تحقيقات استقصائية: مجتمع الميم المحظور… نبذ وتعنيف وانتهاكات في ظل غياب القوانين

مجتمع الميم المحظور… نبذ وتعنيف وانتهاكات في ظل غياب القوانين

نبذ مجتمعي وتعقيدات قانونية تمنع “العابرين جنسياً” من العبور!

علي اياد:

“ابني لا يعرف بماذا يناديك: خالو او خالة اتمنى ألا تتواصل معنا في المستقبل، وإذا فعلت سنقتُلك”، كانت هذه الكلمات هي آخر ما سمعه “احمد” قبل خروجه من منزل والديه اللذين كان مضى على وفاتهما بضعة أيام.

يقف أحمد (29 عاما) والذي يُحب أن يُنادَى باسم “ياسمين” أمام شقيقاته البنات وبيده حقيبة فيها كل ما يملكه، ويردد بصوت ناعم متقطع “لا املك مكانا الى اين سأذهب؟”.

ما ان انهى جملته حتى تقدمت اليه أُخته الكبرى وأمسكت كتفيه ودفعته نحو الباب وهي تصرخ “أنت تخزينا.. اخرج ولاتعد ثانية”.

وقع ذلك في منتصف العام 2013 ومن يومها يتنقل أحمد من مدينة الى أُخرى فهولا يستطيع ان يستقر في مكانٍ واحد، تجُنباً لتعرضه إلى التهديد والتحرش، فمع عدم استطاعته إجراء عملية العبور الجنسي تبقى حياته في خطر، بسبب اختلاف تصرفاته عن هيئته الخارجية كرجل.

ذات العملية لم تشكل الخلاص لـ “عمر” (27 عاما) الذي أجراها بشكلٍ قانوني في مصر، وبموافقات رسمية وفق متطلبات تلك الدولة، حيث أكمل جزءً كبيراً من عبوره الجنسي “من انثى الى ذكر”، لكن بعد عودته لم تمنحه الحكومة العراقية حق تغيير جنسه بهوية الأحوال الشخصية وباقي الاوراق الثبوتية “بحجة” انه لم يكمل العملية الأخيرة وهي زراعة القضيب.

“عمر” ذو الكتفين العريضين واللحية السوداء الكثيفة ويديه الخشنتين المليئتين بالشعر ما زال في صورة احواله الشخصية، انثى تحمل اسم سارة، يقول “تغير شكلي الان، انا رجل ولا استطيع ان ابرز هويتي الانثوية لأي شخص لأنها لا تشبهني اليوم”.

الآلاف من العابرين جنسيا في العراق يتعرضون للاضطهاد والإساءة من قبل جماعات متشددة او افراد في المجتمع ومن أقاربهم وحتى عوائلهم، كما يواجهون الملاحقة الدائمة ويتعرضون للاغتصاب او يهددون به، ويُحرمون من التعليم، وسط بيئة اجتماعية ترفض وجودهم وقوانين لا تحميهم.

وبحسب تقديرات منظمات دولية قتل نحو 220 عابرا جنسياً خلال عام 2017، ويتعرض العشرات منهم للاعتقال بحجج واتهامات مختلفة، ويتم توقيف العديد منهم في نقاط التفتيش حين يُضبطون بملابس لا تتوافق مع ما مدون في هوياتهم الشخصية فيقضون فترات طويلة في الحجز تصل أحيانا لأشهر قبل تبرئتهم في المحاكم.

ويدفع قلة التوعية بهذه الفئة المجتمعية المعزولة والاصرار القانوني والمجتمعي على عدم الحديث عنها الى وقوعهم في فخ اجراء عمليات العبور خارج العراق، ليبقوا بعدها بلا اوراق تُثبت هويتهم الجديدة فيعيشون في سجنٍ كبير.

