تحقيقات استقصائية: انتهاكات أمنية وفوضى قضائية تهدد استقرار نينوى

انتهاكات أمنية وفوضى قضائية تهدد استقرار نينوى

أبرياء يحاكمون بتهم الإرهاب ورشى تبرئ أمراء “داعش"

فريق نينوى الاستقصائي/ حزيران 2020

كل يوم مر من الأحد عشر شهراً التي قضاها “سمير” الفتى الأسمر النحيل، في المعتقل إثر شكوى يصفها بالكيدية، كان يتساءل عن الجرم الذي ارتكبه، والمصير الذي ينتظره ان ثبتت التهمة الموجهة إليه “بسبب انتمائه الطائفي وفقر عائلته وضعف القضاء”.

كان الفتى الموصلي (17 عاما) ذو العينين الغائرتين، يحلم في كل حينٍ أن يفتح باب المعتقل وينادي أحدهم على اسمه ليخرج ويسترد حريته. وفي كثير من الليالي كان كابوس لا يتغير يطارده في نومه “منصة يقاد نحوها بالقوة وهو يرتجف وحبل يشد على عنقه”.

سؤال واحد ظل يردده في مراكز الاحتجاز التي انتقل بينها والتي اكتظت بالمعتقلين بتهم مختلفة بينها الارهاب: أي جريمة ارتكبتها لأقضي سنواتي في الحبس وأنتظر كل أسبوع والدتي كي تأتي بقلب مكسور وعيون دامعة لتنقل أخباراً كاذبة وتقول لي مطمئنة بأن جميع أفراد العائلة الفقيرة التعيسة بألف خير.

أوقِف سمير مطلع عام 2019، وفقاً لشكوى مفادها أنه بايع تنظيم داعش وانتمى إليه خلال فترة سيطرته على الموصل (2014-2017) وتدرب على يد عناصره وساهم معهم في عمليات قتالية.

الفتى ظل ينفي تلك التُهم ويُقسم على أنه فكر بالالتحاق بالتنظيم تحت ضغط الفقر والعوز، وانه قضى نهارا واحدا مع عناصره، تلقى خلاله درسا تعبويا فقط ثم عاد الى بيته دون رجعة بعد أن رفضت عائلته انضمامه، حتى وإن ماتت من الجوع.

“سمير” واحدٌ من مئات المعتقلين، في مراكز الاحتجاز العراقية، من ضحايا الشكاوى الكيدية والوشايات والتقارير الأمنية غير الدقيقة، والتي حتى مع ثبوت براءة بعض أصحابها فانهم لا يحصلون على حريتهم بسبب الإجراءات البيروقراطية وحلقات الفساد المتداخلة وتعطل تنفيذ قرارات الإفراج الصادرة من محاكم ابتدائية تبطلها قرارات محاكم التمييز، وفقاً لتصريحات أسر معتقلين ومحامين ونشطاء مدنيين.

اعتراف تحت التعذيب

يقول “سمير” الذي التقيناه في بيته جنوبي الموصل مطلع آذار 2020، بعد ثلاثة أشهر من الإفراج عنه: “طوال أشهر السجن الأولى كنت أجلس في الزاوية التي تقابل باب المعتقل منتظرا مناداة اسمي لإطلاق سراحي أو للقاء والدتي التي كانت تعدني بأخبار مفرحة بعد رشوة أحد الضباط، لكني في الأشهر الأخيرة توقفت عن الأمل”.

ويصف أول أسبوع له في المعتقل بالقول “كان جحيما”. يصمت لبرهة ويواصل بصوت مرتجف وكلمات متقطعة “كل يوم كان يتم تعذيبي… يتم تعليقي وجلدي بأنبوب بلاستيكي، حتى اعترفت بانتمائي للتنظيم، مع أني لم أكن معهم أبداً… بشكوى كيدية بقيت لنحو عام أواجه ذلك الظلم”.

