تقارير سردیة: “لن نسمح لهم بسلب أحلامنا”.. تركمانيات خُطفن لسنوات وفقدن عوائلهن يعملن لاستعادة حياتهن

“لن نسمح لهم بسلب أحلامنا”.. تركمانيات خُطفن لسنوات وفقدن عوائلهن يعملن لاستعادة حياتهن

لم تكن أزهار، الفتاة التركمانية الوحيدة التي خطفها التنظيم، بل كان معها عشرات آخرون وبأعمار مختلفة. يرجح أن العديد منهم قتلوا خاصة من الشباب وكبار السن في عمليات القتل الجماعية التي جرت في الأشهر الأولى لسيطرة التنظيم على تلعفر والموصل، وبقي الأطفال منهم.

جعفر  التلعفري / نينوى

“كنتُ أحلم أن أكون مهندسة، إلا أن اجتياح مسلحي تنظيم (داعش) عطل تحقيق طموحي نتيجة انقطاعي عن مقاعد الدراسة، لكنهم رغم كل ما فعلوه بنا ومع أني رأيتُ ما هو أسوأ من الموت نفسه، لم يستطيعوا قتل ذلك الطموح في داخلي”.

هكذا تختصر “أزهار علي” (18 عاما) الفتاة التركمانية التي قضت زهاء ثلاث سنوات في أسر تنظيم داعش بعد أن خطفها مسلحوه مع عائلتها عند اجتياحهم لمحافظة نينوى، قصتها مع الخطف والاعتقال وحلم العودة للدراسة.

تقول: “كنا نعيش حياة هادئة في قرية (الشرائع الجنوبي) غرب تلعفر، ونعتاش على الزراعة وتربية المواشي، في كنف أسرة تسودها المحبة في بيئة ريفية شهدت استقراراً أمنياً مقارنةً بمركز قضاء تلعفر الذي كان تعصف به التفجيرات باستمرار منذ عام 2005 وصولا إلى هجوم داعش في صيف 2014”.

وتضيف أزهار: “كنتُ في الصف السادس الابتدائي، وانتظر العبور إلى المتوسطة، وأطمحُ أن أكون مهندسة في المستقبل، إلا أني استيقظتُ ذات يوم أسيرةً بيد متطرفين لا ضمير لهم ولا يمتون للإنسانية بصلة”.

اختطف مسلحو داعش كامل عائلة أزهار، عدا والدها واحد أشقائها، حين أوقفوهم في أطراف سنجار. عاملها المسلحون كمختطفة بلا حقوق مثل عشرات الأطفال التركمان المختطفين، وفصلوها عن أهلها، ثم زوجوها عنوةً إلى احد عناصرهم. قبل أن تجد الخلاص في مطلع 2017خلال عملية تحرير الموصل بعد أن لاذ المسلح الذي تزوجها بالفرار. قررت ساعتها أن تمضي باتجاه مواقع انتشار القوات الحكومية وتحت القصف الكثيف، لتصل بعد أيام ويتمّ التعرف عليها من قِبل احد أفراد الحشد الشعبي من أبناء تلعفر.. بينما تمّ تحرير ثلاثة من أشقائها الصغار لاحقا، وما زال بعض أفراد عائلتها مجهولي المصير.

لم تكن أزهار، الفتاة التركمانية الوحيدة التي خطفها التنظيم، بل كان معها عشرات آخرون وبأعمار مختلفة. يرجح أن العديد منهم قتلوا خاصة من الشباب وكبار السن في عمليات القتل الجماعية التي جرت في الأشهر الأولى لسيطرة التنظيم على تلعفر والموصل، وبقي الأطفال منهم.

ليلى (20 عاما) ناجية تركمانية أخرى كانت تعيش مع أسرتها التي ضمت ثمانية أفراد، أب وأم وشقيقين، إلى جانب ثلاثة شقيقات جميعهن أصغر منها، اعتقلت في سنجار وتمّ فصلها عن والديها، واحتجزت مع شقيقاتها الصغيرات طوال أعوام في الموصل قبل أن تتحرر مطلع العام 2017.

