تقارير سردیة: التلوث في نهر دجلة بنينوى: لا جدوى من محطات التنقية

التلوث في نهر دجلة بنينوى: لا جدوى من محطات التنقية

الحرب ومصبات المياه الثقيلة لوثتا نهر دجلة ودفعت الاهالي في نينوى العراقية ومركزها مدينة الموصل إلى البحث عن بدائل للمياه التي توفرها محطات التنقية الحكومية

علي اياد:

في ممر المشاة وسط “الجسر العتيق” المشيد منذ نحو قرن على نهر دجلة وسط الموصل، وفي ذات الموضع الذي اعتادا ولعقود الوقوف فيه، أخذتهما موجات النهر الصغيرة المتتابعة  بعيدا الى أحلى ذكريات عمريهما فيما ظلت عيونهما معلقة بجوانب النهر الذي تكاد تخنقه النفايات والطحالب.

يقول الصديقان المسنان د.معاذ وأبو نجلاء، أنهما أعتادا ولخمسين عاما على تمضية أوقات فراغهما علي الجسر، يتطلعان من فوقهِ للنهر وحركته الدائبة. وضفتيه المزدحمة بالعائلات ومرح الأصدقاء، لكن حاله اليوم : ” يشي بواقع المدينة المحاصرة بالفوضى والغارقة بمشاكل لا حصر لها، الخدمية أبرزها.

ذلك النهر الذي شكل طوال آلاف السنين شريان الحياة للموصل، إحدى أهم مدن وادي الرافدين، وكانت ضفافه تشكل مسرحاً للفرح وفسحة للترفيه وواحة للسكينة، تحول في الكثير من مواضعه في عصرنا هذا الى مكب للنفايات.

يرفع د. معاذ حامد الأكاديمي المتخصص في البيئة، عصاه التي تعينه على السير بثبات، بينما يده الأخرى متشبثة بالجسر، مشيرا الى منتصف النهر “لم يعد القاع مرئيا، والسطح أصبح داكنا تغمره الطحالب ولا تكاد ترى فيه أسماكا.. حتى النهر لم يعد كسابق عهده ضاجاً بالحياة ” يقول وهو يهز برأسه في اشارة عدم رضا.

يصمت لبرهة، وهو ينظر الى وجه صديقه الذي حفرته التجاعيد وغزا الشيب شعره، قبل ان يضرب بقبضته السياج مبتسماً، ثم يعود ليمد بصره صوب ماتبقى من الأحياء الممتدة على الضفة اليمنى للنهر والتي أضحت تلالا من ركام خلفته معارك شرسة دارت بين الجيش العراقي وعناصر تنظيم الدولة الإسلامة- داعش- نهاية العام 2017.

كان التنظيم، قد سيطر على الموصل صيف 2014 وأعلن زعيمه أبوبكر البغدادي من الجامع النوري وهو اقدم جوامع المدينة، خلافته التي امتدت لما يزيد عن ثلاث سنوات وانتهت بسيطرة الجيش العراقي عليها مدعوما بالقوات الامريكية.

يستذكر الصديقان د.معاذ وابو نجلاء، أنهما قبل(53)عاماً، وعلى ذات الجسر الحديدي الضيق والذي يشكل معلماً قديماً تعتز به المدينة، كانا يتطلعان الى تموجات مياه النهر وتسابق الأسماك على فتات الخبز، والى زوارق الصيادين، وأسراب النوارس المحلقة بزهو فوقه والأشجار الوارفة عل صفتيه.

“تلك الصور ضاعت.. مرت سريعا كأنها حلم، فالنهر تحول الى مصدر للتلوث، مع صرف مياه شبكات المجاري القديمة اليه، وافتقار المدينة لمحطات معالجة مياه الصرف الصحي” قال د. معاذ وأضاف وهو يمسح عينيه “طوال عقودٍ كان الموصليون يشربون مياهه، اليوم لا يمكن اعتبارها مياها خامة صالحة”. ويعني بالخامة تلك التي تعالجها محطات التنقية قبل دفعها عبر أنابيب الإسالة إلى المواطنين.