يضيف وهو يتلفت حوله، كأنه يريد التحقق من عدم وجود أحد يترصده “الساعات مرت علي كسنوات، خاصة حين كانت أمي تغيب عن موعد زيارتها المعتاد أو حين اسمع أن الضابط الذي دفعوا له المال لتسريع الإفراج عني أخلف بوعده”.

يواصل كلامه، وهو يفترش أرضية غرفته “في تموز 2019، حين كنت أنتظر بشرى منها بأن مشكلتي سويت عقب تأمين مبلغ الفي دولار للضابط، لكنها لم تأت، أحسست بأن نهاية العالم قد حلت.. خطرت ببالي ملايين الأشياء السيئة”.

يومها كانت والدته خارج البوابة تخوض شجارا حاميا وعقيماً مع الحارس، ثم توسلت به والعرق يتصبب على وجنتيها المحترقتين، لإضافة اسمها إلى سجل الزائرين. كانت تصارع لتقول لابنها إنها دفعت مبلغ الرشوة للضابط وسيتم إطلاق سراحه قريبا. لكن الحارس لم يسمح لها بذلك، سحبها بقوة من داخل الصف لتسقط على الأرض وهو يردد “أنتم الدواعش تثيرون الفوضى في كل مكان”.

صور نشرتها هيومن رايتس ووتش في 2019

تهم كيدية تبطلها رِشاوى

أكثر من عشرة معتقلين سابقين أو أفراد من أسر معتقلين، التقاهم فريق التحقيق، أكدوا أن الاعتقالات جاءت وفق اتهامات كيدية، بعضها نتيجة مشاكل اجتماعية أو منافسة في العمل.

تقول أم سمير إن ابنها اعتقل بشكوى من الجيران بعد شجار بين الأطفال تطور الى خلاف. ومع صعوبة سحب أي شكوى لأنه سيعرض صاحبها للمساءلة ذهب سمير ضحية لذلك الشجار.

توقفت عن الحديث، إثر قرع قوي على الباب الخارجي للمنزل، أجفل منه سمير، قبل أن تواصل حديثها حين علمت أن الطارق واحدُ من الأقارب جاء مهنئا بسلامة إبنها: “بعد أسابيع من الاعتقال ومع اعتراف سمير تحت التعذيب بانتمائه لداعش واثر التواصل مع محامين عرفنا بأن إنقاذه عبر الوسائل القانونية غير ممكن، وعقب نصائح من أشخاص عاشوا تجارب مماثلة جربنا التواصل مع وسطاء يستطيعون الإفراج عن المعتقلين مقابل المال”.

دفعت عائلة سمير لأحد الضباط ألف دولار، لكنه اختفى، وقيل بانه نُقل، وهو أمر تكرر مع معتقلين آخرين تعرضوا للنصب من منتسبين في الأجهزة الأمنية ادعوا قدرتهم على الإفراج عن معتقلين.

بعد أشهر عادت العائلة لتدفع مبلغ الفي دولار جمعتها من متبرعين لضابط آخر، وتم بالفعل إطلاق سراح سمير. لكن تطلب الأمر ثلاثة أشهر من الانتظار بسبب مشاكل حصلت بين الضابط وشخص آخر مسؤول.

يقول وهو يبتسم: “لم أصدق عندما حكم القاضي ببراءتي.. ظننت أنها لعبة جديدة.. كيف تغير كل شيء؟ … حتى المحامي كان يتحدث عن حكم مخفف وأستبعد التبرئة بحجة أنني اعترفت بانتمائي للتنظيم”.

 

ثلاث سنوات قيد التحقيق

“سيف” شاب أشقر ثلاثيني، يعمل في مجال تصليح السيارات، واحدٌ آخر من ضحايا الشكاوى الكيدية، كما يقول، قضى بسببها ثلاث سنوات في الحجز، ذاق خلالها صنوفاً من التعذيب كسرت على أثرها احدى أضلعه وتعرضت ساقه لالتهابات حادة، على الرغم من عدم اعترافه بالانتماء للتنظيم وعدم وجود أدلة تدينه.