تحرش واغتصاب ومحاولات للقتل

بعد أشهر من استقراره في شقة على اطراف بغداد تعود الى خالته، تعرض أحمد، الذي اصر على أن نناديه باسم ياسمين ونذكره في التقرير كامرأة، الى الاغتصاب من قبل خمسة ملثمين اقتحموا الشقة. تقول “تركوني أنزف.. ثم ضربوني بالعصي حتى تكسرت بعض اضلاع صدري”. تضيف “لم ارتكب أي ذنب لكن شكلي وهويتي الجندرية جعلتهم يحاولون قتلي مرتين”.

بعد تماثلها للشفاء نزحت ياسمين الى إقليم كردستان، وعملت بمركز للتجميل قبل ان تتعرض للتحرش والتهديد هناك وتضطر لترك المركز والعمل في النوادي الليلة، لكنها مجدداً تعرضت للاغتصاب “ذات ليلة ساومني احد زبائن النادي على جسدي، رفضت ولم اتصور انه يمكن ان ينتظرني خارج المحل ويخطفني ثم يرمني مجددا في الشارع”.

تلك الحادثة أجبرت ياسمين على العودة الى بغداد “لا يوجد مكان آمن لنا … لمجرد طبيعة جسدنا المجتمع يرانا عاهرات ويرغب بتجربة الجنس معنا”.

 

لا قانون يحمينا

محاولات القتل والاستغلال التي طالت ثلاثة أشخاص من مجموع خمسة التقى بهم مُعد القصة، وقعت احيانا من قِبل مجموعات مجهولة او أشخاص في أماكن عمل العابرين أو العابرات جنسياً، وأحياناً من قِبل الأهل، وفي مناطق متفرقة من العراق.

لم يُبلِغ أي من هؤلاء الجهات الامنية بعمليات الاعتداء التي تعرضوا لها، وكرروا ذات الكلام: الذين يعتدون علينا عادة هم اشخاص متنفذون في الدولة ولا أحد يستطيع محاسبتهم.

تُفيد تقارير لمنظمات حقوقية كمنظمة “عراق كوير” ان جهات مسلحة تُلاحق وتقتل مجتمع الميم، وأنها قبل القتل تغتصب الضحية، فضلاً عن اختلاف عمليات وطرق القتل والأدوات التي تستعمل فيها، بين الضرب بطابوق البناء (البلوك) وانابيب الغاز، او استخدام الأسلحة النارية والبيضاء”.

وبحسب تقرير نشرته منظمة هيومن رايتس ووتش في العام 2019 عن الانتهاكات التي تطال مجتمع الميم في العراق ان “جيش المهدي نفذ عمليات ضد افراد من مجتمع الميم في العراق”، وقد وثق التقرير عدد من تصريحات لقيادات جيش المهدي التابع للزعيم السياسي مقتدى الصدر، تحث على “قتلهم وتطهير المجتمع العراقي منهم”.

في تقرير أخر أُنجز في العام 2016، تذكر المنظمة ان الحملة ضد مجتمع الميم في العراق تكررت في العام 2012 من جهات مسلحة. لكن التقرير ارود بيانا للزعيم الشيعي مقتدى الصدر دعا فيه الى “ضرورة تقبلهم وإيقاف العنف ضدهم وهدايتهم بالطرق العقلانية”. وبعد أعوام ومع اجتياح فايروس كورونا العراق غرد الصدر بحسابه على تويتر ان “الفايروس بسبب تقنين زواج المثليين”.

وهو ما عده نشطاء هجوما على كل مجتمع الميم في العراق وليس على المثليين فقط.

368 انتهاكا خلال سنتين وأربعة اشهر

منظمة “ألوان” المعنية بحقوق مجتمع الميم في العراق، وثقت بين مطلع (2019 الى نيسان 2021) ومن خلال مقابلات اجرتها، 368 انتهاكا بحق افراد بمجتمع الميم، أي ان شخصا واحدا يتعرض كل يومين تقريبا الى نوع من انواع الانتهاكات التي شملت الاغتصاب والتعذيب والتهديد والسرقة.

