في لحظة غضب يعلو صراخ “نور” وهي تحاول تجنب والدتها، بينما تسارع في الخروج من المنزل مغلقة خلفها الباب بقوة مصدراً صوتاً عالياً جفل معه سائق سيارة الأجرة الذي كان ينتظرها خارجاً، لتجلس وهي تمسح دموعها الى جانب صديقتها في الجزء الخلفي من السيارة، التي بادرتها بالقول: مجدداً؟ تجيب نور بتنهيدةٍ طويلة مطأطئةً رأسها: ودائماً!
نور (25 عاماً) أرملة منتسب في وزارة الداخلية قُتِل بمدينة الموصل منتصف 2015 على يد مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” خلال سيطرته على محافظة نينوى وتنفيذه لعمليات تصفية واسعة للعاملين في السلكين الأمني والعسكري كما كبار الموظفين. لكنها تختلف عن الكثيرات من الضحايا فهي تنظر الى عوائل مقاتلي التنظيم كضحايا وتعمل على مساعدتهم في احدى مخيمات “احتجازهم” في موقف ترفضه عائلتها وعائلة زوجها المقتول وتطالبانها بتركه.
تقول بينما كانت تعبر نقطة التفتيش في احدى مخيمات احتجاز عوائل التنظيم: “دائما أعاني من مشاكل بسبب عملي في هذا المخيم الذي يضم نسبة كبيرة من عوائل داعش…أمي تلومني لأني أعمل على مساعدة عوائل أبناؤها قتلوا زوجي. تقول لي: ليس بعيدا ان يقتلوك أيضا … كيف تتعاملين مع أناس قتلوا زوجك وآلاف البشر؟”.
وتضيف نور: “أنا أرى ان هؤلاء لا ذنب لهم، هم ضحايا أيضا…من يسكن المخيم من أطفال ونساء مقاتل يالتنظيم وكبار بالسن بل وحتى الشباب هم ضحايا مثلي تماماً وان كانوا ينظر اليهم مجتمعيا بعين المتهمين والمجرمين ويطلق عليهم فيما يشبه الوصمة المجتمعية بعوائل داعش”.
وتتابع وهي تشير الى امرأة تغسل بصعوبة وبيد واحدة ملابس أطفالها المتسخة، فيما بدت اليد الأخرى ملفوف بالشاش: “معظمهم ضحايا مثلي… انا وزوجة الداعشي ضحيتان لفكر متطرف… أنا خسرت زوجي وهي خسرت زوجها وحياتها وربما مستقبل أبنائها، لكن من يفهم ذلك؟
ضع نفسك في محلهن
وقفت نور عند باب كرفان صغير تجمعت حوله نساء مع اطفال بدو في وضع مزري، كن في انتظارها، وقالت فيما ارتفع نبرة صوتها “أنا أقوم بعملي الإنساني الذي اراه صحيحاً تجاه ضحايا ينبذهم المجتمع، رغم معارضة اهلي… هنا الجميع ضحايا، تسمع قصصا تفطر القلب، معظم هؤلاء النسوة هل كانوا واعين لنتائج ما كان يفعله رجالهم؟.. هل كان بامكانهن منعهم؟… أحيانا أضع نفسي في محلهن.. ماذا لو كان شقيقي او والدي داعشيا: هل كان ممكنا ان اوقفه؟”.
ما تواجهه نور لا يختلف كثيرا عن ما يواجه سعيد (30 عاماً) والذي يعمل بدوره في مخيم يضم عوائل التنظيم الذي تورط مقاتلوه بقتل عشرات آلاف العراقيين الكثير منهم دفنوا في مقابر جماعية، ومازالت عوائلهم تتساءل عن مصير جثثهم.
قتل التنظيم الذي سيطر على محافظة نينوى بين عامي 2014 و2017، ثلاثة من أولاد عم “سعيد” بسبب انتسابهم للجيش العراقي، وهذه كانت تهمة كافية لقتل اي شخص دون “محاكمة شرعية”.