خطر الانحدار البيئي

التغير البيئي في نهر دجلة الذي لا يمكن أن تنفذ الرؤية فيه لأكثر من متر واحد، بسبب التلوث الذي تحدثه مصبات مياه المجاري المنتشرة على جانبيه والنفايات التي تلقى فيه، حقيقة يشهد عليها اهالي الموصل ويقر بها المسؤولون في المدينة ويحذر من تداعياتها المتخصصون.

يقول د.معاذ، الذي كان يشغل منصب عميد كلية البيئة في جامعة الموصل، قبل تقاعده أن هناك (13) مصباً فرعياً على ضفاف دجلة من نقطة دخوله الموصل حتى خروجه.

وبحسب دراسة أعدها عن الموضوع قبل سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) على المدينة فان حجم المياه الملوثة المطروحة من هذه المصبات يقدر بنحو 500000م3 في اليوم، قادمة من(183)حياً سكنياً في جانبي المدينة التي يزيد سكانها عن مليوني نسمة بحسب دائرة الإحصاء التي تقدر الساكنين فيها بـ(51%) من سكان نينوى الذين يربون عن أربعة ملايين.

“معظم المياه تضم ملوثات معدنية كبريتية، الى جانب الملوثات التي تحملها مياه الصرف الصحي العضوية، والتي تأتي من عدة مناطق على امتداد النهر مختلطة بمياه المجاري”. يقول د. معاذ متأسفاً.

وينبه إلى كل تلك المواد المهددة للصحة ممزوجة في المياه التي تسقى بها مئات الحقول الزراعية المنتجة للخضراوات، كما انها كانت مصدرا لمياه الشرب في المدينة ودنما أي معالجة تذكر بين عامي 2014 و2017 أبان سيطر داعش على المدينة وتسببت بأمراض وأوبئة.

عمر حسين (30 عاما) كان يعمل خلال سيطرة داعش على الموصل في بيع المياه. وكان يجوب بعربة صغيرة تحمل خزانات سعة عشرين لتراً يعبئها من النهر، ازقة المدينة القديمة لبيعها.

يقول “كنت أخشى الموت بقذائف الهاون ورصاص القوات الأمنية أو داعش، أكثر من خوفي من تناول مياه ملوثة، كان علي جلب الماء مهما كانت نوعيته لتشرب عائلتي ولأبيع ما يفيض عن حاجتي لأشتري به بعض الطعام، لم يكن لدينا خيار آخر بسبب انقطاع المياه لأيام طويلة”.

كان هذا في وقت توقفت فيه محطات التنقية عن العمل لأضرار لحقت بها جراء العمليات العسكرية أو عدم وجود الوقود أو المواد الأولية اللازمة لتشغليها. لكن حتى مع تحرير المدينة وإعادة ترميمها وتشغيلها، مازال النهر يشكل تهديداً بيئياً فمياهه تظل مصدرا للكثير من الانشطة الحياتية.

كما أن أنقاض مئات البيوت المدمرة غطت ضفاف النهر، بكل ما تحمله من مخلفات المتفجرات وبقايا الجثث التي لم تنتشل لغاية الآن، في ظل غياب عمليات التنظيف البيئي.

 

ملوثات تسقي المزارع

تنتشر الكثير من المزارع الصغيرة على جانبي السواقي والمجاري المائية التي تصب في دجلة. تلك تحمل معها اضافة الى مياه الامطار كميات كبيرة من المياه الملوثة بالفضلات والكيمياويات والقادمة من البيوت.

تقول عبير صالح التي تدير مزرعة صغيرة على مجرى في الجانب الأيسر “لدينا بئر نسقي منه مزروعاتنا اضافة الى امتلاكنا مضخة لسحب المياه من وادي السكر (مجرى مائي)”.

وتشتكي عبير من  تحول المزارع المجاورة الى منازل بعد تقطيع أراضيها وبيعها “لا يبالي أصحابها برمي فضلاتهم في الوادي، مما يزيد تلوث المجرى”.

يقول الدكتور طه احمد، ان المياه التي تحمل ملوثات كيميائية لا يمكن سقي المزروعات بها “هذه جريمة”.

ويضيف متحدثا عن التلوث المتزايد في نهر دجلة “لا يمكن أن تخطئ عين .. البيئة في نينوى تعاني، انها مريضة.. والرائحة الكريهة والتربة الآسنة دليل عيني على التلوث الواضح في الأنهر الفرعية التي تصب في دجلة”.

