قصص: شباب وفتيات من مكونات نينوى يبحثون عن استعادة ازدهارها عبر اعادة تعايش أبنائها

شباب وفتيات من مكونات نينوى يبحثون عن استعادة ازدهارها عبر اعادة تعايش أبنائها

مهند الأومري

على طرف الطريق المخصص للمشاة في الجسر العتيق وسط الموصل، كانت تقف بمفردها غير مكترثة بحركة المارة والمركبات التي تهم بالعبور باتجاه المدينة القديمة. بقيت “أميرة” الفتاة الايزيدية ذات العشرين ربيعا تطالع ركام مئات البيوت على حافة النهر وكأنها تبحث عن شيء ما وسط الدمار الذي خلفته معارك التحرير.

ثلاث سنوات من سيطرة داعش على المدينة التي احتلها سريعا في حزيران 2014 اثر انهيار قوى الأمن والجيش العراقي، كانت كافية لينفذ التنظيم خلالها عمليات قتل واختطاف واخفاء وتعذيب واسعة بحق كل من اختلف معه خاصة من غير المسلمين، ويفرض سياسات طائفية أحدثت شرخا كبيرا في النسيج الاجتماعي وفي التعايش التاريخي بين مكونات نينوى.

“أميرة” الحاصلة على شهادة بكالوريوس في التاريخ، جاءت الى الموصل بعد سنوات من غيابها عنها، لتشارك في مخيم “للتعايش السلمي بين المكونات” نظم في منطقة الغابات، متجاوزة مخاوفها الكبيرة وقصص الألم والفقدان والاغتصاب التي روتها عشرات المختطفات الايزيديات على يد تنظيم داعش والتي كانت الموصل وجانبها الأيمن احدى محطاتها الرئيسية.

 

التواصل مجددا

جمع المخيم افراداُ من مختلف مكونات محافظة نينوى، ضمن مشروع هدف الى خلق حوار بين المختلفين. وبحسب المنظمين، تضمنت تفاصيل يوميات المشروع فقرات متنوعة وبرامج عديدة ونشاطات الهدف منها خلق التواصل الايجابي بين المشاركين وبث روح التعاون والتعايش والسلام في مجتمع عانى من الانقسام الذي احدثه تنظيم داعش خلال فترة سيطرته على المدينة وما سبقها عبر عمليات القتل المنظم وتخريب البنى التحتية واستهداف المكونات لانهاء التعايش المجتمعي الذي عرفته المحافظة طوال عقود من الزمن.

واحتضن “مخيم التعايش” 30 شابا وفتاة من قوميات وأديان عديدة ولمدة خمسة أيام، بينهن ايزيديات ومسيحيات، وتضمن فعاليات وأنشطة تفاعلية عديدة الى جانب تبادل الآراء والرؤى والأفكار في مختلف القضايا السياسية والمجتمعية، خاصة ما تعلق بمناقشة مستقبل العيش المشترك في نينوى.

وكان قد سبق سيطرة تنظيم داعش على المدينة في صيف 2014  سيطرة عدة مجموعات مسلحة على المدينة ابرزها تنظيم القاعدة منذ العام 2005 الذي شن هجمات يومية بالقنابل والسيارات المفخخة ضد المفاصل الادارية والحكومية، كما استهدف بعمليات اغتيال منظمة مئات الشخصيات السياسية والاجتماعية والادارية.

تلك الهجمات دفعت عشرات آلاف الايزيديين والمسيحيين والكاكائية والشيعة من سكان المحافظة الى النزوح عنها الى مناطق أخرى. وراح ضحيتها عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين ودمرت خلالها البنى التحتية وتراجعت المرافق الخدمية وتعطلت السياحة بشكل كامل حتى غدت الموصل مدينة منكوبة.

 

ارث ثقافي مترسخ

تقول أميرة، ان هذه اللقاءات والتجمعات التي تجمع مختلف المكونات، رغم محدودية عدد المشاركين فيها فان لها أهمية خاصة. وتوضح “التعايش الايجابي يمثل قاعدة بناء صحيحة لمجتمع متنوع ومنحدر من العديد من الاصول الحضارية التي تركت إرثاً ثقافياً متنوعا ترسخ في الزمان والمكان عبر تاريخ العراق”.