يقول سعيد: “أنا اعمل هنا منذ بداية التحرير، كنا نستقبل العوائل الناجية من الحرب من ضمنهم عوائل لداعش، انا الان اكثر قناعة بأن اغلب هؤلاء هم ضحايا لانتماء أبنائها في لحظة من الزمن بارادتهم واختيارهم أو حتى دونه تحت ضغط الفقر او الحاجة”. ويضيف :”نعم دمر داعش الكثير، لكن اكثر ما دمره الداعشي هو عائلتهُ ومستقبل أطفاله”.
ولا يخفي سعيد رفض عائلته واقاربه للعمل في مخيم يأوي عوائل التنظيم “لكني اعمل من منطلق انساني فهؤلاء النسوة مغلوبٌ على امرهن، لم يكّنّ قادرات على منع ابنائهن او ازواجهن من الانخراط في التنظيم وان لم نقم بمساعدتهن سيتعرضن للاستغلال بكل انواعه وهذا ما حدث فعليا لنساء اخريات لم يتلقوا الدعم”.
يكمل سعيد وهو يشير الى مئات الخيام من حوله: تحت كل خيمة هنا قصة مأساوية بسبب قرار أحد افرادها بالانضمام للتنظيم.. كانوا أناسا عاديين يعيشون حياتهم كالآخرين لهم احلامهم بتربية أطفالهم وتحسين تعليمهم ومعيشتهم، لكنهم سقطوا ضحايا للجهل الذي جرفهم نحو الهاوية التي صنعت لنا هذا المشهد المؤلم”.
كلانا ضحية
“في احدى الجولات التفقدية اليومية للخيم التي تقع ضمن قاطع مسؤوليتي، سألتني أرملة تدعى ام محمد وهي من احدى قرى جنوب الموصل: هل حقا لك أقارب قتلهم داعش؟ فاجأني سؤالها لكني اجبتها: نعم أولاد عمي، فردت قائلةً: ولماذا تساعدنا اذاً؟”.
يقول سعيد “لم يكن سهلا علي الاجابة على السؤال بوضوح، وهو ما فرض فترة صمت، قطعتها ام محمد وهي تعدل حجابها وتنظر الى الأرض قائلة: بالنسبة لي حتى لو ان زوجي قاتل معهم فأنا بريئةٌ منه ومن فعلته ولكن ما باليد حيلة!”.
ويضيف:”حاولت تجنب النقاش والانصراف لتكملة عملي، لكني توقفت عن باب الخيمة وقلت لها: كلانا ضحية، قرار خاطئ لزوجك ربما اضطر لاتخاذه في لحظة ما مجبرا او عن جهل، ادى الى مقتله وتدمير عائلته”.
محاولات للصلح
بوجود عشرات المنظمات المدنية والانسانية والمبادرات التي تنظمها مجاميع تطوعية، رغم محدودية امكانات وتجربة غالبيتها، وفي ظل وجود مئات النشطاء المدنيين، انطلقت المحاولات الأولى لتحقيق مصالحات بين المجتمع الموصلي وعوائل التنظيم من خلال التأكيد على حقيقة ان الطرفين في النهاية ضحايا، والتثقيف بخطورة وضع عوائل التنظيم في دائرة التجريم والحرمان بما سيحمله ذلك من انعكاسات سلبية امنيا واجتماعيا.
ورغم ما واجهته تلك الأفكار والمحاولات من رفض، فانها ساهمت في دعم جهود مثقفين ووجهاء عشائر ونشطاء مثل نور وسعيد، للاطلاق مبادرات والانخراط في مشاريع مصالحة حملت بعض قصص النجاح.
