قصص: أسواق الموصل القديمة هوية ثقافية وتاريخية يحاول أبناؤها إستعادتها من قلب الدمار

أسواق الموصل القديمة هوية ثقافية وتاريخية يحاول أبناؤها إستعادتها من قلب الدمار

رياض الحمداني:

في تموز/ يوليو 2017 يوم أعلن رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، تحرير مدينة الموصل بالكامل، وبينما كان الموصليون يتبادلون عبر هواتفهم اتصالات التهنئة بالخلاص من داعش، قرر عمر الحمداني خوض رحلة صعبة وخطرة بالتوجه نحو أيمن الموصل لتفقد المجمع التجاري الذي كان يعمل فيه.

صباح اليوم التالي، انطلق الحمداني في رحلته نحو جنوب الموصل التي استغرقت ثلاث ساعات قاطعا سلسلة طويلة من الموانع، قبل ان يعبر من الجسر العائم الذي نصبته القوات العسكرية متجهاً الى باب السراي، متجاوزا مئات الأبنية والمواقع المدمرة، قبل ان يقف مذهولا أمام الدمار الهائل في السوق القديم عاجزا عن تبين موضع دكان الخياطة الذي كان يملكه هناك.

الشوارع تحولت الى كتل هائلة من الأنقاض، ولا معالم تدل على مكان دكانه القديم في سوق السراي. تذكر ان محله قريب من جامع الباشا الذي لم يتبق سوى جزء من منارته المعروفة. من هناك سعى الى تحديد موقع المجمع التجاري الذي يضم محله. كان كل شيء قد تحول الى ركام.

يذكر موقع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) ان السوق القديم في الموصل كانت تباع فيه التوابل القادمة من الهند والصين لما يزيد على ألف عام، وكان يضم الى جانب محال التوابل متاجر الكتب في شارع النجفي. تلك المحال كانت تجسد شكلا من أشكال تجارة البضائع وتبادل الأفكار التي تثري الموصل منذ فجر التاريخ.

منذ مئات السنوات، كان اختلاف المهن أسلوباً لتقسيم السوق القديمة في الموصل ودافعاً لاكتساب طابع حيوي، وقد نشأت الأسواق حول مسجدي النوري الكبير والحدباء، كما كانت الأسواق أحد العوامل المؤسسة للهوية التاريخية والثقافية والاجتماعية لأهل الموصل.

تشكل اسواق الموصل عناصر مميزة لهويتها، فتلك الأسواق بطابعها المعماري الثري وأسمائها القديمة وقيمتها الاقتصادية والتجارية ورمزيتها على مر التاريخ اعطت للموصل المدينة شهرتها وأكسبتها تفرداً.

إهمال ودمار وانتظار

يبدي الكثير من المهتمين بأسواق الموصل وتراثها وهويتها، قلقهم من خسارة تلك الأسواق الى الأبد بكل ما كانت تمثله، بعد الدمار الهائل الذي حل بها، ومع اضطرار التجار الى فتح اسواق بديلة في الجانب الأيسر للمدينة نتيجة تأخر عمليات تحرير وتنظيف وازالة الانقاض من الجانب الأيمن حيث تنتشر الأسواق القديمة.

يقول الصحفي الموصلي لؤي الزراري ان تأخير عمليات تحرير الجانب الأيمن والمنطقة القديمة التي كانت تمثل المركز التجاري للموصل، اجبر التجار وأصحاب المهن ان ينشئوا في الساحل الايسر الذي حرر مبكرا، مواقع جديدة بديلة للأسواق السابقة لادامة مهنهم وتجارتهم وبالتالي حياتهم.

يؤكد الزراري ان الدمار الكبير الذي خلفته الحرب جعل أصحاب المحلات ينتظرون طويلا شعبة تنظيم المدن، من اجل تحديد وفرز الأراضي والمحلات حتى لا يتم التجاوز عليها في اي عمليات بناء فردية، كونها صغيرة المساحة وفي ظل ضيق الطرق فيها.

يقول غانم الحيالي، وهو اول من قام بإعمار محله في سوق العطارين القديم:”انا اعدت اعمار محلي قبل قرابة ثلاث سنوات وكان السوق مدمرا بشكل كبير”، معتبراً ان هذا السوق “بمثابة الميناء كونه مركز تجاري معروف ليس في الموصل وحدها بل عند التجار بكل المحافظات العراقية”.

الحيالي وجه اللوم الى الحكومة العراقية لأنها لم تقدم أي دعم لأصحاب المحلات لمساعدتهم على اعمار محلاتهم، مشيراً الى ان اعمارها كان على نفقة الأهالي الخاصة، مطالبا الحكومة بالعمل سريعا على الأقل في إعادة اعمار المباني الحكومية في السوق القديم مثل البنوك والساحات العامة.

وقدم الآلاف من سكان الموصل مطالبا للحكومة لتعويض الأضرار التي لحقت بمنازلهم وسياراتهم ومتاجرهم، لكن قليلين فقط لاقوا تجاوباً خلال ثلاثة أعوام من الانتظار.

يقول التاجر احمد علي، الذي يمتلك مجموعة من المحلات في السوق القديم، والتي تحولت الى ركام اثناء الحرب:”اكثر من ثلاث سنوات وانا اراجع الدوائر المعنية من اجل نيل حقي في التعويض لكنني فشلت بسبب الروتين القاتل في تلك الدوائر.

وأعلنت الحكومة العراقية في نهاية العام 2017 تحقيق النصر على تنظيم داعش واستعادة كامل أراضيه التي كان التنظيم قد سيطر على نحو ثلثها في صيف 2014.

