت منظمةUNDP برفع أنقاض بناية المحطة بعد هدمِ ما تبقى شامخا منها. مقاومًا سلسلةٍ من التفجيرات، كان أولها عام 2009 وانتهاءً بحرب داعش. لتنتهي صفحةَ هذه البناية، التي شكّلت جزءًا أصيلًا من تاريخ مدينة الموصل.
محافظ نينوى نجم الجبوري أفاد بأن “الفرق الهندسية لم تحدد سقفا زمنيا للانتهاء من مشروع اعمار المحطة لحين الانتهاء من اعمار السكك الداخلية والخارجية داخلها”.
الوزير الحالي ناصر بندر، لم ينسَ هذا الروتين، فبالإضافة إلى تأكيده على ضرورة استكمال قطار الموصل بسكّته ومحطّته، ذكر قبل أشهرٍ إنه في حال “إنجاز السكة الجديدة سنعمل على شراء قطارات جديدة لأن ما موجود قديم”. بعد إعادة تأهيل القناطر التي دمرها داعش.
يقول قحطان لقمان مدير سكك حديد المنطقة الشمالية، متحدثا عن خطط العمل الحالية إن “أعمال الشركة تقتصر الآن على ربط السكة من محطة القيارة و من ثم الموصل وبعدها ربيعة شمالًا ومن ثم إلى تركيا”.
استعادة الماضي
يتكأ أبو أحمد، وهو موظف إداري عمل لنحو عقدين في محطة الموصل، على أحد الأعمدة، مشيرا بيده إلى أنقاض البناية التي تنتظر الاعمار. يقول وهو يعيد بشريط ذكرياته :”هنا كانت بوابة الدخول، كنت أقف مرارا عند الباب أشاهد قدوم الناس ورجوعهم. لمئات آلاف البشر هنا ذكريات لا تنسى”.
يضيف:”لقد كانت صرحا حضاريا، لابد من اعادة بنائها بذات التصاميم الرائعة، ليعود القطار محملا بالبضائع والركاب ويعيد الحياة لهذا المكان وللمدينة، فالتجارة عصب الحياة والمواصلات شرايينها”.
يتوقف فجأة ثم يردف :”للأسف بعد سنوات من العنف والضعف فقدت الموصل مركزها التجاري. استغل آخرون نكبتنا واستفادوا من هذا الشلل…نريد أن تعود الموصل كسابق عهدها لا مستهلكة وهامشية”.
ويرى الصحافي أحمد الحمداني بأن “خطط الحكومة الاتحادية بإعادة سكة قطار الموصل وربطها بتركيا ربما هي جزء من جهود استكمال القناة الجافة لميناء الفاو الكبير الذي سيكون محطة رئيسية في مشروع طريق الحرير الصيني. والموصل ستكون آخر محطة للعراق في مشروعه الرامي إلى ربط قارة آسيا بأوروبا”.
وسط مساحة الأمل تلك، يتساءل الكثيرون من أهالي المدينة عن إمكانية تحويل هذه المخططات والمشاريع إلى واقع حقيقي، لاستعادة جزء من الدور المفقود للمدينة والمساهمة في انعاش الاقتصاد وتوفير فرص العمل وتعويض الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها.
يقول التاجر اسماعيل علي، ان آلاف المواطنين من الذين نزحوا إلى تركيا لاسيما الأثرياء منهم وأصحاب رؤوس الأموال “ينتظرون اطلاق مشاريع الاعمار والتنمية للعودة والمساهمة فيها، ويأملون ربط مدينتهم بتركيا حتى يسهل عليهم الذهاب والإياب دون تعقيدات المرور بأكثر من مدينة”.
بعد ان تحولت الى أثر بعد عين، ينتظر أهالي نينوى إعادة إعمار محطتهم الأثيرة، لكن خطط البناء ماتزال مجرد كلام فلا تخصيصات كافية ولا جدول زمني للانجاز ذلك الحلم، ولا أحد يعرف مآلات الخطط وهل سيتمكن قطارها من التعرف على محطته الجديدة بعد الإعمار.
المزيد عن قصص
Stories
قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18713}" data-page="1" data-max-pages="1">