قصص: الزواج بالاكراه.. عالم من الظلم تبرره الحاجة وتبقيه العادات

الزواج بالاكراه.. عالم من الظلم تبرره الحاجة وتبقيه العادات

ولاء الحمداني:

اخذوني من متعتي بينما كنت ألعب مع صديقتي “بيت بيوت” واخبروني بأن علي الاستعداد لترك عائلتي وصديقاتي والدخول لعالم آخر بحياة جديدة فقد زوجوني “زواج متعة”!

هبة (وهو اسم حركي للضحية) لم تكن قد أطفأت بعد شمعتها الثالثة عشرة، حين اجبرت على هجر ألعابها وطفولتها، والانتقال مكرهة لعش الزوجية كـ “رهان” وذلك لتسديد ما بذمة زوج أمها من ديون.

تقول وهي تمسك بذات اللعبة التي تركتها قبل نحو سنتين: “كنت طفلة لا أعلم أي شيء عن الزواج، يوم جاءت الي أمي وقالت: ستتزوجين بصديق عمك”.

صوتها المخنوق وهي تروي قصتها كشف عمق الجرح الذي تعرضت له :”حسبوني سلعة وقايضوا بي  دين كان بذمة زوج امي”.

تسكت للحظات لتمسح دموعها وهي تسترجع شريط ذكرياتها قبل ان تكمل: “أخبرت أمي بأن عليَ خلال أيام ان أدخل الامتحانات النهائية للصف الاول المتوسط واكمل دراستي. لكنها لم تسمعني، قالت ان الزواج في مصلحتي”.

كل محاولات الترجي لم تشفع لـ”هبة” عند أمها وزوجها، اللذين كانا مصرين على التضحية بها لقاء التخلص من تسلط صديق العائلة الدائن.

يعد الزواج القسري في العراق  امراً شائعاً وخصوصا في المناطق التي تغلب عليها النزعة القبلية والعشائرية، ويأخذ هذا النوع من الزواج اشكالا عديدة تختلف في المسميات كالنهوة والفصلية وزواج البدائل، لكنها جميعا تتفق في اصل الاكراه، اذ تبقى الانثى مهما كان عمرها مجبرة دون ارادتها على الخضوع لهذا النوع من الزواج متى ما قرر اولياء امرها ذلك.

وعلى الرغم من تضمين الدستور العراقي موادا تتحدث بصراحة عن تجريم هذه الافعال وتم وضع عقوبات رادعة لها، الا ان نسب زواج الاكراه لم تتأثر بذلك بل شهدت تزايدا مستمرا في الفترات التي شهدت فيها البلاد أزمات امنية واقتصادية.

القانون لا يطبق

يؤكد الحقوقي سمير الحمداني، ان القانون لا يسمح بكل اشكال الزواج بالاكراه، وانه يحاسب على ذلك في حال تقديم شكوى من قبل الشخص المُكره.

ويقول الحمداني الذي يترأس لجنة الاعلام في اتحاد الحقوقيين العراقيين فرع نينوى، انه “لا يحق للأقارب إكراه اي شخص ذكرا كان ام انثى على الزواج دون رضاه، وذلك بحسب المادة التاسعة من قانون الأحوال الشخصية النافذ في الدستور العراقي، الذي يؤكد أيضا على بطلان هذا الزواج وانه من حق من أُكرِه على الزواج دون رضاه تقديم شكوى ضد الشخص المُكْرٍه”.

ويقول الحمداني: “بعد تقديم الشكوى تقوم محكمة الاحوال الشخصية باحراء التعقبات التحقيقية اللازمة بشأن الشخص المُكْرِه على الزواج”.

لكن عادة ما لا يطبق القانون، فالضحايا عمليا لا يستطيعون رفع شكاوى في المحاكم، وأصواتهم نادرا ما تسمع خارج منازلهم بسبب القيود الاجتماعية والتدخلات العائلية في مثل هذه القضايا.