مال وجهه الى الاصفرار وهو يستذكر سنوات الاعتقال: “تم ضربي مرارا، لكني رفضت التهم … كنت أخشى أن تحل نهايتي إذا اعترفت بشيء لم أقم به، خاصة وان عائلتي لا تملك مالاً لتدفعه لقاء الحصول على براءتي.. انتظرت كل تلك السنوات في ظل إجراءات بيروقراطية وتأجيلات ومحاولات تسويف وابتزاز ليتم في النهاية الإفراج عني”.

ذلك التأخير في حسم الدعاوى، والذي يواجهه مئات المعتقلين لأسباب أمنية، يرجعه نواب ومحامون ونشطاء مدنيون إلى كثرة أعداد المعتقلين، والى غياب أدلة تدين الكثيرين منهم، وعمليات الابتزاز والتسويف التي يمارسها بعض الضباط.

يقول عضو مجلس المفوضين بالمفوضية العليا لحقوق الانسان علي البياتي، إن مشكلة التأخير في حسم الدعاوى “واحدة من أبرز الانتهاكات الحاصلة في مراكز الاحتجاز (تسفيرات ومواقف) في المحافظة”.

وبحسب البياتي فأن ما يتراوح بين ثلث الى نصف المحتجزين مضت عليهم فترات تمتد من ستة أشهر إلى سنتين دون حسم قضاياهم. وأن بعض الحالات تطلب حسمها ثلاث سنوات، والحجة هي كثرة اعداد المحتجزين.

والى جانب مشكلة الاكتظاظ الشديد، تورد مفوضية حقوق الانسان انتهاكات أخرى تحصل في مراكز الاحتجاز بينها منع لقاء المتهمين بالمحاميين لإعداد الدفوع امام المحكمة خاصة في قضايا الارهاب، وانقطاع الزيارات العائلية حتى في الظروف الطبيعية.

وتقدر المفوضية أعداد الموقوفين والنزلاء في تسفيرات ومواقف نينوى حاليا وفي مختلف القضايا بنحو (٥٥٠٠) شخص (هم من اعتقلوا بعد تحرير نينوى نهاية 2017)، بينهم نحو(3500) موقوف و(2000) محكوم، ويصل عدد الأحداث (دون 18 سنة) المحتجزين بقضايا ارهاب الى نحو ألف حدث.

ويؤكد البياتي أن الاكتظاظ في مراكز الاحتجاز يتراوح بين 150% الى 200% من طاقتها الاستيعابية وخاصة في مواقف تسفيرات الفيصلية في الجانب الأيسر للموصل. وقضاء تلكيف وموقف قسم التحقيقات.

وينبه الى أن المراكز شهدت تسجيل معدلات وفيات مرتفعة، بينها (180) حالة وفاة في العام 2018، و(40) حالة في 2019، و(22) حالة لغاية حزيران 2020، عزتها الجهات المعنية لأسباب مرضية متعددة بين فشل كلوي نوبة قلبية واحتشاء عضلة القلب أو سكتة دماغية، على الرغم من أن “40% من المتوفين هم من الشباب ومن مواليد تتراوح بين 1985 و1995″.

وكان تقرير لمنظمة هيومان رايتس وش، صدر في تموز 2019 قد كشف عن اكتظاظ كبير بأماكن الاحتجاز الثلاثة في نينوى. وذكر ان الطاقة الاستيعابية القصوى لمراكز الحبس الاحتياطي (تلكيف، الفيصيلة والتسفيرات) تبلغ (2500) محتجز، ومع ذلك يتواجد فيها ما لايقل عن (4500) محتجز يعيشون ظروفاً سيئة ومهينة”.