ويقول نشطاء مدنيون ان قصص النجاح في بناء مصالحات بين “الضحايا من الطرفين” خاصة في المناطق التي لشيوخ العشائر تأثير اكبر فيها، لم يسلط عليها الضوء بل تم اهمالها بسبب النظرة العامة المجتمعية السلبية للضحايا من عوائل داعش.
وساهم بعض وجهاء العشائر في وقف حالات الثأر من قبل من وقعوا ضحايا لتصفيات التنظيم بحق عوائل مقاتلي التنظيم، معتبرين انها مرفوضة وتعقد المشكلة، وساهموا في منع حجز عشرات وربما مئات عوائل التنظيم التي غالبا تضم النساء والاطفال فقط، في المخيمات القسرية الخاصة بعوائل التنظيم، بحسب الناشط (م أ).
لكن محاولات المصالحة تلك او اقناع المجتمع بأن عائلة الداعشي ضحية ايضا، واجهت صعوبات كبيرة، يقول مختار احدى أحياء الموصل، ان منظمات وفرق تطوعية في مركز المدينة “تحاشت تقديم المساعدات لعوائل مقاتلي التنظيم رغم اوضاعهم المعاشية الصعبة جدا، بسبب رفض اهل المنطقة ومختارها لذلك”.
ويضيف المختار الذي يعمل على تنفيذ مصالحات في الحي الذي يشرف عليه: “احيانا كان يتم اتهام من يقدم المساعدة لتلك العوائل بدعم الارهاب، وكانت تحصل مشاكل ومشادات بين النشطاء او بين عوائل مقاتلي التنظيم والعوائل الأخرى التي ترى نفسها ضحية لهم”.
المختار أشار الى ان منطقته تكثر فيها الشكاوي بسبب المشاكل بين عوائل الطرفين والتي تصل الى حد التهديد بالقتل او الطرد من المنطقة، وقال “هذا ما يضطرنا للتدخل لايجاد حل، في النهاية ما ذنب افراد عائلة معدمة ضم نساءً وأطفالا بلا معيل بعد ان فقدوا الأب والأبناء الكبار حين قاتلوا مع داعش.. ما ذنبهم أن يهددوا بالقتل؟ وكيف سيعيشون حين يطردون من بيوتهم؟”.
الهروب من المشكلة
يقول “أبو احمد” وهو احد الوجهاء الذين يعملون على تحقيق مصالحات في أيمن الموصل: “تصلني أسبوعيا مناشدات للتدخل من اجل مساعدة “عوائل افراد التنظيم” على العودة لمنازلها. لكن ايضا نواجه مشاكل مع البعض لمواقفنا المؤيدة لعودة بعض العوائل اى بيوتها طبعا بعد الحصول على الموافقات الرسمية”.
أبو أحمد، الذي وافق على الحديث معنا بعد تكرر طلبنا له لعدة مرات، يكشف انه يقوم بمنح بعض عوائل التنظيم اذنا للعودة للسكن في المنطقة ويحاول ضمان عدم حدوث مشكلة مع جيرانهم من ضحايا التنظيم، بينما يرفض آخرون ذلك “بعضهم لكي يتجنب المشاكل وآخرون لأن لديهم موقف من تلك العوائل”.
ويتساءل: “ان لم اسمح للأرملة بالعودة فهذا يعني ان أجعلها عرضة للاستغلال بكل أشكاله وهذا ظلم كبير وشيء لا نرغب به جميعاً، هن ضحايا لأزواجهن وللمجتمع مثل الأرامل الآخريات”.
وينبه أبو أحمد، الى أهمية “التعامل بحذر وتوازن بين الجانبين خاصة في حال حدوث مشكلة، وهو امر محتمل دائما بوجود عائلتين متجاورتين احداهما لأرملة زوجها داعشي والأخرى لأرملة زوجها مقتول على يد داعش، وكلتاهما تمران بأوضاع معيشية ونفسية صعبة”.
