قصص: بكسرهن التقاليد ونظرة المجتمع.. نساء السليمانية يقتحمن مهناً كانت حكراً على الرجال

بكسرهن التقاليد ونظرة المجتمع.. نساء السليمانية يقتحمن مهناً كانت حكراً على الرجال

صلاح حسن بابان

رغم كثرة الضغوطات النفسية والإجتماعية التي تتعرّض لها نسرين منذ أن قررت العمل كسائقة سيارة أجرة (تكسي) في السليمانية لكنها رفضت الاستسلام ومضت في تحدي قساوة مهنة يحتكرها الرجال من عقود، لتأمين قوت عائلتها.

تستيقظ نسرين محمد (42 عاما) كل صباح قبل بزوغ الخيوط الأولى للشمس، لتُراوغ بسيارتها التكسي بقية السيارات التي تزدحم بها شوارع المدينة الضيقة وتصارع بها الحياة، تقول “كوني الامرأة الوحيدة في هذا المجال فوضعي يشبه حال المصارع في الحلبة”.

طوال ساعات النهار تعمل نسرين بلا توقف وفي بعض الأيام تبقى حتى ساعة متأخرة من الليل لتأمين متطلبات عائلتها، فتتجوّل في كل مناطق السليمانية وتجوب أحياءها بحثاً عن أي “راكبٍ”. فعدد من يوقفون سيارات الأجرة يتناقص يومياً نتيجة الأزمة الإقتصادية التي تضرب الإقليم، وهو ما يجعل مهنتها أكثر صعوبة وأقل دخلا.

تقول:”كان العمل جيداً قبل عامين، لكن مع الأزمة الاقتصادية عدد من يستخدمون وسائل النقل العامةّ “الباصات” التي تبلغ أجرتها خمسمائة دينار (أقل من 35 سنتاً) يتزايدون مقابل تناقص عدد من يلجؤون الى سيارات الأجرة التي تبلغ أجرتها في المتوسط ثلاثة آلاف دينار (دولاران تقريباً).

تُمارس نسرين هذه المهنة منذ أربع سنوات، وقد لجأت اليها بعد فترة تردد كونها مهنة خاصة بالرجال وعندما لم تجد بديلا عنها يناسب أوضاعها، فهي تعيل والديها المريضين وتؤمّن لهما تكاليف علاجمها الشهري.

خاضت نسرين تجربة العمل تلك في وقت ازدادت حالات لجوء النساء في كردستان للعمل في مهن كانت تعد خاصة بالرجال اثر تراجع اقتصاد الاقليم بعد العام 2014 اثر تراجع اسعار النفط والحرب مع تنظيم داعش وتعمّق الأزمات بين بغداد وأربيل، حتى اضطرت حكومة الإقليم للعمل بنظام إستقطاع الرواتب بنسب وصلت في بعض الأشهر الى أكثر من 50%.

تعد نسرين، الفتاة الأولى التي تمتهن مهنة سائق تاكسي، ففي كردستان عموماً لم يسبق ان عملت امرأة في هذا المجال الذي ظل ميدانا محتكراً من قبل الرجال لما يتطلبه من تعامل مع عشرات الزبائن مختلفي المزاج. هي بذلك لم تكسر تقاليد ثقافية مترسخة بل أيضاً شجّعت أخريات على اختراق مهن ظلت ميداناً حصرياً بالرجال.

تقول انها من خلال هذا العمل الشاق “تريد أن تبين أنّ المرأة لاتقلّ شأناً عن الرجل في الواجبات والمسؤوليات الحياتية المتعلقة بالأسرة والمجتمع، ولايوجد أي فرق بين الاثنين لو توفرّت الحرية وتقبّل الآخر”.

رغم ذلك تشكو من الانتقادات في محيط عائلتها ونظرة الاستغراب في وجوه الناس خاصة أنّ أغلب زبائنها هم من الرجال: “محيطي العائلي تقبّل عملي بعد أن رفضه في البداية، لكن نظرات الاستغراب تطاردني”.

تحديات على أكثر من صعيد

الإنفتاح النسبي في السليمانية على مختلف الأصعدة والمجالات وخصوصاً في ما يتعلق بدعم المرأة ومساندتها للنهوض بواقعها في ظل مجتمع يمارس العنف والقتل ضد النساء منذ عقود، ساعد النساء عموما لإمتهان مهن جديدة وإن كانت خاصة بالرجال.

هذا ما تؤكده نسرين: “كان الأمر سيختلف لو كنتُ في محافظة أخرى، بيئة السليمانية ساعدتني كثيراً للإنخراط بهذه المهنة، دون خوفٍ وصار الكثيريون يحترمونني ويقدّرن عملي رغم المصاعب اليومية التي تواجهني خاصة المضايقات المستمرة في الشارع باستخدام أبواق السيارات”.

