قصص: ضعف الخدمات وغياب الاعمار والخوف من المستقبل يبدد أحلام المسيحيين باستعادة وجودهم بنينوى

ضعف الخدمات وغياب الاعمار والخوف من المستقبل يبدد أحلام المسيحيين باستعادة وجودهم بنينوى

عوائقُ كثيرة تصطدم بعودةِ سكان الموصل القديمة لا سيّما المسيحيين منهم، إذ أن التصفية التي مورست بحقهم من قبل التنظيمات المتطرفة عقب العام 2005 وما رافقها من اعمال اختطاف وتعذيب بلغت ذروتها بين عامي 2007 و2008 وراح ضحيتها 1140 مسيحيا في عموم البلاد بحسب مصدر في وزارة الاوقاف، جعلتهم يفضلون العيش خارج الموصل خوفا على حياتهم شبه منعزلين في مناطق سهل نينوى.

مجيد العبايجي/ الموصل

تحتَ برجِ كنيسة الساعةِ الشهيرة في الجانب الأيمن من الموصل، وقف “مجدي” يطالع بيته الذي نجا باعجوبة من طاحونة الحرب التي أتت على معظم البيوت في ذلك الحي الموصلي القديم والذي يحتضن أيضا جامع الصفار بمئذنته.

ثلاث سنوات مرت والخمسيني “مجدي”  يتوق للعودة إلى الدار التي ارتبط بها وراثياً بعد وفاةِ والده وقبله جده الذي كان في آخر أيامه يجلس في الباحة المكشوفة الى السماء وهو يطعم الطيور. ما إن سمحت قوات الأمن العراقية بالدخولِ الى الموصل القديمة التي شهدت أشرس المعارك  بين القوات الحكومية ومقاتلي تنظيم داعش، حمل نفسه وانطلق من زاخو شمالا في اقصى الحدود العراقية، تاركاً خلفه اربعة من اخوته وأمه المسنة، ليتوقف عند باب داره.

البيت الذي نجا من القذائف الصاروخية، أحدثت الرصاصات نقوشا على جداره، فيما لم يتحمل بابه الترددات العنيفة للقصف فخلع جزئيا وبقي نصف مفتوح.

على عتبة الباب خفض مجدي رأسه والتمعت عيناه بالدموع، دفع الباب بيده اليسرى مرتجفاً ووضع قدمه المثقلة على الأرضية القديمة ودخل مغمض العينين..  لم يفتحمها الا عندما كشف لون جفنيه نور السماء المتدفق من اعلى باحة المنزل.

أدارَ النظر ولملم من الأرض بقايا صليب مشظى، زين به جدار متصدع، ثم جلس على الدرج المؤدي للطابق الثاني وهي يتكأ على الحائط، وقال بكلمات مرتجفة وهو ينظر من حوله “ورثنا هذا الدار عن جدي، خرجنا منه مرغمين وكنت أعد الأيام حتى أعود إليه… للأسف امتنعت عائلتي عن العودة فعدت لوحدي”.

يسحب مجدي نفسا عميقا ويخفض رأسه مجدداً ويردف “لكن الدمار وغياب الخدمات سيزيد من صعوبة العيش هنا وسيمنع الكثيرين من العودة”.

 

هجرتان خلال عقد

عوائقُ كثيرة تصطدم بعودةِ سكان الموصل القديمة لا سيّما المسيحيين منهم، إذ أن التصفية التي مورست بحقهم من قبل التنظيمات المتطرفة عقب العام 2005 وما رافقها من اعمال اختطاف وتعذيب بلغت ذروتها بين عامي 2007 و2008 وراح ضحيتها 1140 مسيحيا في عموم البلاد بحسب مصدر في وزارة الاوقاف، جعلتهم يفضلون العيش خارج الموصل خوفا على حياتهم شبه منعزلين في مناطق سهل نينوى، مثل لحمدانية، القوش، برطلة، بعشيقة التي تحولت الى نقطة تجمعهم السكاني.