صور نشرتها هيومن رايتس ووتش في 2019

أرقام صادمة

بحسب داوود شيخ جندي عضو مجلس محافظة نينوى السابق، هناك (12000) مذكرة اعتقال صادرة من السلطات في نينوى عقب تحرير المحافظة، بحق مطلوبين متهمين بانتمائهم لداعش.

ويعتقد جندي بأن عدداً كبيراً منها مذكرات جاءت وفق شكاوى كيدية، خاصة أن غالبية عناصر التنظيم المتورطين في جرائم قتلوا أو هربوا بعد إعادة السيطرة على المناطق التي كانت تحت نفوذهم.

ويقول النائب عن محافظة نينوى في البرلمان العراقي شيروان دوبرداني، بان هناك “آلاف المعتقلين من أهالي نينوى بسبب شكاوى كيدية، وهناك ألف شخص محكوم بالإعدام، وأكثر من ألف آخرين قيد التحقيق، وهناك مئاتٌ من النساء والأحداث متهمون بالإرهاب”.

ويؤكد دوبرداني بأن معظم الاعتقالات التي جرت عقب تحرير المدينة حصلت “بشكوى من مخبر سري دون تقديم أدلة مادية”، وان آخرين اعتقلوا إثر شكاوى عادية في قضايا مدنية أو جنائية “وبعد خضوعهم للتدقيق الأمني تم احتجازهم لفترات امتدت لأشهر” كون أسمائهم مطلوبة أمنيا إما لأنها تتطابق مع أسماء عناصر في داعش ما يفرض التحقيق معهم أو لأنهم مطلوبون بقضايا أخرى، مبينا أن البعض منهم إعترفوا تحت التعذيب بانتمائهم لداعش.

ونبه الى إن “التصاريح الأمنية التي تثبت كون الشخص غير مطلوب أمنيا، أصبحت تقدم بمقابل مالي، وتحولت الى تجارة لدى بعض العناصر الفاسدة في الأجهزة الأمنية… لذلك نرى الكثير من الإرهابيين طلقاء، ونرى كذلك بان كثيراً من الأشخاص يعتقلون أثناء مراجعتهم للتدقيق الأمني وتطول التحقيقات معهم أحيانا بقصد الابتزاز”.

والتصاريح الأمنية منذ 2017 أساسية للحصول على بطاقات الهوية الشخصية والوثائق المدنية ودونها تصبح حرية التنقل مقيدة، ويفقد الشخص حقه في التعليم والعمل وتقديمات الرعاية، وشهادات الميلاد والوفاة اللازمة للحصول على الإرث أو الزواج مرة أخرى.

ولا يمكن لأي مواطن مراجعة أي دائرة حكومية لإنجاز معاملة أو إصدار أي وثيقة رسمية، اذا لم يقدم تصريحاً أمنياً يؤكد سلامة موقفه.

 فقرات من تقرير لجنة تقصي الحقائق

 

الابتزاز المسبق وثمن البراءة

علاوة على الشكاوى الكيدية، تتم بعض الاعتقالات بتهم مفبركة من بعض المتنفذين في الأجهزة الأمنية والحشد الشعبي لغرض الابتزاز وإجبار أصحابها على دفع مبالغ مالية أو مواجهة تهم تبقيهم بمراكز الاعتقال التي تشهد ظروفا سيئة جدا في ظل الزحام والتعذيب النفسي وأحيانا الجسدي.

وهذا تحديداً ما يدعيه “س .م” الذي يملك أحد المعامل الخاصة بالصناعات الغذائية في نينوى. يقول انه اضطر ولمرتين متتاليتين دفع مبالغ مالية لكي يبعد عن نفسه اتهامات كيدية تكفي لسجنه لسنوات طويلة أو ربما حتى إعدامه “في المرة الأولى دفعت مبلغا صغيرا لكن في الثانية طلبوا مني عشرين ألف دولار مقابل ضمان الحماية لي ومنع أي طرف من عرقلة عملي، وحين رفضت تم اعتقالي لأكثر من أسبوع واضطررت في النهاية الى دفع ضعف المبلغ للإفراج عني”.