تنتقد نسرين غياب الدعم الحكومي للمرأة الكردية في سوق العمل، وتؤكد ضرورة ان تقوم الجهات المعنية بدعمهن من أجل اقتحام مختلف مجالات العمل: “الكثير من النساء يرغبن بالعمل لدعم أزواجهن في تأمين لقمة العيش بعد أن أصبحت المعيشة صعبة للغاية مع تراجع فرص العمل، لكن غياب الدعم المالي يقفُ دائماً في طريقهن، ويسدّ الأبواب بوجههن”.

تواجه الفتيات والنساء العاملات في قطاعات العمل تحدّيات جمّة على المستويين الشخصي والعام، ففي ظلّ تدني المستوى المعيشي والتلكؤ الإقتصادي العام وغياب التشريعات الخاصة بحمايتها، قد تواجه المرأة صعوبة في الحصول على فرص عمل تلائمها وتحمي كرامتها فتلجأ الى إمتهان بعض الأعمال الخاصة بالرجال والتي لاتتناسب مع وضعها البنيوي والجسدي.

 

الأزمة أعطت قوة للمرأة

يعدُّ البعض هذه المهن غير لائقة ومُهينة للمرأة، ويرون انّ مهن السياقة والعمل في الأسواق العامّة والمقاهي والمطاعم وورش تبديل زيوت السيارات أو النوادي الليلية، مهن لاتناسب النساء، وقد يتعرضنّ فيها الى الإهانة والاستغلال والتحرش وحتى الضرب والترهيب.

ويشيرون الى ان العاملات في تلك الحقول حينها ستكون أمام خيارات صعبة، فامّا السكوت من أجل البقاء بالعمل أو تركه والبحث عن البديل الذي يكون صعباً للغاية أحياناً أو اللجوء الى خيارات بديلة، ولكن في النهاية لابد أن تدفع المرأة الضريبة.

ترى الناشطة النسوية هانا شواني إن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية والأزمة الإقتصادية التي تزامنت معها في عام 2014 غيّرتا الكثير من مفاهيم المعادلات التقليدية في المجتمع الكردي المعروف بخلفيته الإقطاعية الزراعية: “الأزمتان غيّرت الكثير من المعادلات في مجتمعنا، أهمها تغيير وجهة النظر عن المرأة وجعلها كمنتجة ومساهمة في تأمين لقمة العيش وليس كوسيلة فقط”.

إضطرت بعض النسوة لاسيما زوجات عناصر الأمن والبيشمركة والعاملين في الدفاع المدني إلى اللجوء للعمل بمهن مختلفة بعد الحرب ضد تنظيم داعش التي خلقت الكثير من الأزمات الإجتماعية والسياسية، رغم ذلك تشيد شواني بإمكانيات المرأة في إدارة الأزمات والسيطرة عليها أكثر من الرجل: “التأريخ يثبت لنا أن النساء أكثر مهارةً من الرجال في السيطرة على الأزمات ومنع خروجها عن السيطرة، ويمكن ملاحظة ذلك بالنظر إلى حال البلدان التي تقودها النساء”.

تثمّن الناشطة النسوية تضحيات المرأة لمساعدة أزواجهن وعوائلهن في تأمين لقمة العيش وإن كان ذلك يكون عبر الإنخراط في مهن صعبة وقاسية كما الحال مع نسرين وغيرها.

 

مكتب لسياقة اللوريات

شلير غريب، الأربعينية التي تعمل في مجال تدريب الرجال على سياقة سيارات الحمل الكبيرة “اللوريات” من خلال امتلاكها مكتبا خاصا بتعليم السياقة، تؤكد ان عملها الشاق لا يتقاطع مع كونها انثى، لذا هي لا تبخل في الإهتمام بنفسها كأغلب النساء.

تقول ان روحها المتحدية تدفعها لتجاهل ما يعكّر مزاجها أو يحبط طموحها، لذا هي ماضية في حياتها الزوجية وإعالة عائلتها في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة لاسيما ان لها من الأبناء ثلاثة.

هذه المهنة الصعبة، أبعدت شلير عن الكثير من هواياتها اليومية التي كانت معتادة عليها قبل الأزمة الإقتصادية: “المطالعة اليومية والسفر والسياحة، هي أبرز ما خسرته بسبب الإنشغال بالعمل” تقول ذلك وهي تشير الى أحد الرجال المتدربين لديها بركوب سيارتها “اللوري” والإستدارة والعودة مجدّداً لحين اتقان كيفية التوقف في الطرقات الخارجية العامة بعد مخالفته للضوابط الواجبة حيال ذلك.