أعقب ذلك العنف والتهجير الممنهج، “غزوة” تنظيم داعش على المدينة في حزيران 2014، وسيطرته على معظم مناطق محافظة نينوى واعلانه دولة خلافته، وقراره باجبار المسيحيين على الهجرة او دفع الجزية للدولة الاسلامية المعلنة، وهو ما دفع جميع المسيحيين للرحيل عن الموصل وكامل مناطق سيطرة التنظيم المتطرف.

وذلك الرحيل السريع للمسيحيين وخلال ايام ومن دون ممتلكاتهم، مثل هجرة مكملة لسابقاتها التي اعتبرت نصف هجرة، ومعه خمدت رغبة النية بالعودةحتى  بعد ثلاث سنوات على التحرير، خاصة في ظل غياب جهود جدية من الحكومة العراقية بإعادة إعمار نينوى وبث نبض الحياة في قديمة الموصل حيث كان ينتشر المسيحيون بكثافة.

يقول حسان، وهو يمسح أرضية منزله وتعابير الحزن  تملأ وجهه “في عام ٢٠٠٧ بدأنا بتلقي تهديدات هاتفية من جهات مسلحة مجهولة تأمرنا بترك المدينة او مواجهة الموت، لم يأبه أبي لها وأمرنا بأن نلزم البيت”.

تابع حسان، في حين تغيرت نبرة صوته، وكأنه يغرق بعبرات يصارعها:”لكنهم قتلوا اخي ذي السبعة عشر عاماً عندما ذهب ليشتري الخضار لأمي، فنزحنا عن مدينتنا والصدمة والألم يهزاننا إلى الحمدانية كمحطةٍ أولى للهجرة إلى أوربا”.

تناقص مستمر

كان ستيفن المسيحي النازح من نينوى الى اقليم كردستان، لا يقبل أن يرتفع صوتُ أحد على صوتِ المذيع وهو يلقي أخبار تحرير أطراف محافظة نينوى، ويحدق باهتمام في التلفاز ويضع ابهامه بشكل عمودي على فمه في إشارة إلى التزام الصمت، كان ينتظر اللحظة التي تتزين فيها شاشة التلفاز بشريط العاجل الأحمر الذي يفيد بتحرير “بغديدا” مركز قضاء الحمدانية بالكامل.

دراسته كانت تقف حائلاً دون هجرته إلى اوربا، لكن انتمائه للأرض ورغبته بالعودة الى مدينته كانت دافعه الأكبر للبقاء وعدم الهجرة.

عاد ستيفن إلى (بغديدا) وتولى مهمة توثيق عدد العائدين من أبناء هذا المكون حتى بلغ عددهم (50 الفا)، وهو عدد أثار في نفسه الأمل بأن تكون  خطوة أولى لعودة كل المسيحيين و بدايةً للزحف إلى الموصل مجدداً.

لكن نسبة العائدين الى “بغديدا” لا تمثل واقع عودة المسيحيين، وذلك الرقم يظل ضئيلا امام ١٣٨ الف مسيحي هو عدد من نزح منهم من الموصل وسهل نينوى الى إقليم كردستان أبان سيطرة داعش.

يقول مسيحي آخر يقيم منطقة عينكاوا ذات الغالبية المسيحية في اربيل، والتي استقبلت آلاف العوائل خلال فترة النزوح، ان عددا كبيرا منهم لا يريدون العودة لأنهم خائفون من المستقبل، وفي ظل ضعف الخدمات فلا دافع للعودة، مشيرا الى ان غالبية المسيحيين اتخذ من اقليم كردستان نقطة بقاء مؤقتة للهجرة من العراق نهائياً.

حتى أن عدوى هجرتهم أصابت المسيحيين الموجودين أساساً في إقليم كردستان بينما هم بعيدون عن خطر داعش والتنظيمات الأخرى المتطرفة فقد دفع ذلك عوائل مسيحية كثيرة داخل الاقليم للتخطيط للهجرة.

