“محمية ابن هانئ” البحرية في اللاذقية تصارع وحوش البر
تفجيرات تدمّر البيئة والحياة البحرية
تفجيرات تدمّر البيئة والحياة البحرية
حازم مصطفى /كاتب وصحفي سوري مقيم في اللاذقية
تموز يونيو 2020
من المفترض أن تتمتع أي محمية (كما يدل اسمها) بحماية سلطات الدولة التي أحدثتها، إلا أنّ هذا لا ينطبق على محمية ابن هانىء في مدينة اللاذقية، مع وجود ذوي نفوذ، يقومو،ن ليس باختراق قوانين المحمية وتجاوزها فحسب، بل يذهبون أبعد من ذلك نحو استخدام التفجير والديناميت و”التنكة” والبارودة… وداخل إطار المحمية ذاتها، معرّضين بذلك البيئة البحرية للتخريب والانتهاك، فمن هؤلاء؟ ومن أين يستمدون قوتهم ونفوذهم؟ ولم يقومون بذلك أصلا؟
اليوم هو العاشر من شباط (فبراير) 2020، تضرب العاصفة الثلجية “كريم“ الشرق اﻷوسط بقوّة لم تشهدها المنطقة منذ زمن بعيد، ولأول مرّة منذ ربع قرن يصل الصقيع إلى الشواطئ السورية متسبّباً في شلل كامل ﻷي نوع من الحركة.
هذا الصقيع الصباحي القارس لم يمنع صيادين اثنين من توجيه قاربهما إلى حدود محمية “ابن هانئ” البحرية على طرف مدينة اللاذقية السورية شمالاً، مستغلين غياب أي نوع من الحركة أو الرقابة، ومتظاهرين برمي الشباك.
على مسافة قريبة ومن تحت الماء، يظهر غوّاص يشير للصيادين بحركة من يده وهو يقترب من القارب. وعلى الفور، ينزع أحدهما صمام اﻷمان لقنبلة يدوية ويرميها إلى مسافة عشرين متراً، فيما يغلق الباقون آذانهم بأيديهم. بعد ثوان قليلة يسُمع صوت انفجار يشق عباب الماء بارتفاع عدة أمتار. لقد تمت عملية التفجير بنجاح!
بعد الانفجار بأقل من دقيقة تظهر على سطح الماء أكوام من السمك ذات الحجم الصغير والمتوسط، وعلى الفور يقفز الغواص إلى المياه مجدداً ويبدأ بجمع اﻷسماك الطافية في قفص معدني، فيسحب الصياد القفص إلى القارب مستخدماً حبلاً، ويرمي للغواص بقفصٍ ثانٍ فارغ. تكرّرت العملية فيما وقف الصياد الثاني فوق القارب مراقباً المحيط بحذر وانتباه. وبعد أقل من عشر دقائق، عاد القارب باتجاه الشاطئ بأقفاصه، وعاد الهدوء إلى المنطقة كأن شيئاً لم يكن.
وفقاً لمنظمة الفاو : فإن غالبية التنوع الحيوي في البحر المتوسط (وهو عالٍ قياساً بغيره من البحار) يتركز أساساً من السطح إلى عمق 50 متراً، ويعيش تسعة أنواع فقط من إجمالي كمية الأنواع تحت عمق ألف متر، يضاف إلى ذلك أن متوسط عرض الجرف البحري القاري، حيث تقع غالبية التفجيرات، هو بين 2-16 كم، أي في حدود المحمية.
قنبلة تنتظر الانفجار تحت الماء
بعد أقل من ربع ساعة، هبط غوّاص من فريق التحقيق إلى المنطقة التي تم فيها رمي القنبلة.
“كان ضرورياً اﻹسراع بالتصوير تحت الماء في وقت قصير لكي نرى مباشرة أثر القنبلة في القاع وعلى الكائنات هناك”، يقول “سام عيسى” (42 عاماً/ مستعار) غوّاصنا المرافق الذي أنجز المهمة ثم خرج إلينا لنجلس في مكان محميّ من الرياح القارسة، نشعل ناراً مما توفّر من حطب. ثم تابع الشاب حديثه: “القنبلة وصلت إلى القاع ووقعت فوق طرف حيد مرجاني والأضرار كبيرة”.
