هديل الحيالي
في مجتمع كانت حالات الزواج بين المكونات المختلفة أمراً شبه اعتيادي في المناطق المختلطة مذهبيا وقوميا، قبل ان يشتعل الصراع الطائفي بين السنة والشيعة ويتصاعد الخطاب القومي في 2005 ليأتي على كل فرص الارتباط بين الشباب والفتيات من المكونات المختلفة، لكن الظروف التي خلقها تنظيم داعش بعد 2014 أحدثت شرخا في الجدران التي احاطت المكونات نفسها بها.
لم يعد الأمر “مستهجناً ومستنكراً وغير قابل للتحقق”، يقول سمير معلقا على زواج ابن عمه الشيعي من فتاة سنية، ويضيف “رغم ان الصعوبات والمشاكل ماتزال قائمة في ما يتعلق بالزواج بين المكونات فان الشباب ممن يحسنون اختيار شريك حياتهم وفق عوامل الحب والتفاهم والتكافؤ، يستطيعون ان يتخطوا كل الصعوبات”.
ويتابع:”العوائل تفضل ان تختار ابنتهم او يختار ابنهم شريكة حياته ضمن العائلة نفسها، او من ذات العشيرة، ويلحون على ذلك لأسباب معروفة، فكيف الحال اذا كان الابن مثلا يريد التزوج من قومية وطائفة أخرى بالتأكيد سيواجه بالكثير من الرفض والانتقاد وعلى من يفكر بالزواج خارج تلك الحلقة مواجهة سيل من الصعوبات”.
قصة حب طويلة
لارا وعلي، الذين ينتميان لمكونين مختلفين، جمعهما الحب ونجحا بعد مصاعب كبيرة في بناء اسرة متماسكة. قصتهما واحدة بين آلاف قصص الزواج المختلط الناجحة في المجتمع العراقي الذي يضم العديد من المكونات المختلفة، فلارا سنية من الموصل وعلي شيعي من بغداد، التقيا في ظروف استثنائية وأحبا وتمسكا ببعضهما وتغلبا معا على الطائفية رغم الكثير من المشاكل التي واجهتها علاقتهما.
لارا (24 عاما) هي البنت الأصغر في عائلة من ستة أفراد، تضم الى جانبها أمها، وثلاثة بنات أخريات كلهن متزوجات، وشقيق واحد.
واجه أفراد العائلة التي تعيش في الموصل، والتي فقدت والدها قبل سنوات، فأصبحت والدتهم كل شيء بالنسبة لهم، ظروف عصيبة في حزيران 2014 حين سيطر تنظيم داعش فجأة على المدينة.
تقلو لارا:”حاولنا بكل الطرق الخروج من المدينة لكننا لم ننجح، فاستسلما لقدرنا مثل الآخرين… كنت أيامها في الصف السادس الاعدادي وكان علي بعد أشهر أن اؤدي الامتحانات في كركوك بعد ان تأجلت في الموصل حالي حال الكثير من الطلاب”.
وتضيف:”أديت الامتحانات ونجحت بمعدل 73 وبقينا في الموصل لكن الأوضاع بدأت تسوء خاصة بعد انقطاع الإنترنت والاتصالات والتضييق على العوائل وإجبار النساء على لبس النقاب، قررت العائلة الخروج من المدينة وبدون رجعة والاقامة في بغداد واكمال دراستي في كلية التربية بالجامعة المستنصرية”.
وتتابع :”في اليوم الأول لدراستي، وفي (سيارة الاشتراك) التي اقلتني مع طلبات اخريات وطالبين الى الكلية، كونت اولى صداقاتي في البيئة الجديدة لنا، وحيث لا يعرفنا أحد ولا نعرف نحن أحدا، بنيت سريعا صداقات مع عدة فتيات كلهن ينتمين للطائفة الشيعية، وكنت السنية الوحيدة بينهن دون ان اكشف ذلك”.
وتستطرد :”أيامها وطدت (نور) احدى الفتيات ضمن كروب سيارة الاشتراك علاقتها معي.. كنت أكتب حينها على صفحتي في الفيسبوك باني مرتبطة.. علمت لاحقا ان احد الطلاب ضمن الكروب هو شقيقها (علي)، وتعرفت عليه بحكم كونه في ذات الكلية لكن بالمرحلة الثالثة، وأحسست بانه مهتم بي فكان يسأل باستمرار عني وعن دراستي، وأعانني من خلال توفير الملازم التي لديه للمرحلة الأولى.. هكذا تولدت علاقتنا وصولا الى الزواج لكن بعد معاناة طويلة ومصاعب كبيرة بسبب رفض أهلي له”.
