فوز صباح:
بعد ايام من طرد تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” من مدينة الموصل، كان يجلس في مدخل منزله بحي الزهور في الجانب الأيسر للموصل، في مدخل الممر المؤدي لغرفة الضيوف التي تضررت بشظايا مقذوف صاروخي صبغت جدرانها بسواد دخان لم يبدده غير صورة مريمانا التي بقيت معلقة على الحائط.
كان بقايا الباب الخشبي للغرفة المقابلة قد تناثر على الأرضية التي توسطها سرير صغير صفت الى جانبه عدة قناني بلاستيكية من الماء مع فانوس كبير، بينما كان الغبار يعلو المكتبة الخشبية التي تناثرت حولها عشرات الكتب.
ذلك البيت المؤلف من ثلاث غرف وصالة اقتلعت ابوابها وشبابيكها وغطت بقطع نايلون، والذي قضى “أبو ليث” جل عمره فيه، كان كل ما تركه له والده الذي رحل قبل ان يشهد ويلات الحرب الأخيرة التي أتت على مئات البيوت في الساحل الأيسر ونحو 80% من المدينة القديمة في الموصل.
في ذلك المساء، غمر الحزن قلب ابو ليث (48 عاما) وهو احد المسيحيين القلائل الذين عادوا الى منازلهم لتفقدها ولاستطلاع الاوضاع واتخاذ قرار بالعودة للموصل او تركها الى الأبد. كانت زوجته قد ابلغته بتصفية ما بقي في المنزل من مواد وعرضه للبيع بعد رفض جميع افراد العائلة العودة للمدينة.
في الجانب الآخر من المدينة، كان المسيحي مجدي النقاش، يحاول رفع بعض الانقاض التي تراكمت امام باب منزله في منطقة الساعة، وهو حائر في كيفية اعمار منزله المتضرر، بينما انشغل بملئ برميل صغير يتوسط حوش داره بالماء القادم من بئر قريبة تحاول ان تؤمن بإقتصاد كبير حاجة عدة عوائل عادت للمنطقة التي دمرت فيها شبكات توزيع الكهرباء والماء.
الخدمات وفرص العمل
غياب الخدمات وانعدام الدعم الحكومي وندرة فرص العمل، من أهم الاسباب التي تمنع عودة الغالبية العظمى من المسيحيين الى مناطقهم، الى جانب ضبابية المشهد السياسي والأمني، بحسب الناشط المدني دلير عمر، لكن ذلك لم يحصل مع مجدي النقاش الذي أصر على العودة رغم “سوداوية المشهد”.
يعيش مجدي وحيدا، فوالداه غادرا الحياة، ومنعته ظروفه من الزواج، فيما رحل بعض افراد عائلته الى خارج البلاد واستقر آخرون في عين كاوه باربيل، بينهم شقيقه الذي تعرضت شقته في المنطقة نفسها للقصف ما جعله يرفض فكرة العودة الى المدينة وسط الدمار الذي تعيشه.
غادر مجدي مدينة الموصل في منتصف حزيران 2014 كحال كل المسيحين الذين كانوا يعيشون فيها، عقب دخول تنظيم داعش المدينة، ليسكن في السنوات التالية في كرڤانات اعدتها الكنيسة في عين كاوه.
ومثل كل النازحين كان يتابع أخبار مدينته وتقدم القوات العراقية نحوها منتظرا ساعة اعلان تحريرها ليعود اليها بعكس غالبية المسيحيين الآخرين الذين انشغلوا بين التخطيط للهجرة خارج البلاد ومراقبة ما سيحدث في الموصل.
العودة لاستعادة الحلم
بالفعل كان مجدي أول شخص يعود لمنطقته برفقة صديقه أبو إبراهيم، حين وصل الى بيته وجده متهالكاً مليئا بالانقاض.
يقول “غمرتني السعادة لعودتي لكني كنت حائرا في كيفية تدبر المال لترميمه خاصة اني كنت قد خسرت عملي في معمل الحلان بعد ان دمر… رغم كل شيء كنت مصمما على البقاء، فأنا لا احتمل الغربة لذا لم أفكر بالهجرة، وهذه محلتي وانا هنا اباً عن جد منذ 150 عاماً”.