يشرح الغوّاص أن “إشارة الغوّاص المرافق للقارب معناها وجود سرب سمك يمر في لحظة إشارته، لذلك كان على الصياد اﻹسراع برمي القنبلة مخافة فقدان أثره”. ويضيف أن “هذا النوع من التعاون بين الغواصين والصيادين غير متاح للعموم، فالغوص يحتاج أشخاصاً مدربين وذوي خبرة، وهم قلة”. و”لأن الوقت في شهر شباط (فبراير) ليس موسم صيد إذ يعتبر تشرين الأول (أكتوبر) والثاني (نوفمبر) ذروة الموسم، لم يكن بين اﻷسماك الملتقطة عدد كبير من الأسماك الكبيرة”.
(أسماك ميتة بسبب التفجير السابق، تم تقريب الصورة واختيار جزء منها للتوضيح، تصوير معد التحقيق، تاريخ التصوير: 25-2-2020/ خاص حكاية ما انحكت)
ووفقاً لـ “عيسى” فإن ما تخلّفه قنبلة تنفجر في الماء من أثر تدميري أكبر مما تسببه مثيلتها على اﻷرض بأضعاف، “فهي تدّمر مساحة أربعين متراً مربعاً من حولها محوّلةً التشكيلات الاسفنجية المرجانية إلى أنقاض، مع تدمير أساس غذاء الشعاب أي الصخر، وهو ما يؤثر بالتالي على كامل السلسلة الغذائية المرتبطة به، من بيوض اﻷسماك وصولاً إلى الطحالب، وهذا يؤدي إلى فراغ البحر من أشكال الحياة تدريجياً وتحوّلها إلى صحراء من الماء المالح”.
ويتابع: “يحتاج نمو كل 1سم من الشعاب المرجانية إلى عشر سنوات على اﻷقل، وبسبب استخدام الديناميت خسرنا منذ سنوات حيوان الاسفنج الذي يلعب دوراً مهماً في تنظيف مياه البحر، كما خسرنا مساحات كبيرة كانت مغطاة بالأعشاب البحرية”.
ولا يتوقف الأمر هنا، فكمية وعدد اﻷحياء التي تموت بفعل التفجير في العمق (ليس السمك فقط، بل مختلف أنواع الحياة) تزيد بأضعاف عن تلك التي في السطح. “يجمع الصيادون نسبة قليلة من السمك في حين تهبط اﻷكثرية إلى القاع بسبب تمزق الكيس الغازي (مثانة العوم) وهو عضو الطفو الرئيسي”.
ذلك كله دون نسيان التخريب الذي تتعرض له الطحالب البحرية، يضيف الصياد “أحمد” (36 عاماً، هاوي) الحاضر بيننا، وبينها أنواع طحالب يندر وجودها في البحر المتوسط. ويضيف: “السمك يملك ذاكرة عكس ما يعرفه الناس، وأي موقع يتعرض فيه للخطر وينجو منه لا يعود إليه. بعض أصناف السمك مثل عائلة اللقس إذا رأيتها في مكان، وترجع إليه لو بعد سنة، تجدها في نفس المكان، ويستفيد صيادو البارودة (هي بارودة تشبه البندقية العادية وفي مقدمتها سهم يوٌجه نحو الأسماك) من هذه الميزة في تحديد صخور في قاع البحر كنقاط علام يختبئ هذا النوع تحتها، لكن ما يحدث بسبب التفجيرات أن الصياد يعود ليتفقد (طامورته) فلا يجدها ولا يجد الصخرة للأسف”.
بعد أن استراح الغوّاص قليلاً، قال بصوت منخفض: “أثناء غوصي كدت أن اصطدم بقنبلة يدوية غير منفجرة، الله ستر، منظرها مرعب تحت الماء، لم أستطع الاقتراب منها بأي شكل خوفاً من أن تنفجر بين يدي أو قربي نتيجة حركة حيوان بحري، أو ربما إنسان، وقتها تقع الكارثة، ووقتها يقولون قضاء وقدر!”.
رغم التفجيرات الكثيرة في الساحل السوري، فإن حصة الفرد السوري من الأسماك سنوياً قياساً إلى مثيلتها العالمية هي أقل من كيلو مقابل 20 عالمياً و8 عربياً، حسب منظمة الفاو.