عائق الطائفة
يقول علي (26 عاما) الذي تضم عائلته شقيقين وثلاث شقيقات، اثنين منهن متزوجات والثالثة هي نور صديقة لارا في الكلية:”رأيتها فتاة قادمة من مدينة بعيدة وتمر بظروف صعبة، وحيدة ليس لها معارف ولهجتها صعبة الفهم فقررت ان اساعدها كصديق وبدأت أتابع اخبارها… لم أكن أفكر حينها بالزواج والارتباط بها كانت مجرد زميلة دراسة”.
يضيف:”مرت الأيام، وذات مرة تمرضت وغبت عن الدوام، فوجئت برسالة من لارا عبر الماسنجر تسأل فيها عني وعن صحتي بعد ان علمت بمرضي، قبلها حاولت كثيرا التواصل معها لكني وجدت مكتوبا على صفحتها بأنها مرتبطة فلم افكر بمراسلتها … بعدها بقينا نتراسل كأصدقاء لكن أحدنا كان يغار على الثاني، هي تمنعني بشكل او بآخر عن كل البنات الموجودات في القسم وأنا أمنعها من كل الولد اللي بالقسم”.
ويتابع :”بعد اشهر عرفت الكثير عنها، علمت انها من طائفة أخرى وان هذه مشكلة معقدة، رغم ذلك قررت الاعتراف لها بحبي..كان ذلك في 16 آب 2016 وأذكر انها كانت الساعة العاشرة مساء اتصلت بها وقلت لها ان لدي شيء اريد ان اخبرك به واتمنى تسمعيني الى النهاية.. أنا أحبك واريد الزواج منك والله يشهد على نيتي”.
يتوقف علي، لبرهة ثم يستطرد:”أجابتني ماذا يمكن ان تفعل من أجلي، قلت لها أنا مستعد لعمل أي شيء … بعدها علمت انها تحبني .. لكن الخوف لازمنا لأني من محافظة وطائفة ولارا من محافظة وطائفة أخرى”.
كان على ولارا مدركين للصعوبات لاتي قد تواجههما رغم ذلك اتفقنا أن لا يتركا بعضهما مهما حصل وان يتحديا الكل لتحقيق هدفهما، شجعهما على ذلك وجود حالة زواج مختلط سابقة في عائلة لارا حيث ان شقيقتها الاكبر متزوجة من شيعي في بغداد.
تعصب أعمى
أجل علي بالاتفاق مع لارا خطوة التقدم لخطوبتها، لحين اكمال دراسته ليكون مستعدا أكثر للمصاعب التي يمكن ان تواجههما خاصة مع عودة عائلة لارا للعيش في الموصل.
تقول لارا: “مع عودة اهلي الى الموصل عقب تحريرها من داعش، بقيت انا عند اختي المتزوجة، والتي ما ان عرفت بعلاقتي مع علي حتى اتصلت بشقيقي الذي رفض تلك العلاقة وأجبرني على العودة للموصل ومنعني من الدوام لمدة شهرين”.
تضيف لارا:”كنت ابكي طوال الوقت، اريد ان اعود لدراستي، وكان علي حائرا لا يعرف ماذا يفعل اذا تقدم لخطبتي قد يحرمني شقيقي من الدراسة والوصول الى بغداد.. في النهاية تمكنت من اقناع شقيقي بعودتي للدراسة بشروطه بما فيه نسيان مسألة الزواج وحرماني من الموبايل وكل وسائل التواصل”.
تتابع: “في اليوم الأول لعودتي للدوام التقيت بنور وطلبت منها ابلاغ علي بعودتي وبأني اريد رؤيته، في اليوم التالي جاء لم أصدق انني أراه ثانية، اتفقنا على ان اجتهد لتعويض ما فاتني من محاضرات وامتحانات وان انهي المرحلة الثالثة بنجاح”.
رفض بلا مبررات
بقيت لارا عند شقيقتها في بغداد طوال فترة دراستها في المرحلة الرابعة والتي لم تخلو من المشاكل مع شقيقتها التي كانت تخشى من حصول مشاكل عائلية، الى ان تخرجت.
