قصص: لا بديل عن التعايش … مجتمعات متداخلة أمام طريقين: اندماج يحييها او صراعات تمزقها

لا بديل عن التعايش … مجتمعات متداخلة أمام طريقين: اندماج يحييها او صراعات تمزقها

اسماعيل خضر/ سنجار

“لا بديل لنا عن التعايش، دونه ينتهي وجودنا.. لا يمكن ان نقسم مدننا التي تضم منذ مئات السنين مكونات مختلفة، الى أقسام صغيرة منفصلة عن بعضها يعيش في كل قسم مكون محدد.. هذا مستحيل”.

يقول شفان احمد، وهو شاب مسلم من سنجار يعيش في مدينة دهوك منذ آب 2014 حين تعرض الايزيديون في المدينة وقراها الى عمليات قتل وخطف جماعية واسعة على يد مقاتلي تنظيم داعش، سبقتها عمليات قتل للشيعة في تلعفر وسنجار وأعقبتها عمليات تهجير للكرد المسلمين منها.

نحو 400 الف انسان، من مكونات سنجار المختلطة دينيا ومذهبيا وقوميا وثقافيا، اضطروا لترك المنطقة الواقعة شمال غرب نينوى هربا من الابادات المتوقعة، بعد ساعات من سيطرة تنظيم داعش عليها الذي يؤمن بفرض دين ومذهب وثقافة واحدة على الجميع، فاما ان تقبل بها او تقتل او تُهجر.

يضيف شفان، وهو ينظر الى زميله الايزيدي حسن خيرو “هذه ليست ثقافتنا، عشنا مئات السنين معا في سنجار، ايزيديون ومسلمون ومسيحيون وتركمان وعرب وشيعة وسنة. المساجد كانت الى جوار الكنائيس والمراقد الشيعية، الى ان جاء داعش وقرر الغاء التعايش وفرض دين ومذهب وثقافة واحدة”.

يوافقه الرأي خيرو :”نعم كانت هناك حساسيات تحصل في سنجار وهذا امر طبيعي في المجتمعات، لكن لم يفكر احد يوما ان يلغي وجود الآخر.. هناك اخوة في الدم، وهناك علاقات اجتماعية عميقة بين المكونات وهناك شراكات اقتصادية، لا يمكن الغاء كل ذلك”.

ويضيف :”جميعنا دفعنا ثمنا غاليا، المسلمون والايزديون والمسيحيون ولاتركمان جمعا هجروا وحتى العرب صاروا يخشون العودة الى قراهم بعد الاتهامات لاتي طالت بعض ابنائهم المتلعقة بالمشاركة في عمليات الابادة والسلب والنهب في سنجار”.

يتابع خير:”نحن نعاني جميعا اليوم من النزوح ومن خسارة بيوتنا واراضينا.. ولا حل آخر أمامنا غير العودة الى سنجار واعادة بنائها وتشجيع جميع المكونات للعودة اليها.. طبعا هذا امر صعب جدا بعد الانقسامات والاحقاد وحالة الشك بنوايا الآخر”.

وتعرضت سنجار لعمليات سلب ونهب وابادة جماعية قتل فيها آلاف الايزيديين واختطف آلاف آخرون بينهم نساء ايزيديون وشيعة اخذوا كسبايا، مصير أكثر من 3000 منهم مازال مجهولا. كما تعرضت المدينة لاحقا في عمليات استعادتها من داعش الى تدمير هائل.

ويرى مختصون وكتاب من مختلف المكونات العراقية ان المجتمع العراقي متداخل ومع ارث ثقافي يمتد لآلاف السنين وجد هذا التنوع الديني والقومي والثقافي الكبير، الذي لا يمكن تفتيته لأن ذلك يعني تدمير الجميع، وهو ما يفرض العودة الى التعايش والحوار مهما كانت الانقسامات والخلافات والشكوك.