إغراء الصيد في محمية يتيمة
تقع المحمية شمال مدينة اللاذقية السورية حوالي 10 كم، وتعرف باسم محمية “رأس ابن هانئ“، نسبة إلى الصحابي “مسعود بن هانئ” إذ يوجد مسجد يحمل اسمه في منطقتها.
28 أيلول 2019
وكانت وزارة الزراعة أصدرت قراراً في العام 2000 يحمل الرقم 23/ت جعلها المحمية البحرية الوحيدة في البحر السوري بكامله (طوله 183 كم). في حين أن قرار تفعيل العمل في محمية أم الطيور الشاطئية الحراجية (مساحتها 10 آلاف دونم بين البر والبحر، المقرّة بالقرار الوزاري رقم / 15 / ت تاريخ 3/5/1999) ينتظر قراراً من الجهات الوصائية المحلية.
محمية ابن هانئ صغيرة المساحة مقارنةً بمساحات المحميات اﻷخرى في الدول المجاورة، إذ لا يتجاوز طولها 2.3 كم وبعمق 1.5 كم باتجاه البحر، بمساحة إجمالية ألف دونم. وكان هدف إعلانها محمية وفقاً لقرار إنشائها: “الحفاظ على الأنواع السمكية المحلية والمستوطنة وحماية أماكن تكاثرها، إضافة إلى الأحياء المائية النباتية والحيوانية الأخرى”.
وتتميز المحمية بوجود أنواع نادرة من المخلوقات والنباتات البحرية، إذ سجل التقرير الوطني لحماية وصون التنوع الحيوي وجود نوعين نادرين من الطحالب الحمراء على مستوى المتوسط في المحمية، يحمل أحدهما اسم syriaca Erytrotrichia.
في الساحل السوري.. مفاحم غير مرخصة
25 تشرين الأول 2019
وتم اختيار هذه البقعة البحرية محميةً وفقاً للدكتور “أديب علي سعد” رئيس الجمعية السورية لحماية البيئة المائية “لأن موقعها، وهو على شكل شبه خليج غني بالنباتات والطحالب، يؤمّن حماية الموائل الطبيعية للأسماك من اﻷنواء والعواصف، ويعيش فيها عدد من أبرز اﻷنواع المحلية مثل اللقس الصخري والسرغوس والقجاج، الغريبة، واﻷنواع العابرة مثل سمكة البوق، وكلها أنواع مطلوبة ومرغوبة في سوق السمك المحلي وأسعارها مرتفعة مما يجعل الصيد في المحمية حلماً لكثير من الصيادين”.
يقول الصياد “نادر، ح” (45 عاماً) من منطقة الشاطئ اﻷزرق القريبة: “إن بيع قفص واحد من نوعية جيدة كما هو الحال في سمك المحمية، بوزن متوسط 15 كيلو، يحقق مبلغاً مالياً بين 40-60 ألف ل.س (40-60 دولاراً)، وهو رقم لا يحصل عليه صياد الصنارة “ولو شنق حالو” (تعبير محلي. سعر كيلو اللقس الرملي يبلغ 50 ألف ل.س (50 دولار)، إلا أن هذه النوعية في طريقها للانقراض فمنذ سنوات لم نعد نشاهدها هنا”.
مراكز مراقبة… بلا مراقبة فعلية
المحمية غير مسوّرة من أي جانب من جوانبها، البرية أو البحرية، ولكن يوجد في موقع المحمية مركز مراقبة تابع لمديرية الزراعة (في الطابق الثالث من مركز البحوث وآخر أرضي) مناوب على مدار اليوم يعمل فيه (24) عنصراً وفقاً لحديث سابق للمهندس “محمد زين الدين” مدير عام الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية “يتولون مراقبة وحماية حدود المحميّة البحريّة الممتدّة من المعهد العالي للأبحاث البحرية وحتى فنار ابن هانئ”.