لكن مفوضية حقوق الانسان في العراق لم تُسجل أي  انتهاك لهذه الفئة، وقال عضو المفوضية علي البياتي “لم نستلم أي انتهاك ربما نتيجة تحفظ افراد هذا المجتمع على كشف هوياتهم”. واضاف “جميع العراقيين فاقدون لحقوقهم مهما كان نوعهم الاجتماعي”.

العراق وبعد موجة من العنف ضد العابرين أو العابرات من مجتمع الميم شكل لجنة حكومية خاصة بشؤونهم في أواخر 2012، لكن هذه اللجنة سرعان ما اختفت عن الساحة، فبحسب تقرير هيومن رايتس ووتش فان عضوين من اللجنة اختفيا في العام 2015 وترك آخرون في اللجنة عملهم ليتقلص عدد أعضائها الى أربعة فقط من أصل تسعة.

علق عضو مفوضية حقوق الانسان علي البياتي على ذلك: “حال هذه اللجنة كحال معظهم اللجان العراقية التي تشكل ثم تختفي بعد فترة بلا نتائج”.

بحث معد التقرير عن طبيعة وعمل هذه اللجنة على شبكة الانترنيت الا انه لم يجد لها أي موقع او بيانات، فيما أفاد ناشط مدني مهتم بالملف، رفض كشف هويته، ان اللجنة “لم تنشر تقاريرها على الانترنيت اطلاقا خوفا من الملاحقات”.

أظهر استبيان أجرته منظمة “عراق كوير” على مجموعة من مجتمع الميم، ان 96 من المشاركين في الاستبيان تعرضوا للعنف او التحرش اوالتهديد او جميعها.

همام العراقي، وهو مدون وأحد العابرين جنسيا، يؤكد تلك الأرقام، ويرى ان جميع افراد مجتمع الميم يتعرضون للتمييز والعنف سواء من المجتمع او الجماعات المسلحة او حتى الأجهزة الحكومية.

يقول سيف الماجد، وهو احد المهتمين بشؤون مجتمع الميم ان “السبب وراء العنف ضد مجتمع الميم هو اجتماعي اكثر مما هو ديني، والفصائل المسلحة تعتقد ان موضوع المثلية او العبور جاء في السنوات الأخيرة من الغرب، لكن هذا مجرد وهم، فأنا اعرف أشخاصا من مجتمع الميم قبل 2003”.

يسكت الماجد للحظات ويشير باصبعه الى صور في كاميرته لجماعات مسلحة تنتشر في الشارع “ما تقوم به الفصائل للدعاية الإعلامية وليس من وراء ذلك دافع ديني.. هم يريدون ان يظهروا للمجتمع انهم من يحمونهم من انتشار الرذيلة”.

يتفق معه همام العراقي، ويشير الى ان المجتمع العراقي يحدد صفات للذكورة وأخرى للانوثة، ومن هذه الصفات ما يرتبط بالملابس والشكل الخارجي للأشخاص “المجتمع يرى الأشخاص العابرين قبل عبورهم على انهم (خُنثة) ويتم اضطهادهم بشكل مستمر ويتعرضون أحيانا للضرب بل حتى للقتل”، مذكراً بأن ملصقات وزعت في العام 2017 بمدينة الصدر تحذر مجتمع الميم من العقاب ووصفتهم “بالخنثيين”.

في حين يرى مدير منظمة “الوان” هازان كاريسي ان العنف ضد مجتمع الميم جاء “نتيجة انعدام سلطة القانون ووجود السلاح المنفلت” الذي ينتشر بشكل كبير بين الافراد، مشيراً الى ان “غياب التثقيف يجعل حياة مجتمعات الميم مهددة بشكل دائم”.

 

استهداف اخر

لم يقتصر استهداف مجتمع الميم على عناصر من جيش المهدي، فتقرير عن حقوق الانسان أصدرته وزارة الخارجية الاميركية في العام 2018 وعبر مكتب الديمقراطية وحقوق الانسان والعمل، كشف عن وجود استهداف لإفراد مجتمع الميم في العراق من قبل عدة فصائل متشددة.