بصيص أمل

خلال لقاء جمع عدد من تجار باب السراي بقائممقام الموصل زهير الاعرجي، لبحث اعادة احياء اسواق الموصل القديمة وتوفير الخدمات الأساسية فيها، ثمن الأعرجي موقف أصحاب الاملاك لقيامهم بعمليات اعادة البناء بمبادرات ذاتية.

وقال:”ما كنا نستطيع العمل وتقدم الخدمات الأساسية هناك، لولا وجود اصحاب الأملاك واطلاقهم لورش اعادة البناء.. الحكومة لم تقدم التعويضات الى الان، لكن التجار وبامكاناتهم عملوا المستحيل وأعادوا الحياة للسوق”.

واكد الاعرجي ان الدوائر الخدمية في بلدية الموصل والماء والمجاري والكهرباء “قدمت ما عليها من واجبات لأن اصحاب الأملاك كانوا الحافز الاول والأخير من اجل تقديم الأفضل” .

ووجه قائممقام الموصل نداءً لكل اصحاب العمارات والمحلات الذين تأخروا في إعادة بنائها، لكي يعودوا لإعمارها، منبها انه في حال إهمالهم لأبنيتهم “سنصدر تعليمات وفق قانون البلدية والقرار (296) وسنحجز القيود لأصحاب هذه الأملاك ونفرض عليهم غرامات قد تتضاعف ان لم يعودوا ويعملوا مع الآخرين في احياء الحركة التجارية للأسواق القديمة”.

كما وجه رسالة لكل التجار الذين غادروا الأسواق القديمة بان يعودوا اليها ويعملوا فيها خاصة أن الايجارات في الأماكن البديلة غالية، ومع اعادة افتتاح الجسرين الرئيسيين المؤديين الى المدينة القديمة (الحرية والقديم) اصبحت حركة الانتقال والنقل سلسة والحياة بدأت معها تعود تدريجيا الى المدينة القديمة.

مواجهة التحولات

بعد أشهر من تحرير المدينة، ظهرت أسواق جديدة في الساحل الأيسر وبدأت تكبر سريعا حتى تحولت الى مراكز تسوق اساسية، في ظل الدمار الهائل في الساحل الايمن وصعوبة التنقل والوصول اليه ومع وجود غالبية الناس في أحياء الجانب الأيسر التي ظلت سليمة ولم يطلها الدمار.

يرى المهتم بشؤون التراث العمراني أسامة المقدوني، ان تلك التحولات لا تخدم هوية الموصل، منبها الى ان معالم الهوية العمرانية والهوية الثقافية لمدينة الموصل تأثرت كثيرا بعد تحرير المدينة من سيطرة داعش.

ويقول “حصل تشويه عمراني بالذات في المدينة القديمة التي تعتبر روح الموصل ورمز الهوية الثقافية، بما فيه الأسواق التجارية مثل سوق السراي والعطارين وباب الطوب التي تمثل هوية ثقافية وتجارية وترتبط بخط تجاري ظل فعالا لقرون مع سوريا وتركيا”.

ويشير المقدوني الى التحولات التي جرت في أسواق الموصل بعد تحريرها: “الحركة العمرانية في شرق المدينة بدأت بشكل أسرع بسبب تحريرها المبكر ومعها انطلقت خطط الاعمار وإعادة تأهيل أسواق الساحل الايسر مما جعل الناس يقبلون عليها”.

أما فيما يخص أسواق الساحل الأيمن وبالأخص المدينة القديمة، فيشير مقدوني الى ان عودة الحياة اليها “مرتبط بحجم الدعم المقدم لاعادة الاعمار وايضا بتثقيف الناس بضرورة عودتهم لأماكنهم الاصلية”، معتبراً ان هذه الأسواق هي “هوية ثقافية للمدينة ونقلها الى أماكن أخرى شيء سلبي”.

لا يمكن الانتظار

لم ينتظر الخياط عمر الحمداني، تعويضات الحكومة التي ادرك انها ستتأخر كثيرا في ظل الدمار الهائل وقلة التحصيصات المالية المتاحة، واتجه الى ناحية حمام العليل جنوبي الموصل ليفتتح محل خياطة جديد بدل الذي خسره في السوق القديم.

يقول:”اضطررت لذلك، كان محلي السابق عزيزا عليَ، لكن الدمار كان هائلا في المكان، والانتظار والجلوس دون عمل لحين اعادة الاعمار لم يكن ممكنا”.

يتابع الحمداني كلامه:”كان عليَ تقبل العمل في مكان آخر لأعيش، وبعد مرور ثلاث سنوات من العمل في هذا المكان الجديد أصبح لدي زبائن كثر، وصراحة انا لا افكر الآن بالعودة الى مكاني السابق”.

يختلف تاجر الاقمشة احمد العراقي في رأيه مع الحمداني، مبديا تمسكه بالسوق القديم وبمكانه السابق. ويقول انا اعيد اعمار محلاتي من اجل ان اعود اليها لأبدأ العمل من جديد حتى وإن خسرت بعض الزبائن كوني منقطع عن العمل لانشغالي باعادة الإعمار.

وقدرت الحكومة العراقية في فبراير 2018 الحاجة الفعلية من المبالغ، لإعادة إعمار المناطق التي تعرضت إلى الدمار بسبب المعارك ضد تنظيم داعش، بنحو 88 مليار دولار، ونحو عشر سنوات من العمل، وفق دارسة أجراها خبراء عراقيون ودوليون.

 

*انجز التقرير لصالح مشروع تمكين المرأة بالتعاون مع منظمة cfi

المزيد عن قصص

Stories

قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18702}" data-page="1" data-max-pages="1">