يقرّ العامل “علي” (52 عاماً) من العاملين في مركز المراقبة أن عملية المراقبة غير مجدية بالنسبة لحماية المحمية حالياً. يقول: “نحن تابعين لمديرية الزراعة، ولسنا جهة أمنية أو رقابية أو قانونية، قوتنا في المنع محدودة، وحدهم صيادو الصنارة نقدر عليهم، فيأتون للصيد هنا بمعرفة اﻹدارة في أوقات معينة، وهؤلاء يراعون الاتفاق بحيث يخرجون من المنطقة عند الظهر كل يوم”.
بشكل رسمي، يتابع علي قائلا: “على مجموعات العمل الأربع (4 كل مناوبة) منع دخول قوارب الصيد والصيادين الى هذه المنطقة أو إقامة مشاريع ضارة بالأحياء المائية منعاً باتاً“، حيث ألزمت وزارة الزراعة عملاً بكتابها تاريخ 15 /9 /2001 بالتعاون مع المديرية العامة للموانئ السورية كافة الصيادين، سواء كانوا هواة، راجلين، صيادي قوارب، وقوارب الصيد الجارف العاملة في المياه الإقليمية، بكتابة تعهد خطّي لدى منحهم تراخيص الصيد، بعدم دخول حرم المحمية أو الصيد فيها تحت طائلة سحب التراخيص واتخاذ الإجراءات القانونية ويطبق على المخالفين العقوبات المنصوص عليها في قانون حماية الأحياء البحرية رقم 30 لعام 1964). لكن كل هذا الكلام وفق العامل السابق “حقو نص فرنك، ﻷن الدراويش هم من يطبّق عليهم، أما من يأتون ومعهم روسيات وكلاشنكوفات…. نعمل لهم شاي”، وفق قول علي.
ويبلغ عدد الصيّادين المسجلين في نقابة الصيادين قرابة ألفي صياد، ومثله تقريباً لقوارب الصيد. يقول العامل “أبو محمد” (59 عاماً): “زادت أعداد الصيادين بسبب قلة الشغل، صارت شغلة من ليس له شغل، موظفون وطلاب وعساكر، الجوع هلك الناس ونحن، يعني كبشر، أهم من قصص البيئة (تاعكن)”. وحين نسأله عن الأجيال القادمة، يضحك ويقول: “لهم الله”.
(مبنى البحوث وبرج المراقبة ويلاحظ الشباك في المياه ـ تصوير معد التحقيق تاريخ التصوير:2/2/2020 / خاص حكاية ما انحكت)
(برج المراقبة خالياً في يوم عطلة رسمية حيث يفترض وجود حرّاس، تصوير: معد التحقيق، تاريخ 19/2/2020./ حكاية ما انحكت)
بالاتفاق مع أحد الصيادين من أهالي المنطقة يسكن بالقرب من المحمية وعبر عملية رصد يومي، تمكنا من توثيق 67 تفجيراً بالديناميت في الفترة بين 5 كانون الثاني (يناير) وأول آذار (مارس) 2020، غالبيتها أثناء أوقات الدوام الرسمي، وبعض منها وقع ليلاً، مع الانتباه إلى سوء أحوال الطقس التي ناهزت عشرين يوماً، وهذا يعني أن المعدّل اليومي هو انفجارين تقريباً، في موسم هو ليس الأفضل للصيد.
وحسب الصياد نفسه، فإن التفجيرات تمت في أرجاء المحمية بواسطة قوارب بنسبة 80%، فيما ألقى شخصان قنبلتين من الشط في وقت تواجد فيه صيادون.
وتنفذ غالبية التفجيرات من على مسافة بين 200-500 متر عن الشاطئ وأحياناً إلى 1 كم في عمق البحر، سواء عبر القوارب أو عبر الغواصين المساعدين للصيادين (وقد يكونون هم صيادين). يقول “خالد”: “السبب هو أن اﻷسماك تأتي باتجاه الشاطئ بحثاً عن الغذاء أيام الدفء، وفي الشتاء تتجه للعمق”.
