الانتحار في العراق… ستار جرائم قتل النساء وملجأ الهاربين من الفقر والابتزاز
قفزات في ’مؤشر الموت’.. هربٌ من الابتزاز و’مراسيم’ العشائر
قفزات في ’مؤشر الموت’.. هربٌ من الابتزاز و’مراسيم’ العشائر
أمضى اسماعيل ليلته يفكّر في الطريقة التي سينهي بها حياته، “لم أجرؤ على إطلاق النار على رأسي من مسدس والدي (الويبلي) إنكليزي الصنع، حينها قررت فتح خزانة أدوية جدتي وتناولت العقاقير التي فيها”.
قُربُ المستشفى العام للشطرة من البستان الذي يضم منزل جدته في أطراف المدينة (46 كلم شمال الناصرية)، وسرعة اكتشاف عائلته الأمر، أنقذا حياته، إذ سارع والده وشقيقه الأصغر إلى نقله إلى المستشفى.
يذكر اسماعيل جيداً ذلك التاريخ: “كان فجر 21 كانون الأول/ ديسمبر 2017… كنت أظن أنني سأستيقظ في العالم الآخر، فإذا بي أفتح عيني على صوت الممرض سجاد وهو يصفعني… حينها علمت أنني لم أنجح في الانتحار”.
محاولة الانتحار تلك واحدة من القصص المتكررة التي تصحو وتغفو عليها ذي قار بشكل مستمر منذ سنوات، فقد تلقت شرطة المحافظة بعدها بأيام قليلة، بلاغاً بانتحار فتاة في الخامسة عشر من عمرها، بعد يوم واحد من عرسها.
وفي 28 حزيران/ يونيو 2017 تسلمت مستشفى الإمام الحسين جثة الشاب الثلاثيني م.خ. بعد إقدامه على شنق نفسه داخل منزله وسط الناصرية، وفي الأول من تموز/ يوليو 2019 اعلنت قيادة شرطة ذي قار عن العثور على جثة شاب انتحر شنقاً على شجرة في شمال المدينة.
الجنوب: فقر وبطالة
في مدن الجنوب العراقي حيث تتجاوز معدلات البطالة والفقر الـ40 في المئة، وفي ظل العادات والقيود الاجتماعية والزواج المبكر، تسجل مئات حالات الانتحار، معظمها تقع تحت ضغط الظروف المعيشية والنفسية الصعبة، لكن بعضها حالات قتل بدوافع مختلفة بينها جرائم قتل النساء (أو ما يعرف بغسل العار أو جرائم الشرف) وتدون في خانة الانتحار، وأخرى ترتبط بالابتزاز الإلكتروني لبعض النساء، بحسب باحثين ونشطاء مدنيين.
تظهر التقارير والبيانات الواردة من جهات رسمية وغير رسمية في العراق ارتفاعاً ملحوظاً بحالات الانتحار في السنوات الأخيرة في ظل تفاقم المشكلات الاجتماعية والمعيشية، وبالتزامن مع غياب سلطة القانون بشكل فاعل، مقابل صعود القوى القبلية والعشائرية بعد عام 2003.
المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، أكدت في احصائية لها تسجيل أكثر من 3000 حالة انتحار بين عامي 2015 و2017 في مختلف مناطق البلاد عدا إقليم كردستان. وسجلت محافظة ذي قار، التي يركز عليها هذا التحقيق، أعلى معدلات الانتحار خلال الفترة ذاتها، والعام الذي تلاها (2018) مرتفعة بنسبة (60 في المئة) عن الأعوام السابقة.
القيود الاجتماعية والفقر
بحاجبيه المعقودين والنظرة الحائرة في عينيه البنيتين، استقبلنا اسماعيل في مكتبه في العاصمة بغداد حيث يعمل محرر أخبار في إحدى وكالات الأنباء، ليحدثنا عن تجربته مع الانتحار والتي صدمت أصدقاءه وأهله، الذين هالتهم رغبة الشاب الطموح الحالم، في الموت.