يقول بختيار عزيز، وهو روائي كردي من مدينة كلار ذات الغالبية الكردية، تعليقا على الطبيعة المكوناتية في العراق، ان عوامل كثيرة “تجعل اية مكونات في تركيبة سكانية ما متفاهمة ومندمجة.. عوامل سياسية واجتماعية وتاريخية وأثنية وحتی العوامل الجغرافية، فكل هذه العوامل مؤثرة إيجابياً إذا تسارع الناس الی استغلالها بما ينفعهم ويغنيهم ويقويهم، لكن إذا الواقع أصبح معكوساً فسنشهد آثار سلبية مدمرة”.

الاندماج نتاج تعايش طويل

ويضيف عزيز “الطبيعة المكوناتية في العراق هي حقيقة مطلقة، وكلما كان الحوار علی اساس الوصول إلی تفاهم مشترك وتغليب الكل المختلف، كانت النتيجة ايجابية، والعكس اذا سار الأمر علی اساس تغليب رٲي الاكثرية”.

ويتابع معلقا على بواعث الاندماج في المجتمعات، ان الاندماج بطبيعته “لا يكون نتيجة لقرار مشترك، بل هو حالة تتبلور من خلال احتواء الكل للكل المختلف عن بعضها البعض، بمعنی حالة الاندماج هي نتيجة لمعايشة اجتماعية وسياسية وثقافية حرة بين الطبقات كلها، وليست مجرد مؤتمرات وموائد مزركشة”.

ويبدو ان ما يحرك ذلك هي المصالح المشتركة في المدينة الجامعة للجميع، كما يقول شفان “مصالح مكونات سنجار المختلفة هي التي أبقت التعايش الايجابي قائما طوال قرون من الزمن، وهي التي ساهمت في احتواء الكل للكل، والتعايش اجتماعيا وثقافيا وسياسيا”.

ويصف المؤلف البهائي العراقي المغترب سيفي سيفي، التركيبة المكوناتية بأسلوب أدبي، قائلا “المجتمع كالبستان الكبير، فإذا احتوى على نوع واحد من الزهور، فسرعان ما تختفي البهجة وتتخدر حاسة الشم فلا تعد تشم رائحتها الطيبة، بل وقد لا تعد تعتني بالرائحة بالأساس، أما إذا كان البستان ممتليء بمختلف أنواع الزهور، فسيكون مصدرٌ للسعادة والإبتهاج”.

ويضيف: “وجود المكونات المختلفة هي التي اعطت للعراق في القرون الماضية ذلك الجمال الآخاذ، بوجودهم امسى البستان مسرة للناظر تدفعه للتجوال بين أزهاره والتمتع برحيقها.”

ويؤكد سيفي ان “القيمة المكوناتية تكمن في إبراز الكل على حقيقته وثقافته المختلفة عن الآخر دون أن يتعرض للتهميش والمضايقات، ومع الحوار الدائم والاندماج الاجتماعي تتشكل بيئة خالية من الصراعات”.

 

تحديات الحوار والاندماج

لا تختلف رؤية الزرادشتيين، وهي احدى الديانات القديمة في العراق التي اختلطت مرتكزاتها بجذور ديانات أخرى قائمة اليوم، لتعايش الثقافات والديانات في العراق عن رؤى النخب العراقية من بقية المكونات، ومن هنا ينظرون الى عدم الاعتراف الرسمي  بوجودهم كمشكلة كبيرة.

يقول هازان كاريسي، رئيس مركز الثقافي الزرادشتي والمقيم في ألمانيا، ان “التحدي الأكبر الذي يقف عائقاً أمام الزرادشتيين كمكون عراقي أصيل هو عدم الإعتراف بديانتهم بشكل رسمي في الدستور الجديد بعد سقوط نظام البعث عام ٢٠٠٣، رافق هذا الأمر تهجير الكثيرين منهم إلى خارج العراق وتحديداً إلى إيران”.

وبحسب كاريسي لا يقتصر الأمر على عدم الإعتراف بديانتهم في المواثيق الوطنية فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ابعادهم عن المناصب القيادية والسياسية في الدولة والتحريض المستمر ضدهم.