فيما ينبه د.نزار النعيمي استاذ التربة في جامعة الموصل، الى أن المياه التي تحمل ملوثات عضوية تؤذي التربة الزراعية وتحولها الى “تربة ملحية”.

 

نسب تلوث عالية

يعد المتخصصون مياه الأنهر الجارية وخاصة الكبيرة منها، مياه خاما كونها تأتي من مصبات لم تختلط مياهها مع الملوثات الكيميائية والعضوية أو اختلطت بنسب محدودة جدا يمكن معالجتها في محطات التنقية، لكن وضع نهر دجلة مختلف.

يقول عبدالرحمن (35 عاما) الذي اعتاد السباحة  عند الضفة اليمنى لنهر دجلة، أن “الملوثات تتراكم على الضفاف الحواف محملة بالعديد من المواد الصلبة كالبلاستك والأكياس وانوع مختلفة من الفضلات التي تطفوا على السطح، وتحول المياه الى اللون الداكن وبرائحة كريهة، كأنها مياه مجاري”.

د. معاذ ذكر بأن مياه دجلة تدخل الموصل “محملة بنحو 3-5 ملغرام من الملوثات العضوية لكل لتر، وتغادرها بمقادر يفوق الـ100 ملم غرام للتر”، منبها الى ان “نسبة التلوث العالمية تقدر بـ5 ملغرام للتر كحد اقصى واذا زادت النسبة عن هذا الرقم فيتحول تصنيف المياه الى مياه ملوثة”.

وبحسب مخطط لمجاري نينوى تم الاطلاع عليه، فان اكثر من(20)مصباً فرعياً وثانوياً لمياه المجاري على ضفتي نهر دجلة تصب مباشرة في النهر دون معالجة أو حتى معاملة.

شبكة تصريف مياه الأمطار

لا ينفي عمر منذر المسؤول عن صيانة مجاري الجانب الأيسر للمدينة، تلك الحقيقة  رغم تأكيده ان شبكة المجاري “ليست ملوثة كونها تسخدم للاستعمال المنزلي فقط”. لكنه يستدرك: “شبكتنا هي لتصريف مياه الامطار وليست شبكة مجاري. مدينة بحجم الموصل يعيش فيها اكثر من مليوني نسمة تفتقر الى اليوم لشبكة مجاري بموصفات عالمية، فالشبكة الحالية تعود الى ثمانينات وسبعينات القرن الماضي وكانت قد انشأت للتخلص من مياه الامطار بالاساس لكنها تحولت الى شبكة مجاري وبالتالي فهي تطرح كل مياهها مباشرة في النهر، أما شبكة تصريف المياه الصحية فلا وجود لها أصلاً”.

نسبة التلوث وحجم مطروحات المصبات العشرين تختلف من واحد لآخر وفقا لمصادر مياهها والأماكن التي تمر بها وصولا الى المجرى الرئيس الذي يصب بالنهر بحسب د.عبدالمحسن سعدالله، استاذ هندسة البيئة في جامعة الموصل.

ويحذر “السباحة في دجلة وخاصة تحت الجسور ليست صحية وتسبب امراضا حسبما جاء في دراسة أعدت في جامعة الموصل”.

وتقول طبيبة الأمراض الجلدية فاطمة مبارك بان “السباحة في مياه ملوثة كمياه حواف الانهر قد تسبب أمراض معوية وجلدية.. وهي بلا شك مصدر للاصابة بالتيفوئيد والدودة الشريطية او التهاب الكبد الفايروسي نوع A”.

يبدو ان حجم الملوثات في نهر دجلة لا يثير قلق مدير اعلام بيئة نينوى نشوان شاكر الذي يرى بان “النهر يتعافى من الملوثات من خلال جريانه المستمر خاصة في مواسم الأمطار”.

لكن الدكتور طه احمد، يقول ان النهر في الموصل “لا يتعافى بسبب كثرة الملوثات وتنوعها بين عضوية وكيميائية وصلبة، اضافة الى انخفاض نسب تصريف المياه بعد بناء السدود”.

