تقارير سردیة: نخيل بدرة .. أصنافه الفريدة تعاني من شح المياه ونار الحرائق المجهولة

نخيل بدرة .. أصنافه الفريدة تعاني من شح المياه ونار الحرائق المجهولة

اجراءات إيران والحرائق المفتعلة تهددان أشجار النخيل جنوبي العراق

محمد الزيدي

على كتف نهر “خريبكان” المار بوسط بستانه، اعتاد المزارع “علي حسين شعيل” الجلوس بنحو يومي متأملاً نخيل بستانه المحترق، بفعل مجهول للمرة الثالثة في غضونِ عامين. وتمر في ذهنه صور الأصناف الفريدة من تموره التي كانت ترفد السوق المحلية بكامل احتياجاتها.

المزارع الكهل ذو الـــ68 عاماً، يقول بأنَّ نخيله “أنهكته فواجع الحروب العبثية وشحُّ المياه والحرائق” هو أحد المكلومين بوجع حرائق بساتين النخيل في قضاء بدرة بمحافظة واسط جنوبي العراق، ويتابعُ بأسى ” أعداد البساتين التي تعرضت للحرق بلغت حتى الآن 23 بستاناً، بمساحة إجمالية تقدر بنحو 1800 دونماً، تعود لأكثر من 71 مزارعاً”.

مدينة بدرة التي تعدُ واحدة أكثر مناطق العراق شهرةً بالبساتين وتعدد أصناف النخيل فيها، غدت تعاني من تراجع انتاج التمور فيها بسبب تكرار اندلاع الحرائق واستمرار عجز السلطات المختصة عن كشف الفاعلين وتقييد الحوادث عادة ضد مجهول.

ليس بعيداً من وجع المزارع الكهل فأن زميله “رسن كاظم نهابة” الذي يَمتلكُ بستان نخيل فيه أكثر من (800) نخلة فاخرة بنوعها، فقد هو الآخر “أكثر من نصفها بسبب الحرائق، ليعيش الألم بخسارته التي لا تعوض أبداً” كما يقول.

ويروي نهابة الذي ورث البستان عن أبيه وجده كيف أن قضية “حرائق بساتين النخيل تتكرر سنوياً دون أن تتمكن السلطات المختصة من القبض حتى الآن على فاعل واحد، رغم وجود أكثر من عشرين قضية مُسجلة في مراكز الشرطة القريبة.”

وتعد ظاهرة حرق البساتين في قضاء بدرة، من الظواهر التي تكاد تتكرر سنوياً، فقد شهدت بساتين المدينة حرائق مماثلة في الأعوام 2012 و2013 و2017 و2018 تسببت بخسائر مادية فادحة لمزارعيها.

تعددت أسباب الحرائق والجريمة واحدة

“استهداف بساتين النخيل بعمليات حرق تتكرر عادة في فصل الصيف، وهو موسم نضج التمور. يدل على أن دوافع إقتصادية تقف وراءها. يميل لهذا، المحقق الجنائي “ياسين صبري” مسؤول قسم الأدلة الجنائية في مركز الدفاع المدني بقضاء بدرة، الذي قال: “القرائن التي نحصل عليها ميدانياً تشير إلى ضلوع أكثر من طرف في التنفيذ عن طريق اشخاص لهم خبرة في النخيلِ”.

ومع أن الفاعل لايزال مجهولاً في تحقيقات الدوائر الأمنية، يقول صبري بأنَّ المعطيات الميدانية أثبتت بأن طريقة الحرق واستهداف جذع النخلة يعني أن الجريمة تتجه صوب تدمير الاقتصاد والحيلولة دون عودة بساتين المدينة إلى سابق عهدها “.

وليس بعيداً عما يقوله المحقق الجنائي يعتقد “طاهر محمد كاظم” وهو أحد أصحاب البساتين في بدرة بأن جهات سياسية -لم يسمها- متهمة بالوقوف وراء احراق بساتين المدينة” معتقداً بأن الحاق الضرر بقطاع التمور المحلي يفتح باب الاستيراد على مصراعيه”.