“ثامر”، الذي يعمل في معارض بيع وشراء السيارات، أضطر إلى دفع مبلغ (2500) دولاراً للإسراع في عملية الإفراج عنه رغم تبرئته من تهمة الاستيلاء على سيارة كان قد اشتراها إبان سيطرة داعش على نينوى. وقتها ومع عدم وجود دوائر حكومية وأوراق رسمية لتسجيل السيارة باسمه تم الاكتفاء بتحرير ورقة دونت فيها تفاصيل عملية الشراء.

لكن بعد استعادة المدينة وارتفاع أسعار السيارات الى خمسة أضعاف، رفض صاحب السيارة السابق تحويل السيارة وتسجيلها باسم “ثامر” رسمياً في دائرة المرور واتهمه بأخذ سيارته عنوة بمساعدة عناصر من داعش.

يقول:”اثبُت بشهادة الشهود إنني اشتريت السيارة ودفعت ثمنها في حينه وتمت تبرئتي ورغم ذلك بقيت رهن الاعتقال بحجة التدقيق الأمني الذي استمر نحو شهرين، ما اضطرني وبعد مساومات إلى دفع (2500) دولار الى أحد الضابط الذي وعد بتسريع عملية المسح الميداني والإفراج عني”.

يرى ناشط مدني معروف في نينوى رفض ذكر اسمه خوفا من الملاحقة، بأن عملية إطلاق سراح المعتقلين برِشاوى، تحدث في كافة مراحل الاعتقال، خاصة في التحقيق الأولي وقبل صدور الأحكام، إذ يمكنهم وبسهولة التلاعب بالأوراق التحقيقية في ظل عدم وجود أدلة مادية واعتماد المحققين والقضاة عادة على ما ورد في الشكوى وشهادات الشهود”.

وحذر من أن ذلك، سيسمح للكثيرين من أفراد التنظيم بالحصول على البراءة” وقد حدث ذلك”. ثم تابع “أعرف أكثر من شخص كان له دور أو علاقة مباشرة مع التنظيم.. جرى اعتقالهم في البداية لكنهم خرجوا لاحقا مقابل مبالغ وصلت الى عشرة الآف دولار.. بعضهم رحل إلى خارج البلاد أو أماكن أخرى داخلها وآخرون مازالوا يتواجدون في الموصل ولا أحد يتعرض لهم رغم أن حقيقتهم معروفة”.

دولتكم فاشلة ونظامكم فاسد!

فريق التحقيق، تواصل عبر موقع فيسبوك، مع “أ.ب” الذي كان أميرا في تنظيم داعش، واعتقل لفترة وجيزة في الموصل بعد استعادتها، ويقيم في تركيا حاليا. قال ردا على كيفية خروجه من السجن: “دولتكم فاشلة، ونظامها فاسد، أنا اشتريت براءتي مقابل (15000) دولار، أما في الدولة الإسلامية فمن يتم إدانته لا يمكن تبرئته حتى لو دفع أموال الكون كلها فهي دولة الحق والعدل”.

كما تمكن فرق التحقيق من الاطلاع على قائمة متداولة من قبل أحد الأجهزة الأمنية تضم أسماء 150 شخصا منتمين للتنظيم تم إطلاق سراحهم بمقابل مالي من قبل جهات مختلفة. القائمة تظهر أسماء الأشخاص والجهات التي توسطت لإطلاق سراحهم.

ويقول ضابط عسكري، رفض ذكر اسمه، أن “منتسبين فاسدين يتصلون ببعض من وردت أسماؤهم في القائمة ويبتزونهم مقابل عدم تحريك ملفاتهم أو إخفائها”.