هذا الرفض الرسمي للزرادشتية ربما لا تجده مع باقي الأديان، خاصة ان اتباع تلك الديانة هم قلة قليلة، لكن فرض ثقافية الاغلبية في العراق عموما، يضع اجتماعيا وثقافيا جدارا عاليا بين المكونات وهو ما يشعر به المسيحيون والايزيديون والصابئة بشكل خاص.

تقول الطالبة المسيحية في كلية الحقوق، ساندرا بطرس “قد تكون الجماعات الإرهابية المتطرفة سبباً رئيسياً لغياب حالة عدم التحاور والتعايش بين المكونات العراقية ولهذا آثار سلبية عديدة على ثقة الأطياف ببعضها البعض”.

وتستدرك: “لكن علينا ان لا ننسى ولا نستبعد الطبيعة المجتمعية” وسياسة فرض ثقافة الأغلبية على الآخرين “فهذه الثقافة التي تسود تقسم المجتمعات على أسس مذهبية وعرقية ودينية” وهو ما يحمل نتائج خطيرة على وحدة المجتمع والدولة.

اللجوء للدعم الخارجي

لتجاوز تلك المشاكل، يشدد الكاتب العراقي أحمد الخالصي من محافظة ديالى على الحوار، قائلا “الواقع المفروض، يحتاج لحوار فعال، فالوطن لم يعد حقيقة في ظل تغليب الجزء على الكل أي المكون على الوطن، والذي بدوره يؤدي لحالة نزاع مستمرة تؤدي بالاطراف للبحث عن السند الخارجي”.

وينبه الى ان لجوء اي مكون للدعم الخارجي فعليا “يعمق من الفجوة القائمة، ويزيد من حالة الانقسام النفسي والمجتمعي بين المكونات ويمسي البقاء للأقوى بديهية ذهنية تترسخ يوم بعد آخر، ومعها يشتد الصراع وتتعمق الجراح وتهلك المجتمعات”.

في هذا الصدد يقول الشاعر الأيزيدي خليل خضر، إن “فكرة غياب الحوار داخل مكونات المجتمع تخلق في النفوس القلق وتبث الخوف من تولد صراعات تدمر أسس اندماج مكون معين مع بقية المكونات او حتى اندماج الكل في الكل، خاصة مع الازمات السياسية الحالية في اروقة قيادة البلد فهي قد تؤدي الى انزلاقات خطيرة نحو التمزق”.

انطلاقا من ذات الرؤية يؤكد الإعلامي التركماني جاسم محمد أوغلو على أهمية “الحوار الوطني الشامل وعلى مختلف الأصعدة والمستويات” لاعادة التعايش الايجابي وخلق الاندماج.

يقول اوغلو ان “التفاهم والحوار والاحترام المتبادل بين المكونات، هي اساسيات تحقيق السلم المجتمعي والامن الوطني، وهي مفتاح استقرار البلاد وتطورها أمنيا وسياسيا وتنمويا”.

يتفق السنجاريان شفان وخيرو، انهما مع عائلتيهما التي تعايشتا ايجابيا مئات السنوات، لا يملكان الا العودة الى سنجار ومحاولة اعادة الاندماج الذي اراد داعش تدميره. يقول شفان “بقاؤنا بعيدا عن مدينتنا يعني نجاح داعش في هدفه بتقسيمنا”.

ويضيف:”صحيح ان المدينة تحتاج الى اعادة بناء وخدمات وفرص عمل وهذه مشاكل كبيرة جدا تتطلب تدخل قوي من الحكومة، لكنها أيضا تحتاج الى اعادة بناء التعايش بين الكرد والعرب وبين المسلمين والايزيديين والسنة والشيعة، دون ذلك سيظل الكل خائفين من الكل ولن تعود المنطقة ابدا الى ماكانت عليه سابقا.

*انجز التقرير ضمن مشروع “التربية الاعلامية” لصحفيين من ثلاث مدن عراقية

المزيد عن قصص

Stories

قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18415}" data-page="1" data-max-pages="1">