ضرب موظف من المحمية… دروسٌ للقادمين؟
حرب على غابات الساحل السوري… من يحرقها عمدا؟
05 حزيران 2019
في السنوات السابقة للحرب كان الصيد ممنوعاً كلياً في المحميات السورية بفعل قوانين شديدة وتنفيذ صارم لها من قبل السلطات المحلية، بما فيه صيد الصنارة. وكان الوضع جيداً على العموم وفقاً لحديث مهندس كان يشغل موقعاً هاماً في إدارة المحمية، هو “أحمد علي” (52 عاماً/ اسم مستعار) في لقاء مباشر معنا، مشيراً إلى أن سبب القبول بالمنع يعود إلى قوة جهاز الدولة (الخوف) وليس بسبب الالتزام الطوعي، وذلك ﻷن “فكرة المحمية، عند الناس أو الصيادين، هي منع ممارسة الصيد في منطقة لطالما اصطادوا بها، إن لم يكن هم، فآباؤهم، ولذلك فإن منعهم من الصيد هنا كارثة، أما قصة الموارد والاستدامة فهي بالنسبة لهم خرافة فالرزق على الله”.
يقول المهندس الذي غادر المحمية إلى غير رجعة: “حين كنا في المحمية منعنا الصيد بالقوارب والشباك المعدنية والجرف إلا صيد الصنارة لمدة ساعتين في أيام محددة، ونمنعه كلياً وقت اﻹباضة أو التفريخ، فهذا النوع من الصيد لا يشكل ضغطاً على المخزون ولا يؤدي إلى المساس بالبيئة الآمنة لتكاثر الأسماك وغيرها”.
لكن هذا المنع لم يعجب بعض الصيادين ممن وجدوا اﻷمر تحدياً لهم ولسلطتهم، يقول متابعا لحكاية ما انحكت: “كانوا يأتون إلينا للسماح لهم بالصيد في حرم المحمية بالقوارب، وكنا نرفض دوماً، رغم عشرات الاتصالات الهاتفية من فلان ومن علتان من أرباب المصالح والمواقع في المدينة، فما كان منهم إلا أن هددونا عدة مرات بالضرب والقتل، إلا أننا قاومنا كل هذه التهديدات مستندين إلى قوة موقفنا القانوني”.
في عالم الصيادين هناك مثل يقول: “من يستخدم الديناميت لجني السمك اليوم
لن يجد أطفاله سمكة واحدة لاصطيادها في المستقبل”.
كانت نتيجة “هذا العناد” وفق حديث المهندس تعرضه للضرب بقصد القتل، يقول: “بينما كنت خارجاً يوم 12/5/2017 مساء من حرم المحمية قطعت علي الطريق سيارة من نوع “فان” بدون لوحة تسجيل. اضطررت للتوقف، وإذ ذاك نزل ثلاثة أشخاص ملثمين واتجهوا إلى السيارة، فتح أحدهم الباب وسحبني من مقعدي وانهال عليّ ضرباً بعصا كانت معه، فيما قام الشخصان اﻵخران بتكسير زجاج السيارة، استيقظت في المشفى بعد قرابة ساعة مكسور اليد مع تشوهات في الوجه والقدمين والحوض، لولا أحد العاملين في المحمية كنت اﻵن ميتاً”.
قضى الرجل أسبوعين في المشفى وأكمل بقية نقاهته في المنزل، يكمل حديثه فيقول: “قمنا بتسجيل ضبط لدى الشرطة، وسُجّلت الشكوى ضد مجهولين، بالنسبة لي كان المتهم اﻷول صيادي القوارب الجدد، محدثي النعمة الجُدد“.
من هم هؤلاء؟
ليس استخدام القوارب في التفجيرات باﻷمر الجديد، إن كان في المحمية أو في مناطق أخرى، فهذه مشكلة عالمية. يقول لحكاية ما انحكت الصياد “أبو خالد” (62 عاماً) الذي التقيناه في مرفأ الصيد الذي يسمّى هنا المرفأ اليوغسلافي نسبة للشركة التي نفذت المرفأ: “الصياد الحقيقي لا يلجأ إلى التفجيرات رغم أن الفقر يأكله، وهو يدرك أن رزقه على الله، لكن هناك دخلاء كثر على الصيد لديهم استعداد لصيد أسماك عمرها يوم واحد، لم يعد هناك أخلاق”.
