ليث ناطق – بغداد
بعد حروب مدمرة وأكثر من عقد عاشته البلاد في ظل عقوبات دولية، تراجعت الصناعة العراقية وانهارت المصانع الحكومية الكبيرة في ظل غياب الدعم وانعدام الاستثمار، قبل ان توجه الفوضى عقب الاحتلال الأمريكي لبغداد عام 2003 الضربة القاضية لما تبقى من مصانع.
وفي ظل سياسة الاستيراد العشوائي لمختلف السلع الى حد اغراق الأسواق بمختلف البضائع بما فيها الرديئة، أصبحت المواقع الصناعية صغيرةً كانت أم كبيرة، مباني ومساحات مهجورة، ثم تحولت شيئا فشيئا بفعل تضاعف الاستيراد إلى مخازن للسلع المصنوعة في كل بقاع الأرض، إلّا العراق.
في مناطق كانت تعج في الماضي بمنشآت صناعية، تصطفُّ اليوم شاحناتُ الحملِ الكبيرة في شوارعِها الخرِبةِ وهي تفرغ حمولتها من المستورد الذي يملؤ كل زواياها التي يتردد فيها صدى أصوات الحمّالين، بعد أن كانت تمتلئ بضجيج العاملين المهرة في مختلف الصناعات.
مجزرة المصانع
وفق تصريحٍ للنائب في البرلمان العراقي رعد المكصوصي، فإن عدد مصانع العراق قبل 2003 كان يصلُ إلى 178 ألف مصنع، وجميعها كان يعمل ويُنتج.
ويصنّف مرتضى الصافي المتحدثُ باسم وزارة الصناعة والمعادن المصانع إلى صنفين: معامل القطاع العام وهي 285 معملاً منها 85 معملاً متعطلاً، ويقول إن “لدى الوزارة خطة لإعادة تشغيل جميع المعامل المتوقفة في القطاع العام”
أما الصنفُ الثاني فيشمل معامل القطاع الخاص “كان عدد المشاريع الصناعية مكتملة التأسيس قبل 2003 يبلغ 15726″ يقول الصافي.
ويُضيف:”بعد 2003 تم تأسيس 4418 معملاً خاصاً ليصل المجوع 20144”
وحسب الناطق باسم الصناعة فهناك 72093 مشروعا صناعياً خاصا، جميعها متوقف عن العمل.
وفق بيانات وزارة التخطيط، بلغ عدد المنشات الصناعية الكبيرة 1161 منشأة في سنة 2018، وهي آخر السنوات التي تتوفر لها إحصاءات، منها 600 منشأة عاملة و591 منشأة متوقفة.
وفي تصريحات له خلال حزيران الماضي، كشف وزير الصناعة الأسبق محمد الدراجي عن “مخطط لتحطيم الصناعة العراقية بتنسيق وضغط من أطراف خارجية” لم يسمها.
وقال الدراجي: “إن المهمة التي تفرضها القوى السياسية النافذة في العراق على أي وزير يكلف بإدارة وزارة الصناعة هي إيقاف المصانع والمعامل المحلية والاعتماد على الاستيراد”.
وتصفُ عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي ندى شاكر جودت، الحالة العراقية بـ “اللا تخطيط” مؤكدةً أن عمل اللجنة في الوقت الحالي رقابيّ إرشادي “نراقب بعض المشاريع والعقود ونتحرى زوايا الشبهة فيها” تقول جودت.
ولا يتعدى عدد المشاريع الصناعية المسجلة في اتحاد الصناعات العراقية، في الوقت الراهن، كبيرةً كانت أم صغيرة، عن 54 ألفاً وذلك حسب رئيس الاتحاد علي الساعدي، والذي يكشف في حديثه عن أن “90% من المشاريع المسجلة متوقف، و10 % فقط التي تعمل وتُنتج”.
ويتوزّعُ ما تبقّى من المشاريع والمصانع على مناطق متفرقة من العراق، غالباً ما تكون على شكل مجموعات تُشكّلُ مناطق صناعية، وليس القصدُ هنا المدنَ الصناعيةَ المشيّدة من أجل هذه الوظيفة، بل هناك مناطقُ صناعية تتجمعُ فيها المصانع والمعامل، وهي كثيرة، تحولت في الغالب إلى مخازن للبضائع المستوردة كمنطقة الوزيرة الصناعية وجميلة الصناعية وعويريج في العاصمة بغداد.
ويقول علي الساعدي أن “في العراق خمسة مدن صناعية فقط، أربعٌ منها في محافظات متفرقة هي بغداد والبصرة وذي قار والانبار والأخيرة على الحدود العراقية الاردنية، لكن جميعها غير مكتمل وأغلبها لا تشهد حياةً صناعية”.