وتابع قائلاً ” لا أحد يجرؤ على قول الحقيقة المرة خوفاً من تلك الجهات التي من مصلحتها أن يظل الفاعل مجهولاً.”

 

خلافات عشائرية

وفقاً لما يقوله “سلام البطيخ” معاون محافظ واسط لشؤون الزراعة فأن أسباب الحرائق مردها “خلافات حول التركات الزراعية، جراء تعدد المالكين للبستان الواحد” معتبراً بأن” الخلاف أصله مالي ليس إلا”.

ومع أن واقع سعة الحرائق وتكرارها والخسائر التي أفرزتها لا ترجح هذا الرأي، ثمة من يقول بأن الحرائق لا تخرج عن الاطار المحلي والخلافات بين الفلاحين.

“مجيد مصبح” مزارع خمسيني من المدينة أشار إلى أن “النقص الحاصل في مياه السقي ألجأ أصحاب البساتين إلى الاستحواذ على حصص غيرهم، الأمر الذي يدفع الآخرين إلى التذمر وحصول ردات فعل عكسية تتمثل في حرق البساتين التي يستحوذ أصحابها على مياه السقي بطرق غير مشروعة.”

لكن ومع مخاوف أصحاب البساتين من امكانية تكرار سيناريو الحرق يومياً، يكشف “جعفر عبد الجبار محمد”  قائممقام قضاء بدرة عن أن “مسلسل حرق بساتين النخيل الذي تكرر في السنوات الخمس الأخيرة انحسر هذا الصيف، ولم تدون سوى ثلاث حرائق حتى الان، بعد أن كانت في المواسم السابقة تزيد عن عشرة حرائق كل موسم.”

ويعزو المسؤول المحلي ذلك إلى “الجهد الأمني المكثف وتعزيز العامل الاستخباري بعد زج عناصر أمنية مختصة بمهمة مراقبة البساتين على مدار اليوم، ورصد الأشخاص الذين يترددون في أطرافها خاصة الغرباء” موضحاً أن “التحقيقات في الحرائقِ السابقة أعطتنا مؤشرات عن أيادٍ قد يكون هدفها إثارة الضغائن بين أبناء المدينة المنسجمين في كُلِ الظروف، ومحاولة تفكيك نسيجها الاجتماعي بوصفها مدينة يُجبرها الموقع الجغرافي على تلقي الاتهامات” ويعني بذلك قربها من الحدود مع إيران.

التمور ضحية الحروب العبثية وشح المياه

تعرف بدرة الحدودية التي يتنوع سكانها بين أكراد من حيث القومية، ومسلمون شيعة من جانب الدين والمذهب بأنها كانت مسرحاً للعمليات العسكرية أثناء الحرب التي اندلعت بين العراق وإيران في ثمانينات القرن الماضي.

يحد مدينة بدرة أو “به يره” كما ينطقها سكانها الكرد من الشرق مدينة مهران الإيرانية، ومن الغرب مدينة الكوت، ومن الشمال ناحية زرباطية ومن الجنوب محافظة ميسان، وتعدُّ من المناطق المتنازع عليها بين العرب والاكراد بسبب قومية سكانها الذين يتحدثون اللغة العربية على الرغم من كون أغلبهم من القومية الكردية.

ويعود تراجع انتاج التمور وفقدان الأصناف الفريدة فيها إلى  تداعيات الحرب وآلتها التدميرية التي أتت على مساحات واسعة من بساتين المدينة بفعل القصف المتبادل، ليقضي شح مياه السقي وقطع مصادر نهر الكلال الذي ينبع من الأراضي الإيرانية من قبل السلطات هناك على ما تبقى من بساتينها بعد انتهاء الحرب.

ويعد نهر الكلال، الذي يعرف محلياً “كلال بدرة” وهو نهر قادم من الاراضي الإيرانية، المصدر الوحيد لسقي البساتين، وهو يشطر المدينة الى نصفين قبل أن يتفرع إلى أنهار صغيرة ويتلاشى في العمق العراقي.