يقول “ذقت ذرعاً من الضغوط التي كان يمارسها أهلي علي، وقائمة القيود الاجتماعية والخطوط الحمراء التي كان يجب ألا اتجاوزها، بحجة العرف العشائري والديني”.
يسكت لبرهة ثم يتابع :”كما ان ضعف الحالة المعاشية لعائلتي أشعرني باليأس… في فترة الدراسة في جامعة ذي قار أحياناً لم أكن أجد ثمن تناول وجبة طعام مع أصدقائي… حينها وجدت أن لا طريق للخلاص سوى الانتحار”.
وظلت محافظات الجنوب عدا البصرة، الأعلى في معدلات الفقر والبطالة مقارنة ببقية مناطق البلاد طوال السنوات سنة الماضية، وفق احصاءات وزارة التخطيط، وفي بلد عانى من تدهور سياسي وخدمي وشهد اقتتالا داخليا ثم حربا مدمرة مع تنظيم داعش كان وقودها عشرات آلاف الشباب، انعكس كل ذلك على الاستقرار الاجتماعي، بحسب باحثين وناشطين.
يلقى ما يقارب 800 ألف شخص في العالم حتفهم بسبب الانتحار سنوياً، بحسب منظمة الصحة العالمية، وتسجل ثلاثة اضعاف هذا الرقم من محاولات الانتحار، وتسجل في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل نحو 79 في المئة من حالات الانتحار في العالم.
أرقام قليلة إنما مقلقة
تظهر دراسة لمركز البحوث التابع لمجلس النواب العراقي نشرت عام 2014 تحت عنوان “انتشار الانتحار في العراق – اسباب، ومقترحات” تسجيل 1532 حالة انتحار بين عامي 2003 و2013، بالاعتماد على إحصائية “مجلس القضاء الأعلى”. وبمقارنة تلك الأرقام مع ما سجلته المفوضية العليا لحقوق الإنسان للفترة بين 2015 و2017 والبالغة أكثر من 3000 حالة، نكتشف تضاعف حالات الانتحار مرات عدة.
وبحسب إحصاء مجلس القضاء الأعلى، فقد واصلت أعداد المنتحرين تصاعدها عاماً بعد آخر، إذ سجل عام 2013 النسبة الأعلى لحالات الانتحار بـ439 حالة انتحار، تلاها عام 2012 بـ276 حالة انتحار، ثم عام 2011 بواقع 253 حالة، و2010 بـ161 حالة، وعام 2008 بـ103 حالات، و2009 بـ95 حالة، ثم عام 2007 بـ64 حالة، و2006 بواقع 51 حالة، و2005 بـ46 حالة، و2004 بـ31 حالة، و2003 بواقع 13 حالة.
وبلغ مجموع حالات الانتحار، بحسب إحصاء وزارة الداخلية، وفق ما نشرته دراسة مجلس النواب، 906 حالات للفترة ذاتها (2003-2013).
وحتى مع تأكيد بعض الجهات، أن بعض حالات الانتحار لم تكن تسجل في الفترة بين 2004 و2008 بسبب الاقتتال الداخلي والفوضى الأمنية، فإن ما لا يمكن التشكيك فيه هو تصاعد الأرقام عاماً بعد آخر.
وبمقاربة تلك الأرقام مع إحصاءات حالات الانتحار في دول مجاورة كالأردن، ومع أخذ عدد السكان بنظر الاعتبار (40 مليوناً في العراق، 10.5 مليون في الأردن) فتظل الأرقام في العراق أعلى بأكثر من ضعفين. فقد سجلت 283 حالة انتحار في الأردن للفترة ما بين 2015 و2017، بحسب احصائية رسمية لإدارة المعلومات الجنائية في الأمن العام، بواقع 113 حالة لعام 2015، و40 حالة انتحار عام 2016، و130 حالة لعام 2017.