طفلة لم يشفع لها عمرها

تظهر هوية الأحوال المدنية للناجية “أزهار”، أنها من مواليد العام 2002 في تلعفر غرب الموصل كما تظهر البطاقة التموينية لعائلتها أنها تضم عشرة أفراد، الأب والأم، وستة أشقاء وشقيقة واحدة، وتسلسلها بينهم الثالثة.

وتستذكر أزهار العاشر من حزيران 2014، حيث أُعلن سقوط الموصل بيد التنظيم: “كنتُ جالسةً أمام التلفاز وشيءٌ من الذعر والقلق يسود عائلتي، إلا أن والدي كان يطمئننا أن تلعفر غير الموصل، ولا يمكن أن تسقط، وأن العشائر أعدت العدة للمواجهة إنْ تطلب الأمر.. إلا أن ذلك لم يدم سوى أياماً، ففي ليلة 15 على 16 من الشهر نفسه، شهدت المدينة موجة نزوح كبيرة …الكل غادرها باتجاه سنجار، ليلة لم تهدأ فيها تلعفر حتى أشرقت الشمس عليها وهي شبه خالية من سكانها”.

وتضيف: “كغيرنا قررنا ترك القرية الواقعة على طريق الهاربين من تلعفر إلى سنجار، بحدود الساعة الثالثة فجراً، وعندما وصلنا الشارع العام كان المنظر مرعباً، الأطفال يصرخون، البعض يسيرون على الأقدام، وآخرون تحملهم الشاحنات على متنها.. وصلنا مركز سنجار مع خيوط الصباح الأولى نتيجة الزحام الشديد لكثرة السيارات المتجهة إلى القضاء ذي الأغلبية الايزيدية”.

تتابع :”لم تكن لدينا خطة محددة، الخوف يشل الجميع عن التفكير… قصدنا قرية وردية (11 كم جنوب سنجار، يسكنها المكون الايزيدي)، وقضينا فيها نحو شهر في انتظار التطورات وعلى أمل أن يتم استعادة الموصل ونعود لقريتنا.. ثم قررنا اللجوء إلى مزار (الست زينب) داخل سنجار، ومكثنا هناك ننتظر بعكس آلاف العوائل التي قررت التوجه إلى جنوب البلاد في رحلة طويلة وشاقة، حتى اجتاح داعش المدينة في 3 أب 2014″.

 

بدأت حياة الاعتقال!

كانت عائلة أزهار تعتقد أن سنجار مؤَمنة ولا يمكن أن تكون هدفاً للتنظيم، وان اجتياحها أمر غير متوقع، لذا فضلت عدم مغادرة سنجار،خاصة مع صعوبة نقل المواشي التي كان يقومون بتربيتها وتشكل مصدر رزقهم.

تقول أزهار: “صبيحة الثالث من آب استيقظنا على كابوس وصول مسلحي التنظيم إلى قلب سنجار، واتصل والدي الذي لم يكن حينها في البيت بنا طالباً مغادرتنا باتجاه الجبل على أن يلتحق هو وشقيقي بنا لاحقاً”.

كان المشهد في تلك الساعات مرعباً، فالجميع يرفعون رايات بيضاء على عرباتهم، وألسنة الدخان تتصاعد من بعض الأبنية وتسمع أصوات لإطلاق نار متقطع، فيما كانت النار قد التهمت سيارات على جانبي الطريق، وتناثرت أشلاء جثث على جانبي الطريق.

غادرت عائلة أزهار سنجار متجهين إلى الجبل بسيارة عائلة عمتها، إلا أنهم لم يفلحوا في الوصول، حيث وقعوا جميعا بيد مجموعة مسلحة من سبعة عناصر تحمل أسلحة مختلفة، يتحدثون بعربية “غير سليمة” تبين لاحقا أنهم تركمان من تلعفر.