واخذت العديد من المنظمات غير الحكومية، بعد تحرير الموصل، وخاصة في العام 2018 على عاتقها تفعيل بعض النشاطات المجتمعية، وعقدت تجمعات ومؤتمرات وندوات ولقاءات عديدة الهدف منها مد جسور التواصل بين أبناء المكونات واعادة بناء الثقة والتراحم من اجل طي صفحة الماضي وبناء مستقبل جديد قائم على المحبة والعيش المشترك والقضاء على آثار ومخلفات داعش فكرياً وثقافيا في مفاصل الحياة المختلفة.

تضيف اميرة “نعلم جيداً ان تراكمات فترة داعش والقاعدة بما حملته من انقسامات وبث للكراهية الدينية والمذهبية وحتى الاجتماعية لن تنتهي بسهولة في مجتمع فيه الكثير من الأديان والقوميات والطوائف التي تضم متطرفين ومتعصبين يرفضون الآخر”.

التحديات كبيرة بوجود متطرفين

ويعلق الناشط احمد جبار، على ذلك بالقول “نعم لا احد ينكر الاختلافات والتعصب القائم في كل مجموعة، وهناك من يتاجرون بالأزمات ويستفيدون من الانقسامات، وعلينا ان نواجه كل اولئك لأن التعايش الايجابي والحوار وقبول الآخر هو الطريق الوحيد لنسيان الماضي والمضي على طريق اعادة اللحمة وبناء المؤسسات وتطبيق القانون والعدالة الاجتماعية والاهتمام بتطوير الاقتصاد المتدهور وايجاد فرص العمل”.

من ذلك المنطلق، يقول جبار، تسعى الكثير من المنظمات الانسانية والداعمة للنشاطات المجتمعية الى أن يكون لها دور في تحقيق السلام والاستقرار في الموصل من خلال دفعها باتجاه تقريب الافكار وتسهيل عملية الاندماج في المجتمع بين الاديان والقوميات باعتبارها الخطوة الرئيسية الأولى لبناء مجتمع مدني مسالم بعيد عن العنف والتمييز قادر على اخراج نينوى من محنها وتطويرها مجددا.

ويشير علي عمر كبعو، معاون محافظ نينوى لشؤون المنظمات، الى الدور الجيد الذي لعبته المنظمات غير الحكومية قبل وخلال عمليات تحرير نينوى، وأهمية تفعيل ذلك الدور وادامة التواصل في المرحلة الحالية.

ويقول انها اصبحت اكثر فاعلية مع تحرير الموصل “حيث وصلت الكثير من المنظمات الى سهل نينوى ومناطق أخرى في المحافظة لتنفيذ العديد من الأنشطة والمشاريع والمبادرات التي تساهم في عملية إذابة الجليد بين المكونات بعد حقبة قاسية مرت على أهالي المحافظة”.

 

الشباب يقودون المبادرات

يلفت الناشط المدني تمام الى ان الحركة الواسعة التي شهدتها الموصل عقب تحريرها، انطلقت في الأساس من مبادرات مجتمعية قادها شباب من مختلف المكونات.

يقول “شهدت المدينة بعد تحريرها انطلاق عشرات المبادرات التي انعكست في تجمعات وفعاليات ونشاطات متنوعة قادها الشباب وغلب عليها الجانب التطوعي الخدمي، واتّسمت تلك الفعاليات عموما بروح التماسك الوطني ونفّذت في الغالب من قبل متطوعين في فرق شبابية ومنظمات مجتمع مدني”.

ويضيف تمام “بعض النشاطات كانت ذات طابع خدمي كحملات التنظيف وفتح الطرق، لكن كانت أيضا هناك حملات لترسيخ مبادئ التعايش السلمي بين أفراد المجتمع بجميع أطيافهم ومذاهبهم ومكوناتهم كونها افضل السبل لبناء عراق ديمقراطي”.