“ذي قار” نقطة ساخنة
تعد محافظة ذي قار (375 كلم جنوب العاصمة بغداد) والتي يقرب تعداد سكانها من مليوني ونصف المليون نسمة، إحدى المحافظات التي تمتاز بالطابع العشائري والديني، وعلى رغم كونها محافظة نفطية تضم عدداً من الحقول الكبيرة، فإنها تعاني من معدلات بطالة مرتفعة، ووصل معدل الفقر فيها إلى 44 في المئة، قبل أزمة “كورونا” التي فاقمت الأوضاع سوءاً، بحسب أرقام وزارة التخطيط.
الاحصاءات التي حصل عليها كاتب التحقيق حول أعداد حالات الانتحار في ذي قار، تباينت بشكل واسع بين المفوضية العليا لحقوق الانسان من جهة وبين الطب العدلي في الناصرية ومسؤولي حكومتها المحلية من جانب اخر.
فبحسب المفوضية العليا لحقوق الانسان، 225 شخصاً لقوا حتفهم نتيجة الانتحار خلال عامي 2017 و2018، في عموم محافظة ذي قار، أي بمعدل 9.3 حالة انتحار لكل شهر، منها 142 حالة عام 2017، و83 في 2018.
وبتفصيل جندري فإن عام 2017 شهد انتحار (50) شخصا من الذكور، و (92) من الاناث، اما في 2018 فقد انخفضت الأرقام لتسجل (36) من الذكور و (47) من الاناث.
فيما جاءت احصائية دائرة الطب العدلي التابعة لصحة ذي قار واحصائية الحكومة المحلية الرسمية التي حصل عليها كاتب التحقيق، بنسب أقل من مفوضية حقوق الانسان، حيث سجل الطب العدلي 97 حالة انتحار خلال عامي 2017 و2018، بواقع 43 حالة خلال 2017 و54 حالة خلال 2018.
في مدن الجنوب العراقي حيث تتجاوز معدلات البطالة والفقر الـ40 في المئة، وفي ظل العادات والقيود الاجتماعية والزواج المبكر، تسجل مئات حالات الانتحار.
في وقت كشف محافظ ذي قار السابق عادل الدخيلي الذي شغل منصب مسؤول خلية الانتحار في المحافظة قبل استقالته اثر الاحتجاجات الشعبية، عن تسجيل 98 حالة انتحار في المحافظة خلال 2017 و2018، 46 منها في 2017 و52 حالة خلال عام 2018، بينما خلا الإحصاءان الأخيران من أي تفاصيل “جندرية”، لرفض الجهات المعنية الادلاء بها.
وسجلت مفوضية حقوق الانسان 32 حالة خلال النصف الأول من العام 2019، بينها 19 لذكور و14 لإناث.
وتأتي هذه الاحصائيات رغم بعض الضبابية أو التعتيم –لا سيما من المؤسسات الحكومية- حول الأعداد الحقيقية للانتحار، ومحاولة تلك الجهات التكتم على الحالات الاجتماعية السلبية بحجج مختلفة، كالانتحار وزنا المحارم وارتفاع نسب تعاطي المخدرات.
الارقام أكبر من المعلنة
وهذا ما أكده، المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية عبد الزهرة الهنداوي، والذي أشار إلى أن الجهاز المركزي للإحصاء-المعني بإجراء العمليات الاحصائية لكافة مفاصل الدولة والحياة في البلاد- والتابع للوزارة “لا يمتلك أي بيانات وإحصاءات موثقة حول حالات الانتحار في العراق”، فيما يشكك الهنداوي بوجود “إحصاء دقيق عند اي جهة حول الانتحار”، مؤكداً أن “ما ينشر من أرقام وإحصاءات هو أقل بكثير مما يحدث على أرض الواقع”.
المرجعية الدينية “الشيعية” في النجف، وعبر ممثلها في كربلاء عبد المهدي الكربلائي، أكدت خلال خطبة الجمعة في السابع من حزيران 2019، أن “شيوع ظاهرة الانتحار في العراق يؤشر إلى خلل في المجتمع ومؤسسات الدولة”، داعية “النظام السياسي وحكام البلاد للرحمة بالشعب”، مشيرة إلى أن “ظاهرة الانتحار مسؤولية الجميع وينبغي بناء المجتمع وحفظه من المهالك”.