وحسب الساعدي أيضاً، فإن مدينةً واحدةً فقط من بين هذه المدن الخمس، تأسست بعد العام 2003.
في 25 سبتمبر، أعلن مستشارُ وزارة الصناعة عمار عبد الله في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية خطةً لإنجاز المدن الصناعية الخمس، موضحاً أن ثلاثاً منها وصلت لمراحل متقدمة.
بينما يؤكد علي الساعدي أن مدينةً كمدينة النهروان الصناعية -إحدى المدن الخمس- تفتقر لأبسط مقومات البيئة الصناعية واصفاً وضعها بالـ “طارد للاستثمار”.
ينطبق وصف الساعدي هذا على المناطق الصناعية الصغيرة حيث طردت النشاط الصناعي وتغير جوهرُها للنشاط الاستيرادي.
تسونامي الاستيراد يجتاح المناطق الصناعية
على الرصيف المقابل لما كان مصنعاً للزجاج، يقف كميل حنّا وهو يطالع البناية والذكريات تتزاحم في خاطره كزحام الصناديق الكارتونية التي تملأ المصنع بعد أن تحول إلى مخزن. المصنع الذي كان يحمل أسم(النسر) أسستهُ عائلةُ كميل نهايةَ ستينات القرن الماضي، ويعد من أوائل المصانع الزجاج في العراق، “كان مصنعنا مع مصانع عراقية أخرى، تغطي حاجة السوق العراقية من الزجاجيات. كنّا متفوقين بجودة وغزارة ما نُنتِج” يقول كميل.
بعد 2003 اضطرّ إلى تأجير جزء من مصنعه، الواقع في منطقة الوزيرية الصناعية في العاصمة العراقية بغداد، ليكون مخزناً لبضائع مستوردة، حتى وصل الحال لإغلاقه بالكامل عام 2007 وتأجير ما تبقّى من بنايته، وتحوّلِ المنطقة التي كانت تحوي أكثر من 200 مصنع ومشغل قبل 2003 إلى مخازن ومعارض تجارية للبضائع المستوردة.
في الجهة المقابلة لما كان مصنع كميل، تمتد بناية أنيقة التصميم بثلاثة أبواب كبيرة، تُفضي جميعُها إلى مخازن تقاسم مساحتها أكثرُ من تاجر مستورد، هذا في الوقت الراهن، أما قبل 20 عاماً، كانت تتدفق منها كميات كبيرة من الفُرش تكفي السوق العراقية بأسرها.
كان المبنى اكبرَ مصانع الفُرش في العراق، تُنتجُ أكثرَ من 50 نوعاً، متعددة الاحجام والاستخدامات، لكن المصنعَ تراجع بعد 2003 وأغلق تماماً في 2006.
يعزو أُستاذ الاقتصاد الصناعي في الجامعة المستنصرية د. فلاح الربيعي الانفتاحَ الكبيرَ على الاستيراد إلى ” التحوّل في فلسفة النظام السياسي بعد 2003 وانسحاب الدولة من النشاط الانتاجي”
ويُضيف: “جاءت كلّ القوانين التي تبنتها حكومة الاحتلال وسارت على هديها الحكومات المتعاقبة منذ 2004 وإلى الان، في مصلحة المنتج المستورد وألحقت أفدح الأضرار بالصناعة الوطنية”.
وتُرجعُ عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي ندى شاكر جودت، التراجع الكبير في الصناعة العراقية لصالح الاستيراد إلى “شخصيات عراقية سياسية وغير سياسية تقف في طريق تطوير الصناعة من أجل مصالحهم الشخصية والسياسية”.
وقالت:”بعضُ هذه الشخصيات تمتلك مصانع خارج العراق وتتعامل مع العراق كسوقٍ استهلاكي”
وتعلّقُ عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي على أداء الحكومات العراقية بالقول:”لم تستطع أي من الحكومات بعد 2003 إلى الآن مواجهةَ هذه الشخصيات ولم نشهد منها عملاً حقيقيا وجاداً لإسعاف الصناعات العراقية”
يذكرُ أن إجمالي الاستيرادات بلغ في العام 2018 حسب بيانات وزارة التخطيط العراقية، 37 مليار دولار، بعجز تجاريّ للسلع غير النفطية وصل إلى 33.1 مليار دولار.
ويُرجّحُ مختصون أن تصل قيمة الاستيرادات في العراق إلى نحو 55 مليار دولار في السنتين الأخيرتين بإيرادات جمركية لا تتجاوز 1,5 مليار دولار، أي نحو 3% من قيمة المستورد، بينما من المفترض أن تصل إيرادات الجمارك إلى معدل 20% من المستورد، وهذا ما معمول به في أغلب دول المنطقة على سبيل المثال.