ويوضح:”قد تبدأ المشكلة في الحي بين الأبناء في المدرسة او في الشارع، حيث يقوم الأطفال بسب بعضهم البعض فيقول احدهم “أبوك داعشي ومجرم” وغير ذلك من كلام، ويرد الآخر، ما يجعل الامر يتطور وتتدخل العائلتان في الشجار الذي قد يصل الى حد التهديد بالقتل، حينها أقوم باستدعاء العائلتين وعدد من وجهاء المنطقة ليشهدوا الصلح ويتم التعهد بعدم تكرار مثل هكذا مشاكل”.
يؤكد أبو أحمد ان السيطرة على تلك الأمور مسألة صعبة وتحتاج الى تواصل واهتمام، ورغم ذلك يقول انه سيستمر بدعم تلك المصالحات المجتمعية “أنا لست كالآخرين ممن يرفضون عودة عوائل داعش، لمجرد تجنب تلك المشاكل، وفي الحقيقة هم يتهربون من أداء واجبهم”.
ويرى ان واجبه يحتّم عليه احتواء الطرفين، منبهاً :”اذا بقيت هذه العوائل منبوذة مجتمعيا، هذا يجعلنا امام قنبلة موقوتة ستنفجر يوماً ما”.
لا بديل عن المصالحة
مثل هذه المواقف، يقوم بها عدد محدود من أفراد المجتمع سواء كانوا نشطاء مدنيين او وجهاء مناطق او شيوخ عشائر، ممن يرون انهم جميعا أمام مسؤولية المساهمة في انقاذ تلك العوائل بل وانقاذ المجتمع من موجهات عنف اخرى قد تتجدد في المستقبل نتيجة شعور آلاف من عوائل التنظيم بالظلم.
ويقول مسؤول في احدى المنظمات التي تعمل على إعادة دمج عوائل تنظيم داعش في المجتمع، انهم يتبنون مشاريع مختلفة في هذا المجال بعضها تبحث في الموضوع بشكل مباشر “حيث نقوم بتنظيم وتنسيق مؤتمرات او لقاءات خارج الموصل بسبب حساسية وخطورة الموضوع، وبمشاركة أصحاب القرار وعدد من منظمات المجتمع المدني واحيانا بحضور بعض ضحايا التنظيم، للبحث في عمق المشكلة وجوانبها المختلفة وايجاد الحلول لها.. نحاول الاستفادة من التجارب الناجحة في مدن أخرى كالانبار وصلاح الدين”.
ويضيف المسؤول الذي رفض ذكر اسمه: كما نعمل احيانا على اثارة الموضوع بطريقة غير مباشرة “كإقامة ندوات حوارية بين ناشطين وناشطات عن مواضيع عامة يتم ادخال هذا الموضوع ضمنيا في حوار الندوة، او عمل دورات للنساء كالخياطة والنسج تدمج بين نساء داعش وبقية نساء المجتمع كخطوة أولى لتقبل الاخر تحت انظار القائمين على المنظمة”.
ويشير الى صعوبة المهمة “نحن نعرف ان هذه المحاولات وغيرها لا تؤتي ثمارها بفترة قصيرة بل تحتاج الى وقت طويل ومعالجات مختلفة، ورغم ذلك نستمر بالعمل عليها من اجل زيادة تقبل العوائل من الطرفين لبعضهم البعض، وتخفيف الأحقاد ومحاولات الانتقام و الخلافات، لاعادة بناء مجتمع متسامح ومتعايش أكثر امنا واستقراراً”.ً
ويخلص الى القول:” ليس هناك خيار آخر امامنا غير المحاولة، فترك تلك العوائل اسيرة الحرمان والنبذ في تلك المخيمات سيعني ترك بذور الحقد والانتقام تكبر، لتولد في المستقبل القريب حلقات فوضى وعنف جديدة”.
*انجز التقرير بدعم منظمة (cfi) ضمن مشروع “تفاءل” 2020
المزيد عن قصص
Stories
قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18373}" data-page="1" data-max-pages="1">