 

مصادر اخرى للتلوث

لا تقتصر مصادر التلوث بنهر دجلة على مياه الصرف الصحي والمخلفات الصلبة فقط، بل هناك مصادر أخرى كفضلات مربي الحيوانات لاسيما الجاموس الذي تنتشر تربيته في اطراف الموصل وكذلك معامل انتاج الحصى والرمل.

الدكتور نزار النعيمي استاذ التربة في جامعة الموصل قال بأن النهر قبل دخوله للمدينة يمر بمناطق تنتشر فيها تربية الجاموس “ويلقي مربوها في ظل انعدام الرقابة والثقافة البيئية نفايات حضائرهم في النهر والتي اغلبها مواد عضوية”.

وتظهر دراسة اعدها الدكتور معاذ حامد أن فضلات الجواميس التي تطرح في النهر تزيد عن (12)طنا  يومياً،  هذا في قصبة بادوش وحدها.

ولمعامل إنتاج الحصى والرمل حصة أيضاً في التلوث، فهي تستخرج المواد الأولية  من قاع وأطراف النهر وتسبب أضراراً بالغة في البيئة النهرية.

وهناك مصدر تهديد بيئي آخر يتمثل بالاعشاب النهرية، فمن على جسر الحرية في وسط الموصل يمكن رؤيتها ملتصقة بطوافات الجسر العائم وملتفةً على الاسلاك التي تثبت الطوافات والتي تغوص في المياه.

يقول الدكتور معاذ: “هذه الاعشاب تظهر نتيجةُ لتوقف عمليات الكري خاصة مع انخفاض معدلات تصريف المياه من سد الموصل، وهي تزيد التلوث العضوي في المياه نتيجة تحللها”.

وينبه ناشطون بيئيون من أن قاع دجلة تحول الى غابة لنباتات بدائية تنمو وتموت وتتحلل مسببة زيادة في نسبة المواد العضوية المذابة في النهر.

يبدي الدكتور معاذ قلقه: “لا يمكن للنهر تحمل كل هذه الملوثات، الى جانب رمي الهياكل الاسمنتية والحديدية ومختلف المواد البلاستيكية، وفي ظل غياب عمليات الكري تتعقد المشكلة”.

ضفاف لغسل المركبات

على الضفة اليسرى للنهر، رُكنت ثلاث صهاريج مخصصة لبيع النفط الأبيض ، وانشغل أصحابها بغسلها بمياه النهر. مشهد يومي ويتكرر في مناطق أخرى عديدة كذلك على طول جانبي النهر.

يقول الدكتور عبدالمحسن سعدالله ان “على الشرطة البيئية نشر عناصرها لمنع ذلك لكننا لا نجد ذلك، فبقايا النفط والزيوت مضرة بصحة الانسان ولا يتعافى منها النهر بجريانه، وهؤلاء يستخدمون منظفات كيميائية في غسل سياراتهم”.

ويلفت الى أن غياب أي دور لدائرة بيئة نينوى في محاسبة المخالفين “يساهم في تنامي المخالفات البيئية”، متسائلا عن سبب غياب دور الشرطة البيئية رغم كثرة منتهكي المعايير البيئية في المدينة وعلى مرأى الجميع.

 

ملوثات صيانة السيارات

في الحي الصناعي أيسر الموصل، حيثُ محال تصليح السيارات وتبديل زيوتها وصيانة بطارياتها، يفرغ العمال محتويات بطاريات السيارات من مواد كيمياوية خطرة في المجرى الخارجي، وكذلك الامر مع زيوت السيارات التي تنتهي الى نهر دجلة بعد مرورها بأنابيب المجاري دون معالجة.

وتوصلت دراسة سابقة اعدها باحثون من جامعة الموصل هم عادل علي بلال ومصعب عبد الجبار التمر ومحمد أحمد سعید أن مصب وادي عكاب يصرف مطروحاته بنحو مباشر إلى نهر دجلة. وتمثل مزيجاً من مياه الفضلات الصناعية والمنزلية. وتجاوز تركيز المواد العالقة فيها عن(122%)وبقية الشوائب بمقدار(  16-29% ).

النسخة الأخرى من هذه المنطقة الصناعية تتواجد في الجهة اليمنى للمدينة وهي بدورها ترسل مياهها المشبعة بالفضلات عبر مياه المجاري نحو نهر دجلة.