تتنفس أزهار الصعداء، وتشبك يداً بيد، وتسكت لبعض الوقت، ثم تتابع: “كانوا تركمان من أبناء جلدتنا، لاحظوا الارتباك والذعر على وجوهنا، بادر بينهم شاب بلحية كثفة وطويلة ويرتدي لباساً أفغانياً، بالسؤال: من أنتم وإلى أين تتجهون؟ لم نجد جواباً والتلعثم فضح أمرنا، فطلب الهويات الشخصية، وحينها عرف أننا من تلعفر وربما من خلال الأسماء والألقاب تأكد من طائفتنا”.

“سألنا بشيء من السخرية: هل أنتم شيعة؟! ورغم أن زوج عمتي نفى ذلك لينجو بنا، إلا أنهم لم يصدقوا، وبعد أن أتحدث إلى زميله وكان اسمه أبو عبد الله، عاد ليطلب أجهزة الموبايل والمصوغات الذهبية والنقود التي بحوزتنا، قبل أن يطلب منا الترجل من السيارة، حتى الأطفال الذين لم تسعهم السيارة وركبوا في صندوقها الخلفي تم إجبارهم على النزول، وحينها بدأت معنا قصة الخطف والتعذيب والسبي”.

 

رواية مطابقة

بدورها تسرد ليلى، قصة وقوعها مع عائلتها في يد مقاتلي تنظيم داعش من سكان القرى العربية المحيطة بسنجار وتلعفر. تتطابق قصتها في خطوطها العريضة مع رواية أزهار وان اختلفت في بعض التفاصيل.

تقول: سقطنا بأيدي المسلحين، يومها كنا نرى جثثاً مرمية هنا وهناك، فالقتل كان أسهل شيء لديهم.. ألسنة الدخان كانت تتصاعد من كل مكان.. أفواج من البشر تسرع نحو الجبل وهي ترفع رايات بيضاء إلا أنها لم تكن تنفع، حيث كان عناصر التنظيم ينتشرون على كل الطرق ويترصدون الشيعة المسلمين كما الايزيدية”.

تضيف ليلى التي اعتقلت مع عائلتها في الثالث من آب: “تم إيقافنا في إحدى الطرق المؤدية إلى الجبل، بعد أن لمحوا الخوف على وجوهنا، طلب عناصر داعش هوياتنا، وما أن ألقى أحدهم عليها نظرة سريعة حتى قال بالعربية الفصحى: أنتم شيعة؟!”.

تتابع وقد طغى الشحوب على وجهها وكأنها عادت أسيرة لتلك الساعات:”لم يكن هناك جدوى من الإنكار أو المناشدة حيث أسماء أفراد عائلتنا كانت تؤكد ذلك.. اعترفنا فطلبوا كل أجهزة الاتصال والمصوغات الذهبية وبدءوا بسبّنا وشتمنا.. وجلبوا سيارة وأجبرونا على أن نستقلها، فاستسلمنا لمصيرنا”.

من سنجار  إلى تلعفر  فالموصل

تسرد أزهار تفاصيل الساعات الأولى لاعتقالهم: “أنزلونا من السيارة وطلب أبو عبد الله، عبر جهاز اتصال كان بيده، سيارات لنقلنا، وخلال دقائق قليلة تمّ ذلك، حيث نقلونا تحت تهديد السلاح والتوبيخ والضرب إلى بيت فارغ في سنجار نفسها ..هناك عزلوا الرجال عن النساء، ولم يقدموا لنا حتى الماء رغم توسل الأطفال وبكائهم في ظل حرارة الأجواء في شهر آب”.

“بعدها جلبوا عوائل أخرى إلى المكان نفسه، من بينها عوائل (م.ح.م) و (ج.ع.ع) و ( ر.ع.ع)، كانت بينهم فتاة في العشرينيات من عمرها تلبس ثوباً بُنياً غامقاً كالشوكولاته، وكانت تعاني من إعاقة، لم تتوقف عن البكاء رغم توبيخ الحراس لها وتهديدهم لها عدة مرات”.