“لقد تزوجني متعة ” بابتسامة يائسة ترد هبة، بعد ان أبلغناها بامكانية تقيدم شكوى قانونية، وهو ما يبطل حقها القانوني لأن زواجها غير مثبت اصلا بعقد.

فزواج هبة جرى باتفاق الطرفين على أجل أمده ثلاثة اشهر وبنحو سري. ما يعني ان هذا الزواج جرى خارج الأطر القانونية، ولا يوجد عقد يثبت ذلك الزواج يُمكن هبة من ان تحاجج به امام القضاء، فانتهى بها الحال مطلقة دون حقوق في سن مبكرة جدا.

لم يكن يخطر على بالها يوما ان حفلة زفافها التي تحلم كل فتاة بان ترتب لها بالشكل والتفاصيل التي تتمناها، ان تجري عكس ما تتوق له نفس كل انثى. فخرجت الى عش الزوجية بعينين باكيتين ويد عريسها تحكم قبضتها على يدها.

لم تحظ هبة بحفلة العرس التي تمنتها ولا بالفارس الذي حلمت به ولا بحقوقها كفتاة وبعدها كزوجة. قبل ان تغادر منزلها بدقائق هربت الى غرفتها للحظات لتودع كتبها الدراسية المرمية على سريرها وطفولتها للمرة الأخيرة.

زفوها بالدموع

“دموع الورد” كما تطلق الضحيةعلى نفسها، التي قاربت الأربعين من عمرها وهي ام لستة اطفال، تزوجت ولها من العمر اربعة عشرة عاما “لأن العريس بحسب وصف أهلها كان لحمي سمينيي” وهي مقولة لدى اهل الموصل للاشارة الى الشخص الغني.

تقول: “حالة اهلي المادية المتردية دفعتهم للتضحية بي وتزويجي رغما عني وانا في الصف الثالث المتوسط”.

والدها الذي استشهد في الحرب العراقية الايرانية في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، جعل العائلة بلا معيل ما جعلهم يعيشون اوضاعا اقتصادية صعبة دفعتهم للقبول بزواج اعتبروها فرصة للخروج من عالم العوز.

تتابع “دموع” حديثها وهي تعمل ظفيرة لابنتها الصغرى قبل ذهابها للمدرسة التي تقع على بعد شارعين من منزلها: “رفضت محاولات أهلي لتزويجي واجباري على ترك الدراسة، لكن في النهاية زفوني لرجل يكبرني بنحو عشرين عاما وانا غارقة بالدموع لم يكن عرسا بالنسبة لي بل كان عزاءً”.

العائلة بررت لدموع تلك “الفعلة الشنيعة” واخبروها بانها ستكون في حال أفضل وانها ستصبح سببا في انتشالهم من حالة الفقر المدقع وان عليها التضحية من اجل اخوتها.

تشكو السيدة دموع، انها لم تحظ بالحياة التي حلمت بها ولم تشعر بالاستقرار النفسي والسعادة يوما، حتى بعد أن كبرت وعرفت ان الحياة لا تعطي للانسان كل ما يريده، وان زواجها من شخص لم تحبه “سبب لها آلاما عميقة وكان لها أثر حتى على أطفالها”.

تقول الباحثة الاجتماعية دلال طارق، التي تعمل بإحدى منظمات المجتمع المدني في الموصل التي افتتحت مركزا لاستقبال الفتيات والنساء اللواتي يتعرضن للعنف، ان مركزهم يستقبل كل اسبوع عشرات الحالات لنساء وفتيات قاصرات كن ضحية للزواج القسري.

وتشير طارق الى ان بعض الفتيات التي استقبلها المركز تعرضن للاغتصاب من قبل ازواجهن بسبب رفضهن لهذا الزواج وعدم تقبلهن للشريك، فيما تعرضت اخريات للعنف الاسري بسبب محاولتهن رفض ذلك الزواج او اعلانهن رفضه، وحاولت اخريات الانتحار.