ولا يختلف المشهد في الحيين الصناعيين كثيرا عن باقي المناطق الصناعية والتجارية في الموصل، ففي سوق (القصابين) الجزارين مثلا يتم رمي البقايا العضوية في مجاري التصريف.

 

البناء العشوائي

ازدادت مشكلة التلوث، مع تزايد إنشاء الأحياء السكنية العشوائية، فالبناء خارج التخطيط البلدي ودون شبكات صرف صحي، حول الوديان موسمية الجريان الى دائمية ومعها أصبحت تلك المناطق بؤراً للتلوث.

ويصنف نشطاء بيئيون البناء العشوائي دون اي مخطط لشبكة مجاري بالـ ” جريمة”.

وفي ظل غياب التخطيط والتوسع العمراني المستمر، تحول نهر الخوصر وسط الموصل، الذي هو مجرى موسمي لمياه الأمطار أنشأه السومريون قبل آلاف السنين، الى مجرى دائمي بعد ان صرفت مياه مجاري بعض الأحياء الجديدة اليه، ليصبح أكبر ملوث مائي يصب في دجلة دون معالجة. وهو يحمل روائحه الكريهة لأحياء كاملة محيطة به.

يعلق على ذلك عمر منذر الفني في مجاري المحافظة، قائلا ان شبكات تصريف مياه المجاري في الموصل فقيرة جدا، لذا تصرف المياه الى المجاري المائية ” لا حل آخر أمامنا”.

ويشير الى أن نظام تصريف مياه المجاري قديم جدا ويعتمد على انحدار الأرض “لهذا السبب تم تحويل عدد من الوديان الى مجارٍ لتصريف المياه الثقيلة أيضاً وبهذه العملية تحولت بعض الوديان التي تجري المياه فيها خلال الشتاء والربيع الى دائمة الجريان”.

لهذا تحول وادي “الدانفلي” في الجانب الأيسر للموصل الى مجرى لتصريف المياه الثقيلة لأحياء سكنية مجاورة، فضلا عن مخلفات المنطقة الصناعية من زيوت وسوائل بطاريات.

هذا الوادي قبل ان تُصب مياهه الملوثة في دجلة، يزود(14) مزرعة على ضفتيه بالمياه.

يحذر الدكتور نزار النعيمي، من الأضرار الصحية لاستخدام مياه ملوثة في الزراعة “هي تتسبب بتلوث التربة وبالتالي تلوث المحاصيل وخاصة الخضار”.

ويضيف رافعاً صوته “يجب معالجة مياه الوادي، او الغاء هذه المزارع”.

 

عطش على ضفاف دجلة

ضمن تقديرات ديوان محافظة نينوى فأن 20% من مناطق نينوى غير مخدومة بالمياه، أي ليست فيها شبكات مياه الإسالة. وعلى الخارطة فأن هذه المناطق هي قضاء بعاج غرب الموصل والتي يربو عدد سكانها عن مئة ألف وناحية تل عبطة والمناطق المحيطة بها في جنوب غرب الموصل. فضلاً عن قرى واقعة ضمن قضاء تلعفر. وغالبية القرى في سهل نينوى شرق الموصل.

ويعتمد السكان في هذه المناطق الذين لم تسعفهم مياه الآبار المالحة، على السيارات الحوضية- صهاريج- التي تنقل اليهم المياه من النهر في غالب الأحيان.

وذكر محمد كنعان الجبوري مدير ناحية تل عبطة(73كم)جنوب غرب الموصل، أن ندرة الماء أكبر مشكلة تواجه  سكان الناحية منذ أن تم تأسيسها سنة 1958. وان السكان يشترون المياه من صهاريج لعدم وجود مشاريع تنقية المياه في الجوار والآبار الارتوازية على الرغم من انتشارها في المنطقة تدر مياها غير صالحة للإستهلاك البشري.

وهذا ما أثبتته دراسة لأكاديميين من جامعتي تكريت والموصل هم أحمد خليل أبراهيم، وعبد المحسن شهاب، ووليد العبد ربه شملت( 27) بئراً إرتوازياُ في جنوب نينوى.