في الايام الأولى لعودته، بدأ مجدي مع العوائل العائدة بازالة الانقاض من الشوارع وحول بيوتهم بمساعدة البلدية، فيما أمن جيرانه بعض متطلباته المعيشية وقدموا الطعام له.
موفق أنطون فتح الله (67 عاما) الذي يسكن حي البلديات، عاد هو الآخر مع زوجته الى الموصل بعد ان كان يسكن كرفانات الكنيسة في عين كاوه بأربيل .
يقول عن سبب عودته “هذه منطقتي من 32 سنة وكبرت فيها ومن الطبيعي ان اعود اليها والناس هنا تعرفنا وتحبنا”، مستدركا “نعم الحياة كانت جيدة في اربيل لكن لو فكرت بالبقاء فيها فكيف كان يمكن أن أتدبر دفع ايجار السكن فيها”.
ويضيف:”بعد عودتنا لم تختلف الحياة شيئا، بل علاقاتنا مع جيراننا المسلمين صارت أكثر قوة من ذي قبل، لقد استقبولنا بكل ود واستضافونا نحو 25 يوما .. وأنا مرتاح جدا واشعر بالأمان بعد عودتي”.
لا استطيع العودة
بعكس أنطوان ومجدي، فان الدكتورة مريم (اسم مستعار) التي كانت تسكن منطقة خزرج في الموصل القديمة التي تعرضت بدورها لتدمير كبير، فضلت البقاء في دهوك مع شقيقها.
تقول ان الدمار الكبير وندرة الخدمات، وعدم عودة اقاربها الى المدينة أجبرها على البقاء ايضا كونها امرأة وحيدة وغير متزوجة فهي لن تشعر بالأمان وحدها هناك، مشيرة الى ان “الوضع الاقتصادي الصعب يمنع الكثيرين ممن تضررت بيوتهم بالعودة، فعليهم تأجير بيت في الجانب الايسر من المدينة وهذا امر مكلف”.
رغم فقدها لمنزلها وسرقة اثاثه ونزوحها لمدينة أخرى منذ أكثر من خمس سنوات، فان مريم تتواصل مع صديقاتها المسلمات وهي ما تزال تعمل في الموصل: “انا يوميا اروح وارجع للموصل، فمازلت أعمل هناك، واحب أن اخدم مدينتي وأتمنى ان ارجع يوميا اليها”.
يقول رجل الدين المسيحي “أبونا ثابت” عن سبب عدم عودة الغالبية العظمى من المسيحين الى مناطقهم بعد تحريرها، ان “ما عاشوه طوال سنوات خلق لديهم عدم ثقة فهم يرون ان المدينة غير أمنة وتحتاج الى العمران والخدمات التي هي حتى الان غير متوفرة، وأيضا الشرخ الذي حصل في النسيج الاجتماعي الموصلي.. كل هذه الأشياء شكلت حاجزا نفسيا لا يشجع على العودة للمدينة”.
ويضيف:”اننا لم نتلق أي دعم يشجع على العودة ماعدا بعض مبادرات منظمات المجتمع المدني والمبادرات الشخصية القليلة”.
وبحسب معنيين، فان نحو 30 كنيسة ودير تعرضوا لتدمير جزئي أو شبه كلي خلال معارك طرد داعش من نينوى، بما فيه كنيسة “الساعة” في المدينة القديمة والتي دمر جزء منها. ولا توجد الان غير كنيستين صالحتين للصلاة، احداها تقع في منطقة جامعة الموصل بأيسر المدينة.
العودة التدريجية
وفي وصفه للعلاقات بين العائدين للمدينة، الذين لم يتجاوزوا بضع عشرات “انهم يحاولون العودة لطبيعة حياتهم ورغم الصعوبات التي يواجهونها فان هناك من الأصدقاء المسلمين من هم أمناء على العشرة وهناك ناس حافظوا على بيوت المسيحيين ورحبوا بعودتهم ويعيشون الآن بمكان ومنطقة واحدة”.