تتشابه معاناة شلير التي تقضي يومها في العمل من الساعة السابعة صباحاً وحتى أوقاتٍ متأخرة من الليل وتعمل أحياناً حتى في أيام الإستراحة مثل الجمعة، مع نسرين بنسبةٍ كبيرة في مواجهتها المصاعب الإجتماعية وعدم تقبّل محيطها لهذه المهنة الذكورية التي ترى فيها من القسوة والصعوبة بما لايتلائم مع وضع المرأة.

وتتساءل: “ما الغريب ان مارست المرأة مهنةً كانت محتكرة للرجال في السابق، ونحن نعيشُ مع التطور الحاصل في العالم يوم بعد آخر”. وتشدد على أهمية العزيمة والإرادة لإجتياز هذه التحدّيات والعراقيل الإجتماعية.

وضعت هذه المهنة شلير في زاوية حرجة جداً، لها سلبياتها وإيجابياتها ومصاعبها، منها تلقيها تعليقات سلبية أثناء ممارسة عملها الذي يتطلب دائماً التدريب والتنقل في الشوارع، وهو يكادُ أن يكون يومياً، لكنّها تصرّ في كلّ مرة على تجاهلها، وعدم السماح لها بإختراق إراداتها وما تصبو إليه.

إلا أنها ترى في الواجبات والمسؤوليات العائلية، وما يتعلق بحقوق الأطفال والزوج، النقطة الأكثر صعوبةً بالنسبة لها، وتتحدث عن ذلك أكثر وتحذر من إنعكاسات ذلك على حياة العائلة ومستقبلها: “على المرأة أن تعرف جيداً كيف توازن بين مهامها الزوجية والعائلية مع العمل”.

تؤمن تلك المهنة دخلاً مناسباً لشلير، حيث حدّدت الجهات الحكومية في محافظة السليمانية 16 ألفاً (11 دولار) تقريباً لكل درس يتلقاها المتدرّب على السياقة بالنسبة للدروس العملية التي يجب أن لاتقل عن 12 درساً، في حين تكون أجور الدروس النظرية 75 ألفاً (52 دولاراً) تقريباً بالنسبة للسيارات الكبيرة، واما السيارات الصغيرة تكون أجور التدريب العملي فيها لكل درس بـ13 ألفاً (9 دولارات) تقريباً، و50 ألفاً (35 دولاراً) تقريباً للنظري، لكن الإقبال بدأ بالتراجع تدريجياً في السنوات الاخيرة كما تقول شلير بسبب الأزمة الإقتصادية.

لا ترى شلير التي تُعتبر أوّل امرأة على مستوى العراق وكردستان تحصل على إجازة عمل بإفتتاحها مكتباً لتعليم السياقة على السيارات الكبيرة أي إختلافٍ بين الرجل والمرأة في تحمّل الواجبات والإلتزامات العائلية، والإثنان متساويان في الأمر، لكن الحالة بحاجة إلى تقبّل الآخر من أجل مصلحة العائلة، شرط أن لا يمسّ كرامة الإنسان، وتؤكد إفتخارها وإعتزازها بجميع النسوة اللاتي يُضيحين من أجل عوائلهن.

الارادة تصنع التحولات

يؤيد الباحث الإجتماعي فريق حمه غريب ما ذهبت إلى نسرين وشلير إلى أهمية الإعتماد على العزيمة والإرادة في مواجهة التحديات الإجتماعية التي يكون غالباً أساسها الرجل، في تقبّل المهن التي تلجأ إليها النساء والتي كانت خاصة بالرجال في السابق.

يؤكد غريب إلى ضرورة أن تثقّف وسائل الإعلام وتزيد من توعية الرجال على تقبّل النساء في مهن مختلفة وعدم النظر إليهن بدرجة أدنى في حال لجأت بعضهن إلى مهنٍ لاتتلائم مع وضعها الجسماني والإجتماعي “من أساسيات بناء مجتمع مدني أن نتقبّل المرأة العاملة وإن كانت مهنتها غير مقبولة إجتماعياً مثل سائقة تكسي أو عاملة في أماكن عامة، لطالما لايمسّ الأمر كرامتها”.

ووفقاً لبيانات الجھاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط العراقية لسنة 2018، تبلغ نسبة النساء اللواتي يعملن في الوزارات والمؤسسات الحكومية أقل من 30% من المجموع الكلي للعاملين في ذلك القطاع.

هذه النسبة تتراجع بشكل كبير في القطاع الخاص وفق بعض الأرقام غير الرسمية المتاحة في ظل عدم وجود أرقام رسمية، إلا انّ نساء السليمانية قرّرن تغيير تلك القواعد وحالة عدم التوازن إلى حدٍ ما أكثر من المحافظات الأخرى بدخول عالم المهن المختلفة بما فيها التي كانت حكراً على الرجال.