عروس تنتحر بعد ليلة زواجها
في كانون الثاني/ يناير 2018 بمدينة الناصرية، تسلمت الشرطة بلاغاً بحالة انتحار عروس بعد يوم واحد فقط من زواجها، حيث وجدت متدلية بحبل علق في سقف الغرفة.
قبلها بنحو عام تعرضت “نبأ وعد” (15 عاماً) للاغتصاب من قبل أحد سكان حيها، والذي يكبرها بأكثر من خمسة عشر عاماً، بعد أن استدرجها خلال عودتها من المدرسة إلى منزله، مما دفع ذويها بعد افتضاح الحادثة إلى مهاجمة دار المغتصب بما يسمى بـ “الدكة العشائرية”، باستخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وبعد أن اتفق الطرفان، ذوي نبأ مع قبيلة المغتصب، على دفع الاخير مبلغ مالي قدره 42 مليون دينار عراقي (نحو 35000 دولار أميركي)، كـ”فصل عشائري” –دية تدفع بين القبائل مقابل الصلح- مع فرض زواج “المغتصب” من “نبأ”.
رفضت نبأ فكرة الزواج جملة وتفصيلاً، لكن ضغط ذويها وأعمامها أجبرها على القبول، لينتهي زواجها بعد ساعات حين قررت إنهاء حياتها بدل أن تعيش مع مغتصبها.
لم يتمكن معدا التحقيق من معرفة الكثير من تفاصيل حياة نبأ بعد الاعتداء عليها، وطبيعة تعامل ذويها معها داخل المنزل، بسبب القيود الاجتماعية.
تكرر حالات الانتحار من خلال القاء الضحايا انفسهم في الأنهر
في كردستان مشهد مكرر
لا تقتصر معدلات الانتحار المرتفعة على مدن جنوب العراق حيث البطالة والفقر والانغلاق المجتمعي، أو في الوسط، ففي إقليم كردستان شمال العراق لا تختلف الصورة كثيراً، على رغم الوضع الاقتصادي الأفضل وحصول نوع من الانفتاح الاجتماعي.
سجلت المديرية العامة لمناهضة العنف ضد المرأة في كردستان، 328 حالة انتحار بين النساء فقط عام 2018 في محافظات الإقليم الثلاث، وتفصيلاً فإنها رصدت 73 حالة انتحار بآلة حادة أو شنق أو تناول جرعات من السم، فيما سجلت 145 حالة حرق لنساء لم يتم التأكد من أسبابها، و110 حالات حرق نساء لأنفسهن بدافع الانتحار، خلال الفترة نفسها.
وسجل في النصف الأول من عام 2019 من قبل المديرية 189 حالة، بينها 32 حالة انتحار بطرائق مختلفة، و99 حالة حرق، و58 حالة حرق للنفس.
فيما أفاد إحصاء لـ”اتحاد رجال كردستان”، أن عام 2018 شهد تسجيل115 حالة انتحار بين صفوف الرجال، بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها الإقليم.
عدا حالات الانتحار، أوردت منظمات محلية معنية بأوضاع الايزيديين، في تقارير وبيانات، أرقاماً عن انتحار أكثر من 150 امرأة ايزيدية (كبيرات وصغيرات في الس) لمواجهتهن عنفاً جنسياً مروعاً على أيدي عناصر تنظيم “داعش” عقب اجتياحه مناطق الايزيدية في سنجار (80 كلم غرب الموصل) في الثالث من آب/ أغسطس 2014.
وفي غياب أي أرقام رسمية، يقدر نشطاء يتابعون حالات الانتحار في المجتمع الايزيدي عدد من أقدموا على الانتحار خلال السنوات التي اعقبت هجوم داعش بأكثر من 200 شخص “بسبب أوضاعهم المعيشية والنفسية الصعبة عقب الإبادة والنزوح”.
الانتحار قتلاً
بعد أكثر من عام ونصف العام من الدعاوى والمرافعات و16 جلسة، أصدرت محكمة السليمانية حكما في 11 آب 2020 بإعدام د. م. زوج سيوان قادر (23 سنة) التي قتلت مع ثلاثة من أطفالها حرقاً في قضاء جمجمال في منتصف كانون الأول 2018.