وبحسب التقرير فان مجموعة عصائب اهل الحق وهي الجناح المسلح لكتلة صادقون النيابية ، اعدت قائمة اغتيالات بحق افراد من مجتمع الميم، ونفذت فعليا حكم الإعدام على بعضهم.

شبه التقرير تلك الممارسات التي تقوم بها جهات مسلحة ضمن أجهزة الدولة، بما يمارسه تنظيم الدولة الإسلامية داعش في المناطق التي سيطر عليها ضد العابرينات والمثليين.

وبحسب منظمة “عراق كوير التي تقدر عدد القتلى في العام 2017 وحده بنحو 220 فردا من افراد مجتمع الميم، في وجميع هذه الجرائم “لم يتم محاسبة مرتكبيها او حتى اتخاذ خطوات لمقاضاتهم”.

وفي نفس العام انتشر مقطع فيديو مصور عِبر صفحات السوشيال ميديا يظهر رجلا يمارس اللواط، ورغم الاعتذار الذي قدمه وقوله ان تلك الفعلة حصلت “تحت تأثير التخدير”، لكنه تعرض للقتل على يد ابنه “غسلا للعار”. ونشر الابن فيديو لاستقباله من قبل عشيرته بعد الجريمة.

يقول المدون والعابر جنسيا همام العراقي: “يمكن ان يستهدف افراد مجتمع الميم من قبل ذويهم لغسل العار، عادة ما تتم الجرائم عند حصول ما يسمونه الفضيحة المجتمعية من قبل عائلة الشخص”.

وأظهر تقرير لمنظمة عراق كوير، ان مناطق وسط العراق من اكثر الأماكن خطرا على مجتمع الميم حيث بلغت نسبة خطورتها 54% يليها إقليم كردستان بـ 29% بينما مدن جنوب العراق فمثلت 17% فقط.

يعلق العراقي على تفاوت النسب “اغلب هذه الاعتداءات في الجنوب لا يتم التبليغ عنها لانها تحصل من قبل الاسرة”.

تؤشر تقارير لمنظمات مدنية ان العديد من حالات القتل والتهديد به تحصل نتيجة ما يوصف “بالخوف على الرجولة”، ويقول العديد من الضحايا بانهم يتعرضون للتهديد من آبائهم او أشقائهم “حفاظا على شرف العائلة من العار الذي يجلبه سلوكهم غير الرجولي”، مشيرين الى ان القتلة يحاولون الاستفادة من قانون تخفيف الاحكام عن الجرائم التي ترتكب بداعي الشرف.

لكن المحامي محمد جمعة يؤكد ان “قانون تخفيف الاحكام” لا يشمل الأشخاص الذين يقتلون أبناءهم لأنهم من مجتمع الميم، موضحا “تخفيف الاحكام وفق القانون المذكور خاص بالضحايا النساء ولا يمكن ان يخفف اذا كان الضحية ذكرا”، مشيرا الى ان القانون العراقي يعاقب على عقوبة القتل العمد بمدة عشر سنوات وتصل الى حد الاعدام، فالامر يعود الى تقدير القاضي.

توقيفات غير قانونية

لا ترتبط الانتهاكات بحق مجتمع الميم بأفراد المجتمع او الجماعات المسلحة التي تحمل شعارات دينية، فهناك انتهاكات تقوم بها اجهزة الدولة، كما في حادثة القبض على شاب يدعى كمال بمحافظة كربلاء بتهمة الانتماء لتنظيم داعش بعد توقيفه في نقطة تفتيش وهو يرتدي ملابس نسائية.

انتشرت عشرات الفيديوات للشاب نفسه على وسائل التواصل الاجتماعي قبل نحو عامين، مع تعليقات تشير الى انتمائه لتنظيم الدولة الإسلامية. لكن تقريرا أعدته قناة الشرقية عن الشاب وحادثة القبض كشف انه متحول جنسيا وانه يحب ان ينادى “بكناري”.