وخلصت نتائج الدراسة إلى أن التكوينات الجيولوجية واحتوائها على صخور الجبس والصخور الكاربونية أثر بشكل كبير في نوعية المياه الجوفية وجعلها غير صالحة للاستخدامات الزراعية وقسم منه صالح بشرط غسل التربة باستمرار مع إضافة الجبس.

لذا لا يجد المواطن المحاصر بزاوية العطش في تلك الإنحاء الصحراوية سوى الترقب اليومي لقدوم صهاريج المياه من نهر دجلة غير آبه بنقاوتها مادامت خياره الوحيد.

وفي قرى غير مخدومة بمشاريع المياه، تمتد على شكل هلال في سهل نينوى من شمال مدينة الموصل حيث قضاء تلكيف إلى أقصى شرقها في قضاء الحمدانية، الاعتماد الأكبر هناك أيضاً يكون على ما توفره السيارات الحوضية، بعضها تجلبه مباشرة من نهر دجلة. ففي العديد من تلك القرى حفرت آبار إرتوازية وأتضح ان مياهها كبريتية وغير صالحة للإستخدام البشري.

المواطن محمد احمد(42 عم) من سكان قرية علي رش شرق الموصل، أعتاد على شراء الماء من تلك الصهاريج وتجميعها في خزانين سعة الفي لتر للواحد، يضعهما متجاورين قرب باب منزله الخارجي.

قال بأنه يحاول بنفسه معالجة المياه من خلال “منظومة تصفية وتعقيم تقوم بتجهيز 40 لتر فقط كل يوم”. وأضاف مخففاً عن نفسه” هذا أمر مؤقت لحين اكمال مشروع الإسالة المتعثر منذ ست سنوات بسبب الأحداث الأمنية التي مرت بها نينوى خلال عقدين مضيا.

وبيدين مرتجفتين يحمل حسين علي (58 عاما) عبوة بلاستيكية للمياه سعة 20 لترا ويضعها في صندوق سيارته الى جانب اربع عبوات أخرى، قبل ان يسارع بركوب سيارته غير مكترث بثيابه المبتلة، عائدا لقريته.

يقول “أضطر يوميا لمليء هذه العبوات من مدينة برطلة واعود للقرية”. يتوقف لبرهة وهو يأخذ نفسا عميقا ويتنهد قبل ان يضيف “اتمنى ان يكملوا مشروع القرية لأخلص من هذا العذاب”.

يرجع مدير اعلام دائرة الماء في نينوى يونس محمود، تعثر اكمال مشروع الاسالة الى ظهور تنظيم داعش: “المشروع أحيل قبل عشرة ايام من سيطرة التنظيم على المنطقة ومن ثم توقف، واحيل مجددا للتنفيذ في 2020 لكن كورونا عطلت العمل وننتظر تجاوز الأوضاع الحالية لاكماله”.

ويقول انهم يضطرون “لحفر آبار ارتوازية للقرى التي لا توجد فيها مشاريع مياه، أو ارسال صهاريج مياه اليها مجانا اذا كانت مياه ابارها مالحة أو كبريتية “.

حتى مع اكمال مشاريع الاسالة المعطلة، يقول أحمد، انهم سيضطرون لتعقيم المياه التي تصلهم “فلا يمكن الوثوق بنوعيتها”.

وحتى الـ 80% في نينوى المخدومون بشبكات مياه الإسالة التي توفرها محطات التنقية الحاصلة على إمداداتها من نهر دجلة، تدور في أذهانهم وباستمرار شكوك بشأن  صلاحية المياه التي تفرج عنها الصنابير في منازلهم.

إذ وبسبب تهالك شبكات أنابيب نقل المياه المدفونة تحت الأرض وهي بمجملها منشأة بين 1950-1960 والأضرار الفادحة التي لحقت بها جراء التفجيرات شبه اليومية التي كانت تشهدها الموصل بين 2003 و2017، تتسرب عبرها المياه الآسنة وتختلط بالمعالجة، فيتلقى المواطنون مياهاً عكرة أو في أقل تقدير غير مأمون استخدامها.

ولمواجهة ذلك  يستخدم ذوو الدخل المحدود في مدينة الموصل وحدة معالجة تراثية أعيدت للخدمة بعد عقود من التقاعد، تتمثل بما يعرف هناك بـ(الحِب) أو الزير، وهو وعاء فخاري ترشح منه المياه فتستخدم للشرب والطبخ.