القضية التي كانت اعتبرت في بداياتها عملية انتحار أو حادثة حرق، نجح أهل سيوان بإصرار نادر، في أثبات أن ما حصل لم يكن انتحاراً بل كانت عملية قتل خطط لها ونفذها زوجها.
سيوان قبل ساعات من رحيلها متأثرة بحروقها كانت ناشدت بعدم إغلاق قضيتها وتحويلها إلى حالة انتحار، وقالت: “زوجي هو من فعل هذا، يجب أن ينال جزاءه… لن أسامحه أبداً… لن أسامح كل من شاركه الجرم… بالله عليكم لا تغلقوا هذه القضية”.
وكان الزوج أضرم النار في منزله، وادعى أنه كان في مكان عمله، فقتلت زوجته إلى جانب ثلاثة من أبنائه تراوحت أعمارهم بين سنة وخمس سنوات.
أمام مبنى المحكمة، دعا والد سيوان رئاسة إقليم كردستان إلى المصادقة على الحكم سريعاً، فيما قالت والدتها: “أرجوكم اعدموه بسرعة، منذ سنتين وأنا أموت كل يوم”.
تقول الناشطة ليلى حسن إن “رفض عائلة سيوان المستمر، اللجوء إلى الصلح العشائري وعدم خضوعها للضغوط من أجل غلق القضية، هو ما مكن من حسم القضية التي كانت يمكن أن تسجل مثل قضايا اخرى كحالة انتحار”.
وتضيف “الكثير من حالات الانتحار في كل مناطق العراق تسجل كحالات انتحار لأسباب اجتماعية او بحجة تجنب حصول خلافات عشائرية”.
بعد أيام من غلق قضية سيوان، انتحرت في كركوك س. م (19 سنة) بعدما تعرضت للضرب على يد زوجها وحماتها.
اتهمت س. م التي مضى على زواجها 9 أشهر فقط، زوجها وحماتها بدفعها للانتحار، تقول في تسجيل صوتي قبل أن تفارق الحياة بساعات “ضربني زوجي… يريد ان يتزوج من أخرى، والدته قالت له اذهب وتزوج”.
تقول والدتها، إن ابنتها لم تكن ترتدي ملابسها عندما التهمت النيران جسدها “في ذلك اليوم تعرضت للضرب على يد زوجها وحماتها، وحين هددت بحرق نفسها وسكبت النفط على جسدها قامت حماتها بإعطائها القداحة لتشعل النار في نفسها”.
لا يتردد قضاة ونشطاء في المجتمع المدني في التحذير من أن نسبة غير قليلة من حالات الانتحار هي في الواقع جرائم قتل يتم إخفاؤها تحت ستار الانتحار.
يقول القاضي نازدار میرزا، خلال ندوة خاصة لمعالجة ظاهرة الانتحار، ان نسبة كبيرة من ملفات الانتحار التي اطلع عليها خلال عمله لأكثر من عقدين في المحاكم “في الأساس كانت جرائم قتل”.
جرائم قتل النساء
يشكك الباحث الاجتماعي، الدكتور علي طاهر الحمود، بوجود حالات انتحار نساء بهذه النسبة المرتفعة، معتبراً أن “البعض منها قد يكون جرائم قتل النساء، بداعي الدفاع عن (الشرف)، أو حتى القتل العمد، في ظل ضعف التقنيات المتوفرة في الأدلة الجنائية التي يمكن أن يُحدد من خلالها إن كانت الحادثة انتحاراً أم قتلاً”.
يقول الحمود: “نحن كباحثين اجتماعيين نشك بوجود حالات انتحار بهذا القدر، نعتقد أن جزءاً منها جرائم قتل نساء، وهذا موثق ضمن دراسة شملت مناطق العراق كافة”.