إحدى عمليات الابتزاز تمت من قبل أحد منتسبي الأجهزة الأمنية، واستهدفت صاحب صيدلية في مدينة الموصل، وانتهت باعتقال المنتسب بالجرم المشهود، بعد استنجاد الضحية بمعارف له في الأجهزة الأمنية لإنقاذه.

يقول “اتصل بي شخص هاتفياً وذكر بان أسم صيدليتي ورد في ملف أمني خطير تعلق بالاتجار بالمخدرات والتعاون مع داعش، وأعلن إمكانية تسوية الأمر لأنه غير مقتنع بالتهمة، لكن توجب عليّ أن أدفع له لكي يغلق القضية”

وأضاف “وافقت بعد جدل طويل على دفع مبلغ ألفي دولار مقابل إغلاق الملف، وتم تحديد مكان وزمان تسليم المبلغ في شارع عام وسط الموصل، وهناك تم اعتقاله من قبل القوات الأمنية التي استعنت بها عن طريق قريب لي”.

النائب عن محافظة نينوى بالبرلمان العراقي شيروان دوبرداني، يؤكد المعلومات المتعلقة بالإفراج عن عناصر من داعش “نعم الكثير منهم باتوا طلقاء يتحركون بحرية في الموصل عقب حصولهم على التبرئة مقابل مبالغ مالية أو نتيجة تدخلات.. البعض اكتفى بتغيير مكان سكنه”.

ويشير الدوبرداني، الى انتشار حالات الابتزاز من قبل بعض الضباط “ذلك يحصل في مرحلة التحقيق مع الموقوفين، وفي بعض الأحيان عند طلب التصاريح الأمنية”.

ويقول انه في مرحلة سابقة كانت قوائم المطلوبين بشبهة الإرهاب تضم سبعين ألف شخص “لم يتم اتخاذ الإجراءات ضد غالبيتهم لعدم وجود سجون لاحتجاز هذا الرقم الكبير، كما إن الكثيرين منهم أبرياء وردت أسماؤهم وفق تهم كيدية أو بالخطأ أو نتيجة تشابه أسماء مع عناصر في التنظيم”.

ويُنبه تقرير للجنة تقصي الحقائق البرلمانية التي شكلت في تشرين الثاني 2018 لمتابعة واقع الموصل، الى “سهولة ابتزاز ميسوري الحال بقضايا وهمية وزجهم بالتوقيف بإحضار اثنين من شهود الزور وبعد الحصول على المال يتم إطلاق سراحهم “.

ويشير التقرير، الذي ضمت اللجنة التي أعدته (43) نائباً، إلى “تأخر عرض الموقوفين إلى القاضي لمدة تتجاوز العامين أحياناً، مما يزيد من مأساة المعتقلين وعوائلهم ويخلق بيئة معادية للدولة”، داعيا إلى “حسم قضايا الموقوفين وفق سقف زمني محدد”.

 

محامون متخصصون

وسط تزايد أعداد المعتقلين لأسباب أمنية، تخصص عدد من المحامين بقضاياهم، وهؤلاء يتقاضون أجورا عالية جداً، مبررين ذلك بأنهم يدفعون للمنتسبين الأمنيين للتمكن من الإفراج عن موكليهم.

لكن محامين منافسين لهم، يتحدثون عن اتفاقات مسبقة بين المنتسبين الأمنيين وأولئك المحامين في القضايا التي يتابعونها. يقول محامي، رفض الكشف عن هويته: “في قضايا الارهاب لا يمكن لكل محامي الدفاع عن أي معتقل، هناك مجموعة محددة بالذات يسمح لها بذلك، وأحيانا يتم إخبار ذوي المعتقل باسم المحامي الذي يمكنهم اللجوء إليه

ويضيف:”عدد المحامين الذين يترافعون في قضايا المعتقلين ممن يبدون استعدادا لدفع المال مقابل الإفراج عنهم أو تخفيف الأحكام ضدهم، لا يتعدى أصابع اليدين.. المحامون الآخرون لا يستطيعون التوكل في هذه القضايا بسبب الضغوطات والملاحقات التي قد يتعرضون لها”.