ويكشف “حميد جدوع موازي” عضو جمعية البستنة والغابات في بدرة عن “قيام السلطات الإيرانية في السنوات الأخيرة بقطع مياه الكلال نهائياً، وهو ما انعكس سلباً على سقي البساتين”، موضحاً أن ” قطع مياه الكلال من الجانب الإيراني وتحويلها إلى سد(كنجان جم) غرب محافظة إيلام الإيرانية دفع أصحاب البساتين إلى اللجوء لحفر الآبار الارتوازية لسقي بساتينهم، ما تسبب في تراجع انتاجها من التمور والفاكهة التي تشتهر بها أيضاً مثل الرمان والكروم والاجاص”.

وتاريخياً كانت وظيفة مدينة بدرة التي أنشأت لأجلها على حصن مرتفع، هي حماية المدن العراقية من الهجمات القادمة من بلاد فارس، وكانت مدينة غناء ببساتينها الكثيفة وأراضي القمح الشاسعة قبل، أن تصبح جرداء قاحلة بسبب تداعيات الحرب وهجرة السكان نحو مناطق أخرى حتى أوشكت على التلاشي، لولا البترول الذي ظهر فيها مؤخراً فاستعاد جزء من حيويتها.

وتضم المدينة اليوم، منفذ زرباطية أحد أهم المنافذ الحدودية مع إيران والذي يشهد حركة تبادل تجاري كبير بين البلدين بمعدل يصل نحو ألف شاحنة يومياً في الظروف الاعتيادية محملة بمختلف البضائع، إضافة الى مرور مئات الألوف من مسافرين البلدين بقصد السياحة وزيارة العتبات المقدسة.

مأساة المدينة وتدمير بساتينها يؤكدها المهندس الزراعي “أركان مريوش” مدير زراعة محافظة واسط الذي يقول بأن بدرة التي تقع على بعد عشرين كيلو متر من الحدود العراقية الإيرانية، “تعرضت بساتينها إلى تدمير ممنهج على مدى السنين الماضية، بعد أن كانت شهيرة بإنتاجها حتى على الصعيد العربي والدولي ” مشيراً الى أن” بعض من ملاك البساتين لا يتمكنون من الدخول اليها أصلاً بسبب انتشار الألغام والمخلفات الحربية”.

ويعتقد المسؤول المحلي بأن سكان المدينة يعانون ظروفا صعبة ويأملون ببرامج تأهيل داعمة بعد أن مروا بمرحلة الهجرة القسرية وتداعيات الحروب وأخيرا الحرائق المفتعلة.

وبحسب المصادر التاريخية فإن بدرة من المدن القديمة جدا رغم ان مساحتها لا تتجاوز(4000 كلم)  وعدد سكانها قرابة (50000) نسمة بحسب تقديرات دائرة الإحصاء في محافظة واسط، وكانت تعرف باسم “بادريا” في أيام البابليين واشتهرت بوجود عدد كبير من أشجار الصنوبر، ومن هذه المدينة جمع الحطب ليرسل إلى منطقة “كوثى” حيث اشعل النمرود، وهو أحد ملوك بابل القديمة الأولى ناراً لإحراق النبي ابراهيم، هكذا تقول الاسطورة المروية.

وتمتاز لهجة سكانها العربية بلكنة خاصة فهي مزيج من العربية والكردية والتركية والفارسية، وبالرغم من دراسة السكان في مدارس عربية منذ عقود لكن كبار السن من الاكراد مازالوا يتحدثون الكردية في جلساتهم الخاصة، اما الأجيال الجديدة فلا تعرف شيئاً عن اللغة ويتحدثون العربية بطلاقة.

خسائر وتراجع في انتاج التمور

في السوق القديم لمدينة بدرة، حيث النقص الحاد في الخدمات البلدية والصحية والحاجة الكبيرة لتأهيل مدخلها الرابط مع منفذ مهران في الجانب الإيراني الذي يمر بأسوأ أوضاعه إثر مرور الشاحنات الكبيرة ، يجلسُ بائع التمور “حسين حمدي بدعي” وأمامه عدد من السلال المخصصة لعرض أنواع من تمور بدرة.