وعن تصاعد نسب الانتحار في محافظة ذي قار، يقول الحمود، إن “نسبة القابعين تحت خط الفقر عالية في الوسط والجنوب وصولاً لبغداد، وهذا احد اهم مسببات الانتحار”، مشيراً إلى أن “انتشار تقنيات التواصل الاجتماعي وازدياد حالات ابتزاز النساء خصوصاً الشابات، وحالات التصوير غير المرخصة التي تعرض أصحابها للفضيحة أصبحت ظاهرة، ما يعرض الشاب أو الفتاة لضغط نفسي شديد يؤدي إلى الانتحار”.
وعلى رغم ارتفاع مؤشر الانتحار في العراق، بدءاً من عام 2003 صعوداً إلى عام 2019، إلا أن ذلك، بحسب الحمود، يبقى ضمن إطار الحد الطبيعي بل هو منخفض قياساً بمؤشر الانتحار في دول العالم، والذي يصل في أوروبا إلى 11.4 لكل 100 ألف شخص.
أكثر من 3000 حالة انتحار بين عامي 2015 و2017 في مختلف مناطق البلاد عدا إقليم كردستان.
وربط الحمود تسليط الضوء على حالات الانتحار في السنوات الاخيرة، بتعدد وسائل الإعلام وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت توثق كل حدث وتنشره.
لكن الناشط المدني جميل علي، يرى أن تلك المقارنة غير دقيقة، فالانتحار في المجتمعات المسلمة مرفوض دينياً واجتماعياً، كما أن “الأسباب والدوافع مختلفة تماماً، فهنا ترتبط بالحرمان وغياب العدالة واليأس من تحقيق حياة أفضل”.
ويبين ان “حالات الانتحار في أحيان كثيرة تحصل نتيجة ضغط معين، أو تأثير شخص ما أو جهة معينة، كما أنها قد تكون ستاراً لجرائم قتل”.
الانتحار خوفاً من الفضيحة
نحو عام من متابعة تفاصيل حالات انتحار النساء، علم معدو التحقيق أن نسبة كبيرة من تلك الحالات جاءت نتيجة تهديدات تلقتها فتيات عبر شبكات التواصل نتيجة قرصنة هواتفهن والاستحواذ على صور وفيديوات خاصة.
وهذا ما حدث مع الضحية س.ب. التي أقدمت على الانتحار بعدما ابتزها شخص الكترونياً وهددها بنشر صورها وعائلتها بعد استحواذه عليها.
وتُقدِم النساء بعد تعرضهن لمثل تلك الضغوط والاعتداءات على الانتحار، بحسب الباحث عبد الله البيضاني، بسبب القيود القبلية والأعراف الشعبية التي تعتبر نشر صور النساء فضيحة عقابها القتل.
مسؤول خلية الانتحار الحكومية في ذي قار يؤكد، شكوك الباحث الاجتماعي الحمود، بتسجيل “جرائم قتل تكون برأي مرتكبيها غسلاً العار، على أنها حالات انتحار”، ويعزو ذلك “لطبيعة المجتمع المحافظ”.
ويوضح، أن الحكومة المحلية، “شكلت لجاناً مشتركة مع قيادة الشرطة ومنظمات المجتمع المدني ودائرة صحة ذي قار، بهدف الوقوف على أسباب ارتفاع حالات الانتحار للحد منها قدر المستطاع”، داعياً إلى شمول اللواتي حاولن الانتحار لأسباب اقتصادية ببرنامج الرعاية الاجتماعية على أقل تقدير.
ونظراً إلى تعامل المصادر الأمنية في ذي قار مع مجتمع محافظ قبلياً، رفض كثر منهم التعليق على وجود حالات قتل عمد ضمن جرائم قتل النساء، وتسجيلها على أنها حالات انتحار، فلم تنفِ المصادر التي تم التواصل معها أو تؤكد ما ذهب إليه الباحث الحمود واكتفت بترديد “لا تعليق”.