ووفق احصائيات منظمات مجتمع مدني مسيحية، فان المدينة كان تضم بين 2000 الى 3000 عائلة قبل دخول داعش اليها، ويأتي تباين الرقم بحسب نشطاء الى ان بعض العوائل كانت تملك بيوتا في المدينة وتعيش فيها لفترات لكنها في ذات الوقت تعيش في مكان آخر كمدن اقليم كردستان.
وبشأن اذا ما كان يشجع على عودة المسيحين للمدينة، يقول ابونا ثابت “نعم نشجع على العودة، لان هذا مجتمعنا وهذه كنائسنا ونحن موجودون قبل المسلمين هنا والكنائس موجودة قبل الجوامع، فانت ترجع الى بيتك والى ارضك والى هويتك ولكن في نفس الوقت تشجيعي ليس تشجيع حماسي لان المدينة تحتاج الى اعمار وامان وبناء وعي في نفوس الناس بشأن التعايش حتى لا يحدث تمييز ولا نعود للتصرفات والمواقف المتطرفة ولانجعل الأمور العقائدية أساس التعامل مع الاخرين.. نحن نشجع على بناء مجتمع يحترم حرية الاخر”.
رفعنا معا الصلبان
بدوره يرحب “رامي العبادي” وهو رجل دين مسلم، بعودة المسيحيين لمناطقهم:” المسلمون يرحبون بهم، فالموصل مدينة كل المكونات وشباب الموصل المسلمين حتى قبل عودة المسيحين للمدينة قاموا بتنظيف الكنائس ورفع الصلبان فوقها، كانت رسالتهم واضحة، اننا واحد، وان للمسيحي في مدينة الموصل مثل ما للمسلم، وانه لا شيء بيننا غير المحبة والسلام منذ قرون، واننا اخوة في الإنسانية والوطن والمصير رغم اختلاف الأديان”.
ويتابع :”انا شخصيا ساهمت في مؤتمرات وجلسات عن التعايش تحث على عودة المسيحيين حتى أني شاركت بعيدهم في يوم القيامة في كنيسة كرمليس بحضور الاب والقسيسين وهنأتهم بعيدهم، ودعوتهم للبدء بصفحة جديدة والعمل المشترك كي نعيد المسيحين للمدينة… ورغم العدد القليل الذي عاد لكننا مازلنا ندعوهم للعودة”.
يقول الناشط المدني “بندر فارس” والذي كانت له مبادرات في مجال التماسك الاجتماعي “نحن نعرف ان الحكومة مهملة في مسألة التماسك الاجتماعي ولذلك قامت منظمات ونشطاء باطلاق مبادرات لتعزيز التعايش بين مكونات نينوى، وهم يعملون اليوم على مبادرة تخص تشجيع المسيحيين للعودة.. سيحاولون تشكيل ضغط على الحكومة والجهات الأخرى حتى تتخذ خطوات وتقدم حلول تعيد المسيحين الى منازلهم”.
ويضيف :”منازل المسيحيين تحتاج الى إعادة اعمار وترميم وبالتالي تحتاج الى دعم اقتصادي، لذا على الحكومة ان تكمل عمليا ما بدأت به”.
مبادرات مجتمعية
وفارس احد المتطوعين في فريق “السلام”الذي اطلق في رأس السنة الماضية مبادرة لتشجيع التعايش تركزت على اقامة احتفال مشترك في الجزيرة السياحية بغابات الموصل يضم أطفال مسلمين من المدينة القديمة مع أطفال مسيحيين من منطقة كرمليس الى جانب عوائلهم، بهدف خلق جو يمكن الأطفال من التعرف على بعضهم ويدفع عوائلهم الى التحاور والحديث عن مشاكل الموصل.
ويلفت فارس الى ان المبادرات، سواء الشبابية الجماعية او الشخصية، حتى لو كانت نتائجها العملية محدودية فانها “ذوبت الحواجز ونجحت في لململة التماسك الاجتماعي بين المكونين”.