النزوح والبيئة… دروس من سوريا والشرق الأوسط
23 تموز 2018
يختصر “أبو خالد” القصة كما يقول: “من يقوم بالجرف هو من يستخدم الديناميت، وهو نفسه من يهرّب اﻷسماك المبرّدة من تركيا (يقومون أيضا بتهريب الأسماك المبرّدة من تركيا وبيعها في الأسواق المحلية بهدف الربح)، هو نفسه من يفجّر، أي أصحاب القوارب التي يمكنها الوصول إلى المياه اﻹقليمية!”.
“لا تستطيع إدارة المحمية ولا موظفوها، ولا الزراعة ولا الموارد السمكية الوقوف بوجه “الشباب الطيبة”، يقول لنا ذلك “أبو أحمد” (34 عاماً) موظف من داخل المحمية، ويتابع “هناك فساد متبادل بين الجانبين، ومقابل سكوت اﻹدارة عن أفعالهم يسكت الشباب عن الاقتراب من عالم المحمية، هناك مازوت وبنزين وهدايا سمك ومنح دولية لا تصل ﻷحد، باختصار، هناك مغارة لا أحد يريد فتح بابها”.
يقول صياد كان حاضراً اللقاء: “الداعم المحلي لهؤلاء كان وما يزال مدير مكتب رئيس أحد الجهات القوية في المحافظة، المدللة من قبل الشباب الطيبة، وهؤلاء يضربون بسيفه”، مصطلح الشباب الطيبة يدل في سوريا على جماعات اﻷمن والمتزلمين من جماعة السلطة.
يروي الصياد واقعةً حدثت معه كانون الثاني (يناير) الماضي في المحمية: “كنا نصيد بالصنارة، جاء هذا الشخص ومعه آخران وصرخا بنا: لمّوا اغراضكن وتحركوا من هون” وحين احتججت على اﻷمر، قال لي: “تحرّك أحسن ما خلي مصارينك تمشي قدامك”.
القوارب تتجول في المحمية
ليس من الصعب معرفة القوارب التي تدخل إلى المحمية، وأصحابها، أو من يكون فيها من “الوحوش” كما سمّاهم الصيادون، “صيادو العتم”، يقول المهندس أحمد: “هؤلاء كانوا يشحذون طعوم السمك من غيرهم بسبب فقرهم”، وفجأة ظهرت لديهم قوارب، من أين لهم المال اللازم لذلك؟ أو حتى أصابع الديناميت؟”.
“أسعار القوارب نار”، يقول الصيادون، “وسعر أسوأ قارب من الحجم الصغير الذي يبلغ طوله 2متر 2 مليون (ألفي دولار)، وثمن محرّكه لوحده نصف مليون على اﻷقل (500 دولار) في حين أن سعر قارب طوله 16 بعرض 5 بلغ في جزيرة أرواد عشرين ألف دولار“./ المصدر: لقاءات شخصية.
في لقاءاتنا مع عدة صيادين، قالوا لنا: “إن هناك ثلاثة قوارب من الحجم الوسط والصغير شوهدت (عشرات المرات) تقوم بعمليات الصيد بالتنك (مواد متفجرة داخل صفيحة معدنية، تصنع يدوياً) أو الديناميت أو القنابل في حرم المحمية، لا تحمل أسماء باستثناء واحد منها (اسمه عقاب)، ومالكها (م.ج) كان سابقاً صياد صنارة، يعمل معه شقيقه وشخص آخر من عائلة (ك. ف) من سكان مخيم الرمل الفلسطيني”.
في المرفأ اليوغسلافي، إلى جوار أبي خالد كان هناك صياد يهزّ رأسه كلما سمع كلمة “ديناميت”، تشجع وتحدث إلينا: “نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي (2019) كنت حاضراً هنا، وعلى بعد 100 من مبنى اﻹدارة (وأشار بيده إليه) تم ضرب 27 إصبع ديناميت من الثامنة إلى الحادية عشرة صباحاً من قارب أمام المرفأ، سحبت موبايلي كي أصوّر ما يجري، في غضون ثوانٍ وصل إلى جواري شخص ضخم في الثلاثين من عمره وصرخ بي: “الضرب التالي سيكون في قفاك إن صوّرت، هات الموبايل ولاه”، أخذه وفتش ولما لم يجد شيئاً أعاده لي، تشجعت وسألته لماذا الديناميت؟ على الفور سرد أسطوانة الجوع: “كيف بدنا نطعمي أولادنا؟ بدك نسرق؟ نهرب؟ نلتحق بالجيش الحر؟” وكـأنه مسجلة ضغطت ولم يتوقف حتى أنهى ما لقنه إياه رجل الموانئ الذي يتقاضى مبلغ عن كل ضرب ديناميت”.