النقيب في مكافحة اجرام الناصرية س.م، يبين أن “الأجهزة الأمنية تتخذ إجراءات فنية في حال وصلها أي إخبار عن حالة انتحار، فهي تتعامل مع الأمر كأي حالة جنائية في بادئ الأمر، فتعمل على زيارة مسرح “الجريمة” وتحليل الحادثة وتدوين أقوال من في المنزل والمنطقة ومحاولة الوصول لأي خيوط قد تقود إلى معرفة أسباب الانتحار أو القتل إن كانت جريمة قتل متعمد لأي سبب كان”.
ويطالب محامون بشكل مستمر بالتدقيق في ملفات الانتحار. يقول عضو نقابة المحامين باسم اللامي، عقب حادثة مقتل محامية في بغداد في أيار/ مايو 2019، والتي أثارت جدلاً بشأن إن كانت أقدمت على الانتحار كما يقول زوجها أم قُتلت كما تقول عائلتها، إن “خطر استخدام الانتحار كغطاء لجرائم القتل بدأ يتصاعد”، داعياً الجهات القضائية إلى التحقيق بدقة في أي حادثة انتحار لكشف ملابساتها.
القاضي، في محكمة الناصرية، ناصر عمران يقول إن “القانون يشدد بشكل أساس في قضايا الانتحار، على الشخص المحرض أو المساعد له، في حال ثبوت تحريض شخص ودفعه على الانتحار، ويحكم عليه وفق المادة 408 من قانون العقوبات، لأن المشرع يرى أن الانتحار يشكل خطراً على أمن المجتمع وسلامته”.
لكن المحامي دلوفان علي، يرى أن إثبات التحريض على الانتحار مسألة “بالغة الصعوبة” لا سيما أن القضاء يعتمد على “الدلائل الفنية الملموسة في الأحكام.
تركت رسالة فضحت كل شيء…
احتضنت الأربعينية علياء حسين أطفالها الثلاثة مرة أخيرة باكية، قبل أن تدخل حمام منزلها في مدينة الناصرية، منتصف آذار/ مارس 2018، حاملة معها عبوة من “البنزين” وعلبة كبريت لتنهي حياتها.
لكن علياء لم تشأ الرحيل قبل فضح من دفعها إلى الانتحار، تركت رسالة خطية شرحت فيها اسباب انتحارها، طالبة من ذويها الانتقام لها بعد موتها.
تعرضت علياء، بحسب المراسلات التي وجدت في هاتفها، لابتزاز إلكتروني من حساب وهمي على “فايسبوك”، بعدما قام أحدهم باختراق برنامج “واتساب” الخاص بها، وسرقة الصور والفيديوات الخاصة في هاتفها، طالباً منها إما دفع 10 آلاف دولار أو الذهاب إلى بغداد لممارسة الجنس معه، مقابل عدم نشر تلك الفيديوات.
وعلى رغم قناعة الأدلة الجنائية بالانتحار، إلا أن تلك الحادثة لم تسجل على أنها قضية انتحار، نتيجة الضغوط العشائرية التي دفعت قسم الشرطة إلى تسجيلها كحادث احتراق عرضي، فيما لم يفلح ذووها، بحسب قول أحد المقربين من العائلة في الوصول إلى “المبتز” الذي أغلق صفحته على “فايسبوك”.
يقول رئيس خلية أزمة الانتحار الحكومية إن “عملية فصل حالات الانتحار عن قضايا (الشرف) أو الابتزاز الالكتروني صعبة في المجتمع “الذيقاري” بسبب العلاقات أو الوساطات التي تمتلكها “العشائر” وذوي المجني مع بعض الشخصيات السياسية المتنفذة من جانب، ورجال الشرطة من جانب آخر”، لذا يتم تمييع تلك الجرائم.
الموت هرباً؟
ترجع المنظمات الدولية دوافع الانتحار في العالم إلى أسباب عدة، نفسية واجتماعية واقتصادية، فيما تعزو الباحثة الاجتماعية العراقية إيمان الراوي السبب إلى “الوضع الاقتصادي المزري”، إلى جانب “ارتفاع الطلاق والتفكك الأسري، والقيود الاجتماعية التي تفرض على الذكور كما الإناث، مع انتشار المخدرات وازدياد الأمراض النفسية نتيجة الحروب والعنف”.