هذا التوقيف عده المحامي محمد جمعة أمراً “غير قانوني”، منبها الى ان تصوير الأشخاص وعرض تهمهم قبل حكم المحكمة يمكن ان يعتبر “قضية قذف” لان هذا الفعل قد يؤثر “على حياة الأشخاص الموقوفين الذين هم متهمون”.

وكشف جمعة ان المحاكم تشهد عشرات القضايا المتعلقة بأشخاص عابرين جنسيا ويتم القاء القبض عليهم بملابس نسائية، ويقضون فترات تصل لأشهر بالتوقيف حتى يصلون للمحكمة التي قد تبرئهم.

يرجع نشطاء موقف القوات الأمنية الى أمرين الأول يتعلق بقلة ثقافة المنتسبيين الأمنيين بتجاه مجتمع  الميم، والثاني بحصول العديد من حالات هروب عناصر تنظيم الدولة من مناطق الى اخرى وهم يرتدون أزياء نسائية.

 

انقطاع عن التعليم

يجبر معظم افراد مجتمع الميم على ترك الدراسة في وقت مبكر بسبب حالات التنمر والتحرش التي يتعرضون لها.

ترجع فرح بشريط ذكرياتها الى آخر يوم دراسي في حياتها، يومها كانت في المتوسطة، تجمع عدد من الصبية حولها في ساحة المدرسة، ومدوا أيديهم نحو صدرها ومؤخرتها وهم يرددون “ها مستخنث صدرك أحسن من صدر البنات”.

تقول :”تراجعت ببطء الى الوراء، لكنهم استمروا بملاحقتي والاحاطة بي وشكلوا حلقة كاملة حولي.. كنت ارتجف من الخوف ووجهي يكاد تطفر منه الدماء… فركضت بقوة نحو الباب وأنا أبكي، كانت ذلك آخر يوم عرفت فيه المدرسة”، وتضيف:”اكثر ما اغاضني هو تعالي ضحكاتهم بعد هروبي، فلم استطع لاحقا ان أرى اي أحد منهم، فالجميع لم يفهم ما امر به”.

انعدام التثقيف بتجاه العابرين جنسيا يجعل منهم “محط سخرية” لاقرانهم في الدراسة او الشارع فالصورة النمطية التي يحملها المجتمع تجاه العابرين جنسيا لا يمكن تغييرها، تقول فرح التي أمضت سنوات مراهقتها بلا أصدقاء “الجميع كان يمنع ابنه من ان يكون صديقي.. شعرت دائما اني كائن غير مرغوب فيه”.

ليس أولياء الأمور وحدهم السبب بابتعاد ابنائهم عن افراد مجتمع الميم، خوفا من التأثر بهم او من “السمعة المشوهة” التي قد يجلبوها لهم، بل حتى أقرانهم واقرباؤهم الذين كانوا يسخرون من أي شخص يتقرب منهم.

واجه عمر المشكلة ذاتها في مدرسة البنات التي كان يدرس فيها واضطر لتركها بمرحلة السادس العلمي: “كنت اشعر بأني غريب بين مجتمع الفتيات ذلك، وأخشى أن انجذب اليهن..انا بداخلي رجل وكل علي كل يوم أن امثل دوري الانثوي وهذا الامر ارهقني”.

اضاف وهو يمسح عينيه التي المتعتا بالدموع “كنت اشعر اني وحيد وضائع، وان وجودي مع الفتيات خطأ”.

 

صفات بيولوجية

ترى الطبيبة النفسية تقى محمد، ان عدم وجود دعم من المجتمع، ومن عائلة وذوي افراد مجتمع الميم، والحياة المزدوجة التي يعيشونها تدفعهم الى العزلة عن الجميع “عمر كان يشعر بانه منبوذ اجتماعيا ولا يوجد من يفهمه في محيطه ويستمع اليه، وانعزاله امر خطير، فحين يصل الانسان لتلك المرحلة يحتاجون للتدخل من قبل مختصين”.