أضاف الصياد: “أكد المسؤول عن المرفأ سابقاً أنه “إذا كمش واحد عم يضرب ديناميت سيخوزقه على خازوق السلطان سليم”. نسأله هل هي نفس القوارب التي تضرب في المحمية؟ ضحك وقال: “ماغيرها” وغمز بعينيه مشيراً إلى أحد القوارب الموجودة في المرفأ.
تقوم تلك القوارب برحلتها إلى المحمية كلما أرادت الضرب هناك ثم تعود لتنام في مرفأ الصيد، وأحياناً تضرب في المرفأ قرب المحمية، وهي ثلاثة وفق ما أشار الصيادون، لكن الأهم من ذلك، أنها ليست ملك الصيادين، بل تعمل لصالح شخص من أصحاب الشأن.
يضيف الصياد: “إنها ملك “سامر .ح” الذي يملك قوارب الجرف الوحيدة في الساحل السوري، إنها تسع قوارب، واحد منها كبير”.
وفي 18 شباط (فبراير) الماضي أعلنت مديرية الموانئ منع القارب “جسار” ـ رقم 940 مالكه المعلن “عبدالله كليه” من الإبحار لمدة شهر بسبب مخالفته القرار الوزاري رقم 232 تاريخ 2008 المتضمن منع القيام بالجرف أو التجريف (مقطع الفيديو الذي كان السبب في منع اﻹبحار).
من أين يحصلون على الديناميت؟
“يتم استخدام السماد الزراعي (يوريا، 55، 33) في صناعة متفجرات صيد السمك، وذلك لأن هذه الطريقة مربحة وسهلة وآنية”، يقول الصياد “أبو خالد” مضيفاً: “هناك قنابل بدائية تصنع باستخدام قنينة زجاجية مع طبقات من مسحوق نترات البوتاسيوم والحصى أو نترات الأمونيوم وخليط الكيروسين”.
الروسي في الساحل السوري: لا احتلال ولا من يحزنون! (1)
08 تشرين الثاني 2017
هذه القنابل قد تنفجر قبل الأوان دون سابق إنذار، خاصة في الجو الحار كما حدث مع الصياد “ابراهيم، ح” (55 عاماً) الذي أدت به محاولة استخدام نموذج القنبلة السابقة إلى قطع إحدى يديه وتشوّه وجهه. يقول “ابراهيم”: “رزقنا مغمس بالدم، أنظر، هذه نتيجة الديناميت”. وبالطبع ليس إبراهيم الشخص الوحيد الذي أصابه الديناميت، فهناك آخرون لقوا حتفهم.
أحد المصادر القديمة لتأمين أصابع الديناميت للصيادين كان أصحاب المقالع والكسارات الذين يسمح لهم القانون باستيرادها بموجب رخص تصدر عن وزارة الداخلية، وقد توقف أغلبها بسبب الحرب.
يقول الصياد “بدر” (25 عاماً، جديد على مهنة الصيد بعد تسريحه من الجيش): “يُؤمّن الديناميت (TNT) من السوق السوداء، التي يمكن أن تكون بضاعته مسروقة من مستودعات عسكرية، ويمكن أن تكون من لبنان، ويبلغ سعر اﻹصبع صناعة صينية، خمسة آلاف ليرة سورية (5 دولار)”.
كشفت دراسة مغربية عن الشعاب المرجانية في مدينة طنجة أن كثافة الأسماك كانت أعلى بمقدار 12 مرة في الشعاب التي لم تتعرض للديناميت مقابل الشعاب التي أصابتها تلك التفجيرات. المصدر: منظمة الفاو.