وتتصدر الصين الدولَ المصدّرة للعراق، حسب بيانات رسمية، وتليها إيران ثم تركيا والولايات المتحدة، وما زال هذا الترتيب محافظاً على نفسه.
لا حمايةَ ولا خدمات
ويشكو القليلُ المتبقي من الصناعيين العراقيين في المناطق الصناعية الإهمالَ وعدمَ توفيرِ أبسطِ مستلزمات العمل الصناعي. يقول صاحبُ أحدى مصانع منطقة عويريج الصناعية جنوبي بغداد: “يطلبُ سائقو سيارات الحمل أجرةً مضاعفة من أجل دخول المنطقة، ذلك لأنّ شوارعها غير معبدة”.
ويُعززُ رئيسُ اتحاد الصناعات العراقية علي الساعدي ذلك بالقول: “الخدمات تكاد تكون معدومة في المناطق الصناعية، ومع ذلك تُفرضُ على المشاريع الصناعية رسوم وضرائب مرتفعة بمقابل ما تعتبره الدولة خدمات كالمخلفات الصناعية”.
ويتعرضُ بعضُ أصحاب المصانع لابتزاز من قبل قوات أمن أو مليشيات من أجل “تركهم بحالهم” على حد تعبير صاحب المصنع المتلكّئ والواقع في عويريج، “من أجل تمرير بضاعة إلى خارج المنطقة، يجب أن ندفع، ومن أجل إدخال موادّ أولية يجبُ أن ندفع أيضاً ومن أجل لا شيء يجب أن ندفع، حتى أننا ندفع من أجل مدّ أنبوب مياه” يقول صاحب المصنع الذي فضّل حجبَ اسمه.
ويضطرُّ أصحابُ المصانع المهددة بالإغلاق إلى الخضوع لهذا الابتزاز تجنّباً للمضايقات التي قد يتعرّضون لها من قبل الملتزين.
“اصلاح الخراب”
يُجيبُ عماد طه العراقي، وهو صناعي سابق، نشط في مجال الصناعات الجلدية، على هذا السؤال بما يُشبهُ اليأس:” منذ 2004 بدأنا بالاحتجاج على عدم دعم الصناعة والاستيراد العشوائي لكن رغبة السياسيين في إرضاء دول أخرى والارتماء بحضنها حالت دون تحقيق ما في مصلحة الصناعة”
ويتساءلُ طه:” لماذا لا تتوفر تسهيلات للصناعيين كالتي توفرُ حكومات ما بعد 2003 للتجار المستوردين”.
وعلى مدى سنوات خلت، أطلقت الحكومات العراقية المتعاقبة مبادرات عدّة لإنعاش القطاع الصناعي لكنها لم تكن جديةً كالمبادرة الصناعية التي لم تُثمر، وكذلك مبادرة دعم المشاريع الشبابية في البنك المركزي، والذي قدمته لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي، وعن مصيره تقول عضو اللجنة النائبة ندى شاكر جودت: “بالإضافة لإرادة بعض السياسيين الذين يفضلون مصالح دول أخرى على مصلحة العراق، لم تُثمر هذه المبادرة عن شيء نظراً لعدم دعم المستثمرين للمشاريع الشبابية “.
ومازال الاقتصاد العراقي يُصنّفُ في خانة الاقتصادات الريعية ولا تشكّل مساهمة الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الاجمالي سوى 1,5% أو أقل، في ظل اتجاه الحصة الأكبر من التخصيصات الاستثمارية في الموازنات السنوية للدولة نحو قطاع النفط، بنسبة 34,6% من اجمالي التخصيصات الاستثمارية في الموازنات السنوية للدولة كمتوسط للمدة 2006 ــ 2019، مقابل تخصيصات استثمارية لقطاع الصناعة التحويلية كانت في حدود 1,1%
وعن كيفية دخول المنتج العراقي المنافسة مع المستورد يجيب أستاذ الاقتصاد الصناعي في الجامعة المستنصرية د. فلاح الربيعي: “المنتج المحلي يحتاج إلى توفير الحماية والدعم وتهيأة بيئة أعمال ملائمة لممارسة النشاط الاستثماري، وامكانات تؤهله للمنافسة علاوة على الحاجة للتسويق الناجح والشكل العصري”.
انجز التقرير بدعم مؤسسة نيريج للتحقيقات الستقصائية
المزيد عن تقارير سردیة
تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18183}" data-page="1" data-max-pages="1">