وتقول مدير منظمة “ألوان” هازان كاريسي، ان جنس الأشخاص يُحدد بناءً على مجموعة الصفات البايلوجية التي يحملونها عند الولادة، متجاهلين الإحساس الداخلي للأشخاص “فقد يولد الأشخاص ذكورا لكنهم يشعرون انهم فتيات والعكس، فهم لا يشعرون بالراحة مع أجسادهم”.

ولا تُعد منظمة الصحة العالمية العبور الجنسي مرضاً، بل ترى انه “حالة طبيعية لها مراحل علاج مختلفة حتى يصل الشخص الى توافق بين جنسه البايلوجي ونوعه الاجتماعي”.

من الأشخاص الخمسة العابرين جنسيا الذين تواصل معهم معد التقرير، هناك شخص واحد اكمل تعليمه الجامعي بينما الاخرون تركوه باعمار متفاوتة وكان السبب المشترك بين جميع الحالات هو “التنمر من قبل الأقران، وشعورهم بالارهاق بوجودهم في اجساد وأماكن لا تمثلهم وانهم يعيشون مع حالتين الذكورة والانوثة في ان واحد”.

لا يتوقف الأمر عند اضطرارهم الى ترك الدراسة بل ابعادهم عنها، فتم فصل ستة طلاب من جامعات عراقية حكومية واهلية للعام الدراسي 2017-2018 بسبب الاشتباه انهم من مجتمع الميم، وتوزعت الحالات بين أربعة في بغداد وواحدة بكركوك وأخرى في النجف، بحسب منظمة “الوان”.

ويرجح مدير المنظمة ان يكون عدد الافراد الذين يتعرضون للفصل اكبر، لكن خوفهم من الإبلاغ او عدم معرفتهم بوجود منظمات تدعمهم يجعلهم لا يبلغون عن اوضاعهم.

يصف المحامي محمد جمعة ذلك الفصل “بغير القانوني” مادام الطالب لم يقم بما يسيء للجامعة فهيئته ومشيته وشكله هي من ضمن احساسه الداخلي “ولا يسمح للجامعة بالتدخل به” فلا يوجد نص قانوني يبيح الامر.

وينوه جمعة الى ان الشيء الوحيد الذي يمكن للجامعة التدخل فيه هو “الزي الرسمي للجامعة” بحسب القوانين العراقية النافذة.

ياسمين وعمر وفرح يتمنيان ان يكملا تعليمهما او يدخلا للامتحانات الخارجية وهذا ما يخطط له عمر تحديدا، بعد ان يحصل على هويته الجديدة ويكمل عبوره الجنسي الذي بدأه قبل سنوات. يقول “بعد اكمال عبوري وتغيير اوراقي الثبوتية ساعود الى الدراسة وأدخل الكلية التي حلمت بها”.

العبور الصعب

“محمد” (26 عاما) الذي تحول قبل اكثر من 3 أعوام الى “سناء” بعملية عبور جنسي اجراها في ايران بدون علم والده، مازال يعيش بهوية محمد حتى ضمن عائلته.

خلال فترة اعداد التقرير، اختفت سناء لأكثر من اسبوعين عن منصات السوشيال ميديا، قبل ان تعود وتكتفي بكتابة جملة واحدة “لا استطيع الحراك. لقد استسلمت حالي كحال الالاف من العابرين جنسيا”.

تعيش سناء اليوم بهوية مختلفة عن هويتها الجندرية او البايلوجية، وتخشى قول الحقيقة لوالدها. “لا اعرف ماذا افعل، هو يقوم بتعنيفي دائما وضربي لأني لست كباقي الفتية”.تسكت قليلا ثم تتابع بصوت خافت ومتقطع “ماذا سيفعل بي لوعرف اني انثى كاملة”.

ولا تعرف “سناء” مصيرها القانوني بعد ان اجرت عملية العبور بدون اخطار السلطات العراقية او العرض على اللجنة الطبية “اخشى ان حقي بالحصول على أوراق ثبوتية جديدة قد تبدد، وانا خائفة من ان يعرف ابي الحقيقة عندما أقوم بتغيير اوراقي”.