النائب قصي عباس، من تحالف الفتح، ينفى وجود عمليات اعتقال عشوائية، ويؤكد أن عمليات الاعتقال لاتتم إلا بعد استحصال مذكرات قضائية وأحيانا تجري بمشاركة قوات من الحشد حسب قاطع المسؤولية مع العمليات المشتركة للجيش.

وبشأن استمرار الاعتقالات حتى بعد ثلاث سنوات من تحرير المدينة، يقول عباس الذي يعرف بدعمه لوجود الحشد الشعبي في سهل نينوى، إن “معلومات الجهات الأمنية تظهر بأن آلافاً من مذكرات القبض بنينوى لم تنفذ عقب التحرير لأسباب عديدة من بينها عدم وجود أماكن احتجاز تستوعب هذه الأعداد الكبيرة”.

لكن النائب لا ينفي الاعتماد على المخبرين السريين وشهادات مواطنين عبر إفادات قد تكون في بعض الأحيان “مجرد وشايات بحق أناس أبرياء وهي ما يمكن ان تثبته التحقيقات والمحاكم”.

ويرد عباس على اتهامات نشطاء مدنيين بأن قادة الحشد يتحكمون بالملف الأمني ولهم نفوذ كبير يصل الى حد إمكانية إطلاق سراح أي معتقل حتى لو كان مجرماً، قائلا: “لا استبعد وجود حالات إطلاق سراح استنادا الى علاقات شخصية أو محسوبية وربما حتى الإفراج مقابل مبالغ مالية لكن على نطاق ضيق”.

تحسن نسبي

النائب عن محافظة نينوى في البرلمان العراقي عبد الرحيم الشمري، الذي يتابع ملف الانتهاكات في سجون نينوى منذ سنوات، يؤكد استمرارها على الرغم من تراجع نسبتها في العام الجاري.

يقول ان “عدد المعتقلين في نينوى عقب التحرير مباشرة كان يصل الى ستة آلاف معتقل لدى استخبارات الشرطة (وزارة الداخلية) وان نسبة كبيرة منهم اعتقلوا بسبب تشابه الأسماء وفي ظل وجود ضباط سيئين يعملون اعتمادا على آلية الشكاوى والمخبر السري والابتزاز”.

ويستدرك الشمري “في عام 2019 حصل تطور إيجابي بعد نجاحنا في تغيير هؤلاء الضباط والإتيان بآخرين فانخفض الرقم من ستة آلاف محتجز الى نحو (400) فقط، ونحن نتابع ملفاتهم بنحو مستمر من أجل تسيير قضاياهم الى القضاة المختصين للبت فيها، وهذا الملف يسير اليوم بالاتجاه الصحيح ولم يعد ملفا يزعجنا كثيرا كما كان في السابق”.

وعن الإفراج عن معتقلين مقابل مبالغ مالية، يرد الشمري “نعم هذا يحصل والمبالغ تتراوح بين ألفين الى خمسين ألف دولار، فعصابات السمسرة والابتزاز مازال لها وجود، وهنالك ضباط سيئون، لكن وبشكل عام الوضع أحسن بكثير اليوم مقارنة بما كان عليه قبل سنتين، إذ لم يكن يعتقل أي شخص دون أن يتم ابتزازه ماليا أو يتعرض للتعذيب.. الآن تغير الوضع بعد نقل ضباط ومعاقبة وسجن آخرين، وعمليات الاعتقال قلت بصورة كبيرة كما عمليات الابتزاز، لكنها لم تتوقف”.