إلا أن اﻷكثر فاعلية ليس الديناميت بشكله المعتاد، بل التنكة، كما يسميها الصيادون هنا، وهذه تنفّذ باستخدام “سماد زراعي يوريا 56 أو 33 يخلط مع مادة رابطة (عجين) في صفيحة معدنية (تنكة) وتربط بفتيل إشعال طويل، وعماد عملها قطعة صغيرة تسمى هنا “الكبسونة” (الكبسولة المتفجرة)، وبدونها لا يمكن إحداث أي تفجير، وتعتمد على الصعق الكهربائي بواسطة بطارية صغيرة”، كما يشرح الصياد “خالد” (39 عاماً) من منطقة ابن هانئ. ويضيف الرجل: “نحمد الله أن تقنية التفجير عن بعد للعبوات الناسفة لم تصل إلى هنا بعد”.
لعبة القط والفأر مع الموانئ
تقع مسؤولية تفتيش مراكب الصيادين للتأكد من خلوها من المتفجرات، عند انطلاقها من المرفأ ولدى عودتها، على عاتق مديرية الموانئ وعناصر المخابرات، ولكن ما يحدث هو أن “الصيادين يفلتون بسهولة من التفتيش، حيث يخرج المركب من المرفأ خالياً من المتفجرات، ثم يبحر عشرات الأمتار ليلاقي شخصاً يكون بانتظاره محملاً بالمتفجرات في نهاية المكسر” يقول الصياد السابق.
زيادة استهلاك اﻷدوية الجنسية في الساحل السوري
18 حزيران 2020
تقوم الدوريات بكبسات مفاجئة على بعض المناطق المحتمل قيام التفجيرات فيها، ولكن ما يحدث وفقاً للموظف “أحمد” (45 عاماً من مديرية الموانئ) أن لكل مفجّر ديناميت عميل داخل المديرية، فما إن نخرج إلى عرض البحر حتى يختفي هؤلاء”، وحتى عند إلقاء القبض على مشتبه بهم، يخرجون على الفور من القضاء بسبب غياب اﻷدلة”، يضيف الشاب: “لا يوجد مادة واضحة في القانون تمنع استخدام الديناميت أو القنابل، أو حتى السم، وهذا لوحده مشكلة كبيرة لم يتم البحث في حلها حتى اﻵن”.
ولا يبدو إيقاف التفجيرات بأنواعها أمرً مستحيلاً أو حتى صعباً بحسب صيادين وموظفين في المحمية قابلناهم، بشرط واحد على حدّ تعبير أحدهم: “إرادة الدولة بإيقافه، ولكن ذلك في الوقت الراهن ليس من أولويات أحد”.
يقول الصياد “نادر”: “يمكن للصيادين أن يلعبوا دوراً في وقف صيد الديناميت في المحمية وغيرها… لكن نريد أن نثق بهذه المؤسسات، عندما نقدم لهم شكوى مثبتة باﻷدلة يجب أن يتصرفوا كما يملي عليهم واجبهم وليس مصالحهم الشخصية”.
خاتمة واعتراف
“يبدو أنك جديد ولست من أهل الكار”، قالها أحد الصيادين المعمّرين (56 عاماً) لي، حين كنا نتجول قرب المحمية، حين سألته لماذا لا يتم إبلاغ “الجهات المختصة”.
ضحك الرجل كثيراً وقال: “إفهم يا بني: بلمح البصر يحضرون، ويتم إلقاء التهمة عليك أنت، وتساق “بالطبون” قبل غياب الشمس ويؤتى بعشرة شهود بأنك أنت من يستعمل الديناميت وتحكم عرفياً، وتنهي حياتك. أنت لست من النوع القادر على مواجهة الشباب، انسحب وغادر المكان وإياك يا بني من الاحتكاك مع هؤلاء.. والله سوف يجعلونك طعاماً للسمك”.
على إثر هذا الكلام انسحبت فعلاً، هاتفتُ شخصاً آخر كان سبباً في بدء التحقيق ليقلّني من المحمية، جاء الرجل المغامر ليختم عملاً استمر أربعة أشهر بالقول:
“أرجوك، أنشر التحقيق باسم مستعار، وإلا فإننا سوف نتبهدل كلنا، هذه اﻷيام لا يوجد أي ضمان أن هناك من هو على استعداد لفتح جبهات كالتي فتحتها اﻵن، لديك عائلة، ولدي عائلة، المحمية أصبحت صحراء من ماء، وعوضنا على الله”.