وبالمقارنة مع نسرين وشلير، تبدو مهنة “جاوان هيوا” (26 عاما) أكثر حرجاً لها من الناحية الإجتماعية وهي تعملُ في ورشة لتصليح السيارات وتبديل الزيوت والدهون بمحافظة السليمانية، وتقضي يومياً نحو سبع ساعات متواصلة في العمل مع أكثر من 15 رجلا، متحدية بذلك العادات والتقاليد الاجتماعية المحافظة.

تتفق “جاوان” وهي خريجة جامعية وأمٌ لطفلة واحدة مع نسرين وشلير بالإشارة إلى التحديات والمصاعب التي تقف عائقاً أمام المرأة الكردية في حال قررّت الإنخراط في سوق العمل، وتعرضها للإنتقادات السلبية التي تحاول النيل منها.

تضيف وهي تقوم بتبديل دهن إحدى السيارات: “مساندة عائلتي ووقوفها معي، زادت من قوتي في جعل هذه العوائق هامشية الى ان تمكنت من الانخراط بالعمل وتعودت عليه”.

رغم اقتحام النساء لمهن كانت محتكرة للرجال فقط، الا انّ الأمر لم يفقدها أنوثتها، ومازالت تولي أهمية كبيرة لأناقتها وجمالها كما لتعليمها وثقافتها، فالأمران لايتقاطعان.

كسر النظرة النمطية

لم يأتي تغير طبيعة سوق العمل خلال السنوات العشر الأخيرة في بعض القطاعات بإقليم كردستان فجأة ودون مقدمات، بل حصل ذلك تحت تأثير الثقافة التي جلبتها العاملات السوريات واللواتي نزحن إلى الإقليم وإضطررن للعمل فيه، فهن فتحن الباب أمام عمل النساء في مختلف القطاعات.

ولم تعد نسرين وشلير وجاوان وغيرهن حالات إستثنائية، فالمئات صرن يعملن في المطاعم وإدارة المحال التجارية، وأصبح ذلك أمراً مقبولاً، حيثُ تدير النساء مطاعم فخمة ومحال تجارية كبيرة وصغيرة كما يعملن في معامل ومواقع انتاجية مختلفة.

يبدي التدريسي في كلية الإقتصاد بجامعة السليمانية د. خالد حيدر تفاؤله بدخول المرأة إلى سوق العمل فذلك سيجعل الجزء الذي كان عاطلاً عن العمل أكثر نشاطاً وفعالية بالإضافة إلى المساهمة في زيادة الإنتاج وناتج البلد وتقليل نسبة الإعالة.

يقول حيدر: “عندما تزدادُ نسبة الإعالة يعني انّ الشخص المُعين سيتحمل عبء أكبر على عاتقه، لأنّ غياب المرأة عن العمل يؤدي إلى تعطيل الكثير من الموارد البشرية، في وقتٍ الإقتصاد يحتاج إلى هذا عمل المرأة مع الرجل”.

ويُشير إلى أنّ دخول المرأة إلى جميع المجالات لاسيما سوق العمل في كردستان وتحديداً السليمانية سيساهم في إزدياد الناتج المحلي، مبديا تأييده في ذات الوقت الى ما ذهبت إليه الناشطة المدنية هانا شوان بأن المرأة في الكثير من المجالات تكون أكثر دقّة من الرجال، لاسيما في الحالات التي يكون فيها العمل منسجماً وملائماً معها.

تفتخر جاوان أنها كسرت نمطية نظر المجتمع الكردي للمرأة بخطوتها نحو هذه المهنة التي لم تظهر فيها أي امرأة أخرى حتى الآن: “حاولت بهذه الخطوة أن أظهر الصورة الأكثر إضاءةً للمرأة الكردية بقدرتها على تحمّل مشقّات الحياة، والعمل في عدّة جوانب، تحديداً أثناء الأزمات”.

تدعو جاوان، الفتيات إلى تجاهل الإنتقادات والسلبيات الإجتماعية التي تقف عادةً عائقاً أمام المرأة للعمل والانتاج والابداع، والإعتماد على أنفسهن وقدراتهن لمساعدة أزواجهن وعوائلهن في تأمين لقمة العيش.

توقفت عن الحديث لبرهة لتأخذ أجر تبديلها الدهن لأحد الزبائن، ثم واصلت: “دعم المرأة واحترامها واجب يجب أن يقدسهُ الرجل أولاً، وأن يفتخر به المجتمع ثانياً”.

 

*المادة انجزت ضمن مشروع منظمة أنترنيوز لتدريب الصحفيين حول كتابة القصص الصحفية عن القضايا الحساسة المتعلقة بالنوع الاجتماعي.

المزيد عن قصص

Stories

قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18615}" data-page="1" data-max-pages="1">