خوف سناء من القانون والإجراءات وما ستواجه عائليا بعد  العبور، وصفه نشطاء بالطبيعي في ظل “غياب التثقيف بتجاه العبور جنسيا من قبل السلطات”.

على الانترنيت لا توجد سوى تعليمات بسيطة لوزارة الصحة صدرت في عام 2002 تحت عنوان تصحيح الجنس ونصت على عرض الشخص الذي يرغب بتصحيح جنسه الى لجان طبية قبل اجراء العملية. واشترطت “اثبات ان الشخص لديه اضطراب الهوية الجنسية لاخضاعه لعملية العبور”.

يؤكد محامون تلك التعليمات، فالعبور الجنسي في العراق “يكون للضرورة الطبية وفي هذه الحالة سيعترف القانون بالعابر ويغير أوراقه الثبوتية واذا كان العبور لغير الضرورة الطبية فسيفقد العابر كل حقوقه القانونية”.

منظمة “الوان” ترى ان التعليمات التي صدرت في العام 2002 فيها نوع من “الضبابية” وتعامل العبور الجنسي “كمرض” وهذا مخالف لما جاء لدى منظمة الصحة العالمية التي تعتبر العبور “حالة طبيعية”.

ورغم تلك الملاحظات تظل هذه التعليمات “فرصة” وان كانت ضيقة للعابرين جنسيا لتحقيق التوافق مع أجسادهم.

رصد معد التقرير، حالة عبور من ذكر الى انثى، تبنتها وزارة الداخلية في العام 2018. ووصف مستشار وزير الداخلية حالة الشخص “بالضحية لحالة بايلوجية وعلينا تحقيق رغباته”. في حين علق ضابط بدائرة الجنسية ” لا يوجد ما يمنع من تغيير الجنس، الا ان الامر يجب ان يتم بموافقة الجهات العليا”.

وفق خبراء قانونيين فان تغيير الجنس يجب ان تسبقه موافقات قانونية من الجهات المسؤولة . ويصف طارق حرب، عودة الأشخاص الذين يجرون عمليات تصحيح للجنس خارج العراق وبدون اخطار السلطات “بالمستحيلة” نتيجة لتغير شكلهم الخارجي، واذا استطاعوا العودة فسيواجهون “تعقيدات قانونية كثيرة”.

العديد من العابرين جنسيا وعند عودتهم الى العراق يعيشون “بسجن داخل منزلهم” بحسب عمر الذي لم يخرج من مدينته منذ اكثر من عامين لاختلاف شكله الخارجي عن ما مكتوب في هوية الأحوال المدنية، في وقت تمنعه اوضاعه المالية السيئة من اكمال عملية زراعة القضيب والتي بعد اجرائها يمكنه ان يغيير هويته قانونا ويصبح “حرا من جديد” على حد وصفه.

ذات المشكلة تواجها ياسمين التي لم تجر اي عملية، وهي الأخرى تعيش في بيت لا تستطيع الخروج منه الا نادرا خوفها من تعقبها وتكرار الاعتداء عليها.

من مجموع خمسة اشخاص التقى بهم معد التقرير، أكمل شخص واحد عملية عبوره الجنسي دون اخطار السلطات، وشخص اخر مازال يحتاج لعملية واحدة، بينما لم يخضع ثلاثة منهم لأي عملية اوعلاج بتجاه عبورهم.

همام العراقي الذي تواصل مع وزارة الصحة عبر الايميل الالكتروني لأجل عملية تصحيح جنسه، طلبت منه الوزارة ان يجري بعض الفحوصات، لكن تبين له ان تلك الفحوصات كانت باهضة الثمن لهذا لم يجرها ولم يعاود الاتصال.

علاج تحويلي

يرى باحثون ان جزءا كبيرا من هذه الفئة مرضى نفسيين يمكن علاجهم للتخلص من ما يشعرون به، وان العلاج النفسي اثبت نجاعته في استقرار الكثيرين وعودتهم لحياتهم الطبيعية.