تقول طارق: “عندما تصلنا الحالات المتعلقة بالزواج القسري نقوم بتحويلها الى قسم الدعم النفسي من اجل متابعتها، وبعد ان يراها الباحث النفسي نقرر في ما اذا كانت الحالة تحتاج للحماية القانونية أم الصحية في البدء وما هي النصائح والخطوات التي يجب العمل عليها”.

بحسب العاملين في المركز الذي يساعد ضحايا العنف الأسري، فانه حقق حالات نجاح عديدة بما فيه تمكين نساء من الحصول على حقوقهن.

تقول طارق انها كانت مشرفة على تفاصيل قضية فتاة بعمر الرابعة عشرة زوجت قسرا برجل يكبرها بـ 25 سنة وواجهت معه مشكل كثيرة وتعرضت للضرب المبرح لمرات عديدة كادت في احداها ان تودي بحياتها “تمكن المركز من احالة الضحية للجهات القانونية، وتبنى احد المحامين الدفاع عنها ونجح في تحقيق طلب الضحية بالانفصال عن زوجها”.

الطلاق للضحية والحبس للجاني

يشير الحقوقي سمير الحمداني، الى ان محاكم الاستئناف في نينوى هي التي تبت في القضايا التي تخص الزواج القسري، مؤكدا ان “نتيجة الحكم في مثل هذه القضايا تكون دائما لصالح الشخص المتضرر، وطالما كانت الغاية الاساسية للضحية من رفعها للقضية هي الطلاق فسيقع ذلك حتما”.

لكن لا شيء اكثر من الطلاق وكسب حريتها يمكن ان تحصل عليه الفتاة المكرهة على الزواج “فلا تعويض مادي ولا حتى معنوي” تقدمه لها المؤسسات المختصة، بحسب دلال طارق.

ويحدد قانون الأحوال الشخصية لسنة 1978 في مادته التاسعة الفقرة الثانية العقوبات التي تطال الجناة في حالات الزواج بالاكراه اذ تنص على: (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات وبالغرامة او باحدى هاتين العقوبتين اذا كان قريبا من الدرجة الأولى، اما اذا كان الجاني من غير هؤلاء فتكون العقوبة بالسجن مدة لا تزيد على عشرة سنوات او الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات). لكن عادة ما يتم التهرب من تطبيقه تحت ضغط الأعراف الاجتماعية ويتم الاكتفاء بالطلاق في حال وجدود دعوى من الزوجة.

“دموع الورد” التي اكرهت على الزواج من الرجل الغني، لانقاذ عائلتها من الفقر تعيش هي واطفالها الستة اليوم في نفس الفقر الذي ضحت بنفسها من اجل رفعه عن عائلتها، وذلك بسبب خسارة زوجها لمعظم امواله، وهي اليوم تعمل خياطة في منزلها من اجل كسب قوتها وقوت اطفالها.

تقول: “لم افكر يوما بالطلاق ولن افكر فيه، فأطفالي هم اغلى ما املك اليوم”. وتستدرك بلهجة بدى عليها الانفعال: ” لكني لن اسمح لما حدث معي ان يتكرر مع اولادي”.

على وقع صوت ماكينة الخياطة التي تعمل عليها عدة ساعات في اليوم، ودعتنا “دموع” بابتسامة صغيرة وهي تقول “ربما أسامح أي شخص ظلمني، لكني لن اسامح أهلي الذين كانوا السبب بتدمير حياتي”.

أما “هبة” التي عادت الى بيت زوج امها بعد انقضاء فترة زواج المتعة، فتستعد اليوم لتغادره مرة اخرى بزواج “افجع من سابقه” كما تقول، ولكن هذه المرة بإرادتها لان الزوج الذي ستعيش معه والذي يكبرها بأربعين سنة هو الوحيد الذي قبل ان يعقد عليها القران في المحكمة ويتزوجها زواجا شرعيا وقانونيا.

*انجز التقرير لصالح مشروع تمكين المرأة بالتعاون مع منظمة cfi

المزيد عن قصص

Stories

قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18690}" data-page="1" data-max-pages="1">