هذا البائع يقرُّ بان وجوده في السوق لقضاء أوقات الفراغ ليس إلا ” فالإقبال على شراء التمر قليل جداً، وبات الناس ينفرون منه بسبب رائحة الدخان التي لاتزال عالقة فيه.”

التّمار الذي يمتلك بستاناً في أطراف قرية القلمات المُحاذية للحدود الايرانية يكشف عن خسارته “لعدد كبير من النخيلِ المحمل بمئات الأطنان من التمرِ بسبب الحرائق المباغتة الت اضرمها مجهولون” مضيفاً بأنه “قدم شكوى رسمية لثلاث مرات متتالية لمعرفة الجناة، لكن دون جدوى”.

وفيما ينظر الرجل نحو أشجار النخيل المحترقة طالب الدوائر المعنية بما وصفها “جدية التحقيق وكشف الفاعلين”، مردفاً بالقول بأنَّ الحرائق أفقدته نحو( 117) نخلة أغلبها من الاصناف الجيدة والفريدة من نوعها مثل، التبرزل، البرحي، المكتوم، السلطاني، القيطاز، البربن وصنف (علي دولا) الذي يُنسب لجده دولا “وهو صنفٌ فريد وغير موجود في أي منطقة بالعراق سوى في قضاء بدرة.”

وما بين تنهيدة ممزوجة بألم شديد ووجع نفسي ثقيل يقول الرجل الذي يعتاش وأسرته المكونة من (11) فرداً على واردات البستان “منتجات هذا البستان استطعت تسويقها عبر شركات متخصصة لخارج البلاد، يوم كانت الطلبات تزداد عليها بشكل ملحوظ من تجار في السعودية والكويت والبحرين وروسيا”.

ووفقاً لما يقوله الخبير الزراعي المهندس “سلام اسكندر” فأن النخلة التي كانت تنتج في بساتين بدرة نحو ثلاث وزنات (الوزنة الواحدة تساوي 100 كغم) أصبحت الآن لا تنتج أكثر من (50)  كغم من التمرِ، وقد تكون هذه الكمية مصابة أو تالفة، فتباع بسعرٍ زهيد”.

وتابع قائلاً “الشركات المحلية كانت تصدر في سبعينات القرن الماضي مختلف أنواع التمور العراقية، حيث كان لدينا 150 صنفا ومساحات اكبر بكثير، فكيف الان وقد تبقى لدينا ما يقرب عن 50 نوعاً فقط”.

مطالبات بالحلول

“وضع برامج وطنية لإحياء بساتين النخيل وتوفير السبل الكفيلة لإعادة الحياة لها بعد أن أصبحت مجرد مساحات كبيرة تغصُ بالجذوع والسعف” مطلب يجده الناشط في مجالِ البيئة والتنمية المستدامة “حسن الهلالي” ملحاً ويتماشى مع حاجة الناس، مضيفا انه “ليس من المعقول بقاء الحكومة متفرجة على واقع زراعي ينذر بخطر كبير”.

ويقول الهلالي “قلة الوسائل الحكومية للعناية بالنخيل سواء بنقص الوقاية أو عدم القدرة على تبني مشاريع لإكثار الفسائل وتعويض النقص الحاصل، جميعها معوقات ومشاكل يجب معالجتها حكومياً”.

وكانت الشركة العامة لتصنيع وتسويق التمور العراقية، قد قالت في وقت سابق إن العراق احتل المرتبة السادسة عالميا في انتاج التمور بعد ان كان يحتل المرتبة الأولى، مبينة أن العراق يمتلك 629 صنفا من التمور تنتجها 21 مليون نخلة، فيما بلغ إنتاج البلاد من التمور في 2018، نحو 646 ألف طن، صعودا من 618.8 ألف طن في 2017، بزيادة 44%. وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء.

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18145}" data-page="1" data-max-pages="1">