تواصل أزهار الحديث والدموع تجري على وجنتيها: “في اليوم الثالث لاحتجازنا اركبوا الأطفال والفتيات الصغار مثلنا في سيارات نقل (كوستر)، في حين بقي الرجال والنساء في ذلك المكان، وانقطعت أخبارهم عنا إلى اليوم”. تجهش بالبكاء وتطلب تأجيل الحديث.

أزهار واحدة من مئات الأطفال التركمان (ذكور وإناث) الذين تم اعتقالهم في الساعات والأيام الأولى لسيطرة التنظيم على تلعفر وبعدها سنجار، وتم عزلهم عن عوائلهم واقتيادهم إلى معسكرات ومواقع احتجاز تحت التهديد. البعض منهم مات أثناء الاحتجاز تحت التعذيب، وآخرون صمدوا، لكن غالبيتهم خسروا عوائلهم إلى الأبد.

تعود أزهار لسرد تفاصيل أيامها الأولى في الاعتقال: “سيارات النقل تلك قادتنا من سنجار إلى دار الأيتام في الموصل، في موكب كان يضم العديد من سيارات الدفع الرباعي، لم أتمكن من إحصائها، كان هناك رجلٌ مسلح في الأربعينات من عمره، يناديه السائق باسم (أبو حمزة) يطلب منا خفض رؤوسنا باستمرار لكي لا نرى شيئا”.

عمر أزهار الصغير يومها دفع التنظيم الى نقلها لدار الأيتام في الموصل، التي وصلتها في منتصف الليل، والتعب والخوف وصدمة فراق أهلها تكاد تشل حركتها: “لم انمْ تلك الليلة من الخوف وكنت ابكي باستمرار”.

تتابع “بقيتُ في الدار حتى منتصف 2016، وطوال سنتين لم أغادر الموصل ولا الدار، إلى اليوم الذي تمّ فيه تزويجي من شخص من أهالي القيارة يسكن الموصل يُدعى (أبو حذيفة)… لم يكن إنساناً بل وحشاً قذراً، لم أكره في حياتي شخصاً مثله”.

“كانت هناك محاولات عديدة لإخراجي من الدار، لم تفلح الإدارة في ذلك، كنتُ أصرخ وأهاجمهم وأرفض الخروج، لأنني كنتُ على يقين أن خروج من الدار يعني بداية مآسٍ وجرائم أكبر، ولأني كنت أخشى فقد أشقائي إلى الأبد، حتى أنني كنت آخر فتاة غادرتُ الدار”.

 

التزويج الإجباري

مثل أزهار، وصلت ليلى إلى دار الأيتام في الموصل، ثم أجبرت على الزواج من احد عناصر التنظيم الذين كانوا يختارون بين الفتيات في الدار اللواتي تعرضن عليهم ممن وصلن إلى سن البلوغ الشرعي.

تقول “بعد أن تم اصطحابنا من سنجار إلى تلعفر تمّ فصّل الرجال عن النساء، ثم تم فصل الفتيات عن الأمهات.. تلك كانت أصعب لحظات حياتنا.. كانت ساعة مريرة علا فيها صياحنا وعويلنا .. توسلنا بهم طويلا دون جدوى، فقد مضى المسلحون في قرارهم بفصلنا عن بعض، منذ تلك الساعة إلى اليوم لا نعرف شيئا عن مصير أمهاتنا”.

تم إرسال جميع الأطفال إلى دار الأيتام وبدؤوا بتزويج الفتيات واحدة تلو الأخرى إلى عناصر التنظيم، حتى فرغت الدار من كل فتاة فوق الـ12 عاما.

مسحت ليلى دموعها وواصلت الحديث بصوت خافت: “في 2016 تمّ تزويجي لعنصر في التنظيم، يدعى أبو ليث، رغم رفضي وصراخي، إلا أن الضرب والتهديد كان كفيلاً بإسكاتي… كان والد أبو ليث يعمل في المحكمة الشرعية في الموصل، وله شقيق متزوج، وشقيقتان صغيرتان، إلى جانب أمه يسكنون معا في حي الفاروق بأيمن المدينة”.