يؤكد ذلك الدور المهم، إيفان جابرو، مستشار محافظ نينوى لشؤون المكونات، قائلا ان الشابات والشباب يقع على عاتقهم دور كبير في تكوين وتحديد الرؤية المستقبلية للعمل والتوصل الى مفاهيم صحيحة بين المكونات بعد التدمير الممنهج الذي حصل من قبل تنظيم داعش الارهابية”.

ويضيف “هؤلاء الشباب سيرسمون مسارات بناء الحياة الجديدة ونتطلع أن يحدث ذلك بعقليات منفتحة وقلوب محبة للسلام بعد التجارب المريرة التي شهدناها”.

أميرة الايزيدية، في اليوم الثاني للمخيم، تخلصت من هواجسها، وبدأت تعرض افكارها بحرية مع تواصل ساعات العمل واستمرار الأنشطة والفعاليات، لتقترب أكثر من باقي المشاركات وخاصة من “مريم” الفتاة المسيحية و”نور” الفتاة المسلمة، ليندمجن معا في ما يشبه الفريق ويفتحوا موضوعات متنوعة.

تقول مريم “كنا قلقين في البداية، انها تجربة أولى لنا بعد ما شهدناه من ويلات.. ثم تخلصنا من هواجسنا وتبادلنا مع الآخرين وطوال ثلاثة أيام الآراء بسلاسة، بل واتفقنا على لقاءات أخرى لبحث موضوعات عديدة تمثل مشاكل كبيرة لنا ولعموم مكونات نينوى”.

النقاشات في المخيم، الذي اهتم بالعمل الجماعي وتنظيم الفعاليات بروح الفريق الواحد واعداد وجبات الطعام المشترك، لم تقتصر على الانقسامات التي احدثها تنظيم داعش ومخاوف المكونات من بعضها وسبل اعادة بناء التعايش، بل تطرقت ايضا الى دور المرأة في المرحلة المقبلة وحضورها لبناء منافذ حضارية للتفاهم الايجابي بين المكونات، وضرورة ايلاء الاهتمام بالطاقات الشبابية ودعم قدراتها.

 

بناء رؤى مشتركة

تعلق “مريم” التي تأمل الالتحاق بجامعة الموصل في السنة الدراسية الجديدة بعد تجاوزها لمرحلة السادس الأعدادي، على وجودها في مخيم التعايش السلمي بين المكونات، بالقول “الهدف من وجودنا في هكذا فعاليات هو التأكيد على الوحدة والتعايش بين المكونات من مختلف الأديان والمذاهب بعدما عشناه جميعا من نتائج كارثية للانقسامات المجتمعية التي غذاها المتطرفون”.

وتضيف:”شخصيا أشارك أيضا للتأكيد على وجودي مع باقي المكونات والتعبير عن افكاري وفي نفس الوقت للاستماع الى باقي الآراء من المكونات الأخرى ولأشاركهم في بناء رؤى مشتركة.. في النهاية هي فرصة حقيقية لأكون مع باقي المكونات مباشرة دون حواجز”.

وافقتها الرأي “نور” الطالبة في المرحلة الرابعة بكلية الطب في الموصل، قائلة: “كانت فرصة نادرة ومؤثرة للقاء بآخرين نختلف معهم قوميا او دينيا، لكننا نتشارك معهم في هذه الأرض وفي المصير المشترك والمستقبل”.

وترى “نور” ان الضعف الذي تعانيه الموصل اليوم يعود لمحاولة البعض الغاء الآخر أو انكار ذلك التنوع الذي كان سمة للموصل أعطتها القوة الاجتماعية والاقتصادية لقرون طويلة ما جعلها مدينة مزدهرة قبل ان تضعفها الانقسامات التي تم زرعها في العقدين الآخيرين.

تقول: “لا طريق آخر امامنا الا اعادة ذلك التعايش الايجابي بين أبنائها اذا اردنا استعادة ازدهار الموصل”.

 

*انجز التقرير بدعم منظمة (cfi) ضمن مشروع “تفاءل” 2020

المزيد عن قصص

Stories

قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18466}" data-page="1" data-max-pages="1">