مسؤولة ملف المرأة والعدالة الجنائية في المفوضية العليا لحقوق الانسان فاتن الحلفي، تؤكد تصاعد معدلات الانتحار، وتصف الأرقام بـ”الخطيرة”، عازية أهم أسبابها إلى “القيود الاجتماعية من جانب، والبطالة والوضع المعيشي من جانب آخر”.
وتقول إن الارتفاع يعود إلى “العنف الأسري والضغوط الاجتماعية والنفسية داخل الأسرة”، مشيرة إلى انتشار الظاهرة بين الطلاب في السنوات الأخيرة.
وتوضح الحلفي أن “الحد من الانتحار بحاجة إلى مشاركة حكومية مجتمعية ودينية في توعية الجيل الجديد، ويتطلب توفير المراكز النفسية وتأمين فرص العمل ومعالجة المشكلات العائلية”.
“الكثير من حالات الانتحار في كل مناطق العراق تسجل كحالات انتحار لأسباب اجتماعية او بحجة تجنب حصول خلافات عشائرية”.
لا مراكز نفسية لإيواء وتأهيل المقبلين على الانتحار، في العراق، يقول عضو المفوضية العليا لحقوق الانسان علي البياتي إن البلد “يفتقر للمراكز النفسية وإن هناك نقصاً كبيراً في ردهات العلاج النفسي والكوادر الصحية، بل تكاد تغيب ثقافة الطب النفسي عموماً”.
وترى زينب خلف التي كانت ترأس لجنة المرأة والطفل في مجلس محافظة ذي قار المنحل، السبب في استمرار ارتفاع حالات الانتحار في المحافظة، إلى “الضغوط الاجتماعية على الأبناء، والاستخدام السيئ لمواقع التواصل الاجتماعي، وضعف رقابة الوالدين، والتفكك الأسري، فضلاً عن الجانب المالي المسؤول عن نحو 20 في المئة من اسباب الانتحار”.
مستقبل يائس…
لم يثن التخرج من كلية الهندسة، الشاب س.ح. من الإقدام على الانتحار، إذ رمى بنفسه في تشرين الأول/ أكتوبر 2018 في نهر الفرات من أعلى جسر النصر وسط مدينة الناصرية، ولم تتوصل الشرطة، على رغم تحقيقاتها إلى الأسباب التي دفعته للانتحار. عائلته ظلت تكرر أنها لا تفهم لماذا أقدم على ذلك.
يرجع الناشط حسين علي، السبب وراء الكثير من حالات الانتحار إلى “يأس الشباب” عموماً، في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة وضبابية المستقبل، مبيناً أنه مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية في نهاية 2019 واستمرارها مطلع 2020 وكانت الناصرية من أبرز ساحاتها، تراجع عدد المنتحرين، نتيجة انتعاش الآمال بتحقيق مستقبل أفضل.
لم يتمكن فريق التحقيق خلال فترة الاحتجاجات الشعبية التي قادها شباب وفتيات، والتي نجحت في إجبار حكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة وتشكيل حكومة جديدة، وفي ظل الفوضى الأمنية وتعطل عمل المؤسسات وانشغال المنظمات برصد حالات قتل واختطاف المتظاهرين، من الحصول على أرقام بشأن معدلات الانتحار. لكن نشطاء أكدوا أن المحافظة شهدت تراجعاً في تلك الظاهرة خلال “جذوة الاحتجاجات قبل أن تعود مجدداً”.
بعد نحو عامين من محاولة انتحاره الفاشلة، لا يريد اسماعيل تذكر تلك “التجربة المريرة” كما يصفها. يغمض عينيه وتأخذه تنهيدة قصيرة قبل أن يقول، وهو ويشيح بنظره إلى كرسي خشبي في أحد أركان مكتبه “لكنها كانت نقطة تحول كبيرة في حياتي… لقد انتشلتني عائلتي من تلك الحفرة”.
أنجز التحقيق بدعم وتحت اشراف شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية ونشر على موقعي درج وناس نيوز، في 10 ايلول بمناسبة اليوم العالمي لمنع الانتحار.