تتابع: “كان أبو ليث يرتدي زي المقاتلين الأفغان ويحمل سلاحاً وكذا الحال مع شقيقه الأكبر منه.. اعتاد أن يتعامل معي بكل قسوة وكنتُ أطلب منه أن أقابل أشقائي وشقيقاتي الصغار في دار الأيتام إلا أنه كان يرفض ويوبخني طالباً نسيان أهلي والتبرؤ منهم.. لم يكن مسموحا لي الوصول إلى باب المنزل الخارجي خشية الهرب”.

 

دار بلا فتيات

تؤكد أزهار أنه مع بداية عام 2016 بدأت الدار تفرغ من الفتيات: “لا أعرف فيما إذا كانوا يتقاضون أموالاً عنهن أو لا، لأن السؤال ممنوع، ولأن كلّ شيء كان يتمّ في مكتب (أبو حسين) ثم تأتي إحدى المربيات لتنادي باسم إحدى الفتيات فتغادر الدار بصحبة رجل دون رجعة”.

تضيف:” المدعو أبو حسين، كان داعشياً قاسياً، وكان عين التنظيم على الدار ولا شيء يحصل إلا بموافقته وعلمه، عرفتُ فيما بعد أنه قُتل بقصفٍ جويّ، كان يتحدث اللهجة المصلاوية (القحية)، وذكرت المربيات لنا أنه كان محامياً قبل أن ينخرط في صفوف تنظيم داعش”.

كانت الدار تضم نحو 30 فتاة جميعهن دون الـ15 عاما، بينهن من لم تتخطى عامها الأول، مع نحو 70 طفلا ذكرا صغيرا. الفتيات جمعن في دار الزهور وسط الموصل مع الأطفال الأصغر سنا. أما البالغات فكن يمنعن من دخول الدار عدا المربيات منهن. فالجميع كانوا دون سن الـ18، بينما وضع الأطفال الذكور في دار البراعم.

تقول أزهار “كنا موزعين على غرف وصالات ويمكننا أن نزور بعضنا البعض داخل الدار أحياناً، ولم تكن في الدار ايزيديات سوى عدد صغير دون أصابع اليد الواحدة، فالجميع كانوا من تلعفر.. وعرفتُ ذلك من لغتهم التركمانية، التي لا تعرفها الايزيديات”.

تتابع: “كان من برنامج الدار اللقاء بأشقائنا الصغار الذين فرقونا عنهم. كان الموعد المحدد للقاء هو صباح كل يوم اثنين وخميس من الساعة 10-12 ظهراً.. كانوا يجلبون الأطفال من دار البراعم إلى الزهور، أما الأطفال الأصغر ممن هم دون الثالثة من العمر فكانوا معنا في الدار نفسها وكنا نلتقي بهم عصر كلّ يوم”.

التحرير والأمل

تؤكد أزهار أن المربيات في الدار كن في العموم يعاملوهن بشكل جيد: “لم نتعرض للضرب في الدار، المربيات كن من أهل الموصل ولم يكنّ منتميات للتنظيم”.

تقول :”لكن المعاناة الأكبر كانت حين انتقلت إلى منزل (أبو حذيفة) بمنطقة الميدان بالموصل بعد إجباري على الزواج منه.. حين اقتربت القوات الأمنية من الموصل لم تعد تلك العائلة تهتم بأمري وكانت تعيش حالة خوف وارتباك، فغادرت المنزل قبل ثلاثة أيام من تحرير المنطقة، والتحقتُ بعائلة موصلية أخرى كانت تتجه جنوب المدينة فراراً من التنظيم والعمليات العسكرية، دون أن أبلغها أنني تركمانية مختطفة خوفاً على حياتي، بل أبلغتهم أن أهلي قضوا في القصف وبقيت وحيدة”.

“في 7 تموز 2017، وصلنا أخيراً وبعد أربعة أيام من المشي تحت القصف إلى منطقة قرب القيارة، أخبرتُ القوات الأمنية أنني تركمانية مخطوفة لدى داعش، ومن حُسن حظي وجدتُ مقاتلين تركمان من تلعفر، اتصلوا بأهلي وأخبروهم بالعثور علي حية، وتمّ تسليمي إليهم في اليوم الثاني”.