في حين يربط آخرون وحدات معالجة صغيرة في صنابير المياه لتصفيتها. أو يحصلون على مياه الشرب من برادات مزودة بمرشحات. ويعمد الميسورون إلى شراء المياه المنقاة والمعبأة في عبوات سعة الكبيرة منها(20)لتراً، يتم بيعها مباشرةً عبر معامل تعبئتها المنتشرة في المدينة، ويجدونها كذلك في مخازن ومحال بيع المواد الغذائية .

ويصر موظفو دائرة ماء نينوى على أن محطات التنقية تعمل بكفاءة عالية وتنتج مياهاً مطابقة للمواصفات الصحية المطلوبة للإستهلاك وبإشراف من دائرة صحة نينوى ووزارة الصحة في بغداد. لكنهم يقرون في الوقت عينه بان المشكلة متعلقة بالأنابيب الناقلة.

بينما العاملون في الحقل الطبي ينظرون بعين الريبة إلى آلية عمل محطات التنقية ذاتها والأدوات التي تستخدم في  معالجة المياه التي تأخذها من نهر دجلة.

ويبين دكتور عبد المحسن سعد الله أن اعتماد المحطات على الادوات القديمة التي لاتزيد عن الشب والكلور أمر محفوف بالمخاطر ولا تفي بالغرض كون الملوثات مرتفعة وقال” أنا شخصيا لا اشرب من مياه الاسالة “.

في حين قال دكتور طه احمد أن : ” المعالجة بالكلور في ظل ارتفاع  نسبة المواد العضوية قد ينتج امراضاً منها سرطانية لمن لديهم استعداد لذلك” هذا الامر الذي اكده أيضاً د.معاذ ود.عبدالمحسن سعدلله.

واشارت مجلة بيئتنا  الكويتية  في عددها(136) الى ان  98% من سكان العالم يستهلكون مياه  مكلورة وأن نسبة الاصابة بالسرطان  ارتفعت  الى 44% بين من يستخدم ماء معقم بالكلور عن من يستعمل غير ذلك.

فيما  دعى  دكتور معاذ الى استعمال طرق احدث لاجل تعقيم المياه وبناء محطات جديدة يمكنها التعامل مع مياه النهر مهما كانت  نوعيتها وخاصة ان دجلة لم تعد مياهه خام كالسابق.

و اجرى معد التقرير استطلاعا للرأي شمل(100)شخص موزعين بين جانبين الموصل ووجد أن  جميعهم لا يشربون من مياه الاسالة مباشرة. أذ يستعمل(35%) منهم برادات المياه المزودة بمرشحات. و(45%) يستعملون مياه معبأة يشترونها من السوق و(20%) يستعملون منظومة تعقيم المياه المنزلية بمختلف أنواعها.

تقول المواطنة عائشة عبدالستار، تسكن حي المهندسين “نحن لا نستعمل مياه الاسالة للشرب ولا للطبخ لأنه ولاسيما في الربيع تكون بلون الطين، وأحيانا تصدر عنها  رائحة ” وهو ما يؤكده الباحث المختص عبدالمحسن سعدالله “ان مياه الاسالة ملوثة بكميات من النتيرات  والفوسفات  بدليل نمو الطحالب في انابيب النقل المنزلي “.

المياه الثقيلة

نظام تصريف المياه الثقيلة في معظم الأحياء السكنية البالغ عددها (183) حياً موزعة في جانبي مدينة الموصل الأيسر والأيمن، عبارة عن تشكيل مكعب من الكونكرت بأرضية طينية لتترسب منها المياه إلى العمق، فيما تمكث الفضلات الصلبة وتتجمعا فوق بعضها إلى ان تستدعي الحاجة إلى نزحها بواسطة صهاريج خاصة تفرغها في مناطق خاصة خارج المدينة بعيداً عن التجمعات السكنية. وبما أنها وسيلة مكلفة لمحدودي الدخل، فأن البعض يستخدم نظاماً يعرفه موظفو المجاري بـ  “الأوفر فلو” بأنبوب ينتهي في المجاري خارج المنزل، تمرر عبره نضوحات المياه الثقيلة الأمر الذي يعد مخالفا للقانون لأضراره البيئية، بحسب الفني في مجاري نينوى عمر منذر، لكن لا يتم محاسبة أحد عنها.