ويعزو النائب تمكن قياديين في داعش الإفلات من العقاب، الى إلزام القانون وجود مشتكٍ وشاهدين يؤكدان أن الشخص منتمٍ لداعش وارتكب جرائم، لكن “المشتكون لا يستطيعون الأتيان بالشهود، الذين يرفضون التعاون ربما خوفا، لذا لا تتوفر أدلة كافية لإدانتهم وبالتالي الكثير منهم نجح في النهاية بالخروج”.

ويذكر تقرير لمنظمة هيومان رايتس وش، صدر في العام الجاري، أن القوات الأمنية “اعتقلت تعسفا أشخاصا مشتبه بانتمائهم إلى داعش، واحتجزت العديد منهم لعدة أشهر”، وينقل عن شهود وأقارب محتجزين قولهم ان قوات الأمن “احتجزت بانتظام المشتبه بهم دون أي أمر من المحكمة أو مذكرة توقيف، وفي الغالب لم تقدم سببا للاعتقال”.

وينص الدستور العراقي على عدم توقيف أي متهم إلا بقرار من القضاء، وعلى قاضي التحقيق أن يستجوب المتهم خلال أربع وعشرين ساعة من حضوره بعد التثبت من شخصيته وإحاطته علما بالجريمة المنسوبة إليه. وهذا ما لا يحدث في كثير من الحالات.

المحامي أحمد فتح الله مراد، ذكر بان المادة (109) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي تلزم قاضي التحقيق بتوقيف المتهم لمدة خمسة عشر يوماً في كل مرة يتم توقيفه فيها. وتلزم المادة ألا تزيد مدد التوقيف بحد أقصى عن ستة أشهر. ولا يسمح قانون رعاية الأحداث توقيف الحدث إلا إذا كانت الجريمة التي ارتكبها عقوبتها الإعدام وكان عمره قد تجاوز الرابعة عشر.

مازلت في المعتقل

وفقاً لرصد قام به فريق التحقيق للموقع الرسمي لعمليات نينوى فقد تم اعتقال ما مجموعه (393) شخصا بينهم (193) بتهمة الإرهاب في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019. وهذا يؤشر حجم الاعتقالات المستمرة حتى بعد عامين من تحرير نينوى.

طوال اسبوعين حاول فريق التحقيق التواصل مع قيادة عمليات نينوى تلفونيا وعبر الأنترنيت، للتعليق على الشهادات والتصريحات التي حصل عليها معدو التحقيق بشأن الانتهاكات، باعتبارها الجهة التي تدير الملف الامني، لكن قائد العمليات رفض الرد الا من خلال لقاء مباشر، وهذا كان متعذرا بسبب حظر التجوال.

هذه الفوضى الأمنية والخروقات في الجهاز القضائي، التي فتحت الباب أمام الاعتقالات العشوائية والشكاوى الكيدية عقب تحرير نينوى، كما يقول الناشط في مجال حقوق الإنسان محمد فوزي “هي التي تهدد اليوم استقرار أكبر محافظات المكون السني، وهي التي قد تعيدها الى زمن ما قبل سقوطها المدوي بيد داعش والذي حصل خلال أيام نتيجة الفساد الأمني والفوضى الإدارية وإبقاء المظالم”.

الشاب “سمير” وبعد نحو ستة أشهر من إطلاق سراحه، لم يستعد حياته الطبيعية، ولا يعرف إن كان بإمكانه العودة للدراسة التي فُصل منها. هو مازال يتناول مهدئات وصفها له الطبيب بسبب اضطرابات نفسية وكوابيس متكررة تراوده، يقول “كل يوم تمر علي لحظات اعتقد فيها بأنني مازلت في المعتقل.. حين يُطرق الباب بقوة اشعر انهم قادمون لأخذي مجدداً… لقد أطلقوا سراحي لكني مازلت في المعتقل”.

 

*انجز التحقيق بدعم وتحت إشراف محرري شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18013}" data-page="1" data-max-pages="1">