بين المبادرات الشخصية، تلك التي قام بها “ايوب ذنون” وهو ناشط في المجال المجتمعي بالموصل، حيث تبرع بالمبلغ الخاص بجائزة “الاعمال التطوعية” التي فاز بها في مصر، وخصص جزء من المبلغ لمساعدة مجدي على ترميم منزله.
يقول ايوب، الذي رأى بيت مجدي على احدى وسائل التواصل وسمع بقصته: “حين عدت من مصر ذهبت لزيارته، كان ذلك في كانون الأول 2018، سألته عن أولوياته في الترميم وعن أهم ما يحتاجه.. تأثرت باصراره على العودة وبشعور الانتماء الذي يملكه رغم الدمار المحيط به… أحسست انه يعيش في عالم ثان”.
أوكل ايوب، لمجدي شراء الأساسيات التي يحتاجه لمنزله ودفع المبالغ المترتبة عليها.
وصف مجدي ذلك بالقول “كثيرون قدموا لي المساعدة، لكن ايوب كان اصدقهم”.
يرى نشطاء ان دعم المسيحيين بكل السبل الممكنة خاصة ماديا، ضروري لتمكينهم من العودة، في ظل ضعف امكاناتهم المادية وعدم تمكنهم دون مساعدة من اعمار وتأهيل بيوتهم خاصة مع غياب فرص العمل.
في ذات فترة ترميم منزله، شارك ايوب، مجدي وعدد من زملائه، الاحتفال بعيد المسيحيين في 25 كانون الأول، وقام بشراء شجرة عيد الميلاد وورود وحلويات.
يقول أيوب عن خطوته تلك :”لم نخبره بتلك المفاجأة قلنا له اننا سنزوره للاطلاع على تقدم العمل في منزله… حين دخلت أحسست بأن شعور الوحدة كان طاغيا على مجدي …اردنا أن نشعره بأنه ليس وحيدا.. كان سعيدا جدا …شعرت ان فرحته تلك كانت أكبر من فرحته بترميم البيت”.
ورغم قلة الحضور، أقيم قداس العيد بالمدينة القديمة في كنيسة حي المهندسين، حيث أن مقيمي القداس يأتون كل يوم أحد من عين كاوه في أربيل لأقامته والعودة مجددا.
لم يكن أيوب وحده من شاركوا المسيحين أعيادهم، بل قام شباب متطوعون وبالتعاون مع منظمة UPP في برطلة بالوقوف في صف وهم يحملون الورود ليقدموها مع تهانيهم للمصلين الخارجين من الكنيسة لتكسر تلك المبادرة البسيطة “الصورة النمطية السلبية” التي تشكلت خلال الحرب وقبلها، وفق منظميها.
وقام متطوعون شبان بتجهيز كنيسة مارتوما في المدينة القديمة، قبل أول قداس أقيم في المدينة عقب تحريرها، حيث قاموا بتنظيفها وتجهيز الكراسي والشموع والزينة. معظم المشاركين في القداس كانوا قد قدموا من عين كاوه.
تلك المبادرات ساهمت في تبديد الرؤيته السلبية عن التكاتف بين مكونات نينوى، وخلقت نوعا من الثقة بإمكانية اعادة النسيج الاجتماعي الذي تلقى ضربة قوية نتيجة داعش وقبله الافكار المتشددة التي بثها تنظيم القاعدة.
لكن تظل تلك المبادرات غير كافية لاقناع المسيحيين بالعودة واعادة بناء الثقة بين المكونات عموما، بحسب نشطاء مدنيين مسيحيين ومسلمين يرون ان غياب الدعم الحكومي ومن خلال مشروع متكامل يتضمن جوانب اجتماعية واخرى اقتصادية، سيعني عدم عودة غالبية المسيحيين الى مناطقهم بل وتفكيرهم بالهجرة الأبدية خارج البلاد لتخلو الموصل من المسيحيين بعد نحو 1600 عام على وجودهم القوي والمؤثر فيها.
*انجز التقرير بدعم منظمة (cfi) ضمن مشروع “تفاءل” 2020
المزيد عن قصص
Stories
قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18479}" data-page="1" data-max-pages="1">