تغيرت نبرة صوت أزهار وهي تتحدث عن لحظة نجاتها، قبل أن تعود وتستذكر والدتها وشقيقتها واثنين من أشقائها، الذين ما زالوا مجهولي المصير.

 

الخلاص الأخير

مثل أزهار، تورد ليلى تفاصيل أيامها الأخيرة تحت يد التنظيم، وهي الأيام التي انتظرتها طويلا لتشهد فيها انهيار التنظيم وتقدم القوات العراقية لتحرير كامل الموصل.

تقول “مع انطلاق عمليات تحرير الموصل، عبرت عائلة أبو ليث إلى الجانب الأيسر من المدينة، وكلما اقتربت القوات الأمنية من منطقة سكنهم كانوا يغادرونها إلى منطقة أخرى، وذات يوم غادروا المكان فجأة وبقيت لوحدي في منزلٍ وسط حي الانتصار بأيسر الموصل، حتى وصلت الاستخبارات العسكرية بناءً على معلومات حصلوا عليها، وتمّ تحريري في 4 كانون الثاني 2017، وبعدها اتصلوا بشقيقي الأكبر وتمّ تسليمي له”.

اُختطف مع ليلى، ستة من أفراد عائلتها، عاد منهم ثلاثة، شقيقها ذو الـ12 عاما، وشقيقتيها ذوات الـ16 والـ11 عاماً، وتعيش الآن معهم في منزل شمال تلعفر، وما يزال مصير شقيقتها الأكبر ذات الـ19 عاماً ووالديها مجهولاً.

تخطط ليلى لإكمال دراستها، رغم المحن الكبيرة التي مرت بها “أحلمُ أن أكون محامية أدافع عن المظلومين” تقولها بثقة.

أما أزهار، فتسكن مع والدها وأشقائها الأربعة، في بيت مؤجر شمال تلعفر، بعد أن تعرض منزلهم وحقلهم في القرية إلى الدمار. هي رغم الصدمات التي مرت بها والتي ما تزال تعاني من آثارها فإنها التحقت بالدراسة الثانوية وتطمح أن تحقق ما كانت تصبو إليه.

أدى سقوط قضائي تلعفر وسنجار، غرب محافظة نينوى، بيد مقاتلي تنظيم داعش إلى وقوع نحو 1300 مواطن تركماني بيد مقاتلي التنظيم، حيث اختطف نحو 1200 تركماني، بينهم 120 طفلا، و460 فتاة وامرأة، في منتصف العام 2014، فيما اختطف نحو 100 آخرين في سنوات احتلالهم للمنطقة، بينهم نحو 25 فتاة وامرأة.

طوال سنوات عمل أهالي المختطفين كل ما هو ممكن لتحرير وإنقاذ أبنائهم وبناتهم، لكنهم ولاعتبارات اجتماعية ودينية، امتنعوا عن تقديم المعلومات وتوثيق أسماء ذويهم خاصة الفتيات منهن.

وعقب سيطرة القوات الحكومية على مدينتي الموصل وتلعفر والمناطق القريبة منهما، تم تحرير 47 فردا، بينهم 23 فتاة وامرأة واحدة، والبقية من الأطفال دون الـ14. يعاني أغلب هؤلاء، خاصة الفتيات من آثار نفسية عميقة، ويحتاجون الى الدعم النفسي، والاجتماعي، والطبي والقانوني.

أغلب الضحايا من الفتيات يعشن في وضع مادي صعب كونهن يسكن في منازل أقاربهن، بعد أن فقدن أهلهن. هن يحملن أمالا كبيرة بتحقيق حياة أفضل بعد أن تحقق أمل الخلاص من داعش، لكن الطريق أمامهن مليء بالعقبات بلا أهل ولا مال وبجراح عميقة غائرة ربما يحملنها إلى الأبد.

* انجز التقرير ضمن مشروع “التربية الاعلامية” لصحفيين من ثلاث مدن عراقية

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18357}" data-page="1" data-max-pages="1">