وفق ذلك الرأي يخضع معظم افراد مجتمع الميم لعلاج اجباري من قبل ذويهم لأجل “اعادتهم لحالتهم الطبيعية” بحسب ما يقولون.

لكن هذا العلاج يؤثر سلبا على صحتهم، وتعده آلية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب “بممارسات قد تصل لحد التعذيب” فيما تشدد الرابطة الأمريكية للطب النفسي على العاملين الصحيين “الامتناع عن محاولات تغيير التوجه الجنسي للافراد”.

وتصف كيانات واليات الأمم المتحدة لحقوق الانسان العلاج التحويلي بالقول “ان اعمال العلاج التحويلي هي مهينة وغير إنسانية”.

ورصدت منظمة الوان نحو 48 حالة من مجتمع الميم تعرضوا للعلاج التحويلي بين عامين 2018 و2020، مبينة ان بعض الافراد “خضعوا لهذا العلاج صعقا بالكهرباء او بطرق أخرى قد تؤثر على حياتهم وسلامتهم الشخصية”.

واطلع معد لتقرير على عريضة موقعة من 28 منظمة تطالب بوقف هذا النوع من العلاج الذي “ينتشر ب68 بلدا على الأقل وهذه الظاهرة بدات تتزايد بمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا”.

وتقوم فكرة “العلاج التحويلي” على اساس ان الافراد من مجتمع الميم مصابون بامراض تجعل ميولهم الجنسية مختلفا عن الاخرين في المجتمع، ويمكن اعادتهم الى طبيعتهم. لكن منظمة الصحة العالمية في العام  2019 عدت “اضطراب الهوية الجنسية” ليس مرضا بل حالة طبيعية ورفعته من قائمة الامراض العقلية.

همام العراقي احد العابرين جنسيا الذين خضعوا لهذا العلاج بدون معرفة مسبقة، بعد ان قام طبيبه باعطائه هرمونات انثوية بحسب شكله الخارجي وبدون ان يطلع على أي تقارير طبية مما أصابه بتشنجات والام شديدة على حد وصفه، ليدخل بعد تركها مرحلة من الاكتئاب.

الامر الذي نبهت اليه العريضة التي وقعت من قبل المنظمات باشارتها الى ما يواجهه افراد مجتمع الميم من شعور بالوحدة والاكتئاب وعدم الرضا الذي قد يصل بهم الى الانتحار.

وهذا ما واجهته ياسمين في سنواتها الأولى من اكتشاف نفسها وقبل وفاة والديها، حيث انهما اخضعاها للعلاج بهرمون ذكوري وجلسات نفسية. تقول “كنت أشعر اني تائهة وكثيرا ما فكرت بإنهاء حياتي”.

يرى نشطاء ان افراد مجتمع الميم سيظلون يعانون من الاعتداءات وانتهاك حقوقهم وتهديد حياتهم بوجود جهات وأشخاص يبررون تلك الانتهاكات ويتبنونها للادعاء بحماية الدين والقيم الاجتماعية وفي ظل قلة التثقيف المجتمعي وافتقار التشريعات القانونية التي تحمي افراد هذا المجتمع، وهو ما يجعل خلاصهم الوحيد يتمثل في الهجرة خارج البلاد.

ياسمين اليوم تنتظر اكمال أوراق هجرتها لإحدى البلدان الأوربية، لتبدأ حياة جديدة تشعر فيها بأنها انسانة، تقول “منذ 20 عاما اشعر بالخوف والألم والظلم، طالما تمنيت الموت بسبب ما أعانيه”. تصمت لبرهة ثم تكمل بابتسامة خفيفة “ساهاجر لأعيش كياسمين فقط، فالعيش بشخصتين يؤلمني اكثر من الضرب.. يحق لي أن أعيش مثل الآخرين، يحق لي أن أشعر ببعض السعادة والأمان”.

انجز التقرير ضمن مشروع “أنترنيوز” للكتابة عن القضايا الحساسة المتعلقة بالنوع الاجتماعي (الجندر).

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18628}" data-page="1" data-max-pages="1">