وهو ما أدى عمليا الى وصول نسبة المسيحين في جميع العراق الى نحو نصف مليون شخص في عام ٢٠١٧، بحسب بطريرك الكلدان في العراق الكاردينال لويس ساكو، وهو رقم يقل عن الرقم الذي تعلنه كتلة الوركاء النيابية التي تقدر عدد المسيحيين في العراق بأقل من مليون مسيحي، في حين كان يبلغ عددهم مليونين قبل عام 2003.

وتقول منظمات مسيحية، ان ذلك العدد في تناقص مستمر منذ 2017. فيما قدر مسؤول في وزارة الأوقاف عام 2019 عدد المسيحيين بنحو 300 الف في جميع البلاد، وهو مؤشر حقيقي إلى ارتفاع وتيرة الهجرة بدافع  شعورهم بان الأوضاع في العراق تزداد سوءاً، وهو ما يشغل تفكير ستيفن ويجعله يعاود النظر بمسألة الهجرة وتفضيلها على الأرض.

لا يخفي ستيفن ان شعوره بالانتماء كدافع للبقاء يضعف، في مواجهة ما يشاهده من بنى تحتية متهالكة وصراع النفوذ في مناطق سهل نينوى وفرض الارادة، وطقوس دينية مبالغ فيها لأبناء المكون الآخر المنتشر في السهل والتي يصحبها قطع للطرق وحظر للتجوال مع كل  مناسبة دينية.

 

تمنيات ومحاولات

على جانب الطريق في شارع القلعة في اربيل، يُوقف “رياض” سيارته ويفتح صندوقها المملوء بعدد وأغراض يدوية، يرتبها ليبدأ ببيعها ويعتاش من مردودها المالي، إذ تمثل هذه السيارة مصدر رزقه الوحيد وآخر ما يملك، بعد أن ترك ممتلكاته في الموصل وفرّ من داعش بها.

يقول” لا أصدق متى تعود الحياة إلى طبيعتها في الموصل لأعود وافتح محلي الخاص بالعدد اليدوية هناك وأديره وانا أجلس على كرسي بدلا من جلوسي على حافة الطريق”.

ويتابع “معظم المسيحيون من الشباب يعملون في قطاع الخدمات في الاقليم، لكن هذا لا يناسب الكثيرين خاصة من كبار العمر ومن اصحاب المحلات والمهن الذي لم يعوضوا خسارة اعمالهم في الموصل”.

يقف المطران يوحنا بطرس،في باحة كنيسة البشارة في الجانب الأيسر من مدينة الموصل، بحضور عشرات المسيحيين، استعدادا لأول قداس في المدينة بعد تحريرها من داعش، وقد اكتست الكنيسة بحلة جديدة بعد ان افرغها داعش من الأثاث، إضافة إلى الدمار الذي طالها بسبب الحرب.

يقول يوحنا وهو يمسك بيده صليبا ذهبي اللون، ان الموصل باتت مستقرة، وهناك تفهم كبير لأهمية اعادة البناء والتعايش عقب رحيل داعش، داعيا كل من بمقدوره العودة الى منزله ومنطقته بأن يعود، مؤكدا على أهمية استمرار التنوع والوجود المسيحي في الموصل.

لكن تلك الدعوات تواجه صعوبات كثيرة في ظل غياب الخدمات وقلة فرص العمل وبقاء الجزء الأكبر من أحياء المدينة القديمة مدمرا، بينما يواصل مجدي زيارة دائرة بلدية الموصل لمقابلة المسؤولين هناك لتلبية طلبه برفع الأنقاض التي تكدست عند الطريق المؤدي إلى منزله، في مسعىً لتسهيل العيش هناك وتشجيع الناس لبناء بيوتهم.

يقول مجدي انه لو لا وجود الجيران لكان استمراره في العيش بمنزله مستحيلا “في ظل تجاهل الحكومة وتخليها عن عملية اعادة الاعمار على نحوٍ يجعل من كل محاولة لعودة المسيحيين الى الموصل والتشبث بالعيش فيها مغامرة كبيرة”.

 

*انجز التقرير بالتعاون مع منظمة (cfi) ضمن مشروع “تفاءل” 2020

المزيد عن قصص

Stories

قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18460}" data-page="1" data-max-pages="1">