أما في الأحياء التي لا تتوافر فيها وحدة لمعالجة المنزلية هذه المعتمدة في الموصل منذ نحو قرن، فأن المياه الثقيلة تذهب في العديد من الأحياء السكنية مباشرة إلى شبكات المجاري وتجد طريقها نحو نهر دجلة. وهذه الأحياء ذات كثافة سكانية عالية، مثل: (اليرموك والمنصور) في الجانب الأيمن. والحدباء والدركزلية ودوميز والعربي والجزائر والتحرير وحي الزهراء) في الجانب الأيسر.

عمر منذر يعود  للقول جازماً: “جميع الاحياء تقريبا فيها تجاوزات، الا اننا لا نتمكن من متابعتها وإجبار مرتكبيها على الكف عن ذلك، خاصة مع اتساع رقعة الموصل الجغرافية”. في جولة قصيرة رصد معد التقرير في حي سكني واحد هو الجزائر، سبعة منازل تستخدم نظام “الاوفر فلو”.

اغلب المواطنين في المدينة لا يدركون خطورة هذا الامر، ويساهمون بزيادة التلوث النهر الذي يعد مصدرهم الوحيد لمياه الشرب، يقول المواطن(س)الذي رفض الكشف عن اسمه “لا توجد حكومة، وان هذه المياه  تذهب للمجاري”، مضيفا بابتسامة “لا تجعلوها مشكلة، وهو شيء طبيعي”، وارجع الناشط االمدني ابراهيم الطائي هذه الظاهرة الى ” قلة التوعية في مجال التلوث والحفاظ على البيئة”.

قسم الاعلام في مجاري نينوى قال في رده عن تساؤلنا بأن “شبكة المجاري تتعرض الى انتهاكات من قبل المواطنين، فيتم رمي الاوساخ فيها والتي بالتالي تتحلل وتتأكسد وتساهم في زيادة نسبة التلوث، هذا فضلاً عما يتدفق فيها من المياه الثقيلة”.

ويضيف أن ما بين (4-9)أطنان من النفايات تقريبا تستخدرج يوميا من شبكة المجاري في الجانب الايسر من المدينة فقط، مؤكدا أن هذه النفايات وعند تعرضها للضغط تنتج عصارة ” شديدة السمية”( وهي عصارة تخرج من  تحلل المواد في بيئة لا هوائية ).

 

حلول لا ترى النور

المهندس الانشائي سلام عبد الله تحدث عن مشروعٍ رائد أدرج للنقاش في مجلس محافظة نينوى سنة 2009، وتمثل بإنشاء سد غاطس في نهر دجلة وتحديداً في الجزء الجنوبي المار منه بمدينة الموصل.

وقال بأن المشروع كان سيوفر كميات هائلة من المياه وبعمق كبير يسهل عمل محطات التنقية التي تستمد مياهها من النهر. مع تقليل أثر ما تفرغه المصبات لحين إنشاء شبكات تصريف ومعالجة متكاملة. فضلاً زيادة الثروة السمكية ومد المزارع باحتياجاتها خلال موسم الجفاف وانعاش المدينة ككل اقتصاديا من خلال إنشاء مرافق سياحية على الصفتين في كلا الجانبين.

ولفت المهندس سلام إلى أن المشروع لم يكن يتطلب إمكانيات ضخمة ولا رصد ميزانية كبيرة لتنفيذه بل كل ما في الأمر هو حفر مجرى النهر لعمق يزيد عن أربعين متراً لا غير.

مشروع السد الغاطس في دجلة لم يتم التصويت عليه في مجلس محافظة نينوى لاعتراض ممثلي محافظات أخرى يمر بها دجلة جنوب نينوى لخشيتهم من أن يؤدي إلى تقليل حصص محافظاتهم من المياه والنهر يعاني في الاصل من تناقص بسبب مشاريع السدود التي اقامتها تركيا في مناطق قريبة من منبعه على اراضيها.

*انجز التقرير بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية، ونشر بشكل مختصر في موقع “درج”.

 

 

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18069}" data-page="1" data-max-pages="1">