تقول:”بعدها مباشرة جاءت عائلة علي لخطبتي لكن شقيقي رفضه بحجة انه شيعي وانه لا يعرف عائلته، وبقي مصرا على معارضته رقم موافقة امي ورغم شقيقتي الأكبر متزوجة من شيعي منذ سنوات طويلة ولا مشاكل بينهما”.
تستطرد “فشلت كل محاولات اقناع اخي بالموافقة وقام بمقاطعتي وضربي … انا لم أكن أتصور حياتي من دون علي، فتمرضت بسبب الحزن… حاولت ادخال أقاربي للتوسط دون جدوى، تركت المنزل وعشت في بيت عمي (ع.أ) الذي حاول مرارا اقناع شقيقي دون جدوى فكان يهدد بأنه لن يسكت”.
اقامة لارا في بيت عمها وامتناع شقيقها بالسؤال عنها، وعدم وجود مبرر لمنع ذلك الزواج، دفع عمها الى الطلب من “علي” للمجيء الى الموصل والتقدم بشكل رسمي لخطبة لارا وقراءة الفاتحة.
تقول لارا “تم كل شيء بسلام الى الآن، اذا أحب شخصان بعضهما بصدق فلا يمكن الوقوف بوجه ذلك الحب”.
يقول “ع.أ” منتقدا محاولات البعض لمنع الزواج المختلط دون اي مبرر معقول “ما الفرق في ان تكون سنيا او شيعيا، شخصان يحبان بعضهما وهناك تكافأ بينهما فلماذا يمنع زواجهما… لا يمكن ان نسمح لعقدنا وأوهامنا وصراعات السياسيين تدمير حياتنا… معظم المتعصبين لا يقدمون مبررات منطقية لرفضهم للآخر، انه رفض اعمى”.
الدورالسلبي للسياسة
الناشط والباحث الاجتماعي احسان أحمد، يعتبر الزواج بين شخصين من مكونين مختلفين امرا طبيعا طالما لا يحرمه شرع او قانون.
ويقول:”طوال قرون كان حالات الزواج من مكونات مختلفة قائمة، نعم كانت تواجه مشاكل مثل اي حالة زواج أخرى… لكن العقدة بدأت حين قسم السياسة والمتعصبون الناس الى مكونات متخاصمة او متنافسة”.
ويؤكد احمد، ان حالات الزواج بين مكونات مختلفة ازدادت بشكل واضح في السنوات الخمس الأخيرة مع تراجع التعصب القومي والطائفي الذي كان يعرقل بناء اسرة تضم مكونين مختلفين.
ويتابع:”بعد 2014 ومع تراجع النفس الطائفي ومع نزوح العوائل السنية الى مناطق اقليم كردستان ومحافظات وسط وجنوب العراق، كثرت حالات الزواج بين الكرد والعرب وبين الشيعة والسنة ولم تعد مستغربة”.
يورد شوان علي (36 عاما) وهو من أهالي اربيل، والذي تزوج من فتاة عربية، ويعيش معها منذ اربع سنوات، ان العديد ممن يعرفهم تزوجوا من فتيات من غير مكونهم ولم يواجهوا مشاكل معقدة. بات الكثيرون يتزوجون من طوائف وقوميات اخرى، هذا لم يكن مقبولا قبل عشر سنوات”.
ويلفت الى ان الكثير من الكرد الذين عاشوا في الخمسينات والستينات والسبعينات بمدينة الموصل تزوجوا بفتيات عربيات واسسوا لعوائل ناجحة مع توفر عامل التكافأ بين الطرفين، ولم يكن عامل القومية او اللغة مشكلة الا عند شريحة معينة.
يتفق عمار محمد (45 عاما) من كركوك، مع ذلك الرأي “في كركوك وحتى في الموصل كان الزواج المختلط عاديا طوال عقود، بل كان من الصعب ان تجد عائلة واحدة في كركوك لم يتزوج احد افرادها من قومية او طائفة اخرى”.
ويتابع محمد الذي يستقر منذ سنوات في اربيل بعد ان تزوح بفتاة تركمانية:”حدث انفتاح في هذا المجال، وصار هناك تفهم لأن يتزوج احد بفتاة من غير اقاربه ومن غير طائفته او قوميته، في بعض الفترات كان ذلك أمرا غريبا”.
ويخلص الى القول وهو يبتسم :”يبدو اننا بدأنا نتخلص من بعض امراضنا”.
*انجز التقرير بدعم منظمة (cfi) ضمن مشروع “تفاءل” 2020
المزيد عن قصص
Stories
قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18469}" data-page="1" data-max-pages="1">